كتاب الصلاة [29]


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد, وسلم تسليماً كثيراً. وبعد:

فقد قال المصنف رحمه الله: [الباب الثالث من الجملة الرابعة: في سجود السهو: والسجود المنقول في الشريعة في أحد موضعين:

إما عند الزيادة أو النقصان اللذين يقعان في أفعال الصلاة وأقوالها من قبل النسيان لا من قبل العمد، وإما عند الشك في أفعال الصلاة.

فأما السجود الذي يكون من قبل النسيان لا من قبل الشك، فالكلام فيه ينحصر في ستة فصول:

الفصل الأول: في معرفة حكم السجود.

الفصل الثاني: في معرفة مواضعه من الصلاة.

الثالث: في معرفة الجنس من الأفعال، والأقوال التي يسجد لها.

والرابع: في صفة سجود السهو.

الخامس: في معرفة من يجب عليه سجود السهو.

السادس: بماذا ينبه المأموم الإمام الساهي على سهوه.

قال المصنف رحمه الله: [ الفصل الأول:

اختلفوا في سجود السهو هل هو فرض أم سنة؟ فذهب الشافعي إلى أنه سنة. وذهب أبو حنيفة إلى أنه فرض, لكن من شروط صحة الصلاة] أي قال: بأنه فرض ومن شروط صحة الصلاة [وفرق مالك بين السجود للسهو في الأفعال] كالتشهد.

[وبين السجود للسهو في الأقوال].

أي: إذا زاد قولاً مثلاً: [وبين الزيادة والنقصان. فقال: سجود السهو الذي يكون للأفعال الناقصة واجب، وهو عنده من شروط صحة الصلاة هذا في المشهور عنه ].

أي: إذا تركه بطلت الصلاة.

[ وعنه أن سجود السهو للنقصان واجب، وسجود الزيادة مندوب ].

إذا كان زاد في الأفعال والأقوال فإن سجوده يكون مندوباً ولا يجب.

وأما مذهب أحمد فهو أن سجود السهو واجب, فإن كان مما ورد فعله في صلب الصلاة فتركه عمداً فصلاته باطلة؛ لأنه أخل بواجب في الصلاة, وذلك لأن الإمام أحمد يفرق في سجود السهو فيقول: ما ورد فعله في صلب الصلاة يسجد له في صلب الصلاة, وما ورد فعله بعد الصلاة يسجد له خارج الصلاة, وما لم يرد في صلب الصلاة ولا في خارج الصلاة فيقيسه على صلب الصلاة, فما كان في صلب الصلاة فتركه فصلاته باطلة؛ لأنه ترك واجباً في الصلاة, وإن كان مما ورد فعله بعد السلام، فإن تركه لا يبطل الصلاة؛ لأنه جبر للعبادة خارج عنها. نقله عنه ابن قدامة في المغني (2/29).

سبب الاختلاف في حكم سجود السهو

قال المصنف رحمه الله: [ والسبب في اختلافهم: اختلافهم في حمل أفعاله عليه الصلاة والسلام في ذلك على الوجوب أو على الندب: فأما أبو حنيفة فحمل أفعاله صلى الله عليه وسلم في السجود على الوجوب؛ إذ كان هو الأصل عندهم، إذ جاء بياناً لواجب كما قال صلى الله عليه وسلم: ( صلوا كما رأيتموني أصلي ).

وأما الشافعي فحمل أفعاله في ذلك على الندب، وأخرجها عن الأصل بالقياس، وذلك أنه لما كان السجود عند الجمهور ليس ينوب عن فرض، وإنما ينوب عن ندب، رأى أن البدل عما ليس بواجب ليس هو بواجب ].

أي: لو ترك التشهد الأوسط، والتشهد عنده ليس بواجب، كفى عنه سجود السهو, إذاً فهو لا يكون واجباً, وهذا كلام وجيه.

[ وأما مالك فتأكدت عنده الأفعال أكثر من الأقوال ] فمذهبه أن أفعال الصلاة آكد من الأقوال ولذلك يجب السجود للأفعال دون الأقوال.

