أرشيف المقالات

أمثلة على ترتيب الأولويات

مدة قراءة المادة : 32 دقائق .
أمثلة على ترتيب الأولويات

الأحكام الشرعية هي منظومة من الأحكام المرتبة حسب الأهمية، وليست مجموعة من الأحكام المتساوية في صلاحيتها ومناسبتها للتطبيق بترتيب أفقي مطلق.

لقد عرض القرآن الكريم كثيرًا من الأحكام الشرعية بصورة توحي بوجوب اعتبار ظروف التطبيق أو الوضع النسبي للحكم من جملة الأحكام، وهو ما أسميناه بمفهوم الأولويات.

أمثلة من القرآن الكريم:
• قوله سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة].

فقد نقل ابن كثير عن مسروق قوله: فمن اضطر فلم يأكل ولم يشرب حتى مات دخل النار.
والآية تقدِّم حفظ الحياة على حرمة تناول الأطعمة الخبيثة.

• وقوله سبحانه وتعالى: ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ [البقرة: 185].

والآية تقدم اعتبار المرض ومشقة السفر على واجب الصوم في الشهر المحدد.

• وقوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾ [البقرة: 196].

والآية تقدِّم اعتبار المرض على واجب ترتيب مناسك الحج.

• وقوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النساء: 25].

والآية تقرر أن الزواج بالإماء وما يتبعه من العبودية لأولادهن أخفُّ ضررًا من الوقوع في الفاحشة.

• وقوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ﴾ [الأنفال: 72].

والآية تقرر أن الوفاء بالعهد والميثاق مقدم على واجب نصر المسلم ومساعدته.

• وقوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [النساء: 6].

والآية تقدم حفظ حياة الكفيل الفقير على الأمر باجتناب أخذ مال اليتيم.

• وقوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ﴾ [المائدة: 6].

والآية تقدِّم اعتبار المرض أو المشقة على وجوب التطهُّر بالماء.

• وقوله سبحانه وتعالى: ﴿ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ﴾ [النحل: 106].

نزلت الآيات في عمار بن ياسر رضي الله عنه، حيث أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر آلهتهم بخير ثم تركوه، فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما وراءك؟" قال: شرٌّ يا رسول الله، ما تُركت حتى نلت منك، وذكرت آلهتهم بخير قال: "كيف تجد قلبك؟"، قال: مطمئنٌّ بالإيمان، قال: "إن عادوا فعُد"[1].

والآية تقدِّم اعتبار حفظ النفس على واجب حفظ اللسان مما يعارض الإيمان والمتأمل في الآيات السابقة يلحظ أن القرآن الكريم لم يأت بأوامر مطلقة مجرَّدة عن اعتبار الزمان والمكان والأشخاص، ولكن الأوامر والتوجيهات كانت تأتي مع إشارات واضحة إلى اعتبار ظروف التطبيق وتقرِّر البديل الذي يناسب حال المكلَّف ويخرج به عن موارد المشقة والعسر والحرج، وهذا الاعتبار لظروف تطبيق الأوامر الشرعية هو ما يمكن أن يسمى "فقه الأولويات".
 
أمثلة من السُّنة المشرفة:
فإذا انتقلنا إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم وجدنا معنى اعتبار الأولويات مبثوثًا في كثير من المواقف والتعليقات والأوامر والتوجيهات التي تلقاها الصحابة الكرام، وفهموا منها ترتيب أولويات الأحكام الشرعية:
• خرج جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأصابت أحدهم شجةٌ في رأسه ثم أصابته الجنابة، فسأل أصحابه فقالوا: لا نرى لك إلا أن تغتسل، فاغتسل فمات، فلما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم سألوه فقال: "ألا سألوا إذا لم يعلموا؛ فإنما شفاء العي السؤال"[2].

والحديث يقرِّر أن اعتبار رخصة التيمم مقدم على واجب الغسل للتطهر من الجنابة عند المرض.
وبالإضافة إلى ذلك ففي الحديث إشارة صريحة إلى وجوب التزود بالعلم قبل الفتوى لآحاد الناس وسواد الأمة.

• وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد، فقال صلى الله عليه وسلم: "أحيٌّ والداك؟".
قال نعم.
قال صلى الله عليه وسلم: "ففيهما فجاهد"[3].
والحديث يقرِّر أن القيام بشؤون الوالدين ورعايتهما يتقدَّم في الاعتبار - في حالة السائل - على واجب الجهاد في سبيل الله.

