كتاب الصلاة [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، نحمده ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد وسلم تسليماً كثيراً. وبعد:

قال المصنف رحمه الله: [المسألة الثالثة: وأما على من تجب فتجب على المسلم البالغ، ولا خلاف في ذلك].

قال المصنف رحمه الله: [ المسألة الرابعة: حكم تارك الصلاة.

وأما ما الواجب على من تركها عمداً، وأمر بها فأبى أن يصليها لا جحوداً لفرضها، فإن قوماً قالوا: يقتل، وقوماً قالوا: يعزر ويحبس. والذين قالوا: يقتل، منهم من أوجب قتله كفراً، وهو مذهب أحمد و إسحاق و ابن المبارك ، ومنهم من أوجبه حداً، وهو مالك و الشافعي و أبو حنيفة ، وأصحابه، وأهل الظاهر ممن رأى حبسه وتعزيره حتى يصلي ].

سبب اختلاف العلماء في حكم تارك الصلاة

قال المصنف رحمه الله: [ والسبب في هذا الاختلاف: اختلاف الآثار، وذلك أنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زناً بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس ) ] يعني: أن هذا الحديث يشير إلى أنه لا يدخل فيه قاطع الصلاة؛ لأنه ليس من أحد الثلاثة إلا إن كان كافراً.

[ وروي عنه عليه الصلاة والسلام من حديث بريدة أنه قال: ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر ).

وحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ليس بين العبد وبين الكفر إلا الشرك -أو قال: الشرك- إلا ترك الصلاة ) ] وحديث: ( ليس بين العبد والكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة )، قد أخرجه مسلم ، والحديث الأول أخرجه الترمذي و أحمد ، وهو حديث صحيح، وهذان الحديثان قد صرحا بأن تارك الصلاة كافر.

[ فمن فهم من الكفر هنا الكفر الحقيقي ] وهو الخروج من الملة [ جعل هذا الحديث كأنه تفسير لقوله عليه الصلاة والسلام: ( كفر بعد إيمان ) ].

ولفظة الحديث: (كفر بعد إيمان)، تكون مفسرة للحديث الأول وليس هناك خلاف بينهما.

[ ومن فهم هاهنا التغليظ والتوبيخ، أي: أن أفعاله أفعال كافر، وأنه في صورة كافر؛ كما قال: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن )، لم ير قتله كفراً ]. يعني: أنه إذا فهم منه أنه كفر دون كفر مثل حديث: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن )، فهذا الحديث لا ينفي عنه أصل الإيمان، وإنما ينفي عنه كمال الإيمان، بدليل الحديث الآخر: ( من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله دخل الجنة، وإن زنى وإن سرق )، وهذا أسلوب عربي، وهو أن العرب تنفي الشيء باعتبار كماله لا باعتبار أصله، فإذا كان هناك نجار يتقن النجارة، ونجار آخر لا يتقن النجارة، فإنك تقول: فلان ليس بنجار، ومعناه نفي الكمال، فهذا الحديث هنا ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن )، معناه نفي الكمال، فهنا في هذه الأحاديث ( ليس بين العبد والكفر أو قال: الشرك إلا ترك الصلاة ) يعني: هذا يراد به إثبات نوع من الشرك، أو نوع من الكفر، وهو ليس بكفر أكبر، ولا شرك أكبر.

فيكون الحديث الأول باق على أصله، وهو كفر بعد إيمان، وهنا رأى أبو حنيفة وأهل الظاهر أنه لا يقتل.

[وأما من قال يقتل حداً]، أي: رأى أنه ليس بكافر، يقول المؤلف: [ فضعيف، ولا مستند له، إلا قياس شبه ضعيف إن أمكن، وهو تشبيه الصلاة بالقتل في كون الصلاة رأس المأمورات، والقتل رأس المنهيات وعلى الجملة فاسم الكفر إنما ينطلق بالحقيقة على التكذيب، وتارك الصلاة معلوم أنه ليس بمكذب، إلا أن يتركها معتقداً لتركها هكذا ]، أي: كالذي يتركها ويعتقد أنها رياضة، وأن الرياضة تكفي عنها، فهو بذلك الكفار الخارجين من الملة الملحدين، فإذا كان ترك الصلاة كسلاً ليس جحوداً [ فنحن إذاً بين أحد أمرين:

إما إن أردنا أن نفهم من الحديث الكفر الحقيقي يجب علينا أن نتأول أنه أراد عليه الصلاة والسلام من ترك الصلاة معتقداً لتركها فقد كفر ].

