هذا الحبيب يا محب 67


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:

فقد انتهى بنا الدرس إلى غزوة هي ثاني غزوات نبينا صلى الله عليه وسلم في السنة الرابعة من الهجرة المحمدية وهي [غزوة ذات الرقاع]، والرقاع جمع رقعة، وهي: ما يرقع الإنسان به ثوبه أو حتى رجليه.

قال: [ذُكر] أي: ذكر أهل السيرة النبوية [في سبب هذه الغزوة أن بني محارب وبني ثعلبة من غطفان] قبيلتان من غطفان [قد جمعوا الجموع] من الرجال المقاتلين [وأجمعوا أمرهم] بنظام ودقة وحزم [على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم] جمعوا رجالهم وعتادهم وأجمعوا على أن يحاربوا الرسول صلى الله عليه وسلم [فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم] سواء كان بواسطة الوحي أو بواسطة العيون والناس الذين ينتقلون من مكان إلى مكان، المهم أنه بلغه يقيناً أن هاتين القبيلتين قد جمعتا رجالهما وعتادهما وأجمعتا على حربه صلى الله عليه وسلم، ولا عجب إذ هم كافرون مشركون، وعز عليهم أن تعلو أنوار الإسلام والتوحيد، فقالوا: نقاتله!

[فخرج إليهم في أربعمائة مقاتل من المهاجرين والأنصار، واستخلف على المدينة أبا ذر الغفاري أو عثمان بن عفان رضي الله عنهما] اختلف في أيهما استخلف، فنقول: إما عثمان وإما أبا ذر ، واستخلفه في المدينة ليقوم مقامه في إجراء الإحكام، كالحاكم العام [وسار إليهم] بجيشه [وهم بجوار نجد فنزل -نخلاً- وهو موضع من نجد في أرض غطفان] وكلمة نجد تعني شرق المدينة.

[ولما علم بمسيره] صلى الله عليه وسلم [من أجمعوا أمرهم على قتاله: تفرقوا ولحقوا برءوس الجبال] ولا ننسى قوله صلى الله عليه وسلم: ( نصرت بالرعب مسيرة شهر )، فما إن علم هؤلاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أجمع على حربهم وخرج برجاله حتى تفرقت كلمتهم وتمزقت صفوفهم والتحقوا برءوس الجبال شاردين هاربين. وهذه آية من آيات النبوة!

قال: [فلم يكن قتال] في هذه الغزوة. ما حصل فيها قتال بين المؤمنين والمشركين [وسميت هذه الغزوة بذات الرقاع] لِم؟ [لأنهم كانوا يعتقبون البعير كل ستة ببعير] كان كل ستة رجال يركبون بعيراً يتناوبونه، يمشي أحدهم كيلو متر أو اثنين ثم يهبط ليركب الثاني.. وهكذا، وعددهم كان أربعمائة، وإذا قسمت الأربعمائة على ستة وجدت أن معهم ستة وستين بعيراً تقريباً، والبعير لا يعتقبه إلا اثنان فقط، لا يحمل أكثر من اثنين.

[وكان الفصل] أي: الوقت [صيفاً، ولم يطيقوا الحر] إذا مشوا على أرجلهم حفاة لا يطيقون أن يمشوا من شدة الحرارة [فكانوا يلفون الخرق على أرجلهم، فسميت ذات الرقاع] لهذا السبب. وكانوا يتوضئون ويمسحون على الرقاع، وفي هذا دليل فقهي على أنه ليس شرطاً أن تلبس الخفين أو الشراب .. فكل ما يستر الرجل عن الحر أو البرد يصح المسح عليه.

والفقهاء يشترطون للمسح على الخفين شروطاً بلغت تسعة، وبالغوا فيها، والقول الوسط الذي يتلاءم مع الرحمة الإيمانية الإسلامية أن من احتاج إلى أن يلف على قدميه شيئاً يقيه الحر أو البرد جاز له أن يمسح عليه، يتوضأ ثم بدل أن يغسل رجليه يمسح عليهما.

وفي كيفية المسح يشترط الفقهاء -أيضاً- شروطاً، والذي ثبت في السنة وصح أنه يمسح على ظاهر الرجل مرة واحدة، وعلي رضي الله تعالى عنه كان يقول: "لو كان الدين بالعقل -ما هو بالوحي والشرع- لكان مسح أسفل الخف أولى من أعلاه"؛ لأن باطن الخف هو الذي يمس الأرض أو التراب.

