كيف تكون فقيها ومحدثا -1


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.

اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم، وبعد:

فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أحبتي في الله! إن مذاكرة العلم ومدارسته من أعظم النعم، والفقه في الدين من أعظم العبادات؛ ولهذا فإن من خلصت نيته، وصلحت لله طويته، وأقبل على العلم وجد واجتهد فيه نال أكثر مما يناله العابد، ولهذا روى الحافظ أبو عمر بن عبد البر عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: تذاكر العلم بعض ليلة أحب إليّ من إحيائها، قيل لـأحمد : أي علم أراد -يعني: ابن عباس-؟ قال: العلم الذي ينتفع به الناس، قيل: الوضوء، والصلاة، والطلاق والنكاح؟ قال: نعم.

إذاً:

العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة هم أولو العرفان

فمن أقبل على هذا العلم، وبنى أصوله وفروعه على الكتاب والسنة، وتأمل نصوص الكتاب والسنة أفلح وأنجح، وكانت عبادته في تأمل هذه النصوص أعظم ممن هو جالس في المسجد يركع ويسبح.

كان أناس من التابعين، أو من أتباع التابعين، يصلون ما بين الظهر والعصر ويتطوعون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام رجل من أصحاب سعيد بن المسيب فقال: يا ليتني أطيق هذه العبادة فهلا فعلت مثلما يفعلون يا أبا محمد ؟! فقال: ليست بذلك العبادة، قلت: وأي العبادة؟ قال: العبادة هي الورع عن محارم الله، والتفكر في الله -يعني: ذاته- والفقه في الدين، فإن الفقه في الدين من أعظم العبادات؛ ولهذا قال مطرف بن عبد الله بن الشخير ، كما روى ذلك أبو عمر بن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله: حظ من علم أحب إليّ من حظ من عبادة، ولأن أعافى فأشكر أحب إليّ من أن أبتلى فأصبر، ولقد نظرت في الخير الذي لا شر فيه، فلم أر مثل المعافاة والشكر.

إذاً: التفقه في الدين، والتأمل في نصوص الوحيين عبادة.

ولهذا جاءت الأحاديث الكثيرة الدالة على أن كل شيء يستغفر لمعلم الناس الخير، حتى الحيتان في البحر، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي بسند صحيح؛ ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله: لا أعلم شيئاً بعد الفرائض أحب إليّ من إصلاح ذات البين والفقه في الدين.

الفقه في الدين المراد به فقه مراد الله، ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلما أقبل المرء على فهم كتاب الله، وفهم سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، كلما كان ذلك أنفع له في دينه، وأظهر له في حجته، وخير له في دينه ودنياه، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( نضر الله امرءً سمع مقالتي فوعاها، ثم أداها كما سمعها، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه )، كما ثبت ذلك في الحديث الذي رواه البخاري و مسلم وغيرهما.

إذاً: حينما نتحدث عن الفقه في الدين، فلا نقصد بذلك أن يحفظ الإنسان متناً صغيراً في الفقه، أو أن يقال إنه محدث إذا حفظ شيئاً يسيراً من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن مراد الفقه في الدين عند السلف: هو الفقه بعموم الشريعة، وهذا من فقه أبي حنيفة حينما سمى علم العقائد هو الفقه الأكبر، وإن كان قد اصطلح المتأخرون على أن المراد بالفقه هو معرفة الأحكام الشرعية المستنبطة من أدلتها التفصيلية، وهنا تعلم أن الفقه هو الفهم، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لـابن عباس ، وهو لم يناهز الاحتلام بعد: ( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل )، فكان ابن عباس ممن فقه مراد الله بالتأويل، وفقه مراد رسوله صلى الله عليه بسنته.

فهذا ابن عباس الذي لا يعرف أنه سمع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أحاديث تعد بأصابع اليد، وغالب الأحاديث التي رواها ابن عباس إنما رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم بالواسطة، ولكنه فقه مراد الله ومراد رسوله ففاق به من حفظ أكثر منه رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

يقول أبو العباس بن تيمية : وأنت إذا رأيت ابن عباس يستخرج من الحديث أنهاراً وبحاراً، وأما غيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يختلف عنهم تماماً، أو كما قال رحمه الله ورضي عنه.

إذاً: حينما نتحدث كيف تكون فقيهاً؟ نقصد بذلك كيف تكون فاهماً مدركاً متأملاً عالماً بمراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، أما حفظ المتون الصغيرة أو الكبيرة عظمت أم صغرت، فإنما هي طريق ووسيلة لأن تفهم مراد الله ومراد رسوله، وكثيرة هي الوسائل والطرق التي تبين مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن يجب أن نعلم حينما نتحدث عن الفقه، وكيف تكون فقيهاً أن القصد بذلك كيف تستطيع أن تخرج كنوز الكتاب والسنة إلى الأمة؛ لأن كثيراً من الناس ربما تمضي عليه سنون عديدة وهو مقتصر على متن صغير يتأمله، ولكنه ربما لم يدرك مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، فتمضي عليه السنون، وهو لم يتأمل الكتاب، ولم يتأمل السنة، ولم ينظر في مراد الله وفي مراد رسوله صلى الله عليه وسلم، ويظن أن العلم هو قال فلان، قال فلان فقط، وهذا ليس بصحيح.

نعم! لا ينبغي لطالب العلم أن يبرز إلا وقد خطا خطوات عظيمة وكبيرة، وطلب العلم سنين حتى يصل إلى هذا الأمر، وليس المراد أن من حضر مثل هذه المحاضرة يكون مثل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفهم والفقه، ولن يتأتى هذا بيوم ولا يومين، ولا بسنة ولا سنتين، ولا عشر سنين، حتى تشيخ لحيتك في النظر في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلام سلف هذه الأمة.

إذاً فمسألة الفقه في الدين يعتريها أمور كثيرة جداً جداً، وأقول وأنا آمل ما أقول: لن تستطيع أن تكون فقيهاً بمحاضرة من مغرب إلى عشاء، ولكنها رءوس أقلام، من تأملها ودرسها واستنبط معانيها، وفقه على منوالها فإنه بإذن الله سوف يكون له شأن وأي شأن؟ إنه شأن مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا فمن تأمل أقوال الصحابة وأقوال من جاء بعدهم علم الفرق الكبير بين فقه الصحابة وفقه من جاء بعدهم، كما قال أبو العباس بن تيمية رحمه الله: من أراد أن يعلم فقه الصحابة من فقه من جاء بعدهم، فلينظر في باب الأيمان والنذور، وهذا يدل على أن الصحابة رضي الله عنهم عندهم فقه لم يكن عند غيرهم.

إذا ثبت هذا أيها الإخوة فإن الفقه بالمراد المصطلحي هو معرفة الأحكام الشرعية المستنبطة من أدلتها التفصيلية، يعني: أنه إذا جاءنا حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعرف كيف نستنبط منه أحكاماً فقهية، ولقد ذكر بعض الأصوليين كـالجويني وغيره أن الحديث الذي ظهر منه الحكم الشرعي صراحة أو نصاً فإنه لا يعد من عرف ذلك فقيهاً، فإذا قلنا: إذا دبغ الإهاب فقد طهر، الدليل: ما رواه مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس : ( إذا دبغ الإهاب فقد طهر )، فهذا لا يعد فقهاً؛ لأنه ظاهر.