فإذا قلنا: إن المراد من ترك الصلاة فهو كافر يعني: معتقداً لتركها.

[ وإما أن يحمل على أن اسم الكفر على غير موضوعه الأول ]، يعني: على غير الكفر الحقيقي. [ وذلك على أحد معنيين ]، فإذا حملناه على غير الكفر الحقيقي ينتج منه أمران [ إما على أن حكمه حكم الكافر، (أعني في القتل، وسائر أحكام الكفار)، وإن لم يكن مكذباً ] أي: فهو كاذب، فحكمه حكم الكافر يقتل، وهذا تأويل.

[ وإما على أن أفعاله أفعال كافر على جهة التغليظ والردع له ]، وهذا التأويل الثاني. [ أي: أن فاعل هذا يشبه الكافر في الأفعال، إذا كان الكافر لا يصلي كما قال عليه الصلاة والسلام: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) ]، يعني: أنه يشبه غير المؤمنين [ وحمله على أن حكمه حكم الكافر في أحكامه، لا يجب المصير إليه إلا بدليل ] أي: أن حكمه على التأويل الأول أنه ( من ترك الصلاة فهو كافر )، أي: في أحكام الكفر يقتل، لا يجب أن يصار إليه إلا بدليل؛ [ لأنه حكم لم يثبت بعد في الشرع من طريق يجب المصير إليه ]، وليس هناك طريق يصير إليه من أن حكمه حكم الكافر، وفيه القتل، [ فقد يجب إذا لم يدل عندنا على الكفر الحقيقي الذي هو التكذيب أن يدل على المعنى المجازي ]، يعني: إذا لم يدل على الكفر الحقيقي فيدل على المعنى المجازي، وهو كفر دون كفر، ولا يدل على القتل.

[ لا على معنى ما يوجب حكماً لم يثبت بعد في الشرع ] يعني إن قلنا: إنه يدل على الكفر الحقيقي، فنقول: تركها معتقداً، وإن قلنا: لا يدل على الكفر، وحملناه على ترك هذا بغير اعتقاد فهو يدل على أحد معنيين: إما أن أحكامه أحكام الكافر في القتل، فهذا معنى. أو أن الكفر كفر مجازي، ككفر نعم الله، فأما حمله على أنه مثل الكافر في القتل فهذا يحتاج إلى دليل في القتل، وأما حمله على المعنى المجازي فهذا لا يوجب حكماً في الشرع بالقتل.

[ بل يثبت ضده وهو أنه لا يحل دمه ]، بل يثبت ضده إذا حملناه على المعنى المجازي، وهو أنه لا يحل دمه، [ إذ هو خارج عن الثلاثة الذين نص عليهم الشرع ] وهذا كما تقدم، [ فتأمل هذا، فإنه بين والله أعلم ].

وهنا الشيخ رجح الرأي الثالث، وهو أنه يسجن؛ لأن الأحاديث تحمل على الاعتقاد، وهو غير معتقدٍ وجوبها.

[ أعني: أنه يجب علينا أحد أمرين: إما أن نقدر في الكلام محذوفاً إن أردنا حمله على المعنى الشرعي المفهوم من اسم الكفر ]، والمحذوف هو: من ترك الصلاة معتقداً عدم وجوبها فقد كفر، [ وإما أن نحمله على المعنى المستعار وأما حمله على أن حكمه حكم الكافر في جميع أحكامه مع أنه مؤمن، فشيء مفارق للأصول، مع أن الحديث ] يعني: الحديث السابق، وهو حديث عثمان [ نص في حق من يجب قتله كفراً أو حداً، ولذلك صار هذا القول مضاهياً لقول من يكفر بالذنوب ].

يعني: فمن قال: إن تارك الصلاة كافر، أو أنه يقتل، فهو كمن يكفر بالذنوب، وهم المعتزلة والخوارج. وهذا ما دار عليه كلام المؤلف.

