الثلاثية والتثليث
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
الثلاثية..والتثليث!الوحدة والتوحيد مصطلحان مختلفا المفهوم تمامًا عند المؤمنين بهما - وإن كان البعض من أرباب الثقافات الأخرى قد لا يستطيع التفريق بينهما - وأمة التوحيد لا تؤمن بالوحدة بمفهوم المؤمنين بها، وأمم الوحدة لا تؤمن بالتوحيد بمفهوم المؤمنين به، وعبارة الوحدة عندنا غير متداولة، ولكن كلمة التوحيد بمفهوم المؤمنين به محدودة الاستعمال، وكلمة التوحيد عندنا شائعة، ولكن بدأت كلمة الوحدة تشق طريقها على حساب كلمة التوحيد في الغالب.
فالوحدة العربية بمفهومها القومي، جاءت بديلًا لمفهوم التوحيد بمعناه الإسلامي، وليس بالضرورة بديلًا ماحيًا ماحقًا، ولكنها جاءت فيما يبدو لتجعل التوحيد ثانويًّا، وهي تكون في المقام الأول.
والوحدة عند أتباع الإنجيل/ الأناجيل/ هي اتحاد الأقاليم الثلاثة (الأب والابن والروح القدس) في واحد، هو إما الرب أو عيسى، وربما جاء من قال: إنها اتحدت في الروح القدس، ومن ينادي بالوحدة في هذه الثقافة يكون خارجًا عن المألوف، ويحتاج إلى كثير من التعديل في الدعوات والصلوات الإنجيلية.
وأزعم هنا أن الثلاثية - في الغالب - جاءت من التثليث، ففي الأفكار الماسونية نجد شعارًا ثلاثيًّا يقوم على الإنسانية والأخوة والمساواة، ونجد عند الاشتراكيين شعارًا يقوم على الوحدة والحرية والاشتراكية، وصاحب فكرة الكشافة ظهر علينا بتحية تقتصر على الأصابع الثلاثة (الخنصر، والأوسط، والشاهد)، وربما يدخل في هذا - ولو من بعيد - إصرار البطولات الرياضية على اختيار الثلاثة الأول، فصاحب الترتيب الأول يحتفل به واقفًا في الوسط ويعطى الميدالية الذهبية،والثاني ويكون عادة على يمين الأول - وأوطأ منه في المنزلة - ويعطى الميدالية الفضية، والثالث ويكون عادة على يسار الأول - وأوطأ منه - كذلك - في المنزلة - ويعطى الميدالية البرونزية، وعلى أي حال فهناك ممارسات طقوسية عندما لا يلتفت إلى خلفيتها توقع في مأزق، وقد يظن أن خلفيتها مرتبطة بثقافة بعينها إن لم يقم الظن على البحث والاستقصاء والاستقراء، وربما قام الحكم على مجرد التخمين والظن.
ومع هذا كله، فالعالم اليوم في أنشطته كلها يسعى إلى "التوحد" في المنزلة، وننظر إلى الأول أو رقم واحد على أنه المقدم في مجاله، فالصحيفة الأولى هي التي تتوافر فيها صفات الأولوية، والبطل الأول، والشركة الأولى، والمصنع الأول، والفريق الأول، والبناء الأول في التصميم، والسيارة الأولى، وكل ما يمكن أن يهتم به الإنسان يجعل له أول، وعادة لا يلتفت الناس على العموم إلى الترتيب التالي والذي بعده، فيقتصرون على معرفة الأول في كل شيء، وإنما يلتفت إلى الثاني لمعرفة مدى وصول الأول إلى الأولوية، والتنافس على أشده في إحراز المرتبة الأولى، حتى لو أدى الأمر في بعض المواقف إلى اتباع أساليب غير مشروعة وغير قانونية وغير نظامية للوصول إلى هذه المرتبة، مما يؤدي إلى العقاب والحرمان من المنافسة عندما يكتشف أن هذه الأساليب قد اتبعت.
ولعل هذا يقود إلى القول بأن الإنسان نزَّاعٌ إلى التوحيد، غير ميال إلى الاتحاد أو الوحدة بالمفهوم العقدي؛ إذ إن الاتحاد يعني أن شيئًا كان مبعثرًا فاتحد أو وحد في شيء واحد يجمع كل العناصر القابلة للتبعثر مرة أخرى عند حدوث أي ظرف يدعو إلى التفكك.
وها نحن نعيش حالة من محاولات التبعثر في الاتحاد السوفييتي - مثلًا - وهناك من ينادي بالاستقلال في يوغوسلافيا، بل إن هذا التيار قد عرج على الولايات المتحدة فظهرت في الأجواء نداءات ودعوات إلى انفصال بعض الولايات عن الاتحاد، مثل كاليفورنيا بالغرب.