الفقه أن تعرف أي إهاب إذا دبغ فقد طهر؟ هل هو كل إهاب؛ لعموم: ( أيما إهاب دبغ فقد طهر )؟ أم هو الإهاب الذي تحل ميتته بالذكاة؟ وكيف عرفنا ذلك بمجموع النصوص واستقراء الشريعة، كما هو مذهب أحمد و مالك ، وقول عند الشافعية اختاره أبو العباس بن تيمية رحمه الله.

إذاً: الفقه هو الفهم، والفهم لا يتأتى بأن يرى الإنسان ظاهر النص فيستدل به.

إن فقه بعض المتأخرين -وخاصة بعض طلبة العلم- وبعض من اشتغل بالمتون أو من فهمهم للنصوص فهماً ظاهرياً يحتاج منا إلى وقفة؛ لأن العلم بمراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم ليس بالأمر السهل البسيط؛ لأنه يتطلب معرفة باللغة، ويتطلب معرفة بما كان صلى الله عليه وسلم يعرفه ويعمله ويتعامل به، فأنت لو أدركت محمداً صلى الله عليه وسلم سترى كيف كان بعض الناس يسلمون بطرق معينة مثل أن يسلم بحركات رأسه، أو وهو يحرك يديه، أو غير ذلك، فيقول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ( ما لي أراكم كأنكم خيل شمس )، أنت لو سئلت كطالب علم: ما معنى خيل شمس؟ ربما تبحث عن كلام علماء اللغة، لكنك ما أدركت محمداً صلى الله عليه وسلم حينما قال هذه العبارة وهو يرى بعض أصحابه، فينطبع هذا الأمر عند أصحابه أكثر مما ينطبع في بحث ربما يأخذ سنين، وربما أدركت مراد الرسول صلى الله عليه وسلم أو لم تدرك.

إذاً: فهم مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم إنما يعرف بكثرة التأمل والقراءة بسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن ثمة حقائق منها الحقيقة اللغوية، ومنها الحقيقة العرفية، ومنها الحقيقة الشرعية.

إذاً: ليس كل حقيقة رأيناها في كتب اللغة تدل على أنها هي الحقيقة الشرعية؛ لأن الحقيقة الشرعية قد أخرجت المعنى اللغوي إلى معنى يريده الله ويريده رسوله صلى الله عليه وسلم، واليوم تجد أن بعض الناس يأخذ بقاعدة: هذا اللفظ يدل على العموم.

مثال ذلك: بعض الإخوة يرى أن كل إزالة لشعر الوجه هو من النمص، فيقول: إن النمص هو إزالة شعر الوجه، يقول ابن منظور في لسان العرب، ويقول الفيروزأبادي في القاموس المحيط: النمص هو إزالة الشعر النابت في الوجه، هذا علم لغة، ولا يلزم أن يكون النمص الذي لعن الله فاعله هو المراد بعلم اللغة، فإن علم اللغة شيء والعلم الشرعي شيء آخر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الحقيقة الشرعية للنمص هي إزالة الشعر الذي في الحاجبين.

إذاً: يجب أن يعلم ويعرف طالب العلم أنه ليس كل ما كان حقيقة لغوية هي مراد النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا لا ينبغي التعجل في مخالفة الأئمة، فالأئمة الأربعة رحمهم الله عندما نظروا إلى اللحية قالوا: هو ما نبت من شعر اللحيين والذقن، إذاً: الشعر النابت في الخد عند الأئمة الأربعة وهو ظاهر مراد الصحابة ليس من اللحية، ولو نظرنا إلى علماء اللغة كالقاموس المحيط للفيروزأبادي أو لسان العرب لـابن منظور فإنهم قالوا: إن اللحية ما نبت من شعر الوجه، إذاً هذا معنى لغوي، ولكن المعنى الشرعي معنى آخر، فلا يأتي طالب علم يقول: العبرة بالدليل، ثم ينظر في علم اللغة فيقول: إن كل ما نبت من شعر الوجه فهو لحية، نقول: هذا لغة، لكن الشرع شيء آخر، وبهذا تعرف أحياناً بعض الاجتهادات المعاصرة حينما يخالفون نصوص الأئمة، ويقولون: هم رجال ونحن رجال؛ ولهذا لابد أن يعرف طالب العلم ما معنى الفقه في الدين الذي كان عليه سلف هذه الأمة؟

وجود التوازن الجسدي والذهني

من أراد أن يكون فقيهاً فلابد أن يعلم أن الفقه يتطلب قدرات ذاتية وذهنية، ومعرفة بواقع الناس، فمن أراد أن يكون فقيهاً فلا بد أن يكون عنده نوع من التوازن الجسدي، والتوازن الذهني؛ ولهذا قال ابن مسعود كما صح ذلك عنه: (أولئك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبر هذه الأمة قلوباً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، فاعرفوا قدرهم فإنهم على الهدي المستقيم)، هذه العبارة عبارة مجملة فسرها لك ابن تيمية رحمه الله بقوله: هم أبر، فليسوا أهل تكلف، فعندهم من فهم الشريعة من غير تكلف أكثر ممن جاء بعدهم، وهم أبر هذه الأمة، فإن الإنسان كلما كان صادقاً مع نفسه، صادقاً مع ربه، كلما كان أقرب لمعرفة مراد الله ومراد رسوله، ودليل ذلك قوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282].

ولهذا قال أبو العباس ابن تيمية : وكل من خالف الحق فقد جاءه شيء من الهوى، كما قال الله تعالى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ [القصص:50] أحياناً يقول الإنسان: أنا والله ما أردت إلا وجه الله، فيذهب يبحث عن مسألة، وفي ذهنه أن يكون الحكم حراماً، فيبحث عمن يقول: إنه حرام، ثم يقول: وجدت فلاناً وفلاناً وفلاناً يقولون: إنه حرام، فإذا قيل له: وماذا يقول محمد صلى الله عليه وسلم؟ تجد أن في نفسه شيئاً ما عرفه.

أو يذهب يبحث عمن يقول إنه: حلال، وفي قرارة نفسه أننا عشنا في زمن كل شيء حرام، ويكون منطلق بحثه أن الذي كنا ندرسه عند المشايخ ليس هو الحق، فيكون شيئاً في ذهنه أن الحكم يكون حلالاً، فإذا جاءت بعض النصوص الشرعية تخالف ما كان قد اعتقده من الباطل يحاول أن يؤول مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا خلل منهجي يجب أن يتفطن له طالب العلم، كما ذكر أبو العباس بن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى: ينبغي أن يحمل كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم على ما أراده الله وأراده رسوله صلى الله عليه وسلم، لا على ما أراده المجتهد في نفس الأمر.

تجد بعض الإخوة حينما يبحث الأدلة يقول: القول الأول قال به فلان وفلان ودليلهم كذا، والقول الثاني قال به فلان وفلان ودليلهم كذا، وفي نفسه يريد أن يرجح القول الأول أو الثاني، يقول: والراجح هو القول الأول، وأما ما استدل به القول الثاني فضعيف .. هكذا مباشرة حكم عليه بالضعف؛ ثم يقول: لأن قوله تعالى كذا يحتمل كذا ويحتمل كذا، وأما ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيحتمل كذا، ثم يأتي باحتمالات عقلية، لم يكن هو مراد الرسول صلى الله عليه وسلم حينما قال ذلك، ثم يقول بأبسط أسلوب: والحديث إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال، ويمنع مراد الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا.

وهذا كثير عند المتأخرين، لا سيما ممن تأثروا بالتعصب المذهبي.

ولهذا حينما أراد بعض أصحاب المذاهب من المتأخرين أن يرجح أن غسل يوم الجمعة مستحب وليس بواجب جاءه حديث المتفق عليه الذي رواه الجماعة إلا الترمذي من حديث أبي هريرة : ( غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم والسواك، وأن يمس من الطيب ما قدر عليه )، انظر فهم المتقدمين من السلف حينما حملوا الحديث على عدم الوجوب، وفهم المتأخرين حينما أرادوا تحويل مراد الله ومراد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى معان أخرى لغوية بعيدة.

الجمهور قالوا: لا ينبغي أن نفهم مراد الرسول صلى الله عليه وسلم في الوجوب من عدمه بحديث واحد؛ ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يجمع النصوص حتى لا يضرب أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم بعضها في بعض، هذا واحد.

الثاني: يجب أن نعلم حينما نحمل النصوص أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال هذا الحديث لا يعارض الحديث الآخر، فيكون ذلك التعارض من نظر المجتهد ونظر الباحث ونظر الطالب.

الجمهور قالوا: معنى الوجوب في الشرع يختلف عن معنى الوجوب في المصطلح الفقهي، فإن الوجوب في المصطلح الفقهي معناه: ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه، وهو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين على سبيل اللزوم، قالوا: فالوجوب هو الحتم واللزوم، وليس الوجوب المصطلح الفقهي؛ لأن هذا المصطلح الفقهي حادث على مراد الله ومراد الرسول صلى الله عليه وسلم، كما أن المكروه في لسان الشارع يختلف على المكروه في المصطلح الفقهي، فإن الاصطلاح الفقهي ما يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله، وأما المصطلح الشرعي فهو المحرم، قال تعالى: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء:38]، يعني: محرماً، إذاً: المصطلحات يجب أن تبين وتراعى.

والإشكال أن بعض المتأخرين عندما جاءه هذا الحديث ضاق عطنه، فيريد أن يؤول فيقول: نبحث ما معنى واجب في اللغة، بحثوا فوجدوا أن الواجب معناه الساقط، كما قال تعالى: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا [الحج:36] يعني: سقطت، قال: والحديث ليس دليلاً على الوجوب، بل هو دليل على عدم الوجوب؛ لأن معناه: غسل يوم الجمعة ساقط على كل محتلم!

فلابد لطالب العلم أن يتجرد للحق قبل أن يبحث، وهذا التجرد ليس بالأمر السهل، ولهذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عندهم من الإخلاص ما جعلهم ينظرون إلى النصوص بعيداً عن أهوائهم، كما قال أبو بكر رضي الله عنه: أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا أنا قلت في كتاب الله ما لا علم لي به، هذا الخوف وهذه الخشية وهذه الرهبة تجعل الإنسان مجرداً عندما يأتيه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم يبحث عما أراده صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر، فتصفو نفسه، وتزكو سريرته، وتتأمل قريحته مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تكلف، فيظهر الأمر له جلياً.

ولهذا تجد أن طبائع البشر أحياناً لها أثر في الأحكام الشرعية؛ ولهذا قلت مراراً وتكراراً: إذا رأيت الرجل أو الفقيه كل أقواله حرام فاعلم أنه ليس بفقيه، وإذا رأيت كل أقواله حلال فاعلم أنه ليس بفقيه ولو استدل لك؛ لأن دين الله وسط، ليس بالغالي ولا بالجافي، فـابن عباس الذي عرف عنه التساهل عنده مسائل كثيرة فيها من الشدة ما يباهل عليها، و ابن عمر الذي عرف عنه التشديد عنده من المسائل الخفيفة ما خالف فيها عامة أهل العلم.

إذاً: هذا التوازن هو حينما يأخذ بهذا الفهم حتى وإن أخطأ فإنما اجتهد على مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم لا أثر له بطبيعته؛ لأن الطبيعة أحياناً تؤثر على الإنسان وهو لا يشعر، وسوف نتحدث عن معنى تغير الأحكام بتغير الزمان كما يقول بعض الناس استدلالاً على تغير الأحكام الشرعية بهذه الحجة أو بهذه القاعدة.

أقول: من الأشياء التي تجعل الإنسان متجرداً التذلل والتعبد لله، لا يمكن أن ينفك الفقه عن التعبد لله سبحانه وتعالى؛ ولهذا قالت عائشة للرجل الذي كان كل يوم يسألها قالت: يا هذا أكل ما علمته عملت به؟ لأن العلم يزكو ويثبت بالعمل؛ ولهذا طالب العلم إذا رأى نفسه أنه يعلم ولا يعمل ورأى مدح الناس له فينبغي له أن يعلم أن هذا نذير وليس بشير؛ لأنه ربما يكون نوع استدراج وما عقل، ولا يهلك على الله إلا هالك.

العناية بالتأصيل العلمي

أمراً آخر لمن أراد أن يكون فقيهاً: لابد له من التأصيل، والتأصيل المراد به المنهجية، والمنهجية هي الإجراءات والطرق التي يتعلم بها الطالب المسائل، فيتدرج شيئاً فشيئاً حتى يكون عنده الملكة الفقهية التي يفهم بها مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم.

إذاً: التأصيل هو المنهجية، والمنهجية هي الإجراءات والوسائل والطرق التي يتدرب عليها طالب العلم شيئاً فشيئاً حتى يتحصل على الملكة الفقهية التي يبين أو يظهر له بها مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم.

إذاً: فهذه الملكة لا تأتي بجلوس عند شيخ، فبعض الإخوة يرى أنه بمجرد طول بقائه عند شيخ أنه ينبغي أن يكون هو الأولى بالفتوى وهذا لا يلزم، فإن بعض الإخوة يقول: أنا تتلمذت عند الشيخ الفلاني عشر سنوات، هذا لا يلزم؛ لأن طول بقاء الإنسان عند الشيخ من غير فهم لمراد الشيخ ولا طريقة للتتلمذ عليه لا يمكن أن ينتفع كثيراً، وكلما كان الطالب مدركاً للنصوص متصوراً للمسائل والأدلة ملازماً لشيخه كان ذلك أنفع له، والعلم عند الله.