• وعن أنس رضي الله عنه قال: كُنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر فمنا الصائم ومنا المفطر - قال -: فنزلنا منزلًا في يوم حار أكثرنا ظلًا صاحب الكساء، ومنَّا من يتقي الشمس بيده - قال -: فسقط الصوام، وقام المفطرون فضربوا الأبنية، وسقوا الركاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذهب المفطرون اليوم بالأجر"[4].

والحديث يقرِّر أن القيام بمصالح الناس العامة وإصلاح الضروري من أمر حياتهم يتقدَّم في الاعتبار على التطوع في العبادة.

• وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل"[5].
والحديث يقرِّر أنما يرغِّب الخاطب في الزواج ويطمئنه إلى وجود الميل والتوافق مقدم على الأمر بِغَضِّ النظر.

• وعنه صلى الله عليه وسلم قال: "مرحبًا بك من بيت، ما أعظمك وأعظم حُرمتك، ولَلمؤمن أعظم حرمة عند الله منك، إن الله حرم منك واحدة وحرَّم من المؤمن ثلاثًا: دمه، وماله، وأن يُظن به ظن السوء"[6].
والحديث يقرِّر أن: إيذاء المسلم أشدُّ حرمة من الاستهانة أو الاعتداء على حرمة الكعبة.

• وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله تعالى سرورٌ تُدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد - يعني مسجد المدينة - شهرًا"[7].

ويؤكِّد هذا التوجيه النبوي أن قضاء حاجات الناس وإزالة همومهم مقدَّم في الاعتبار والأجر على نوافل الطاعات.

• وقال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عندما أراد أن يوصي بماله كُلِّه: "لا".
قال سعد: فالشطر.
قال صلى الله عليه وسلم: "لا".
قال سعد: الثُّلثُ.
قال صلى الله عليه وسلم: "فالثلث، والثلث كثير، إنك أن تدع ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تدعهم عالة يتكففون الناس في أيديهم"[8].

والحديث يقدِّم حاجة العيال وكفايتهم على التوسع في الإنفاق في مصارف الخير.

• وكان النبي صلى الله عليه وسلم مهتمًا بحفر الخندق - قبل غزوة الأحزاب - ففاتته صلاة العصر فقال صلى الله عليه وسلم: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارًا"[9].

والحديث يقدِّم الضروري من أمر الجهاد على واجب أداء الصلاة في وقتها.


والخلاصة: أنه عند تأمل الأمثلة المذكورة يتبين بوضوح: أن مفهوم الأولويات عند اعتبار الأحكام الشرعية، فكرة أصيلة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم وفي فهم الصحابة رضي الله عنهم، ففي كل مثال كان هناك تقديم لحكم شرعي على آخر، أو مقارنة بين وضعين، واختيار لأحدهما، وأمر وتوجيه باطِّراح الحكم الآخر، أو بيان لفضيلة أحدهما وأهميته على الآخر.
 
شواهد من أقوال الفقهاء:
• يجوز التيمم عند بيع الماء بسعر أغلى من المعتاد[10].
• يجوز كشف العورة للتداوي[11].
• تصِحُّ الصلاة قاعدًا أو مستلقيًا عند العجز أو خوف زيادة المرض[12].
• تسقط الجمعة والجماعة عند الخوف واضطراب الأمن[13].
• يحرم نبش قبر الميت إلا أن يكون القبر في أرض مغصوبة[14].
 
ومن الأولويات التي تتمثل في مجال المأمورات:
1- تقديم الفرائض على السُّنن والنوافل:
إن فقه الأولويات يقتضي أن نقدِّم الأوجب على الواجب، والواجب على المستحب، على أن لا نتساهل في الوقت نفسه في السنن والمستحبات، وأن نؤكد أمر الفرائض الأساسية أكثر من غيرها، وبخاصة الصلاة والزكاة؛ تلكما الفريضتان الأساسيتان اللتان قرن الله بينهما في القرآن الكريم في ثمانية وعشرين موضعًا، وجاءت عدة أحاديث صحيحة في ذلك.

فعن حنظلة بن أبي سفيان قال: سمعت عكرمة بن خالد يُحدث طاوسًا، أن رجلًا قال لابن عُمر: ألا تغزو؟ فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت"[15].