وكثير من الشركاء يتحدثون ثم لا يلبثون أن ينفصلوا، وقد تدعو الحاجة إلى الاندماج والاتحاد، ولكن الوضع هنا غير طبيعي؛ إذ إن سبب الاتحاد هو عجز أحد الشركاء أو عدد منهم عن الصمود على الساحة.
ولأن الإنسان نزاع إلى التوحيد نجد أنه يقبل على دعوة التوحيد عندما يدرك فيها مفهوم التوحيد، وقد كنت في ألمانيا مرة في مؤتمر قابلت فيه رجلًا أمريكيًّا تبين لي أنه مسلم، وحيث إن كلينا يتكلم الإنجليزية دار بيننا حوار تطرقنا فيه إلى السبب الذي من أجله أسلم الرجل، فذكر لي أنه كان ممارسًا لشعائره الدينية، وكان يدرس في مدرسة تنصيرية دينية تخرج القسس والرهبان، كما فعل والده ووالدته وأخته، وكان يتوقع له شأن في الكنيسة، إلا أنه كان يقلق كثيرًا عندما يأوي إلى فراشه، فيسأل نفسه: هل صلى للثلاثة جميعهم، أم صلى لاثنين منهم، أم صلى لواحد؟ فإن كان صلى لاثنين فمن ترك؟ وإن كان صلى لواحد فقط، فمن ترك؟ فما كان يدري..وفي المدرسة اللاهوتية مدرسة باكستانية أعطته نسخة من ترجمة معاني القرآن الكريم، وطلبت منه قراءتها خارج المدرسة، فقرأ فيها ضمن ما قرأ مفهوم التوحيد، وأن الرب واحد، والمعبود واحد ليس له شريك، ولا صاحبة، ولا ولد، فزال عنه القلق وأدرك أنه لو أسلم فسيصلي لواحد فقط لا يشبهه أحد، فأعجبته فكرة التوحيد فتحول إلى داعية إلى التوحيد، وأجزم أنه إذا فهمت فكرة التوحيد في مجتمعات مختلفة فإنها ستريح كثيرًا من البشر الذي يجعلون شركاء يدينون لهم بالولاء.
ولا يفهم من هذا الكلام أن كل شيء جاء على ثلاثة يكون منحدرًا من خلفية التثليث، فالحكم هذا يحتاج إلى التوثيق والمتابعة العلمية، انظر مثلًا إلى إشارة المرور تجدها عالميًّا على ثلاثة ألوان متعارف عليها، وربما قال البعض: إنه يمكن الاكتفاء بلونين، على اعتبار أن اللون الوسط في إشارة المرور غير ذي تأثير في بعض المجتمعات، ولكن هذا النظام عالمي يقصد به السلام، ولو لم تأبَهْ لشيء منه بعض المجتمعات، ولو لم تأبه له كله بعض المجتمعات الأخرى،وكنت في مجتمعات تعمل فيها إشارات المرور لمجرد صرف الكهرباء، ولا يلقي لها الناس بالًا على الإطلاق، ويحنقون على الذي يلتزم بها من الغرباء!
وأرد بهذا على أولئك الذين يتوجسون من كل ما له علاقة بالثلاثية كما يتوجس البعض من كل ما جاء على شكل خطين متقاطعين يشكلان رمزًا للمعتقد المسيحي/ النصراني، فيكون هناك نوع من الحساسية حول هذه المفهومات أو الأشكال، ينفع فيها الحذر ولا تصلح معها المبالغة في الحساسية.
ولدينا في شعائرنا بعض الممارسات التي تأخذ بالحسبان الثلاثية كحد أعلى للممارسة أو كحد أدنى لها، ومع هذا لا نشعر نحوها بالحساسية؛ لأنها تشريع، بل نحرص على ألا يقل الفعل فيها عن ثلاث مرات في مواضع الزيادة فيها خير، وألا يزيد الفعل فيها عن ثلاث مرات إذا كانت الزيادة فيها إسراف، ونحن نتعبد بهذا ما دام عن طريق مصدر من مصادرنا التشريعية.
ونصل من هذا كله إلى أن الممارسة، سواء أكانت متعلقة بالفكرة المطروحة هنا حول الثلاثية والتثليث أم لم تكن لها علاقة، مقرونة بالنية، فينظر إلى القصد من وراء أي حركة توحي بالانتماء إلى فكر أو خلفية ثقافية، والنية لا تظهر، ولكن تعين عليها أحيانًا القرائن ومجموعة من التصرفات التي ترجح الحكم على أي ممارسة، ولا تقطع فيه، والحذر مطلوب، والاحتياط أو الحيطة واردة، ولكن المبالغة فيها غير مرغوب فيها.
[1]
[1] الجزيرة: العدد 6895 - الخميس 5 صفر 1412هـ - 15 أغسطس 1991م.