إذاً فيقول أولاً: إنه ليس بكافر، ثانياً: لا يقتل وإنما يحبس.

وأما أنه ليس بكافر فقد قيل: إنها وقعت مناظرة بين الإمام الشافعي و أحمد ، فقال الإمام أحمد : إنه بكافر، فقال له الإمام الشافعي : وبماذا يدخل في الإسلام؟ قال: بشهادة أن لا إله إلا الله، قال: هو يشهد بها، أي: يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، هكذا قيل: إنها وقعت مناظرة والله أعلم. والمقصود بالمعنى المستعار أنه كفر مجازي.

الراجح في حكم تارك الصلاة

الراجح أنه يقتل، وسنستدل بآية من كتاب الله، وحديث، أما الآية فهي قوله تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5]، وأما الحديث فهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم )، ولكن إذا قلنا: يقتل، وكفر هذا المقدم للقتل، وقيل له: أنت لك من صلاة الظهر إلى انتهاء صلاة العصر، فإن صليت لم تقتل، وإن أصررت قتلناك، فقال: لا أصلي، وأصر على ذلك، وقدم للقتل فتقدم مختاراً للقتل على ترك الصلاة، فهل يتصور هذا في حكم العقل والبديهة أن إنساناً يترك الصلاة كسلاً فيقدم عنقه ونفسه في جانب الكسل؟! أو يكون هذا في جانب العقائد؟! ولهذا رجح شيخنا ناصر الدين الألباني أنه ليس بكافر، يعني: تارك الصلاة في حال وجود حكومة كوقتنا الحاضر لا تقيم حداً في الزنا، ولا في الخمر، ولا تسأل عن تارك الصلاة، فلو أن إنساناً ترك الصلاة كسلاً، فيصلي فرضاً أو ثلاثة فروض حتى يأتي وقت القات فيخزن ولا يصلي.. وهكذا يأتي أصحابه فيترك الصلاة، ففي مثل هذا عند عدم وجود حكومة ما نقول: إنه كافر خارج عن الملة، أما إذا وجدت الحكومة، وأخذت هذا الرجل، وقدمته إلى المشنقة، فاختار المشنقة ولم يصل، فهذا في حكم الكافر والفطرة على أنه كافر.

إذاً: الراجح أن من ترك الصلاة كسلاً مع اعتقاد وجوبها، فإنه فاسق مرتكب كبيرة من أعظم الكبائر، بعد الكفر والشرك الأكبر، وليس بكافر، ويدل على عدم كفره حديث عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( خمس صلوات افترض الله، من أحسن وضوءهن، وصلاتهن، وأتم ركوعهن، وخشوعهن كان له على الله عهد أن يغفر له، ومن لم يفعل فليس له على الله عهد، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه )، إذاً فقوله في هذا الحديث: ( إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه ) يدل على أنه ليس بكافر، وقد قال النووي في المجموع (3/20) رواه أبو داود وغيره بأسانيد صحيحة، انتهى كلام الشيخ، ونحن قد حكمنا أنه ليس بكافر، ولكن الراجح أنه يجب قتله، ويدل على ذلك قوله تعالى: قَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة:36]، إلى قوله تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5]، فهنا رتب عدم القتل على الإيمان، وإقامة الصلاة. وقوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها)، متفق عليه.

والمقاتلة مستلزمة للقتل.

إذاً يقتل تارك الصلاة، وهذا استدل به من يقول بقتله.

والآية السابقة أن الكفار والمشركين لا ينجون من القتل إلا بشروط: الأول: إذا تابوا من الشرك.

والثاني: إذا أقاموا الصلاة. والثالث: إذا آتوا الزكاة. وكذلك: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ) واحد، ( ويقيموا الصلاة ) اثنين، ( ويؤتوا الزكاة ) ثلاثة، فإذا لم يقوموا بهذه الثلاثة فالمقاتلة باقية، ولا عصمة للدماء.