• ومن الخطأ إذن اشتغال الناس بالسُّنن والتطوعات من الصلاة والصيام والحج عن الفرائض، فنرى بعض المنتسبين إلى الدِّين من يقوم كلَّ الليل، ثم يذهب إلى عمله الذي يتقاضى عليه أجرًا وهو متعب كليلٌ القوة، فلا يقوم بواجبه كما ينبغي، وإحسان العمل فريضة بلا شك.

عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كُل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليُحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته"[16].

كما ينبغي لمن يصوم الإثنين والخميس ألا يؤخِّر مصالح الناس بتأثير الصيام عليه.

فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يُحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يُتقنه"[17].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحلُّ للمرأة أن تصوم وزوجها شاهدٌ إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه، وما أنفقت من نفقة عن غير أمره فإنه يؤدي إليه شطره"[18].
وذلك لأن حقه عليها أوجب من صيام النافلة.
 
2- تقديم فرض العين على فرض الكفاية:
إن الفرائض مقدَّمة في الرتبة على النوافل إذا عجز عن الجمع بينهما، والفرائض في نفسها متفاوتة، ففرض العين مقدم على فرض الكفاية عند التعارض.
وقد دلت الأحاديث النبوية على ذلك، وأظهر مثال ما جاء في شأن برِّ الوالدين والجهاد في سبيل الله حينما يكون الجهاد فرض كفاية.

فقد روى الشيخان عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد، فقال: "أحيٌّ والدك؟" قال: نعم، قال: "ففيهما فجاهد"[19].
"أي بالخدمة والرعاية والطاعة..".

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله جئت أبايعك على الهجرة، وتركت أبوي يبكيان، قال: "فارجع إليهما وأضحكهما كما أبكيتهما"[20].

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أتى رجلٌ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه، قال: "فهل بقي أحدٌ من والديك؟" فقال: أُمي قال: "فأبل الله عُذرًا في برها، فإذا فعلت ذلك فأنت حاجٌ ومعتمر ومجاهد إذا رضيت عنك أمك، فاتق الله وبرها"[21].

وعن معاوية بن جاهمة عن أبيه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أستشيره في الجهاد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألك والدان؟" قُلت: نعم، قال: "الزمهما فإن الجنة تحت أرجلهما"[22].
 
فروض الكفاية تتفاوت:
وفروض الكفاية نفسها تتفاوت، فهناك فروض كفاية قام بها بعض الناس، وربما أصبح فيها فائض، وفروض كفاية أخرى لم يقم بها عدد كافٍ، أو لم يقم بها أحد قط.

ففي زمن الإمام الغزالي عاب على أهل عصره أنهم تكدَّسوا في طلب الفقه، وطلبه فرض كفاية، على حين تخلَّفوا عن ثغرة في واجب كفائي آخر، مثل علم الطب، حتى إن البلدة يوجد بها خمسون متفقهًا، ولا يوجد بها إلا طبيب من أهل الذمة، مع ضرورة الطب الدنيوية، ومع أن للطب مدخلًا في الأحكام الشرعية.

ففرض الكفاية الذي لم يقم به أحد يكون الاشتغال به أولى ممن قام به بعض، ولو لم يسد كل الحاجة، وفرض الكفاية الذي قام به عدد غير كافٍ يكون الاشتغال به أولى من فرض آخر قام به عدد كافٍ، وربما زائد عن الحاجة.
وقد يصبح فرض الكفاية في بعض الأحيان فرض عين على زيد أو عمرو من الناس؛ لأنه وحده الذي اجتمعت له مؤهلاته، ووجد الموجب لقيامه، ولم يوجد المانع منه.

كما إذا احتاج بلد ما إلى فقيه يفتي الناس، وهو وحده التي تعلَّم الفقه، أو هو وحده القادر على تحصيله.
ومثله المعلم والخطيب والطبيب والمهندس، وكل ذي علم أو صنعة يحتاج إليها الناس، وهو يملكها دون غيره!.
 
3- تقديم حقوق العباد على حقِّ الله المجرَّد:
فروض الأعيان تتفاوت فيما بينها أيضًا، ولقد رأينا الشريعة تؤكِّد في كثير من أحكامها على تعظيم ما يتعلَّق بحقوق العباد.

ففرض العين المتعلِّق بحق الله سبحانه وتعالى وحده يمكن التسامح فيه، بخلاف فرض العين المتعلِّق بحقوق العباد.
فقد قال العلماء: "إن حقوق الله عز وجل مبنية على المسامحة، وحقوق العباد مبنية على المشاحَّة".

