أرشيف المقالات

الشيطان الناصح

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
الشيطان الناصح



قد يتعجَّب البعض من أن يكون الشيطان ناصحًا؛ إذ الأصل في النصيحة أنها تَحمل معانيَ الخُلُوص والصفاء، والصدقِ والنقاء، وذلك مما يتعارض مع طبيعة الشيطان في مراوغته وألاعيبه، وتدليسه وتزيينه، ومن هنا تأتي أهمية هذا المقال في كشفه عن مكيدة الشيطان وأعوانه في خديعة الناس واستدراجهم للوقوع في المحاذير والمهالك؛ عن طريق تقمُّص الأدوار الماكرة، وانتحال الشخصيات المزيَّفة، وتزيين النفس بمواصفات خادعة.
 
ونستطيع أن نتبيَّن هذا الدورَ المَقيت للشيطان من خلال ما سجَّله القرآن الكريم عن أول عملياته الشيطانية تجاه أبي البشر آدمَ عليه السلام، فبعد أن توعَّده وذريتَه بالإغواء والإضلال، لبس ثوبَ الواعظين، واستخدم عبارات الناصحين؛ من أجل أن يُوقع بآدم وزوجه في وحلِ المعصية وشُؤمِ الذنوب؛ يقول تعالى: ﴿ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ﴾ [الأعراف: 21].
 
وهنا تأتي الإشارة الأولى في أن استخدام لفظ (النصيحة) وما اشتُقَّ منها تصديرًا لحديثٍ، أو تذييلًا لمحادثة - ليس دائمًا مما يدلُّ على الصلاح والصفاء واستقامة السريرة؛ فالقائم بالنصيحة وسِجِلُّه التاريخي، ومضمون النصيحة وسياقها، وسببُ النصيحة وهدفها - هي الأساس في الحكم على النصيحة أن تكون خالصةً صافيةً، أو أن تكون شيطانيةً متملِّقةً.
 
ولخطورة هذا النوع الثاني من النصيحة في تزييف الحقائق وإضلال العامة، وبخاصة في الواقع الحاضر الذي شهد اتِّساعًا غير مسبوق في وسائل التواصُل ودوائرِ الإعلام القديم والجديد؛ إذ الكثير منهم يحاول الوصول إلى عقول البشر وقلوبهم بالإغواء والتزيين تارةً، والتلفيق والتزييف تارةً أخرى - جاء هذا المقال ليضع بعض الملامح التي تُعين على تمييز نصيحة الشيطان ومعرفة أثرها، حتى وإن كانت في صورة إنسان أو جهاز، أو هيئة أو تجمُّع، أو صُحبة.
 
وأصدق ما يُقال في وصف الشيطان الناصح وأعوانه - ما سطَّره أحمد شوقي في وصف الثعلب الذي برز يومًا في زيِّ الواعظين، يُراوغ بكلِّ مكْرٍ وخديعةٍ؛ حتى يُحقِّق بغيةً سقيمة، ويفوز بفريسةٍ سمينة، فكان مما قال:






برَزَ الثعلبُ يومًا
في شِعار الواعظينا


فمشى في الأرض يَهذي
ويسبُّ الماكرينا


ويقولُ الحمدُ لل
هِ إلهِ العالمينا


يا عبادَ اللهِ تُوبوا
فهْو كهفُ التائبينا






 
وهذا ما فعله إبليس عندما برز يومًا في زيِّ الناصحين بهدف إغواء آدم وإخراجه من الجنَّة؛ ليجعله من العُصاة بارتكاب المعصية الكُبرى والأولى في التاريخ، يقول تعالى: ﴿ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ﴾ [الأعراف: 21].
 
ومثاله أيضًا: ما ألقاه الشيطان في قلوب إخوة يوسف عليه السلام، فقد مكروا مكرَهم، وعزموا على أن يجعلوا أخاهم في غيابة الجُبِّ، حسدًا من عند أنفسهم، ولحَبْك ما أرادوا، وللوصول إلى ما حاكوا؛ ارتَدَوا لباس الناصحين، وادَّعوا أنهم من الحافظين المخلصين، يقول تعالى: ﴿ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ﴾ [يوسف: 11].
 