إذاً: سميت هذه الغزوة بغزوة ذات الرقاع؛ لأنهم لفوا على أرجلهم خرق من قماش أو كتان أو صوف ليقوا أنفسهم حر الأرض في أيام الصيف، ومسحوا عليها عند وضوئهم.

قال: [وحدث في هذه الغزوة ما يلي:]

أولاً: موقف عمار بن ياسر وعباد بن بشر عند الحراسة

[أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بات برجاله بات في مضيق (شعب بين جبلين_ خرج برجاله أربعمائة، ولما جاء الليل وأرادوا أن يناموا ويبيتوا بات برجاله في مضيق (وهو شعب بين جبلين)، وهذا أنسب لهم، وكيف لا وهو الحكيم صلى الله عليه وسلم!

[وجعل على الحراسة مهاجراً، وهو عمار بن ياسر رضي الله عنه وأنصارياً وهو عباد بن بشر ] جعل اثنين يحرسون النائمين وهم في الشعب؛ لأنه لو أتى عدو وهم نائمون يذبحهم، فلابد إذاً من حراسة، واختار مهاجراً وأنصارياً، وهذا هو العدل، والمهاجر هو عمار بن ياسر رضي الله عنه، ولعلكم تعرفون أمه سمية ، أول شهيدة في الإسلام سمية ، وأبوه ياسر كذلك قتل شر قتلة في مكة.

قال: [فخير أحدهما الآخر في حراسة أول الليل أو آخره] ليس شرطاً أن يقفا معاً ساهرين طوال الليل، فقالوا: هيا نقتسم الحراسة، واحد يأخذ أول الليل والثاني يأخذ آخره، وهذا فيما بينهم، فقد عُهد إليهم بأن يحرسوا، أما كيف؟ فهم المسئولون.

قال: [فاختار الأنصاري أول الليل] وهو عباد بن بشر ، اختار أن يحرس أول الليل، أو نصف الليل الأول، وعمار يحرس آخر الليل [فحرس، ثم قام يصلي] لم يجلس فقط يراقب العدو، وإن كان العدو مُتوقعاً، ولكن من الجائز أن لا يأتي أيضاً، إذاً فقام يصلي [ويقرأ في سورة الكهف] وتعرفون فضل قراءة سورة الكهف في يوم الجمعة، وهذا لا يتركه إلا غافل، فهو نور يكتسبه الإنسان من الجمعة إلى الجمعة، ولا يقع في زلة إن شاء الله.

قال: [فجاء أحد القناصة من العدو، فرماه بسهم فنزعه] لعله أصابه في يده أو في رجله أو في كتفه، المهم ما أصاب مكان القتل والأذى الكبير، والسهام معروفة عندهم [فنزعه وواصل صلاته] لم يقطعها [ثم رماه بآخر] ذاك القناص رماه بسهم آخر [فنزعه] من جسمه مرة أخرى، وواصل صلاته [ثم رماه بثالث] بسهم ثالث [فاستيقظ صاحبه] عمار بن ياسر من نومه [فرأى الدم يسيل منه، فسأله فأخبره؟ فقال: لم لا توقظني] يعني: عندما أصبت بأول سهم كان يجب أن توقظني [فقال: إني كنت في سورة أقرؤها، فلم أحب أن أقطعها حتى أكلمها].

كيف حالنا نحن اليوم إذا أخذنا في قراءتها؟ لأدنى شيء نقطع السورة ونتكلم، لا لصيحة أو أمر ذي قيمة، فقط لأي شيء نقطعها ونتكلم مع الناس، ما السر؟ لأن قلوبنا ليست مملوءة بالنور، فالظلمة كثيرة، فنحن نغفل وننسى ونعرض. ثانياً: أننا عندما نقرأ لا نكون مع الله أبداً، ولكن مع أنفسنا، ومع دنيانا، ومع أحوالنا، ولو كان العبد يستشعر أنه يتكلم مع الله، لو طعن لا يستطيع أن يترك التكلم معه عز وجل، ويشتغل بآخر، وهذا هو واقعكم وأنتم تشهدون بهذا، بينما الصاحب الجليل عباد بن بشر ، ما استطاع أن يترك الكلام مع ربه عز وجل وهو يقرأ سورة الكهف ويلتفت إلى غيره. وتعليل ذلك ما سمعتم.

قال: [فلما تابع علي الرمي ركعت فآذنتك] أي: أعلمتك [وأيم الله لولا أن أضيّع ثغراً أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها -أي: أتمها قراءة-] هذه الحادثة الأولى في هذه الغزاة.

ثانياً: محاولة غورث الغطفاني قتل النبي صلى الله عليه وسلم

قال: [ثانياً: أن غورث الغطفاني قال لرجاله] في ذلك الجيش الذي أراد أن يقاتل الرسول صلى الله عليه وسلم [ألا أقتل لكم محمداً؟] لبطولته وشجاعته خاطب رجاله وقال: ألا أقتل لكم محمداً؟ [قالوا: بلى] اقتله. [وكيف تقتله؟ قال: أفتك به، وأخذ يتتبع جيش الإسلام] يعني: مشى وراء الجيش الإسلامي، يتحين الفرصة متى تتاح له؛ ليقف على رسول الله ويقتله.

[فلما نزلوا في واد كثير الأشجار وتفرقوا] رضوان الله عليهم فيه [للاستراحة تحت ظلال أشجاره، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلس تحت شجرة] في تلك الأشجار [وعلق سيفه بها] سيف له حمالة يعلقه بها [فجاء غورث الغطفاني في استخفاء وختل حتى أخذ السيف وأصلته] أخرجه من غمده [وقال للرسول صلى الله عليه وسلم: من يمنعك اليوم مني يا محمد؟ فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: ( الله )] أي: هو الذي يمنعني منك [فانهار الرجل وسقط السيف من يده، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له: ( من يمنعك مني اليوم؟ )] هذه بتلك [قال: لا أحد] لأنه لا يؤمن بالله ولا يعرفه [وجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم] كالطفل الصغير، بعد أن خارت قواه وذابت معنوياته، لا يقوى على أن يتكلم أو يفعل شيئاً [وعاهده على أن لا يحارب ضده] عاهد الرسول صلى الله عليه وسلم على أن لا يدخل في حرب ضده أو ضد أصحابه.

قال: [ورجع إلى قومه] رجع غورث إلى قومه [فأخبرهم فأسلم كثير على خبر هذه الحادثة] لما لاحت لهم الحقائق وشاهدوا آثار النبوة أسلم كثير منهم؛ لأن قضية أن ينهار بطل وتخور قواه ويجلس على الأرض، آية من آيات النبوة المحمدية، وهذا لن يكون إلا نبي، فلهذا أسلم في هذه القضية كثير من أهل غطفان.

ثالثاً: ما وقع لجمل جابر أثناء مسيره إلى الغزو وشراء النبي له

قال: [ثالثاً: أن جمل جابر بن عبد الله] رضي الله تعالى عنه، ابن شهيد أحد عبد الله بن حرام [قد انقطع وأصبح لا يقدر على المشي إلا بصعوبة] كان لـجابر جمل يحمل زاده، وهذا الجمل عجز عن المشي وتعب لكبر سنه أو لأمر آخر [فمر به الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم وهو واقف، والجمل حاسر] أي: باركاً على الأرض [فقال له: (ناولني سوطه)، فناوله إياه فضرب به الجمل فقام وسار حتى كاد يسبق غيره] ضربه باسم الله، فنهض البعير وسار حتى كاد يسبق بعض الإبل!

[ومن باب المطايبة] فقد كان صلى الله عليه وسلم يطايب أصحابه، كما تطايبون أنتم أصحابكم بالكلم الطيب، واللقمة الطيبة، والمطايبة معروفة [قال صلى الله عليه وسلم لـجابر : ( أتبيعنيه يا جابر ؟ )] يعني: أتبيعني هذا الجمل؟ [( قال: بل أهبه لك يا رسول الله؟ قال: لا، بل بعنيه )] هذا الصواب [فساومه شيئاً] فشيئاً، يعني بِعنيه بخمسائة درهم فيقول: بستمائة -مثلاً-، وهذه هي المساومة [حتى بلغ الثمن المطلوب فباعه إياه] واشتراه النبي صلى الله عليه وسلم، والثمن غير موجود، ولكن إذا وصل المدينه أعطاه إياه، فيجوز أن تشتري بثمن مؤجل ليوم أو يومين أو عشرة.

[واشترط جابر حملانه إلى المدينة] يعني قال: بعتكه بستمائة درهم -مثلاً- على شرط أن أركبه إلى المدينة، ومن ثم أسلّمك الجمل. وهو شرط جائز؛ لأنه لا ينقص من المبيع شيئاً، وهو مثل أن أقول: أشتري منك سيارة على أن توصلني بها إلى بيتي مثلاً، ولا حرج؛ لأنه ليس هناك نقص [فقبل النبي صلى الله عليه وسلم الشرط، ولما وصلوا إلى المدينة] وهي المدينة النبوية هذه، وسبحان الله! ديننا كله يقينيات -إي والله العظيم- ليس كخرافات اليهود والنصارى، فهذه هي المدينة، وهذا هو قبر نبينا صلى الله عليه وسلم، ووالله الذي لا إله غيره لا يوجد نبي ولا رسول تحلف بالله على أنه هو هذا الذي في قبره غير محمد صلى الله عليه وسلم.

ولما وصلوا إلى المدينة [جاء جابر بالجمل فأناخه على مقربة من بيوت النبي صلى الله عليه وسلم، وقال لبعضهم: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن جابراً جاء بالجمل، فأخبره، فقال صلى الله عليه وسلم لـعمار : ( أعط هذه الدراهم لـجابر وقل له: يأخذ جمله فإنه لا حاجة لي به )] أولاً: أعطه ثمن الجمل كما اتفقنا، ولما يأخذ الثمن قل له: خذ الجمل أيضاً، فإن الرسول لا حاجة له به. أي كرم هذا؟! هل من الممكن أن يلاحظ هذا الكرم في الناس؟ نعم. ولكن في أمة الإسلام -والله- وحدها، وإن كان بقلة، ويوجد في أزمنة وينعدم في أخرى، لكن في أمم أخرى هابطة يستحيل هذا.

[فأخذ جابر الجمل وثمنه شاكراً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم فضلهما]. هذه ثلاثة أحداث تمت في هذه الغزوة.

[أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بات برجاله بات في مضيق (شعب بين جبلين_ خرج برجاله أربعمائة، ولما جاء الليل وأرادوا أن يناموا ويبيتوا بات برجاله في مضيق (وهو شعب بين جبلين)، وهذا أنسب لهم، وكيف لا وهو الحكيم صلى الله عليه وسلم!

[وجعل على الحراسة مهاجراً، وهو عمار بن ياسر رضي الله عنه وأنصارياً وهو عباد بن بشر ] جعل اثنين يحرسون النائمين وهم في الشعب؛ لأنه لو أتى عدو وهم نائمون يذبحهم، فلابد إذاً من حراسة، واختار مهاجراً وأنصارياً، وهذا هو العدل، والمهاجر هو عمار بن ياسر رضي الله عنه، ولعلكم تعرفون أمه سمية ، أول شهيدة في الإسلام سمية ، وأبوه ياسر كذلك قتل شر قتلة في مكة.

قال: [فخير أحدهما الآخر في حراسة أول الليل أو آخره] ليس شرطاً أن يقفا معاً ساهرين طوال الليل، فقالوا: هيا نقتسم الحراسة، واحد يأخذ أول الليل والثاني يأخذ آخره، وهذا فيما بينهم، فقد عُهد إليهم بأن يحرسوا، أما كيف؟ فهم المسئولون.

قال: [فاختار الأنصاري أول الليل] وهو عباد بن بشر ، اختار أن يحرس أول الليل، أو نصف الليل الأول، وعمار يحرس آخر الليل [فحرس، ثم قام يصلي] لم يجلس فقط يراقب العدو، وإن كان العدو مُتوقعاً، ولكن من الجائز أن لا يأتي أيضاً، إذاً فقام يصلي [ويقرأ في سورة الكهف] وتعرفون فضل قراءة سورة الكهف في يوم الجمعة، وهذا لا يتركه إلا غافل، فهو نور يكتسبه الإنسان من الجمعة إلى الجمعة، ولا يقع في زلة إن شاء الله.

قال: [فجاء أحد القناصة من العدو، فرماه بسهم فنزعه] لعله أصابه في يده أو في رجله أو في كتفه، المهم ما أصاب مكان القتل والأذى الكبير، والسهام معروفة عندهم [فنزعه وواصل صلاته] لم يقطعها [ثم رماه بآخر] ذاك القناص رماه بسهم آخر [فنزعه] من جسمه مرة أخرى، وواصل صلاته [ثم رماه بثالث] بسهم ثالث [فاستيقظ صاحبه] عمار بن ياسر من نومه [فرأى الدم يسيل منه، فسأله فأخبره؟ فقال: لم لا توقظني] يعني: عندما أصبت بأول سهم كان يجب أن توقظني [فقال: إني كنت في سورة أقرؤها، فلم أحب أن أقطعها حتى أكلمها].

كيف حالنا نحن اليوم إذا أخذنا في قراءتها؟ لأدنى شيء نقطع السورة ونتكلم، لا لصيحة أو أمر ذي قيمة، فقط لأي شيء نقطعها ونتكلم مع الناس، ما السر؟ لأن قلوبنا ليست مملوءة بالنور، فالظلمة كثيرة، فنحن نغفل وننسى ونعرض. ثانياً: أننا عندما نقرأ لا نكون مع الله أبداً، ولكن مع أنفسنا، ومع دنيانا، ومع أحوالنا، ولو كان العبد يستشعر أنه يتكلم مع الله، لو طعن لا يستطيع أن يترك التكلم معه عز وجل، ويشتغل بآخر، وهذا هو واقعكم وأنتم تشهدون بهذا، بينما الصاحب الجليل عباد بن بشر ، ما استطاع أن يترك الكلام مع ربه عز وجل وهو يقرأ سورة الكهف ويلتفت إلى غيره. وتعليل ذلك ما سمعتم.

قال: [فلما تابع علي الرمي ركعت فآذنتك] أي: أعلمتك [وأيم الله لولا أن أضيّع ثغراً أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها -أي: أتمها قراءة-] هذه الحادثة الأولى في هذه الغزاة.

قال: [ثانياً: أن غورث الغطفاني قال لرجاله] في ذلك الجيش الذي أراد أن يقاتل الرسول صلى الله عليه وسلم [ألا أقتل لكم محمداً؟] لبطولته وشجاعته خاطب رجاله وقال: ألا أقتل لكم محمداً؟ [قالوا: بلى] اقتله. [وكيف تقتله؟ قال: أفتك به، وأخذ يتتبع جيش الإسلام] يعني: مشى وراء الجيش الإسلامي، يتحين الفرصة متى تتاح له؛ ليقف على رسول الله ويقتله.

[فلما نزلوا في واد كثير الأشجار وتفرقوا] رضوان الله عليهم فيه [للاستراحة تحت ظلال أشجاره، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلس تحت شجرة] في تلك الأشجار [وعلق سيفه بها] سيف له حمالة يعلقه بها [فجاء غورث الغطفاني في استخفاء وختل حتى أخذ السيف وأصلته] أخرجه من غمده [وقال للرسول صلى الله عليه وسلم: من يمنعك اليوم مني يا محمد؟ فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: ( الله )] أي: هو الذي يمنعني منك [فانهار الرجل وسقط السيف من يده، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له: ( من يمنعك مني اليوم؟ )] هذه بتلك [قال: لا أحد] لأنه لا يؤمن بالله ولا يعرفه [وجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم] كالطفل الصغير، بعد أن خارت قواه وذابت معنوياته، لا يقوى على أن يتكلم أو يفعل شيئاً [وعاهده على أن لا يحارب ضده] عاهد الرسول صلى الله عليه وسلم على أن لا يدخل في حرب ضده أو ضد أصحابه.

قال: [ورجع إلى قومه] رجع غورث إلى قومه [فأخبرهم فأسلم كثير على خبر هذه الحادثة] لما لاحت لهم الحقائق وشاهدوا آثار النبوة أسلم كثير منهم؛ لأن قضية أن ينهار بطل وتخور قواه ويجلس على الأرض، آية من آيات النبوة المحمدية، وهذا لن يكون إلا نبي، فلهذا أسلم في هذه القضية كثير من أهل غطفان.