والمراد بهذه القاعدة أن ما يلزم المكلَّف من حقوق الله سبحانه وتعالى فإن مبناها على المسامحة بحيث إذا شقَّ على المكلَّف أداء ذلك الحق مشقة معتبرة سقط عنه.

• وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: كُنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أُتي بجنازة، فقالوا: صلِّ عليها، فقال: "هل عليه دينٌ؟"، قالوا: لا، قال: "فهل ترك شيئًا؟"، قالوا: لا، فصلى عليه، ثم أُتي بجنازة أُخرى، فقالوا: يا رسول الله، صلَّ عليها، قال: "هل عليه دينٌ؟" قيل: نعم، قال: "فهل ترك شيئًا؟"، قالوا: ثلاثة دنانير، فصلَّى عليها، ثم أُتي بالثالثة، فقالوا: صلِّ عليها، قال: "هل ترك شيئًا؟"، قالوا: لا، قال: "فهل عليه دينٌ؟"، قالوا: ثلاثة دنانير، قال: "صلوا على صاحبكم"، قال أبو قتادة: صلِّ عليه يا رسول الله وعليَّ دينه، فصلى عليه[23].

فمن أجل ثلاثة دراهم أعرض النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عليه، ليكون في ذلك أبلغ زاجر عن عدم أداء الدَّين قلَّ أو كثر!!.

• وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال أتدرون من المفلس؟" قالوا: المُفلس من لا درهم له ولا متاع، فقال: "إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثُم طُرح في النار"[24].

ثالثًا: أن العلماء قد ذكروا للتوبة - فيما يتعلق بحقوق الله عز وجل - شروطًا، وهي: الإقلاع عن الذَّنب، والعزم على عدم العود، والنَّدم على ما مضى، وزادوا - فيما يتعلق بحقوق العباد - شرطًا رابعًا وهو أن يؤدِّي ذلك الحق إلى صاحبه، أو يتحلله منه.

فتبين بذلك أن حقوق الله سبحانه وتعالى مبنية على المسامحة بحيث لا يلزم للتوبة من التفريط فيها ما يلزم في حقوق العباد.

رابعًا: عمل الفقهاء بالقاعدة: فقد اتفقت آراء الفقهاء على القول بهذه القاعدة والعمل بمقتضاها من حيث الجملة.
• جاء في الكافي من كتب الحنابلة: "وإن اجتمعت حدود للآدميين، استوفيت كلها، سواء كان فيها قتل، أو لم يكن.
ويبدأ بأخفِّها، لما ذكرنا.
وإن اجتمعت حدود لله تعالى، وللآدمي، ولا قتل فيها استوفيت كلها، إلا أن يتفق الحقَّان في محل واحد، كالقطع للقصاص والسرقة، فإنه يقدَّم القصاص؛ لأنه حق آدمي..." إلخ[25].

• فهذا يدل على تعظيم حقوق الخلق، ولا سيما ما يتعلق بالمال، سواء أكان خاصًا أم عامًا، فلا يجوز أخذه من غير حله وأكله بالباطل، وإن كان تافهًا، فالمهم هو المبدأ، ومن اجترأ على أخذ القليل، يوشك أن يجترئ على الكثير، والصغيرة تجرُّ إلى الكبيرة، ومعظم النار من مستصغر الشَّرَر.

4- تقديم حقوق الجماعة على حقوق الأفراد:
إن الفرائض المتعلقة بحقوق الجماعة مقدمة على الفرائض المتعلقة بحقوق الأفراد.
فإن الفرد لا بقاء له إلا بالجماعة، ولا يستطيع أن يعيش وحده، فهو مدنيٌّ بطبعه...
فالمرء قليلٌ بنفسه، كثيرٌ بجماعته.
بل هو عدمٌ بنفسه، موجودٌ بجماعته.
ومن هنا كان الواجب المتعلق بحق الجماعة أو الأمة آكد من الواجب المتعلق بحق الفرد[26].

ومن الأمثلة على ذلك: فكُّ الأسرى وتخليصهم من ذلِّ الأسر، مما كلف ذلك من الأموال؛ لأن كرامة هؤلاء الأسرى من كرامة أمة الإسلام، وكرامة الأمة فوق الحرمة الخاصة لأموال الأفراد، فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فُكوا العاني - يعني الأسير -، وأطعموا الجائع، وعودوا المريض"[27].