وعجيبُ الأمر في الموقفين أن مكيدة الشيطان الناصح مع آدمَ وزوجته نجَحتْ، وحقَّقتْ مقصدها، وحيلةَ إخوة يوسف مع يعقوبَ ويوسف عليهما السلام نَفَذت ووصلت إلى بُغيتها، برغم أنهم أنبياء مكرمون، لأنّ لقب الناصح وأسلوب النصيحة ليس له معنًى في قواميس الأنبياء والمصلحين إلا إرادة الخير الناصع الخالص، ولكن حقيقة الأمر أنها قد تكون سمًّا زُعافًا، وشرًّا مُحدقًا، وخرابًا مدمِّرًا.
 
وتَختَصُّ نصائح الشياطين وأعوانهم دائمًا بخصائصَ تُعرف في لحْن القول أحيانًا، ومن خلال فلتات اللِّسان أحيانًا أخرى، وفيما يأتي نَعرض لبعضٍ من هذه الخصائص؛ ليكون أصحاب النيات الطيبة من المصلحين والناصحين الصادقين على حذرٍ من الوقوع فيها، أو الخديعة بأشكالها وعباراتها:
1- الكذب المتعمَّد: إن الشيطان الناصح وأعوانه يُدركون حقيقة الخُبث في أنفسهم، فيعملون على تطهير الأجواء المحيطة من سمومهم؛ وذلك عن طريق تَكرار استخدام المؤكِّدات المتلاحقة؛ كالقَسَم، ونون التوكيد ولامِه، مثال ذلك قوله تعالى: ﴿ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ﴾ [الأعراف: 21]، وقوله تعالى عن إخوة يوسف: ﴿ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ﴾ [يوسف: 11].
 
2- بناؤها على الألفاظ البرَّاقة، والعبارات المزوَّقة، والوعود المغرية، والعروض الفضفاضة؛ يقول تعالى: ﴿ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ﴾ [الأعراف: 22]، وكذلك كان حال إخوة يوسف في تقديم نصيحتهم؛ يقول تعالى عنهم: ﴿ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [يوسف: 12].
 
3- الخديعة المتعمَّدة، والمراوغة المدبَّرة: فلا مجال للتلقائية والبراءة في نصيحة الشيطان وأعوانه، فهم يُقدِمون بخُطًى مدروسة، وأدوار مرسومة، يقول تعالى: ﴿ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ﴾ [يوسف: 102]، وعن الشيطان يقول تعالى: ﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ص: 82]، فهو مكر الليل والنهار، وتدبير السرِّ والخفاء.
 
4- لا يُعرفون بكونهم من الناصحين إلا على ألسنة أنفسهم فيما يدَّعونه، أو عند ضعاف الإيمان وقليلي العلم والخبرة، ولكنهم عند المؤمنين الصادقين وأصحابِ الفهم السليم هم الماكرون المخادعون، والأعداء الحقيقيُّون، يقول تعالى: ﴿ فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ ﴾ [طه: 117]، ويقول تعالى عن وصف يوسف لإخوته عندما التقى بهم: ﴿ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 77].
 
5- فضيحتهم وانكشاف أمرهم، وسقوط هيبتهم، وتلاشي آثارهم، كما حدَث لإخوة يوسف الذين قدَّموا أنفسَهم في بداية القصة على أنهم من الناصحين ليوسُف، وسرعان ما تغيَّرت الأمور فلم تنتهِ القصةُ إلا بعد إعلانهم أنهم كانوا خاطئين، يقول تعالى: ﴿ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ﴾ [يوسف: 91]،﴿ قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ﴾ [يوسف: 97]، وكذلك كان إخبار الله تعالى لآدم بحقيقة نصيحة الشيطان له، يقول تعالى: ﴿ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [الأعراف: 22].
 
إن عرض القرآن الكريم لنماذجَ من النصائح الشيطانية - يهدف إلى وقاية الأمَّة من أن تقع فريسةً للخداع والتزوير، أو أن تكون ضحيةَ الكلمات الفارغة والعبارات المغشوشة، التي تتصيَّد ضعاف القلوب، التائهين في ظُلمات الجهل، وغبشِ الفتن، ومخدرات المتع والشهوات، ولا عاصمَ من ذلك كلِّه إلا بعودة القلوب إلى تدبُّر آيات الوحي، ويقظة العقول بالتفكُّر في حكمة التنزيل، يقول تعالى ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29].

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