قتل مانع الزكاة

ولكن لو سأل سائل وقال: هل مانع الزكاة يقتل؟

والجواب: لا، إلا إن كانوا جماعة لهم شوكة ولا يمكن أن تأخذ الزكاة منهم، فنقاتلهم حتى نتمكن من أخذها، وإن كان واحداً يمكن أخذ الزكاة منه ... الصلاة، هذه تأديباً له كما في الحديث: ( أنه يؤخذ نصف ماله )، إذاً فمانع الزكاة تؤخذ منه الزكاة، أو يؤخذ نصف ماله على خلاف في ذلك، ولا يقتل؛ لأننا نستطيع أن نتمكن منه.

ولكن تارك الصلاة لا يتصور التمكن منه، فيصلي إجباراً.

والآية السابقة هي في حق المشركين ابتداءً، ولكن لا يرتفع القتل والمقاتلة إلا بتحقق هذه الثلاثة: التوبة، والصلاة، وإيتاء الزكاة، فإن كانوا جماعة لهم شوكة يقاتلون في الزكاة، وإن كان واحداً يؤخذ منه الزكاة.

فالآية: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ [التوبة:11]، وفي الآية الأخرى: فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5].

تبين أننا نخلي سبيلهم وأنهم إخواننا، ولكن إذا لم يتصفوا بهذه الصفات فإننا لا نخلي سبيلهم، وإنما يلزم مقاتلتهم.

فلا بد من اتصافهم بهذه الثلاث بمجموعها فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5]، فإن اتصفوا بالثلاث لم يقاتلوا، وإن اتصفوا بواحدة لا يرتفع عنهم القتال، فإن كانوا جماعة مضوا، وإن كان واحداً ترك مثلاً الزكاة ويمكن أن نأخذها منه ونصف ماله؛ كما في الحديث، وإن كان في الصلاة فكيف نخلي سبيله؟! فلا يمكن ذلك وهو ممتنع من الصلاة؛ لأنها دين، فهذا يقدم إلى القتل.

والمقاتلة مستلزمة للقتل، إلا أن شيخنا ناصر الدين الألباني قال: إذا حكم عليه بالقتل فأصر على عدم الصلاة، مختاراً للقتل، فإنه في هذه الحالة يحكم أنه قتل كافراً لأن اختيار تقديم النفس إنما يصدر عن اعتقاد، لا عمن تركها كسلاً، فهذا ما قرره شيخنا الألباني .

قال المصنف رحمه الله: [ والسبب في هذا الاختلاف: اختلاف الآثار، وذلك أنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زناً بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس ) ] يعني: أن هذا الحديث يشير إلى أنه لا يدخل فيه قاطع الصلاة؛ لأنه ليس من أحد الثلاثة إلا إن كان كافراً.

[ وروي عنه عليه الصلاة والسلام من حديث بريدة أنه قال: ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر ).

وحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ليس بين العبد وبين الكفر إلا الشرك -أو قال: الشرك- إلا ترك الصلاة ) ] وحديث: ( ليس بين العبد والكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة )، قد أخرجه مسلم ، والحديث الأول أخرجه الترمذي و أحمد ، وهو حديث صحيح، وهذان الحديثان قد صرحا بأن تارك الصلاة كافر.

[ فمن فهم من الكفر هنا الكفر الحقيقي ] وهو الخروج من الملة [ جعل هذا الحديث كأنه تفسير لقوله عليه الصلاة والسلام: ( كفر بعد إيمان ) ].

ولفظة الحديث: (كفر بعد إيمان)، تكون مفسرة للحديث الأول وليس هناك خلاف بينهما.

[ ومن فهم هاهنا التغليظ والتوبيخ، أي: أن أفعاله أفعال كافر، وأنه في صورة كافر؛ كما قال: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن )، لم ير قتله كفراً ]. يعني: أنه إذا فهم منه أنه كفر دون كفر مثل حديث: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن )، فهذا الحديث لا ينفي عنه أصل الإيمان، وإنما ينفي عنه كمال الإيمان، بدليل الحديث الآخر: ( من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله دخل الجنة، وإن زنى وإن سرق )، وهذا أسلوب عربي، وهو أن العرب تنفي الشيء باعتبار كماله لا باعتبار أصله، فإذا كان هناك نجار يتقن النجارة، ونجار آخر لا يتقن النجارة، فإنك تقول: فلان ليس بنجار، ومعناه نفي الكمال، فهذا الحديث هنا ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن )، معناه نفي الكمال، فهنا في هذه الأحاديث ( ليس بين العبد والكفر أو قال: الشرك إلا ترك الصلاة ) يعني: هذا يراد به إثبات نوع من الشرك، أو نوع من الكفر، وهو ليس بكفر أكبر، ولا شرك أكبر.