وكذلك إذا اقتضت ظروف الدولة جمع أموال لضرورة عادلة من القادرين وأهل اليسار لحفظ هيبة الدولة ونظامها، فإن الشرع يؤيد ذلك ويوجبه، كما نص على ذلك الفقهاء، وإن كان الكثير منهم في الأحوال المعتادة لا يطالب الناس بحق في المال غير الزكاة[28].

5- تقديم الولاء للأمة والجماعة على الولاء للقبيلة والفرد:
كانت القبيلة في المجتمع الجاهلي هي أساس الانتماء ومحور الولاء، وكان ولاء الرجل لقبيلته في الحق وفي الباطل، وكان شعار كل منهم: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا" على ظاهر معناها!!.

فلما أن جاء الإسلام جعل ولاء المسلمين لأمتهم ودينهم، ورباهم - من خلال القرآن الكريم والسنة - على القيام لله شهداء بالقسط، لا يمنعهم من ذلك عاطفة الحب لقريب، ولا عاطفة البغض لعدو! فالعدل يجب أن يكون فوق العواطف، وأن يكون لله، فلا يحابي من يحب، ولا يحيف على من يكره.

قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ [النساء: 135].

وقال سبحانه وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة: 8].

واستخدم الرسول صلى الله عليه وسلم بعض عبارات الجاهلية، وأعطاها مفهومًا جديدًا، لم يكن لهم به عهد، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "انصُر أخاك ظالمًا، أو مظلومًا" فقالوا: يا رسول الله هذا ننصره مظلومًا، فكيف أنصره ظالمًا؟ قال: "تكُفُّه عن الظلم"[29].

قال الإمام أحمد رحمه الله: "ومعنى هذا أن الظالم مظلومٌ من جهته كما قال الله عز وجل: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ﴾ [النساء: 110]، فكما ينبغي أن يُنصر المظلوم - إذا كان غير نفس الظالم ليدفع الظلم عنه - كذلك ينبغي أن يُنصر إذا كان نفس الظالم ليدفع ظلمه عن نفسه، وإنما أمر كُل واحد بنصرة أخيه المسلم، إذا رآه يظلم وقدر على نصره؛ لأن الإسلام إذا جمعهما صارا كالبدن الواحد، كما أن أخوة النسب لو جمعتهما كانا كالبدن الواحد، والدِّين أقوى من القرابة، وأولى بالمحافظة عليه منها، وإلى هذا وقعت الإشارة بقوله سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ﴾ [الحجرات: 10][30].

وكما أنكر النبي صلى الله عليه وسلم "العصبيةَ" وتبرأ منها، وممن دعا إليها، أو قاتل عليها، أو مات عليها، فإنه دعا إلى "الجماعة"، وأكد ذلك بقوله وفعله وتقريره، وحذّر من الفرقة والخلاف والانفراد والشذوذ.

فعن عرفجة بن شريح الأشجعي رضي الله عنه قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر يخطب الناس فقال: "إنه سيكون بعدي هَنَاتٌ وهَنَاتٌ فمن رأيتموه فارق الجماعة أو يريد تفريق أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم كائنًا من كان فاقتلوه؛ فإن يد الله على الجماعة، فإن الشيطان مع من فارق الجماعة يركض"[31].

وعن السائب بن مهجان، من أهل الشام من أهل إيلياء، وكان قد أدرك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث ذكره، قال: لما دخل عمر رضي الله عنه الشام حمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكَّر، وأمر بالمعروف، ونهى عن المُنكر، ثم قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا خطيبًا كقيامي فيكم، فأمر بتقوى الله وصلة الرحم وصلاح ذات البين، وقال: "عليكم بالجماعة؛ فإن يد الله على الجماعة، وإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، لا يخلون رجلٌ بامرأة، فإن الشيطان ثالثهما، ومن ساءته سيئته، وسرته حسنته فهو أمارة المسلم المؤمن، وأمارة المنافق الذي لا تسوؤه سيئته، ولا تسره حسنته إن عمل خيرًا لم يرج من الله في ذلك ثوابًا، وإن عمل شرًا لم يخفْ من الله في ذلك الشر عقوبة، وأجملوا في طلب الدنيا؛ فإن الله قد تكفل بأرزاقكم، وكُلٌّ ميسرٌ له عمله الذي كان عاملًا، استعينوا بالله على أعمالكم، فإنه يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب" صلى الله عليه وسلم على نبينا محمد وآله، وعليه السلام ورحمة الله.
السلام عليكم "هذه خطبة عمر بن الخطاب على أهل الشام أثرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"[32].

وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر: "من لم يشكر القليل، لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس، لم يشكر الله.
التحدث بنعمة الله شُكر، وتركها كفر، والجماعة رحمة، والفرقة عذاب"[33].

والملاحظ أن الشريعة الإسلامية تغرس روح الجماعة في أفراد الأمة، وهي لم تغفل أمر المجتمع في عباداتها ومعاملاتها وآدابها وجميع أحكامها، فهي تعُدُّ الفرد ليكون "لبنة" في بنيان المجتمع، أو "عضوًا" في بنية جسده الحي.

فعن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضًا، وشبَّك بين أصابعه"[34].

وعن عامر قال: سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنه يخطب يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمَّى"[35].

وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمنون كرجل واحد، إن اشتكى رأسه اشتكى كله، وإن اشتكى عينه اشتكى كُلُّه"[36].



[1] حلية الأولياء، أبو نعيم الأصبهاني "1 /140".


[2] أخرجه أبو داود ح "336" وصحح الألباني إسناده في صحيح الجامع، ح "4363".


[3] أخرجه البخاري، ح "2842" ومسلم، ح "2549".


[4] أخرجه مسلم، ح "1119".



[5] أخرجه أحمد في المسند برقم "14869"، وحسَّن الألباني إسناده في السلسلة الصحيحة برقم "99"، من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه.



[6] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان برقم "6280"، وصحح الألباني إسناده في السلسلة الصحيحة برقم "3420" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.



[7] أخرجه الطبراني في الكبير برقم "13468"، وصحح الألباني إسناده في السلسلة الصحيحة برقم "609"، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.



[8] أخرجه البخاري، ح "5354"، ومسلم، ح "1628".



[9] أخرجه البخاري، ح "4111"، ومسلم، ح "205".


[10] الاختيار لتعليل المختار، عبد الله بن محمود بن مودود الموصلي الحنفي "1/23".


[11] المصدر السابق "1 /154".



[12] المصدر السابق "1 /6".



[13] فقه العبادات، المؤلف، ص/ 358.



[14] المصدر السابق، ص/ 250.



[15] أخرجه البخاري، ح "8"، ومسلم، ح "122".



[16] أخرجه مسلم، ح "5167".


[17] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان برقم "4930"، وصحح الألباني إسناده في السلسلة الصحيحة برقم "1113".


[18] أخرجه البخاري، ح "5195".



[19] أخرجه البخاري، ح "3004"، ومسلم، ح "2549".


[20] أخرجه البخاري في الأدب المفرد، ح "19" وصححه الألباني.



[21] أخرجه الطبراني في المعجم الصغير "1 /144" "218" حسن.



[22] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير برقم "2157"، وصحَّح الألباني إسناده في صحيح الترغيب والترهيب برقم "2485".


[23] أخرجه البخاري، ح "2289".


[24] أخرجه مسلم، ح "6744".


[25] القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير، عبد الرحمن بن صالح العبد اللطيف "1 /260".


[26] فقه الأولويات القرضاوي، ص/ 87.



[27] أخرجه البخاري، ح "3046".


[28] انظر الموسوعة الفقهية الكويتية "35/13".


[29] أخرجه البخاري، ح "6952".



[30] شعب الإيمان، للبيهقي "10 /84".


[31] أخرجه النسائي في سننه برقم "4037"، وصحح الألباني إسناده في صحيح الجامع برقم "3621" - يركض: يتحرك ويضطرب.



[32] أخرجه البيهقي في السادس والسبعون من شعب الإيمان وهو باب في الإصلاح بين الناس برقم "11085" واللفظ له، وأخرجه الترمذي، ح "2165"، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي.



[33] أخرجه أحمد في المسند برقم "18449"، وصحح الألباني إسناده في صحيح الجامع برقم "3014".


[34] أخرجه البخاري، ح "481"، ومسلم، ح "2585".



[35] أخرجه مسلم، ح "6751"، تداعى له: تداعى البناء: إذا تبع بعضه بعضًا في الانهدام، كأن أجزاءه قد دعا بعضها بعضًا.



[36] أخرجه مسلم، ح "6753".

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير