فوائد عزيزة جدا في تفاضل الأعمال وقبولها لابن القيم رحمه الله
مدة
قراءة المادة :
5 دقائق
.
فوائد عزيزة جدًّا في تفاضل الأعمال وقبولها لابن القيم رحمه الله[1]
الفائدة الأولى:
لا يلزم من كثرة الثوابِ أن يكون العمل الأكثرُ ثوابًا أحبَّ إلى الله تعالى من العمل الذي هو أقل منه، بل قد يكون العمل الأقلُّ أحبَّ إلى الله تعالى، وإن كان الكثير أكثر ثوابًا.
مثال:
قراءة سورةٍ بتدبُّر ومعرفة وتفهُّم وجمع القلب عليها أحبُّ إلى الله تعالى من قراءة ختمة سردًا، وهذا وإن كثر ثواب هذه القراءة.
مثال آخر:
صلاةُ ركعتين يُقبِل العبد فيهما على الله تعالى بقلبه وجوارحه، ويفرغ قلبه كله لله فيهما، أحبُّ إلى الله تعالى من مائتي ركعة خالية من ذلك، وإن كثر ثوابهما عددًا.
الفائدة الثانية:
العمل اليسير الموافِق لمرضاة الرب وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم أحبُّ إلى الله تعالى من العمل الكثير إذا خلا عن ذلك أو عن بعضه؛ ولهذا قال الله تعالى:
﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الملك: 2].
وقال: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الكهف: 7].
وقال: ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [هود: 7].
فهو سبحانه وتعالى إنما خلق السموات والأرض، والموت والحياة، وزيَّن الأرض بما عليها؛ ليبلوَ عباده أيُّهم أحسن عملًا، لا أكثر عملًا.
والعمل الأحسن: هو الأخلص والأصوب، وهو الموافق لمرضاته ومحبته، دون الأكثر الخالي من ذلك، فهو سبحانه وتعالى يحب أن يتعبد له بالأَرْضَى له وإن كان قليلًا، دون الأكثر الذي لا يرضيه، والأكثر الذي غيرُه أرضى له منه؛ ولهذا يكون العملانِ في الصورة واحدًا، وبينهما في الفضل - بل بين قليل أحدهما وكثير الآخر في الفضل - أعظم مما بين السماء والأرض؛ ولهذا كان القبول مختلفًا ومتفاوتًا بحسب رضا الرب سبحانه بالعمل.
الفائدة الثالثة:
للقبول أنواع ثلاثة:
النوع الأول: قَبول يُوجب رضا الله سبحانه وتعالى بالعمل، ومباهاة الملائكة به، وتقريب عبده منه.
النوع الثاني: قبول يترتب عليه كثرة الثواب والعطاء فقط.
مثال مشترك على هذين النوعين: كمَن يتصدق بألف دينار من جملة ماله مثلًا؛ بحيث لم يكتَرث بها، والألف لم تنقصه نقصًا يتأثر به، بل هي في بيته بمنزلة حصى لقيه في داره، أخرج منه هذا المقدار؛ إما ليتخلص من همه وحفظه، وإما ليُجازى عليه بمثله، أو غير ذلك.
وآخر عنده رغيفٌ واحد هو قُوته، لا يملك غيره، فآثر به على نفسه مَن هو أحوج منه إليه؛ محبة لله، وتقربًا إليه وتوددًا، ورغبة في مرضاته، وإيثارًا على نفسه.
فيا لله كم بُعْد ما بين الصدقتينِ في الفضل، ومحبة الله، وقَبوله ورضاه؟
وقد قبِل سبحانه هذه وهذه، لكن قبول الرضا والمحبة والاعتداد والمباهاة شيءٌ، وقبول الثواب والجزاء شيءٌ.
النوع الثالث: قبول إسقاط للعقاب فقط، وإن لم يترتب عليه ثواب وجزاء.
مثال: قَبول صلاة مَن لم يحضر قلبه في شيء منها، فإنه ليس له من صلاته إلا ما عقَل منها، فإنها تسقط الفرض ولا يثاب عليها.
مثال آخر: صلاة الآبِق وصلاة مَن أتى عرافًا فصدَّقه، فإن البعض قد حقَّق أن صلاة هؤلاء لا تُقبَل، ومع هذا فلا يؤمرون بالإعادة؛ يعني أن عدم قبول صلاتهم إنما هو في حصول الثواب، لا في سقوطها من ذمتهم.
الفائدة الرابعة: الأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والمحبة، والتعظيم والإجلال، وقصد وجه المعبود وحدَه دون شيء من الحظوظ سواه، حتى لتكون صورةُ العَمَلين واحدةً، وبينهما في الفضل ما لا يحصيه إلا الله تعالى.
وتتفاضل أيضًا بتجريد المتابعة، فبين العملين من الفضل بحسب ما يتفاضلان به في المتابعة، فتتفاضل الأعمال بحسب تجريد الإخلاص والمتابعة، تفاضلًا لا يُحصيه إلا الله تعالى.
وينضاف هذا إلى كون أحد العملين أحبَّ إلى الله في نفسه، مثاله: الجهاد وبذل النفس لله تعالى هو مِن أحب الأعمال إلى الله تعالى، ويقترن بتجريد الإخلاص والمتابعة.
وكذلك الصلاة، والعلم، وقراءة القرآن، إذا فضل العلم في نفسه، وفضل قصد صاحبه وإخلاصه، وتجردت متابعته، لم يمتنع أن يكون العمل الواحد أفضل من سبعين، بل وسبعمائة من نوعه.
فتأمل هذا، فإنه يُزيل عنك إشكالاتٍ كثيرة، ويُطلعك على سر العمل والفضل، وأن الله سبحانه وتعالى أحكم الحاكمين، يضع فضله مواضعه، وهو أعلم بالشاكرين.
[1] منقول باختصار وإضافة بعض العناوين من كتاب "المنار المنيف"؛ لابن القيم رحمه الله.