كتاب الصلاة [27]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، نحمده ونستغفره ونستهديه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله, اللهم صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد, وسلم تسليماً كثيراً. وبعد:

أقوال العلماء فيمن أدرك الإمام راكعاً

قال المصنف رحمه الله: [ أما المسألة الأولى ] وهي في المأموم يدرك الإمام قبل الرفع من الركوع، [ فإن فيها ثلاثة أقوال: أحدها: (وهو الذي عليه الجمهور) ] ومنهم: الأئمة الأربعة، [ أنه إذا أدرك الإمام قبل أن يرفع رأسه من الركوع وركع معه، فهو مدرك للركعة، وليس عليه قضاؤها ].

قال هؤلاء: إذا أدرك المأموم ركعة مع الإمام، ولكن بشرط أن يركع ويطمئن معه, أما إذا وصل وقد قال: سمع الله لمن حمده فلا, قال: [ وهؤلاء اختلفوا ] اتفقوا في هذه النقطة واختلفوا في نقطة أخرى وهي [ هل من شرط هذا الداخل أن يكبر تكبيرتين: تكبيرة للإحرام، وتكبيرة للركوع، أو يجزيه تكبيرة الركوع؟ وإن كانت تجزيه، فهل من شرطها أن ينوي بها تكبيرة الإحرام، أم ليس ذلك من شرطها؟

فقال بعضهم: بل تكبيرة واحدة تجزيه إذا نوى بها تكبيرة الافتتاح، وهو مذهب مالك و الشافعي ، والاختيار عندهم تكبيرتان، وقال قوم: لا بد من تكبيرتين ].

ولعل هذا القول هو مذهب أحمد ؛ لأنه يوجب تكبيرة الإحرام وتكبيرة الانتقال.

[ وقال قوم: تجزئ واحدة وإن لم ينو بها تكبيرة الافتتاح ].

هؤلاء قالوا: لا تجب تكبيرة الإحرام وهذا كلام شاذ. إذاً انتهينا من القول الأول وما فيه من اختلاف, واتفقوا في مسألة واختلفوا في جزئية منها.

[ والقول الثاني: أنه إذا ركع الإمام فقد فاتته الركعة، وأنه لا يدركها ما لم يدركه قائماً، وهو منسوب إلى أبي هريرة ].

وكذا البخاري , قالوا: لا بد أن يدركه قائماً, وإليه مال الشوكاني كما في النيل، قال: إن الركعة لا تدرك في الركوع.

[ والقول الثالث: أنه إذا انتهى إلى الصف الآخر، وقد رفع الإمام رأسه، ولم يرفع بعضهم، فأدرك ذلك أنه يجزيه; لأن بعضهم أئمة لبعض، وبه قال الشعبي ]. وهذا القول بعيد.

سبب اختلاف الفقهاء في مسألة إدراك الإمام راكعاً

قال رحمه الله: [ وسبب هذا الاختلاف: تردد اسم الركعة بين أن يدل على الفعل نفسه، الذي هو الانحناء فقط، أو على الانحناء والوقوف معاً ].

أي: هل الركوع يدل على الانحناء فقط أو على الانحناء والوقوف معاً.

[ وذلك أنه قال عليه الصلاة والسلام: ( من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة ), قال ابن المنذر : ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ].

وهذا: أخرجه البخاري و مسلم ، [ فمن كان اسم الركعة ينطلق عنده على القيام والانحناء معاً قال: إذا فاته قيام الإمام فقد فاتته الركعة ].

أي: الاسم الشرعي لها [ومن كان اسم الركعة ينطلق عنده على الانحناء نفسه جعل إدراك الانحناء إدراكاً للركعة، والاشتراك الذي عرض لهذا الاسم]. يعني: الركعة هل هي للركوع أو للركعة كلها, فهو مشترك.

[ إنما هو من قبل تردده بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي ]. ومعنى مشترك؛ أي متردد بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي, فهو حقيقة شرعية للركعة كاملة, وحقيقة لغوية للانحناء، فهاتان حقيقتان, ولا يمكن أنه يريد الحقيقتين وإنما يريد إحداهما.