[ لكونها من صلب الصلاة أكثر من الأقوال أعني: أن الفروض التي هي أفعال هي أكثر من فروض الأقوال ].

مثل: الركوع والسجود والاعتدال كلها أفعال, أما الأقوال: فكقراءة الفاتحة، والتشهد, وما دونهما كلها سنن.

[ فكأنه رأى أن الأفعال آكد من الأقوال، وإن كان ليس ينوب سجود السهو إلا عما كان منها ليس بفرض، وتفريقه أيضاً بين سجود النقصان والزيادة على الرواية الثانية؛ ليكون سجود النقصان شرع بدلاً مما سقط من أجزاء الصلاة، وسجود الزيادة كأنه استغفار لا بدل ].

فكان السجود للزيادة سنة, وأما النقصان فهو بدل, عما كان واجباً، هذه توجيهات المذاهب.

وقد كنت أرجح ما ذهب إليه الشافعي ؛ لأن سجود السهو ورد بالفعل، وهو بدل عن المندوب, ولم يرد فيه أمر, ولكن بعد ذلك وجدت في صحيح مسلم : أنه ورد فيه الأمر, فرجعت إلى القول بالوجوب, فالحاصل: أن الأقرب في سجود السهو الوجوب؛ لورود الأمر به في حديث ابن مسعود عند مسلم بلفظ: ( إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين ). وهو حديث طويل.

قال المصنف رحمه الله: [ والسبب في اختلافهم: اختلافهم في حمل أفعاله عليه الصلاة والسلام في ذلك على الوجوب أو على الندب: فأما أبو حنيفة فحمل أفعاله صلى الله عليه وسلم في السجود على الوجوب؛ إذ كان هو الأصل عندهم، إذ جاء بياناً لواجب كما قال صلى الله عليه وسلم: ( صلوا كما رأيتموني أصلي ).

وأما الشافعي فحمل أفعاله في ذلك على الندب، وأخرجها عن الأصل بالقياس، وذلك أنه لما كان السجود عند الجمهور ليس ينوب عن فرض، وإنما ينوب عن ندب، رأى أن البدل عما ليس بواجب ليس هو بواجب ].

أي: لو ترك التشهد الأوسط، والتشهد عنده ليس بواجب، كفى عنه سجود السهو, إذاً فهو لا يكون واجباً, وهذا كلام وجيه.

[ وأما مالك فتأكدت عنده الأفعال أكثر من الأقوال ] فمذهبه أن أفعال الصلاة آكد من الأقوال ولذلك يجب السجود للأفعال دون الأقوال.

[ لكونها من صلب الصلاة أكثر من الأقوال أعني: أن الفروض التي هي أفعال هي أكثر من فروض الأقوال ].

مثل: الركوع والسجود والاعتدال كلها أفعال, أما الأقوال: فكقراءة الفاتحة، والتشهد, وما دونهما كلها سنن.

[ فكأنه رأى أن الأفعال آكد من الأقوال، وإن كان ليس ينوب سجود السهو إلا عما كان منها ليس بفرض، وتفريقه أيضاً بين سجود النقصان والزيادة على الرواية الثانية؛ ليكون سجود النقصان شرع بدلاً مما سقط من أجزاء الصلاة، وسجود الزيادة كأنه استغفار لا بدل ].

فكان السجود للزيادة سنة, وأما النقصان فهو بدل, عما كان واجباً، هذه توجيهات المذاهب.

وقد كنت أرجح ما ذهب إليه الشافعي ؛ لأن سجود السهو ورد بالفعل، وهو بدل عن المندوب, ولم يرد فيه أمر, ولكن بعد ذلك وجدت في صحيح مسلم : أنه ورد فيه الأمر, فرجعت إلى القول بالوجوب, فالحاصل: أن الأقرب في سجود السهو الوجوب؛ لورود الأمر به في حديث ابن مسعود عند مسلم بلفظ: ( إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين ). وهو حديث طويل.