ولهذا تجد أن أبا يوسف تلميذ أبي حنيفة جلس عند أبي حنيفة أكثر من عشر سنين، عشر سنين وهو عالم إمام من أقران مالك بن أنس ، واليوم تجد طالب العلم يتتلمذ على شيخه قبل أن تنبت لحيته، فبمجرد أن يتخرج من الجامعة يظن أنه لا يحتاج لدروس المساجد وهذا موجود؛ ولهذا تجد طالب العلم الشاب الصغير إذا تخرج من الجامعة، لو أراد أن يحضر درس شيخه تجده يبتعد في الربعة أو في الزاوية وكأنه أصبح مستغنياً عما عند شيخه من العلم، ولا ينبغي لطالب العلم إذا أراد أن يتتلمذ على المشايخ أن ينظر إلى ذاته ونفسه، فمن علم أنه يستفيد من شيخ مسائل وأصول وطريقة استدلال فينبغي أن يجلس عنده ويتتلمذ، ويبالغ في الأسئلة، ويتأمل النصوص، وكلما أشكل عليه شيء بحث، وعرف قواعد الاستدلال، وعرف طرق الاستنباط، بهذا مع قراءة وتأمل وتأنٍ، وقراءة ذاتية يصبح طالب العلم بعد عشر سنوات يشار إليه بالبنان.

ولو قيل له: المشكلة اليوم أن الطالب مجرد أن يحضر دروساً معينة اكتفى، وإذا سئل هل أنت تدرس الفقه؟ قال: نعم، أدرس على الشيخ الفلاني، ولو قيل له: أنت تدرس في الحديث؟ قال: نعم، أدرس على الشيخ الفلاني، طيب! وماذا بعد ذلك؟ يقول لك: ولا قبل ولا بعد، وكأنه قد اكتفى.

شيخ الإسلام ابن تيمية الذي إذا أراد الواحد أن يرجح قوله، يقول: وهو اختيار ابن تيمية.

ذكر البزار في الأعلام الزكية في ترجمته: إن شيوخ ابن تيمية يعدون بالألفين، ولو سألت طلاب العلم اليوم أعطوني عشرين من مشايخكم ما استطاعوا، والسؤال الذي يطرح نفسه: أين شيوخ ابن تيمية ؟ لماذا فاق عليهم؟ لأن ابن تيمية لم يجعل نفسه مثل نسخة شيخه، بل كان مثل شيخه وزاد، إذاً ابن تيمية لم يأخذ علمه من فلان وفلان فقط، إنما مفاتيح العلم من فلان وفلان وفلان، وبدأ هو من عند نفسه يقرأ ويتتلمذ.

وعندنا في وقت الطلب ووقت التفقه مشكلتان: إما ملازمة شيخ من غير قراءة وتأن وترو، وإما قراءة كتب من غير ملازمة شيخ، وكلا الأمرين غير محمود لطالب العلم؛ ولهذا أشار الإمام الشاطبي في الموافقات أنه من عادة السلف أنهم يجثون على ركبهم عند العلماء، وكلما زاد ثني الركب عند العلماء الربانيين كلما برز طالب العلم، يقول: ولهذا عيب على أبي محمد بن حزم أنه لم يكن معروفاً في جثي الركب عند العلماء، وإن كان أهل الحديث في زمنه كثر، هذا كلام الشاطبي وإن كان محل نظر، لكن المقصد من ذلك هو الكلام في الجملة، قال: ولهذا حاز قصب السبق مالك بن أنس حينما كان على هذا المنوال، ثم كان مالك بن أنس يقول: ما أفتيت حتى سألت سبعين من أهل العلم، هل يروني أهلاً لذلك؟ سألت يحيى بن سعيد ، وسألت ربيعة بن أبي عبد الرحمن هل يرياني أهلاً لذلك؟ فكلهم قال لي: أنت أهل لذلك، قال الراوي : يا أبا عبد الله ! أرأيت لو قالوا: لا، قال: لا أفتي؛ لأنه لا ينبغي للإنسان أن يفتي حتى يراه أهل العلم أهلاً لذلك، ولو مشينا على هذا المنوال، وقلنا: لا يفتي إلا من تتلمذ على المشايخ وعنده بحث وتنقيب والله لقل الخلاف، وكما قيل: لو سكت من لا يعلم لسقط الخلاف.

إذاً: الجد والاجتهاد مع التتلمذ على الشيخ من أعظم الوسائل المعينة على الملكة الفقهية؛ ولهذا ذكر الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه عن أبي حنيفة أنه رأى قوماً يتحلقون في المسجد يتفقهون، فنظر إليهم أبو حنيفة وهو فرحان -يعني: جذلان- من هذا الوضع، ثم نظر إليهم فقال: ألهم رأس؟ قالوا: لا، قال: لا يفقهون أبداً؛ لأن العالم لو لم يعطك إلا أدب العلم لكان مكسباً عظيماً؛ لأن العلم له أدب، ليس العلم طيشاً وعجلة، ويعاب على العالم مهما بلغ من العلم طيشه وعجلته.

ومن طريف ما يذكر: أن الإمام الشافعي رحمه الله حينما ذهب من العراق إلى مصر، وبدأ ينظر كلام أهل العلم ويناظرهم كان منهم أشهب من علماء المالكية، يقول الشافعي -وحسبك بـالشافعي فقهاً ودراية-: ما رأيت أفقه من أشهب لولا طيش فيه.

إذاً: يعاب على العالم أن يكون فيه عجلة، والعجلة ليست العجلة في السلوك يعني: في حركاته؛ لأن هذه أحياناً تكون جبلة وطبيعية، العجلة هي في اتخاذ الأحكام، قد تجد الرجل حسن السمت، حسن الاقتصاد، لكن لسانه عجل في فريه لأهل العلم، وبزه عليهم.

إذاً: لابد لطالب العلم أن يكون ملماً بهذه المعاني التي هي عند أهل العلم، ولما كان من ضمن التأصيل أن يكون عندهم شيخ، كان أهل العلم يحرصون على أن يكون الشيخ فاهماً للعلم الذي يدرسه، اليوم بعض طلاب العلم إذا حرص على العلم لا يبحث عن الشيخ الذي يستفيد منه إنما يبحث عن الشيخ الذي يظهر في الإعلام، الشيخ الذي يبرز في أقواله، ثم يذهب ليدرس عنده، وربما جلس عنده سنة أو سنتين أو ثلاثاً؛ لكن ربما تكون استفادته من الشيخ قليلة؛ ولهذا دروس المشايخ الكبار ينبغي أن تكون لطلاب العلم الكبار؛ لأنها دروس تقريرية يقرأ الطالب ويعلق الشيخ، ويكون هذا في حق من كان عنده شيء من العلم وحظوة من القراءة، بحيث يدرك هذا الأمر.

أما الطالب الشاب الصغير الذي هو في مقتبل العمر، فلا يصلح له التقريرات؛ لأنه لم ينضج بعد فلا يتزبب قبل أن يتحصرم كما يقولون، يعني: لا يصير زبيباً قبل أن يكون حصرم عنب، هذا لا يمكن، فلابد أن يكون هناك نوع من التدرج والتأني.