فيكون الحديث الأول باق على أصله، وهو كفر بعد إيمان، وهنا رأى أبو حنيفة وأهل الظاهر أنه لا يقتل.

[وأما من قال يقتل حداً]، أي: رأى أنه ليس بكافر، يقول المؤلف: [ فضعيف، ولا مستند له، إلا قياس شبه ضعيف إن أمكن، وهو تشبيه الصلاة بالقتل في كون الصلاة رأس المأمورات، والقتل رأس المنهيات وعلى الجملة فاسم الكفر إنما ينطلق بالحقيقة على التكذيب، وتارك الصلاة معلوم أنه ليس بمكذب، إلا أن يتركها معتقداً لتركها هكذا ]، أي: كالذي يتركها ويعتقد أنها رياضة، وأن الرياضة تكفي عنها، فهو بذلك الكفار الخارجين من الملة الملحدين، فإذا كان ترك الصلاة كسلاً ليس جحوداً [ فنحن إذاً بين أحد أمرين:

إما إن أردنا أن نفهم من الحديث الكفر الحقيقي يجب علينا أن نتأول أنه أراد عليه الصلاة والسلام من ترك الصلاة معتقداً لتركها فقد كفر ].

فإذا قلنا: إن المراد من ترك الصلاة فهو كافر يعني: معتقداً لتركها.

[ وإما أن يحمل على أن اسم الكفر على غير موضوعه الأول ]، يعني: على غير الكفر الحقيقي. [ وذلك على أحد معنيين ]، فإذا حملناه على غير الكفر الحقيقي ينتج منه أمران [ إما على أن حكمه حكم الكافر، (أعني في القتل، وسائر أحكام الكفار)، وإن لم يكن مكذباً ] أي: فهو كاذب، فحكمه حكم الكافر يقتل، وهذا تأويل.

[ وإما على أن أفعاله أفعال كافر على جهة التغليظ والردع له ]، وهذا التأويل الثاني. [ أي: أن فاعل هذا يشبه الكافر في الأفعال، إذا كان الكافر لا يصلي كما قال عليه الصلاة والسلام: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) ]، يعني: أنه يشبه غير المؤمنين [ وحمله على أن حكمه حكم الكافر في أحكامه، لا يجب المصير إليه إلا بدليل ] أي: أن حكمه على التأويل الأول أنه ( من ترك الصلاة فهو كافر )، أي: في أحكام الكفر يقتل، لا يجب أن يصار إليه إلا بدليل؛ [ لأنه حكم لم يثبت بعد في الشرع من طريق يجب المصير إليه ]، وليس هناك طريق يصير إليه من أن حكمه حكم الكافر، وفيه القتل، [ فقد يجب إذا لم يدل عندنا على الكفر الحقيقي الذي هو التكذيب أن يدل على المعنى المجازي ]، يعني: إذا لم يدل على الكفر الحقيقي فيدل على المعنى المجازي، وهو كفر دون كفر، ولا يدل على القتل.

[ لا على معنى ما يوجب حكماً لم يثبت بعد في الشرع ] يعني إن قلنا: إنه يدل على الكفر الحقيقي، فنقول: تركها معتقداً، وإن قلنا: لا يدل على الكفر، وحملناه على ترك هذا بغير اعتقاد فهو يدل على أحد معنيين: إما أن أحكامه أحكام الكافر في القتل، فهذا معنى. أو أن الكفر كفر مجازي، ككفر نعم الله، فأما حمله على أنه مثل الكافر في القتل فهذا يحتاج إلى دليل في القتل، وأما حمله على المعنى المجازي فهذا لا يوجب حكماً في الشرع بالقتل.

[ بل يثبت ضده وهو أنه لا يحل دمه ]، بل يثبت ضده إذا حملناه على المعنى المجازي، وهو أنه لا يحل دمه، [ إذ هو خارج عن الثلاثة الذين نص عليهم الشرع ] وهذا كما تقدم، [ فتأمل هذا، فإنه بين والله أعلم ].

وهنا الشيخ رجح الرأي الثالث، وهو أنه يسجن؛ لأن الأحاديث تحمل على الاعتقاد، وهو غير معتقدٍ وجوبها.

[ أعني: أنه يجب علينا أحد أمرين: إما أن نقدر في الكلام محذوفاً إن أردنا حمله على المعنى الشرعي المفهوم من اسم الكفر ]، والمحذوف هو: من ترك الصلاة معتقداً عدم وجوبها فقد كفر، [ وإما أن نحمله على المعنى المستعار وأما حمله على أن حكمه حكم الكافر في جميع أحكامه مع أنه مؤمن، فشيء مفارق للأصول، مع أن الحديث ] يعني: الحديث السابق، وهو حديث عثمان [ نص في حق من يجب قتله كفراً أو حداً، ولذلك صار هذا القول مضاهياً لقول من يكفر بالذنوب ].

يعني: فمن قال: إن تارك الصلاة كافر، أو أنه يقتل، فهو كمن يكفر بالذنوب، وهم المعتزلة والخوارج. وهذا ما دار عليه كلام المؤلف.

إذاً فيقول أولاً: إنه ليس بكافر، ثانياً: لا يقتل وإنما يحبس.

وأما أنه ليس بكافر فقد قيل: إنها وقعت مناظرة بين الإمام الشافعي و أحمد ، فقال الإمام أحمد : إنه بكافر، فقال له الإمام الشافعي : وبماذا يدخل في الإسلام؟ قال: بشهادة أن لا إله إلا الله، قال: هو يشهد بها، أي: يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، هكذا قيل: إنها وقعت مناظرة والله أعلم. والمقصود بالمعنى المستعار أنه كفر مجازي.

الراجح أنه يقتل، وسنستدل بآية من كتاب الله، وحديث، أما الآية فهي قوله تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5]، وأما الحديث فهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم )، ولكن إذا قلنا: يقتل، وكفر هذا المقدم للقتل، وقيل له: أنت لك من صلاة الظهر إلى انتهاء صلاة العصر، فإن صليت لم تقتل، وإن أصررت قتلناك، فقال: لا أصلي، وأصر على ذلك، وقدم للقتل فتقدم مختاراً للقتل على ترك الصلاة، فهل يتصور هذا في حكم العقل والبديهة أن إنساناً يترك الصلاة كسلاً فيقدم عنقه ونفسه في جانب الكسل؟! أو يكون هذا في جانب العقائد؟! ولهذا رجح شيخنا ناصر الدين الألباني أنه ليس بكافر، يعني: تارك الصلاة في حال وجود حكومة كوقتنا الحاضر لا تقيم حداً في الزنا، ولا في الخمر، ولا تسأل عن تارك الصلاة، فلو أن إنساناً ترك الصلاة كسلاً، فيصلي فرضاً أو ثلاثة فروض حتى يأتي وقت القات فيخزن ولا يصلي.. وهكذا يأتي أصحابه فيترك الصلاة، ففي مثل هذا عند عدم وجود حكومة ما نقول: إنه كافر خارج عن الملة، أما إذا وجدت الحكومة، وأخذت هذا الرجل، وقدمته إلى المشنقة، فاختار المشنقة ولم يصل، فهذا في حكم الكافر والفطرة على أنه كافر.

إذاً: الراجح أن من ترك الصلاة كسلاً مع اعتقاد وجوبها، فإنه فاسق مرتكب كبيرة من أعظم الكبائر، بعد الكفر والشرك الأكبر، وليس بكافر، ويدل على عدم كفره حديث عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( خمس صلوات افترض الله، من أحسن وضوءهن، وصلاتهن، وأتم ركوعهن، وخشوعهن كان له على الله عهد أن يغفر له، ومن لم يفعل فليس له على الله عهد، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه )، إذاً فقوله في هذا الحديث: ( إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه ) يدل على أنه ليس بكافر، وقد قال النووي في المجموع (3/20) رواه أبو داود وغيره بأسانيد صحيحة، انتهى كلام الشيخ، ونحن قد حكمنا أنه ليس بكافر، ولكن الراجح أنه يجب قتله، ويدل على ذلك قوله تعالى: قَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة:36]، إلى قوله تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5]، فهنا رتب عدم القتل على الإيمان، وإقامة الصلاة. وقوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها)، متفق عليه.