قال المصنف رحمه الله: [ الفصل الثاني: معرفة مواضع سجود السهو اختلفوا في مواضع سجود السهو على خمسة أقوال:

فذهبت الشافعية إلى أن سجود السهو موضعه أبداً قبل السلام.

وذهبت الحنفية إلى أن موضعه أبداً بعد السلام.

وفرقت المالكية فقالت: إن كان السجود لنقصان كان قبل السلام ]. لأنه جبر. [ وإن كان لزيادة كان بعد السلام ]. لأنه استغفار.

[ وقال أحمد بن حنبل : يسجد قبل السلام في المواضع التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل السلام، ويسجد بعد السلام في المواضع التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد السلام، فما كان من سجود في غير تلك المواضع يسجد له أبداً قبل السلام ].

فحاصل قوله: أن ما ورد فيه السجود، سجد فيه كما ورد, وما لم يرد سجد فيه قبل السلام.

[وقال أهل الظاهر: لا يسجد للسهو إلا في المواضع الخمسة التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، وغير ذلك إن كان فرضاً أتى به، وإن كان ندباً فليس عليه شيء ].

سبب الاختلاف في مواضع سجود السهو

قال المصنف رحمه الله: [ والسبب في اختلافهم: أنه عليه الصلاة والسلام ثبت عنه أنه سجد قبل السلام وسجد بعد السلام، وذلك أنه ثبت من حديث ابن بحينة ].

فيما أخرجه البخاري و مسلم .

[ أنه قال: ( صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، ثم قام فلم يجلس، فقام الناس معه، فلما قضى صلاته سجد سجدتين وهو جالس ) ]. يعني: قبل السلام.

[ وثبت أيضاً أنه سجد بعد السلام في حديث ذي اليدين المتقدم إذ سلم من اثنتين ].

وهو حديث متفق عليه.

أوجه الجمع بين أحاديث سجود السهو

[فذهب الذين جوزوا القياس في سجود السهو أعني: الذين رأوا تعدية الحكم في المواضع التي سجد فيها صلى الله عليه وسلم إلى أشباهها في هذه الآثار الصحيحة ثلاثة مذاهب: أحدها: مذهب الترجيح].

رجحوا بعض الأحاديث على بعض, كالشافعي فإنه رجح السجود قبل السلام.

[ والثاني: مذهب الجمع.

والثالث: مذهب الجمع والترجيح ].

يعني: جمعوا ورجحوا: فـالشافعي رجح السجود قبل السلام, وكذلك أبو حنيفة رجح السجود بعد السلام فقط, للأحاديث الواردة أنه بعد السلام, وأما مالك : فإنه جمع بين الأحاديث، فقال: ما كان عن نقصان فهو في صلب الصلاة؛ لأنه جبر, وما كان عن زيادة فإنه بعد السلام لأنه استغفار، وأما أحمد : فجمع ورجح, فقال: ما ورد في صلب الصلاة فإنه يكون في صلب الصلاة, وما ورد بعد الصلاة فيكون بعد الصلاة, ورجح فيما لم يرد, بأنه يلحق بصلب الصلاة.

[ فمن رجح حديث ابن بحينة قال: السجود قبل السلام ]. وهو الإمام الشافعي .

[ واحتج لذلك بحديث أبي سعيد الخدري الثابت ] الذي أخرجه مسلم .

[ أنه عليه الصلاة والسلام قال: ( إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى، أثلاثاً أم أربعاً، فليصل ركعة، وليسجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم، فإن كانت الركعة التي صلاها خامسة شفعها بهاتين السجدتين، وإن كانت رابعة فالسجدتان ترغيم للشيطان ).

قالوا: ففيه السجود للزيادة قبل السلام ]. وهو كذلك؛ لأنه يحتمل أن تكون ركعة خامسة.

وقال الشافعي : إنه ورد السجود للنقصان وللزيادة قبل السلام.

[ قالوا: ففيه السجود للزيادة قبل السلام؛ لأنها ممكنة الوقوع خامسة، واحتجوا لذلك أيضاً بما روي عن ابن شهاب أنه قال: ( كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم السجود قبل السلام ) ].