وينبغي لهذا الشيخ أن يكون متصفاً بصفتين، هذه مهمة جداً جداً، ونفتقدها في واقعنا المعاصر، كثيرون يتحدثون حينما تقوم الدورات العلمية والدورات الشرعية، يقولون: متى ننتهي من الكتاب؟ يقال له: يا شيخ! لك من كتاب النكاح إلى كتاب الجنايات، متى تنتهي؟ هذا الاهتمام وإن كان مفيداً في الجملة، لكن ليس هو الفقه، أنت قادر بإذن الله إذا حصلت على مفاتيح العلم أن تقرأ أفضل من شروح المشايخ، تقرأ المغني، تقرأ المجموع، تقرأ فتح الباري لـابن رجب ، تقرأ فتح الباري لـابن حجر ، لكن إذا لم تكن عندك المفاتيح وفهم كلام الأئمة، وفهم طرق الاستنباط، فإنك لو قرأت يكون وبالاً عليك.

إذاً: يجب أن يكون دروس أهل العلم مبنية على أمرين:

الأمر الأول: تصوير المسألة، وما معنى تصوير المسألة؟ التكييف الفقهي أو الصورة البدائية للحكم الشرعي، وكثيرة الدورات والدروس التي تبين تصوير المسألة، فإذا قال: ويحرم بيع العينة، يقول لك: العينة صورتها كذا وكذا، هذا يسمى تصوير المسألة، وهذا والحمد لله متوفر كثيراً في دروس أهل العلم.

الأمر الثاني: وهو تصور الدليل، ومعنى تصور الدليل: معرفة وجه الدلالة وكيف جاءت؟ أكثر المشايخ يشرح ويقول: والدليل كذا كذا، والدليل الثاني كذا كذا.

الطالب يحفظ صورة المسألة ويحفظ الدليل كما هو، لكن كيف جاء الدليل، وكيف استنبط منه، ربما لا يكون فيه من الحظوة في الدروس مثل حظوة تصوير المسألة؛ ولهذا أرى أن الاهتمام بكيفية الاستدلال وطرق الاستنباط أولى بالانتهاء من الكتاب؛ ولهذا بعض الناس يقول: الشيخ الفلاني يفتح الدرس ولا ننتهي إلا بعد عشر سنوات، أهم شيء أنك تجلس عند الشيخ سنة أو سنتين وتعرف أن طرق الاستدلال والاستنباط في العبادات هي هي طرق الاستدلال والاستنباط في المعاملات، أو طرق الاستدلال والاستنباط في المعاملات هي هي طرق الاستدلال والاستنباط في العبادات.

إذاً: ليس المقصود الحتمي أننا ننهي الكتاب كيفما اتفق، المقصود الأعظم هو أن ننمي الملكة الفقهية لطالب العلم، وهذه الملكة لا تتأتى إلا بفهم النصوص الشرعية وكيفية الاستدلال، متى يقدم القول على الفعل؟ ومتى يقدم الفعل على القول؟ ومتى نأخذ بالعموم؟ ومتى نقول: هذا من العام المخصوص؟ وهذا من العام الذي أريد به الخصوص؟ متى نحمل المطلق على المقيد، ومتى لا نحمل المطلق على المقيد؟ متى نأخذ بدلالة التضمن ودلالة الالتزام؟ متى لا نأخذ بدلالة المطابقة وننظر بدلالة التضمن؟ فقد يجلس طالب العلم سنين يدرس أو يُدرِّس، وربما لو قلت له: ما معنى فحوى الخطاب لربما عجز عن فهم هذا، مع العلم أن الأحاديث والأدلة التي تهتم بفحوى الخطاب ودليل الخطاب كثيرة، وفحوى الخطاب هو مفهوم الموافقة، ودليل الخطاب هو مفهوم المخالفة.

إذاً: معنى التأصيل هو الإجراءات والطرق التي يتعلمها طالب العلم، ويمضي فيها حتى يحصل على هذه الملكة، وهذا لا يتأتى إلا بأن يكون يدرس عند شيخ.

الثاني: أن يكون فاهماً لأدلة هذا الكتاب.

الثالث: أن يكون عنده متن يجمع فيه فروع هذه الأبواب.

هذا المتن لا يلزم أن يكون الزاد أو أخصر المختصرات أو الدليل، أو المنهاج للنووي أو الاختيار للموصلي ، أو مختصر خليل عند المالكية، المهم هو أنك إذا رأيت هذه المسألة وهذا القول فاعلم أن هذا فيه خلاف في الجملة، فكيف تفهم طرق الأئمة في الاستنباط، فأنت إذا درست كتب الحنابلة لابد أن يعلمك الشيخ، ولابد أن يكون الشيخ يدرك أصول الحنابلة، بحيث يعلم طالب العلم لماذا قلنا بهذا شيء، والأمثلة في هذا كثيرة.

سوف أذكر إن شاء الله أمثلة في هذا الباب، فأحياناً تجد أن بعض الذين يفتون في مسألة بدليل، ولا يعتمدون على هذا الدليل في مسألة أخرى يقع تناقض؛ ولهذا لابد لمن أخذ بهذا الدليل أن يكون مبنياً على أصول، مثال ذلك: الأخذ بقول الصحابي، جمهور أهل العلم من الأئمة الأربعة في الجملة يرون أن قول الصحابي حجة أو ظن، أهم شيء أنه يستأنس به في الاستدلال، لكن أحياناً تجد أن بعض الأئمة لا يأخذ بقول الصحابي؛ لأنه لم يبلغ هذا الخبر، وإلا فإن أبا حنيفة رحمه الله كما ذكر ابن تيمية في مجموع الفتاوى المجلد الثامن عشر قال: فإن أبا حنيفة ترك القياس حينما بلغه عن ابن مسعود أنه يرى جواز الوضوء بالنبيذ وهو التمر بالماء، يعني: أن أبا حنيفة ترك القياس لأجل أنه بلغه أثر عن ابن مسعود صح عنه، كما رواه النخعي عن ابن مسعود ، وإن كان في الإسناد مقال.

فإذا كان أبو حنيفة ترك القياس لقول صحابي بحيث لو جاءت مسألة وقال أبو حنيفة قولاً خلاف الصحابة، فهذا بسبب أن أبا حنيفة لم يبلغه قول الصحابي، فعنده أصول مبنية، وما من إمام من أئمة الإسلام إلا وقد اضطرب في أصوله، يقول ابن تيمية: وذلك ليكون الدين كله لله، والعتب على الذي يأتي بعد فيقول: أنا أقول بقول الصحابي، ثم إذا جاءت مسألة على أقوال الصحابة ولكن بعض ظواهر النصوص تخالفه يقول: العبرة بالدليل، طيب! الدليل على فهم الصحابة، هل اختلف الصحابة؟ فإن اختلفوا فإن لك الحق أن تأخذ، أما إذا اتفقوا فلا يسوغ.

والأمثلة في هذا كثيرة جداً جداً، وسوف أذكر ذلك إن شاء الله في مسألة طرق الاستدلال في هذا الأمر، هذا هو التأصيل، وهو أن يكون الإنسان ملماً بكتاب عالماً أو متعلماً عند شيخ، فاهماً طرق الاستدلال، بحيث يفهم دليل المؤلف في كل ما يقول ويرجح.

الفهم السليم للكتاب والسنة

النقطة الأخرى: هي طرق فهم الكتاب والسنة، وهذا هو الأهم لمن أراد أن يتفقه في الدين، أهل العلم رحمهم الله يعتمدون على أقوالهم، وعلى ترجيحاتهم على الدليل، لكن المقصود بالدليل عند الأئمة ليس هو الدليل عند بعض المتأخرين، فالمتأخرون يرون الدليل هو النص أو الظاهر من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن الدليل عند السلف وعند المتقدمين وعند الأئمة الكبار هو أوسع من هذا، والدليل هو كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، أو مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم الذي عرف باستقراء الشريعة، وعلى هذا فإذا بلغتك مسألة عن أهل العلم، وربما ليس فيها دليل في الظاهر، ولكن تجد الأئمة مجمعين عليها، فاعلم أنهم اعتمدوا على الدليل، لكن الدليل لا يلزم أن يكون نصاً أو ظاهراً، فهذا هو الفرق بين الفقيه وغير الفقيه.

ولعلي أذكر أمثلة في هذا: اتفق الأئمة الأربعة وهو قول أكثر السلف ولا يعرف للصحابة مخالف في ذلك، وقد صح ذلك عن ابن عباس كما روى ابن المنذر في كتابه الأوسط أنه لا يشترط الموالاة في غسل الجنابة، يعني: لو أنك غسلت رأسك قبل أن تنام ولم تغسل جسدك، ثم قمت الفجر فغسلت جسدك ولم تغسل رأسك وأنت ناوٍ رفع حدثٍ أكبر ارتفع الحدث، هذا قول الأئمة الأربعة، وهو قول عامة أهل العلم، وهو قول ابن عباس.

ولو اغتسلت ونسيت المضمضة والاستنشاق، فتذكرت قبل الظهر فالواجب في حقك أن تتمضمض وتستنشق ولا حرج عليك، كما روى ابن المنذر عن ابن عباس بسند صحيح، ما الدليل على هذا؟ لا يوجد دليل بإسناد صحيح إلا ما رواه الإمام أحمد عن العلاء الحضرمي ( أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل، ثم خرج إلى المسجد فوجد لمعة في جسده لم يصبها الماء فعصر شعره، ثم مسح به الجسد )، هذا دليل على عدم الموالاة، والحديث يقول فيه ابن رجب : مرسل صحيح، والمرسل من أقسام الضعيف، فيأتي بعض المتأخرين أو بعض طلاب العلم يقول: والصحيح أنه يشترط الموالاة، وأما عدم الموالاة فلا، الموالاة في الغسل مثل الموالاة في الوضوء، ولا دليل على ذلك، تقول له: هل سبقك إلى هذا القول أحد؟ يقول: نعم، ابن رشد في بداية المجتهد أشار إلى أن بعض أهل العلم قال بذلك، تقول له: طيب! والدليل على الموالاة يقول: عدم الدليل، انظر كلمة (عدم الدليل) لا دليل على ذلك، وكأن أهل العلم يأخذون من عند أنفسهم.

ولله در إبراهيم النخعي حينما كان يحدث عن ابن مسعود قالوا له: سمعت عمن؟ قال: ويحكم؟ أترون الرجل يجلس ثم يتحدث عن الصحابة أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير علم، ما حدثتكم به فقلت: قال ابن مسعود فقد سمعته عن غير واحد من أصحابه، وما قلت: عن الأسود عن ابن مسعود ، فإنما سمعت عن الأسود خاصة.

إذاً: هؤلاء الأئمة ما يأتون بشيء من عندهم، وكونهم يقولون بهذا فإنهم فهموا مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، والأمثلة في هذا كثيرة جداً جداً.

أنك تجد بعض الشباب أو بعض طلاب العلم يتسرع في مخالفة الأئمة الكبار، وربما جاء بقول لم يقل به أحد، خذ مثالاً على ذلك: من ترك واجباً في الحج عليه دم، والدليل ما صح عن ابن عباس من طريق عطاء و طاوس أنه قال: من ترك شيئاً من نسك فليهرق دماً، هذا قول ابن عباس، ولا يعرف له مخالف، والغريب أن علماء الأصول يقولون: وقول الصحابي حجة إذا اشتهر ولم يعلم له مخالف، وأنا أقول: لا أكاد أجزم بأن هناك مسألة فيها قول صحابي اشتهر ولا يعرف له مخالف مثل هذا القول؛ لأنك لو تأملت مدارس الأئمة؛ مدرسة الشام الأوزاعي ، مدرسة العراق حماد بن أبي سليمان و النخعي و أبي حنيفة ، مدرسة مصر الليث بن سعد ، مدرسة الحجاز ابن عباس و ابن عمر وأصحابهما كلهم على أن من ترك واجباً فليهرق دماً، فيأتي الأئمة الأربعة الذين بنوا أصولهم على تلك المدارس، يقولون: من ترك واجباً فليهرق دماً، ويأتي من بعدهم يقول: من ترك واجباً فليهرق دماً، ثم جاء ابن حزم وعنده أصول تخالف أصول الأئمة فلا يرى القياس، فيقول: من ترك واجباً فسد حجه؛ فلا يوجد فرق عند ابن حزم بين ركن وواجب في الحج، ثم يأتي الآن بعض طلاب العلم فيقول: من ترك واجباً صح حجه وليس عليه شيء!

وهذا يسمى عند العلماء بالتلفيق، فقالوا قولاً لم يقل به أحد من أهل العلم، وربما أتوك بأدلة حينما تقرأها ربما تنبهر يقولون مثلاً: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ولا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس)، فكيف نأمر الناس بالدم؟ فنقول: هذا الذي أمر بالدم ليس ابن عباس فقط؛ بل قد صح عن عمر أن من فاته الوقوف بعرفة يتحلل بعمرة وعليه الهدي، فكان عمر يأمر الناس على ملأ، ولم يخالفه أحد من الصحابة، ثم يأتي فلان وفلان من هذا العصر فيقولون للناس: إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، هذا نوع من العجلة في هذا الأمر، وربما كان الإنسان يبرز فينظر ظاهر الأدلة فقط، فنقول: عجباً والله! فلو سألت هذا الطالب أو هذا العالم أياً كان: هل تأخذ بقول الصحابي؟ يقول لك: نعم، طيب! لماذا لم تأخذ بهذا القول، هذا اضطراب في الأصول أنك تلتزم بقول الصحابة في قول وتتركها في قول آخر، هذه من الإشكالات في هذا الأمر وهو ما يسمى بمسألة التلفيق.

فطرق الاستدلال لابد لطالب العلم أن يتوقى التلفيق بالأقوال دون نظر في الأصول والقواعد، فأنا حينما أقول: هذا قول أبي حنيفة ، فإنني أعلم أن أبا حنيفة بنى هذا القول على أصول عنده، وحينما أقول: هذا هو قول مالك أعلم أن مالكاً له أصول في أقواله حينما أخذها، أما أن آخذ قول مالك بأن هذا محرم أو غير مشروع دون نظر إلى استدلال مالك ثم لا ألتزم بهذا الأصل في أدلة أخرى فهذا يعد تلفيقاً في الأقوال، دون نظر في الأصول والاستدلال، وأذكر على هذا مثالاً:

حينما اشتهر عندنا في المملكة العربية السعودية وحث أهل العلم والمشايخ والعامة على الحرص على صيام ست من شوال؛ لحديث جابر ولحديث ثوبان ، ولحديث أبي أيوب الأنصاري : ( من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال؛ فكأنما صام الدهر كله )، جاء بعض الباحثين فكتب مخالفات شوال، وقال: ليس من المشروع صيام ست من شوال، وهذا هو قول مالك وأكثر الحنفية، وأنا لم أقل قولاً شاذاً إنما قلت بقول الأئمة.

نعم إذا كنت أخذت بقول مالك في هذا فاعلم أن مالكاً بنى قوله على أصل، فيجب أن تلتزم بأصله، أما ألا تأخذ بأصله فإن هذا يكون نوعاً من التلفيق أو من اتباع الأقوال من غير دليل، و مالك بنى قوله هذا على مذهب أهل المدينة، فـمالك رحمه الله يرى أن كل حديث آحاد خالف عمل أهل المدينة أياً كان فإنه يرد، و أبو حنيفة رحمه الله لم يبلغه هذا الحديث، فنقول لهذا الطالب أو لهذا العالم أو لهذا المجتهد أو لهذا المفتي: أنت حينما تقول: لا يستحب صيام ست من شوال وهو قول المالكية، إذاً: يلزمك أن تأخذ بأصل مالك ، وهو أن عمل أهل المدينة حجة، فكل مسألة خالفت عمل أهل المدينة فيجب أن تلتزم به بأنه لا يعمل به، أما أن تأخذ بهذا الأصل مرة، وتخالف هذا الأصل مرة أخرى فإن هذا اضطراب.

إذاً: حين النظر إلى أقوال الأئمة لابد من معرفة أدلتهم، حتى لا يقع طالب العلم في تناقض الأصول.

أذكر لكم قصة وهي من باب الطرفة: كنت عند مهندس بناء، فقال لي: أنا أرى يا شيخ عبد الله! أن للمرأة أن تزوج نفسها، أنا على مذهب أبي حنيفة ، لكن لا يكون ذلك إلا في المرأة المتزوجة التي طلقت، قلت له: ما الدليل على هذا؟ قال: الدليل هو قول الله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230]، إذاً: قال: (حتى تنكح زوجاً غيره) فأضاف النكاح إليها، وهذا لا يتأتى إلا على المطلقة التي هي الثيب، فقلت له: هذا هو مذهب أبي حنيفة ؟ قال: نعم، قلت: ويلزمك على هذا أن تلتزم بأصل أبي حنيفة ؛ لأن أبا حنيفة حينما بلغه حديث سليمان بن موسى عن الزهري أنه حدث الحديث المعروف عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أيما امرأة نكحت نفسها من غير ولي، فنكاحها باطل باطل باطل، ولها المهر بما استحل من فرجها )، هذا حديث صحيح حديث آحاد و أبو حنيفة يرى أن كل حديث آحاد خالف ظاهر القرآن فلا يحتج به؛ لأنه يرى أن الزيادة على النص نسخ، والقرآن لا ينسخه إلا متواتر مثله وليس حديث الآحاد، قال: والله ما أدري، أعد ما أدري ما الذي تقول، قلت أنا: أعرف أنك ما تدري ما أقول، والذي أعرف أيضاً أنك يجب ألا تفتي ولا تقول؛ لأن هذه المسائل مبنية على أصول، فكيف تقول: أنا أنظر إلى مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم؟ بل يجب عليك في كل مسألة خالفت ظاهر القرآن وفيها حديث يجب أن تعتمد فيها على أصول أبي حنيفة ، أما أنك جوزت هذه المسألة لأجل هوى في نفسك، وتقول: أنا على مذهب أبي حنيفة دون أن تمشي على أصوله، فهذا نوع من التناقض، وهذه مشكلة كبيرة عندنا في هذا العصر؛ ولهذا تجد بعض الناس يقول: هذا حلال، طيب ما الدليل؟ قال: هذا مذهب جمهور أهل العلم، وإذا جاءت مسألة مخالفة لقناعته وفيها جمهور أهل العلم، قال لك: العبرة بالدليل.

معرفة المقصود بالدليل

والنقطة الأخرى، ما هو الدليل؟

الدليل عند السلف لا يلزم أن يكون هو ظاهر النص أو النص نفسه، فإن الدليل عند السلف أو عند أهل العلم من الفقهاء المتقدمين هو استقراء الشريعة بما فيها دليل النص والظاهر، وبالتالي فلربما رجحوا مسألة لأنهم نظروا إلى ظاهر النصوص، فقالوا: إنها تدل على الاستحباب أو تدل على الوجوب، مع تقريرهم أن ظاهر الأمر على الوجوب؛ لأن الصارف لا يلزم أن يكون دليلاً نصياً.

مثال: ذكر أبو عمر بن عبد البر أن العلماء أجمعوا على أن قول: (آمين) للمأمومين مستحب، مع أنه مأمور به كما جاء في الصحيحين: ( وإذا قال: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] فقولوا: آمين ).

إذاً: ظاهر الأمر المجرد يدل على الوجوب، فتجد بعض المتأخرين يقول: لم أجد ما يصرف عن الوجوب، إذاً هو واجب -فيشق على المسلمين- ويقول: أبو عمر بن عبد البر رحمه الله ينقل في مسائل كثيرة إجماعات، ومن ادعى الإجماع فقد كذب، كما قال الإمام أحمد، وتنته

من أراد أن يكون فقيهاً فلابد أن يعلم أن الفقه يتطلب قدرات ذاتية وذهنية، ومعرفة بواقع الناس، فمن أراد أن يكون فقيهاً فلا بد أن يكون عنده نوع من التوازن الجسدي، والتوازن الذهني؛ ولهذا قال ابن مسعود كما صح ذلك عنه: (أولئك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبر هذه الأمة قلوباً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، فاعرفوا قدرهم فإنهم على الهدي المستقيم)، هذه العبارة عبارة مجملة فسرها لك ابن تيمية رحمه الله بقوله: هم أبر، فليسوا أهل تكلف، فعندهم من فهم الشريعة من غير تكلف أكثر ممن جاء بعدهم، وهم أبر هذه الأمة، فإن الإنسان كلما كان صادقاً مع نفسه، صادقاً مع ربه، كلما كان أقرب لمعرفة مراد الله ومراد رسوله، ودليل ذلك قوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282].

ولهذا قال أبو العباس ابن تيمية : وكل من خالف الحق فقد جاءه شيء من الهوى، كما قال الله تعالى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ [القصص:50] أحياناً يقول الإنسان: أنا والله ما أردت إلا وجه الله، فيذهب يبحث عن مسألة، وفي ذهنه أن يكون الحكم حراماً، فيبحث عمن يقول: إنه حرام، ثم يقول: وجدت فلاناً وفلاناً وفلاناً يقولون: إنه حرام، فإذا قيل له: وماذا يقول محمد صلى الله عليه وسلم؟ تجد أن في نفسه شيئاً ما عرفه.

أو يذهب يبحث عمن يقول إنه: حلال، وفي قرارة نفسه أننا عشنا في زمن كل شيء حرام، ويكون منطلق بحثه أن الذي كنا ندرسه عند المشايخ ليس هو الحق، فيكون شيئاً في ذهنه أن الحكم يكون حلالاً، فإذا جاءت بعض النصوص الشرعية تخالف ما كان قد اعتقده من الباطل يحاول أن يؤول مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا خلل منهجي يجب أن يتفطن له طالب العلم، كما ذكر أبو العباس بن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى: ينبغي أن يحمل كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم على ما أراده الله وأراده رسوله صلى الله عليه وسلم، لا على ما أراده المجتهد في نفس الأمر.

تجد بعض الإخوة حينما يبحث الأدلة يقول: القول الأول قال به فلان وفلان ودليلهم كذا، والقول الثاني قال به فلان وفلان ودليلهم كذا، وفي نفسه يريد أن يرجح القول الأول أو الثاني، يقول: والراجح هو القول الأول، وأما ما استدل به القول الثاني فضعيف .. هكذا مباشرة حكم عليه بالضعف؛ ثم يقول: لأن قوله تعالى كذا يحتمل كذا ويحتمل كذا، وأما ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيحتمل كذا، ثم يأتي باحتمالات عقلية، لم يكن هو مراد الرسول صلى الله عليه وسلم حينما قال ذلك، ثم يقول بأبسط أسلوب: والحديث إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال، ويمنع مراد الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا.

وهذا كثير عند المتأخرين، لا سيما ممن تأثروا بالتعصب المذهبي.

ولهذا حينما أراد بعض أصحاب المذاهب من المتأخرين أن يرجح أن غسل يوم الجمعة مستحب وليس بواجب جاءه حديث المتفق عليه الذي رواه الجماعة إلا الترمذي من حديث أبي هريرة : ( غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم والسواك، وأن يمس من الطيب ما قدر عليه )، انظر فهم المتقدمين من السلف حينما حملوا الحديث على عدم الوجوب، وفهم المتأخرين حينما أرادوا تحويل مراد الله ومراد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى معان أخرى لغوية بعيدة.

الجمهور قالوا: لا ينبغي أن نفهم مراد الرسول صلى الله عليه وسلم في الوجوب من عدمه بحديث واحد؛ ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يجمع النصوص حتى لا يضرب أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم بعضها في بعض، هذا واحد.

الثاني: يجب أن نعلم حينما نحمل النصوص أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال هذا الحديث لا يعارض الحديث الآخر، فيكون ذلك التعارض من نظر المجتهد ونظر الباحث ونظر الطالب.

الجمهور قالوا: معنى الوجوب في الشرع يختلف عن معنى الوجوب في المصطلح الفقهي، فإن الوجوب في المصطلح الفقهي معناه: ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه، وهو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين على سبيل اللزوم، قالوا: فالوجوب هو الحتم واللزوم، وليس الوجوب المصطلح الفقهي؛ لأن هذا المصطلح الفقهي حادث على مراد الله ومراد الرسول صلى الله عليه وسلم، كما أن المكروه في لسان الشارع يختلف على المكروه في المصطلح الفقهي، فإن الاصطلاح الفقهي ما يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله، وأما المصطلح الشرعي فهو المحرم، قال تعالى: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء:38]، يعني: محرماً، إذاً: المصطلحات يجب أن تبين وتراعى.

والإشكال أن بعض المتأخرين عندما جاءه هذا الحديث ضاق عطنه، فيريد أن يؤول فيقول: نبحث ما معنى واجب في اللغة، بحثوا فوجدوا أن الواجب معناه الساقط، كما قال تعالى: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا [الحج:36] يعني: سقطت، قال: والحديث ليس دليلاً على الوجوب، بل هو دليل على عدم الوجوب؛ لأن معناه: غسل يوم الجمعة ساقط على كل محتلم!

فلابد لطالب العلم أن يتجرد للحق قبل أن يبحث، وهذا التجرد ليس بالأمر السهل، ولهذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عندهم من الإخلاص ما جعلهم ينظرون إلى النصوص بعيداً عن أهوائهم، كما قال أبو بكر رضي الله عنه: أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا أنا قلت في كتاب الله ما لا علم لي به، هذا الخوف وهذه الخشية وهذه الرهبة تجعل الإنسان مجرداً عندما يأتيه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم يبحث عما أراده صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر، فتصفو نفسه، وتزكو سريرته، وتتأمل قريحته مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تكلف، فيظهر الأمر له جلياً.

ولهذا تجد أن طبائع البشر أحياناً لها أثر في الأحكام الشرعية؛ ولهذا قلت مراراً وتكراراً: إذا رأيت الرجل أو الفقيه كل أقواله حرام فاعلم أنه ليس بفقيه، وإذا رأيت كل أقواله حلال فاعلم أنه ليس بفقيه ولو استدل لك؛ لأن دين الله وسط، ليس بالغالي ولا بالجافي، فـابن عباس الذي عرف عنه التساهل عنده مسائل كثيرة فيها من الشدة ما يباهل عليها، و ابن عمر الذي عرف عنه التشديد عنده من المسائل الخفيفة ما خالف فيها عامة أهل العلم.

إذاً: هذا التوازن هو حينما يأخذ بهذا الفهم حتى وإن أخطأ فإنما اجتهد على مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم لا أثر له بطبيعته؛ لأن الطبيعة أحياناً تؤثر على الإنسان وهو لا يشعر، وسوف نتحدث عن معنى تغير الأحكام بتغير الزمان كما يقول بعض الناس استدلالاً على تغير الأحكام الشرعية بهذه الحجة أو بهذه القاعدة.

أقول: من الأشياء التي تجعل الإنسان متجرداً التذلل والتعبد لله، لا يمكن أن ينفك الفقه عن التعبد لله سبحانه وتعالى؛ ولهذا قالت عائشة للرجل الذي كان كل يوم يسألها قالت: يا هذا أكل ما علمته عملت به؟ لأن العلم يزكو ويثبت بالعمل؛ ولهذا طالب العلم إذا رأى نفسه أنه يعلم ولا يعمل ورأى مدح الناس له فينبغي له أن يعلم أن هذا نذير وليس بشير؛ لأنه ربما يكون نوع استدراج وما عقل، ولا يهلك على الله إلا هالك.