والمقاتلة مستلزمة للقتل.

إذاً يقتل تارك الصلاة، وهذا استدل به من يقول بقتله.

والآية السابقة أن الكفار والمشركين لا ينجون من القتل إلا بشروط: الأول: إذا تابوا من الشرك.

والثاني: إذا أقاموا الصلاة. والثالث: إذا آتوا الزكاة. وكذلك: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ) واحد، ( ويقيموا الصلاة ) اثنين، ( ويؤتوا الزكاة ) ثلاثة، فإذا لم يقوموا بهذه الثلاثة فالمقاتلة باقية، ولا عصمة للدماء.

ولكن لو سأل سائل وقال: هل مانع الزكاة يقتل؟

والجواب: لا، إلا إن كانوا جماعة لهم شوكة ولا يمكن أن تأخذ الزكاة منهم، فنقاتلهم حتى نتمكن من أخذها، وإن كان واحداً يمكن أخذ الزكاة منه ... الصلاة، هذه تأديباً له كما في الحديث: ( أنه يؤخذ نصف ماله )، إذاً فمانع الزكاة تؤخذ منه الزكاة، أو يؤخذ نصف ماله على خلاف في ذلك، ولا يقتل؛ لأننا نستطيع أن نتمكن منه.

ولكن تارك الصلاة لا يتصور التمكن منه، فيصلي إجباراً.

والآية السابقة هي في حق المشركين ابتداءً، ولكن لا يرتفع القتل والمقاتلة إلا بتحقق هذه الثلاثة: التوبة، والصلاة، وإيتاء الزكاة، فإن كانوا جماعة لهم شوكة يقاتلون في الزكاة، وإن كان واحداً يؤخذ منه الزكاة.

فالآية: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ [التوبة:11]، وفي الآية الأخرى: فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5].

تبين أننا نخلي سبيلهم وأنهم إخواننا، ولكن إذا لم يتصفوا بهذه الصفات فإننا لا نخلي سبيلهم، وإنما يلزم مقاتلتهم.

فلا بد من اتصافهم بهذه الثلاث بمجموعها فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5]، فإن اتصفوا بالثلاث لم يقاتلوا، وإن اتصفوا بواحدة لا يرتفع عنهم القتال، فإن كانوا جماعة مضوا، وإن كان واحداً ترك مثلاً الزكاة ويمكن أن نأخذها منه ونصف ماله؛ كما في الحديث، وإن كان في الصلاة فكيف نخلي سبيله؟! فلا يمكن ذلك وهو ممتنع من الصلاة؛ لأنها دين، فهذا يقدم إلى القتل.

والمقاتلة مستلزمة للقتل، إلا أن شيخنا ناصر الدين الألباني قال: إذا حكم عليه بالقتل فأصر على عدم الصلاة، مختاراً للقتل، فإنه في هذه الحالة يحكم أنه قتل كافراً لأن اختيار تقديم النفس إنما يصدر عن اعتقاد، لا عمن تركها كسلاً، فهذا ما قرره شيخنا الألباني .




استمع المزيد من الشيخ محمد يوسف حربة - عنوان الحلقة اسٌتمع
كتاب الزكاة [9] 2956 استماع
كتاب الزكاة [1] 2912 استماع
كتاب الطهارة [15] 2904 استماع
كتاب الطهارة [3] 2617 استماع
كتاب الصلاة [33] 2565 استماع
كتاب الصلاة [29] 2414 استماع
كتاب الطهارة [6] 2396 استماع
كتاب أحكام الميت [3] 2386 استماع
كتاب الطهارة [2] 2364 استماع
كتاب الطهارة [22] 2231 استماع