وابن شهاب هذا ليس بصحابي وإنما هو تابعي، فحديثه مرسل.

[ وأما من رجح حديث ذي اليدين فقال: السجود بعد السلام ] وهو قول أبي حنيفة.

[ واحتجوا لترجيح هذا الحديث بأن حديث ابن بحينة قد عارضه حديث المغيرة بن شعبة ].

حديث ابن بحينة : الذي فيه: أنه ترك التشهد فسجد قبل السلام, قد عارضه حديث المغيرة بن شعبة وهو [ ( أنه صلى الله عليه وسلم قام من اثنتين ولم يجلس, ثم سجد بعد السلام )].

وهذا الحديث اخرجه أبو داود وصححه الألباني في صحيح الترمذي , فيفهم من هذا: أن ترك التشهد مخير فيه بين أن يسجد قبل السلام أو بعد السلام؛ لأنه ورد في حديثين صحيحين: أنه سجد قبل السلام وبعده وقالت الحنفية: ما استدل به الشافعي من السجود قبل السلام معارض بحديث المغيرة بن شعبة , ولكن يبقى للإمام الشافعي حديث أبي سعيد الخدري : أنه يسجد قبل السلام.

[ قال أبو عمر : ليس مثله في النقل فيعارض به ].

يعني: حديث المغيرة بن شعبة ليس مثل حديث ابن بحينة من حيث النقل والقوة فلا يعارضه.

[ واحتجوا أيضاً لذلك بحديث ابن مسعود ].

الذي أخرجه البخاري و مسلم .

[ الثابت: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى خمساً ساهياً وسجد لسهوه بعد السلام )].

[ وأما من ذهب مذهب الجمع ]. وهو الإمام مالك.

[ فإنهم قالوا: إن هذه الأحاديث لا تتناقض، وذلك أن السجود فيها بعد السلام إنما هو في الزيادة، والسجود قبل السلام في النقصان، فوجب أن يكون حكم السجود في سائر المواضع كما هو في هذا الموضع، قالوا: وهو أولى من حمل الأحاديث على التعارض]. وأما من ذهب مذهب الجمع والترجيح وهو الإمام أحمد ].

[ فقال: يسجد في المواضع التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم على النحو الذي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك هو حكم تلك المواضع، وأما المواضع التي لم يسجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالحكم فيها: السجود قبل السلام. فكأنه قاس على المواضع التي سجد فيها عليه الصلاة والسلام قبل السلام ].

أي: أنه رجح الأحاديث التي سجد فيها قبل السلام في ما لم يرد أنه سجد فيه.

[ ولم يقس على المواضع التي سجد فيها بعد السلام، وأبقى سجود المواضع التي سجد فيها على ما سجد فيها، فمن جهة أنه أبقى حكم هذه المواضع على ما وردت عليه، وجعلها متغايرة الأحكام هو ضرب من الجمع ورفع للتعارض بين مفهومها، ومن جهة أنه عدى مفهوم بعضها دون البعض، وألحق به المسكوت عنه فذلك ضرب من الترجيح، أعني: أنه قاس على السجود الذي قبل السلام، ولم يقس على الذي بعده ].

أقول: ومذهب أحمد أقيس؛ لأن الأصل بالجبران: أن يكون في صلب الصلاة, فلا يخرج عنه إلا ما أخرجه الدليل.

[ وأما من لم يفهم من هذه الأفعال حكماً خارجاً عنها، وقصر حكمها على أنفسها وهم أهل الظاهر فاقتصروا بالسجود على هذه المواضع فقط ]. على الخمسة المواضع التي وردت عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

[ وأما أحمد بن حنبل ، فجاء نظره مختلطاً من نظر أهل الظاهر ونظر أهل القياس ]. وهذا كلام فلسفي منه رحمه الله.

[ وذلك أنه اقتصر بالسجود كما قلنا بعد السلام على المواضع التي ورد فيها الأثر ولم يعده، وعدى السجود الذي ورد في المواضع التي قبل السلام. ولكل واحد من هؤلاء أدلة يرجح بها مذهبه من جهة القياس أعني: لأصحاب القياس وليس قصدنا في هذا الكتاب في الأكثر ذكر الخلاف الذي يوجبه القياس ].

فهو يأتي بالقياس الذي ينبني على الأدلة.

[ كما ليس قصدنا ذكر المسائل المسكوت عنها في الشرع إلا في الأقل، وذلك إما من حيث هي مشهورة وأصل لغيرها وإما من حيث هي كثيرة الوقوع ].

فيذكرها وإن كان مسكوت عنها.

[ والمواضع الخمسة التي سها فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحدها: أنه قام من اثنتين على ما جاء في حديث ابن بحينة ]. وترك التشهد الأوسط.

[والثاني: أنه سلم من اثنتين على ما جاء في حديث ذي اليدين [ والثالث: أنه صلى خمساً على ما في حديث ابن عمر ، خرجه مسلم و البخاري .

والرابع: أنه سلم من ثلاث على ما في حديث عمران بن الحصين ] وقد أخرجه مسلم .

[ الخامس: السجود عن الشك على ما جاء في حديث أبي سعيد الخدري وسيأتي بعد ] وهو حديث صحيح أخرجه مسلم .

الاختلاف في سبب إيجاب سجود السهو

قال المصنف رحمه الله: [واختلفوا لماذا يجب سجود السهو؟ فقيل: يجب للزيادة والنقصان، وهو الأشهر. وقيل: للسهو نفسه، وبه قال أهل الظاهر و الشافعي].

ومذهب الشافعي : أنه يشرع للثلاثة: للزيادة والنقصان والشك.

الراجح في سبب سجود السهو ومواضعه

والراجح عندي مذهب الظاهرية؛ لأن أصحاب الأئمة رضي الله عنهم خرجوا عن هذه فبعضهم قال: لتكبيرات الانتقال, وبعضهم قال: لقراءة السورة، وخرجوا بخروجات كثيرة ما نستطيع نحصرها, ولم تنقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم, والرسول صلى الله عليه وسلم قد يكون سها في القراءة أو سها في كذا, وقد ثبت عنه أنه سها في القراءة وردوا عليه ولم يسجد، فلهذا ترجح عندي في سجود السهو من حيث النظر والأثر ما ذهب إليه أهل الظاهر: من أنه يقتصر فيه على ما ورد في المواضع الخمسة, أما من حيث النظر: فإنه فعل زائد في الصلاة فيقتصر فيه على ما ورد فيه الخبر عنه صلى الله عليه وسلم, ولا يزاد عليه وأما مواضع سجود السهو فقيل: قبل السلام وبعد السلام، والإمام أحمد قال: يقاس عليها كذا؛ فأثبت سجوداً في غير الخمسة اضطراراً.

وأما مواضع سجود السهو فالراجح من حيث الخبر: أن سجود الشك الذي هو الخامس يكون قبل السلام؛ لحديث أبي سعيد الخدري , وأما النقص كترك التشهد الأول، فهو مخير بين أن يسجد بعد السلام أو قبله؛ لثبوت ذلك في حديث ابن بحينة و المغيرة بن شعبة , وأما الزيادة التي في الموضع الثاني والثالث والرابع: فيسجد فيه بعد السلام؛ لثبوت ذلك في حديث ذي اليدين و ابن عمر و عمران بن حصين .

قال المصنف رحمه الله: [ والسبب في اختلافهم: أنه عليه الصلاة والسلام ثبت عنه أنه سجد قبل السلام وسجد بعد السلام، وذلك أنه ثبت من حديث ابن بحينة ].

فيما أخرجه البخاري و مسلم .

[ أنه قال: ( صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، ثم قام فلم يجلس، فقام الناس معه، فلما قضى صلاته سجد سجدتين وهو جالس ) ]. يعني: قبل السلام.

[ وثبت أيضاً أنه سجد بعد السلام في حديث ذي اليدين المتقدم إذ سلم من اثنتين ].

وهو حديث متفق عليه.

[فذهب الذين جوزوا القياس في سجود السهو أعني: الذين رأوا تعدية الحكم في المواضع التي سجد فيها صلى الله عليه وسلم إلى أشباهها في هذه الآثار الصحيحة ثلاثة مذاهب: أحدها: مذهب الترجيح].

رجحوا بعض الأحاديث على بعض, كالشافعي فإنه رجح السجود قبل السلام.

[ والثاني: مذهب الجمع.

والثالث: مذهب الجمع والترجيح ].

يعني: جمعوا ورجحوا: فـالشافعي رجح السجود قبل السلام, وكذلك أبو حنيفة رجح السجود بعد السلام فقط, للأحاديث الواردة أنه بعد السلام, وأما مالك : فإنه جمع بين الأحاديث، فقال: ما كان عن نقصان فهو في صلب الصلاة؛ لأنه جبر, وما كان عن زيادة فإنه بعد السلام لأنه استغفار، وأما أحمد : فجمع ورجح, فقال: ما ورد في صلب الصلاة فإنه يكون في صلب الصلاة, وما ورد بعد الصلاة فيكون بعد الصلاة, ورجح فيما لم يرد, بأنه يلحق بصلب الصلاة.

[ فمن رجح حديث ابن بحينة قال: السجود قبل السلام ]. وهو الإمام الشافعي .

[ واحتج لذلك بحديث أبي سعيد الخدري الثابت ] الذي أخرجه مسلم .

[ أنه عليه الصلاة والسلام قال: ( إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى، أثلاثاً أم أربعاً، فليصل ركعة، وليسجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم، فإن كانت الركعة التي صلاها خامسة شفعها بهاتين السجدتين، وإن كانت رابعة فالسجدتان ترغيم للشيطان ).

قالوا: ففيه السجود للزيادة قبل السلام ]. وهو كذلك؛ لأنه يحتمل أن تكون ركعة خامسة.

وقال الشافعي : إنه ورد السجود للنقصان وللزيادة قبل السلام.

[ قالوا: ففيه السجود للزيادة قبل السلام؛ لأنها ممكنة الوقوع خامسة، واحتجوا لذلك أيضاً بما روي عن ابن شهاب أنه قال: ( كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم السجود قبل السلام ) ].

وابن شهاب هذا ليس بصحابي وإنما هو تابعي، فحديثه مرسل.

[ وأما من رجح حديث ذي اليدين فقال: السجود بعد السلام ] وهو قول أبي حنيفة.

[ واحتجوا لترجيح هذا الحديث بأن حديث ابن بحينة قد عارضه حديث المغيرة بن شعبة ].

حديث ابن بحينة : الذي فيه: أنه ترك التشهد فسجد قبل السلام, قد عارضه حديث المغيرة بن شعبة وهو [ ( أنه صلى الله عليه وسلم قام من اثنتين ولم يجلس, ثم سجد بعد السلام )].

وهذا الحديث اخرجه أبو داود وصححه الألباني في صحيح الترمذي , فيفهم من هذا: أن ترك التشهد مخير فيه بين أن يسجد قبل السلام أو بعد السلام؛ لأنه ورد في حديثين صحيحين: أنه سجد قبل السلام وبعده وقالت الحنفية: ما استدل به الشافعي من السجود قبل السلام معارض بحديث المغيرة بن شعبة , ولكن يبقى للإمام الشافعي حديث أبي سعيد الخدري : أنه يسجد قبل السلام.

[ قال أبو عمر : ليس مثله في النقل فيعارض به ].

يعني: حديث المغيرة بن شعبة ليس مثل حديث ابن بحينة من حيث النقل والقوة فلا يعارضه.

[ واحتجوا أيضاً لذلك بحديث ابن مسعود ].

الذي أخرجه البخاري و مسلم .

[ الثابت: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى خمساً ساهياً وسجد لسهوه بعد السلام )].

[ وأما من ذهب مذهب الجمع ]. وهو الإمام مالك.

[ فإنهم قالوا: إن هذه الأحاديث لا تتناقض، وذلك أن السجود فيها بعد السلام إنما هو في الزيادة، والسجود قبل السلام في النقصان، فوجب أن يكون حكم السجود في سائر المواضع كما هو في هذا الموضع، قالوا: وهو أولى من حمل الأحاديث على التعارض]. وأما من ذهب مذهب الجمع والترجيح وهو الإمام أحمد ].

[ فقال: يسجد في المواضع التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم على النحو الذي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك هو حكم تلك المواضع، وأما المواضع التي لم يسجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالحكم فيها: السجود قبل السلام. فكأنه قاس على المواضع التي سجد فيها عليه الصلاة والسلام قبل السلام ].

أي: أنه رجح الأحاديث التي سجد فيها قبل السلام في ما لم يرد أنه سجد فيه.

[ ولم يقس على المواضع التي سجد فيها بعد السلام، وأبقى سجود المواضع التي سجد فيها على ما سجد فيها، فمن جهة أنه أبقى حكم هذه المواضع على ما وردت عليه، وجعلها متغايرة الأحكام هو ضرب من الجمع ورفع للتعارض بين مفهومها، ومن جهة أنه عدى مفهوم بعضها دون البعض، وألحق به المسكوت عنه فذلك ضرب من الترجيح، أعني: أنه قاس على السجود الذي قبل السلام، ولم يقس على الذي بعده ].

أقول: ومذهب أحمد أقيس؛ لأن الأصل بالجبران: أن يكون في صلب الصلاة, فلا يخرج عنه إلا ما أخرجه الدليل.

[ وأما من لم يفهم من هذه الأفعال حكماً خارجاً عنها، وقصر حكمها على أنفسها وهم أهل الظاهر فاقتصروا بالسجود على هذه المواضع فقط ]. على الخمسة المواضع التي وردت عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

[ وأما أحمد بن حنبل ، فجاء نظره مختلطاً من نظر أهل الظاهر ونظر أهل القياس ]. وهذا كلام فلسفي منه رحمه الله.

[ وذلك أنه اقتصر بالسجود كما قلنا بعد السلام على المواضع التي ورد فيها الأثر ولم يعده، وعدى السجود الذي ورد في المواضع التي قبل السلام. ولكل واحد من هؤلاء أدلة يرجح بها مذهبه من جهة القياس أعني: لأصحاب القياس وليس قصدنا في هذا الكتاب في الأكثر ذكر الخلاف الذي يوجبه القياس ].

فهو يأتي بالقياس الذي ينبني على الأدلة.

[ كما ليس قصدنا ذكر المسائل المسكوت عنها في الشرع إلا في الأقل، وذلك إما من حيث هي مشهورة وأصل لغيرها وإما من حيث هي كثيرة الوقوع ].

فيذكرها وإن كان مسكوت عنها.

[ والمواضع الخمسة التي سها فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحدها: أنه قام من اثنتين على ما جاء في حديث ابن بحينة ]. وترك التشهد الأوسط.

[والثاني: أنه سلم من اثنتين على ما جاء في حديث ذي اليدين [ والثالث: أنه صلى خمساً على ما في حديث ابن عمر ، خرجه مسلم و البخاري .

والرابع: أنه سلم من ثلاث على ما في حديث عمران بن الحصين ] وقد أخرجه مسلم .

[ الخامس: السجود عن الشك على ما جاء في حديث أبي سعيد الخدري وسيأتي بعد ] وهو حديث صحيح أخرجه مسلم .


استمع المزيد من الشيخ محمد يوسف حربة - عنوان الحلقة اسٌتمع
كتاب الزكاة [9] 2958 استماع
كتاب الزكاة [1] 2914 استماع
كتاب الطهارة [15] 2907 استماع
كتاب الطهارة [3] 2620 استماع
كتاب الصلاة [33] 2568 استماع
كتاب الطهارة [6] 2398 استماع
كتاب أحكام الميت [3] 2391 استماع
كتاب الطهارة [2] 2367 استماع
كتاب الصلاة [1] 2330 استماع
كتاب الطهارة [22] 2237 استماع