[ وذلك أن اسم الركعة ينطلق لغة على الانحناء، وينطلق شرعاً على القيام والركوع والسجود، فمن رأى أن اسم الركعة ينطلق في قوله عليه الصلاة والسلام: ( من أدرك ركعة )، على الركعة الشرعية، ولم يذهب مذهب الآخذ ببعض ما تدل عليه الأسماء قال: لا بد أن يدرك مع الإمام الثلاثة الأحوال أعني: القيام، والانحناء، والسجود].

والاسم الشرعي يطلق على هذا كله أو على بعضه كما في مسألة غسل الذكر من المذي يُطلق على غسله كله أو على بعضه وكذلك في مسح الرأس هل يطلق على البعض أو الكل, فمن أراد الركعة بالاسم الشرعي يبقى معه اختلاف آخر, ليس أنه إذا أراد الاسم الشرعي معناه: أنه لا بد أن يكون كاملاً بل يقول: يبقى معه نظر آخر, وهو هل الاسم الشرعي ينطلق على الكل أو على البعض.

[ ويحتمل أن يكون من ذهب إلى اعتبار الانحناء فقط ].

الذي قال: أن اسم الركوع يكون بالانحناء فقط، [ أن يكون اعتبر أكثر ما يدل على الاسم هاهنا ].

أي: أن الاسم إذا وجد أكثره غلب, فإذا وجد الانحناء فإنه سيوجد بعده السجود, فلم يفته إلا القيام, فيكون قد وجد معه من الركعة الأكثر.

[لأن من أدرك الانحناء فقد أدرك منها جزأين، ومن فاته الانحناء إنما أدرك منها جزءاً واحداً فقط].

وهو السجود [فعلى هذا يكون الخلاف آيلاً إلى اختلافهم في الأخذ ببعض دلالة الأسماء أو بكلها، فالخلاف يتصور فيها من الوجهين جميعاً].

من جهة: إدراك الكل أو من جهة إدراك البعض, هل يكفي إدراك البعض وهو الأكثر، أو لا بد من إدراك الكل، أو أن سبب الخلاف هو المعنى اللغوي والمعنى الشرعي.

[ وأما من اعتبر ركوع من في الصف من المأمومين ] يعني: الذي قال: إذا أدرك بعض المأمومين راكعين فقد أدرك الركعة.

[ فلأن الركعة من الصلاة قد تضاف إلى الإمام فقط، وقد تضاف إلى الإمام والمأمومين. فسبب الاختلاف هو الاحتمال في هذه الإضافة، أعني قوله عليه الصلاة والسلام: ( من أدرك ركعة من الصلاة )] أي أدرك ركعة مع الإمام أو مع المأمومين أو أدرك ركعةً كاملة أو بعضها.

[ وما عليه الجمهور أظهر.

وأما اختلافهم في: هل تجزيه تكبيرة واحدة أو تكبيرتان؟ ].

الراجح في مسألة إدراك الركعة لمن أدرك الإمام راكعاً

والراجح في هذه المسألة ما ذهب إليه الجمهور من الاعتداد بالركعة لإدراك الركوع يدل على ذلك حديث أبي هريرة مرفوعاً: ( إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا, ولا تعدوها شيئاً, ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة ), رواه أبو داود , وفي لفظ له: ( ومن أدرك الركوع أدرك الركعة ), ورواه الدارقطني و البيهقي وأشار إلى ضعفه, و الحاكم وقال: صحيح الإسناد, ووافقه الذهبي , قال شيخنا في الإرواء (2/260-264) والصواب ما أشار إليه البيهقي : أنه ضعيف, وقال: ولكن له طريق أخرى عن عبد العزيز عن رجل عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا جئتم والإمام راكع فاركعوا، وإن كان ساجداً فاسجدوا، ولا تعتدوا في السجود, إذا لم يكن معه الركوع ), أخرجه البيهقي وهو شاهد قوي, فإن رجاله كلهم ثقات, و عبد العزيز بن رفيع تابعي جليل، روى عن العبادلة: ابن عمر و ابن عباس و ابن الزبير وجماعة من كبار التابعين, فإن كان شيخه وهو الرجل الذي لم يسمه صحابياً فالسند صحيح؛ لأن الصحابة كلهم عدول، فلا يضر عدم تسميته كما هو معلوم، والحمد لله رب العالمين.