المحرمات من النساء [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.

اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى. أما بعد:

فقد تقدم معنا الكلام عن المحرمات من النساء حرمةً مؤقتةً لعارض، وتبين لنا أن أول هؤلاء المحرمات: الجمع بين النساء ذوات المحارم في عصمة واحدة؛ (لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها).

ثاني هؤلاء المحرمات: المشركة غير الكتابية؛ لقول الله عز وجل: وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ [البقرة:221].

ثالثاً: المحصنات، بمعنى: المتزوجات، فلا يجوز لك أيها المؤمن! أن تخطب امرأةً أو تتزوج امرأة هي في عصمة رجل آخر.

رابعاً: تحريم المسلمة على الكافر أياً كان كفره، سواء كان كافراً من أهل الكتاب، أو من غيرهم.

خامساً: الإتيان بامرأة خامسة للإنسان الذي في عصمته أربع نسوة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخير الرجل إذا أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة، يقول له: ( اختر أربعاً، وفارق سائرهن ). وتوقف بنا الكلام عند هذا الحد في الحديث عن تعدد الزوجات، وعرفنا أن هذا الأمر شريعة باقية، وسنة ماضية؛ كما قال ابن عباس لـسعيد بن جبير رضي الله عنهما: تزوج، فإن خير هذه الأمة أكثرها نساءً، يعني: بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والأصل في مشروعية هذا الأمر قول ربنا: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3]، ثم السنة العملية الثابتة عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفنا لم عدد الزوجات فوق أربع، وأن هذه من خصوصياته، كما أن أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين كانوا معددين، ولا أعرف -والعلم عند الله تعالى- صحابياً كان له زوجة واحدة، بل الصحابي يكون عنده الزوجتان والثلاث والأربع، وهذا الأمر قد شرعه الله عز وجل لحكم، ومن هذه الحكم: مواجهة النقص الذي يطرأ على الزوجة الأولى، كأن تكون عاقراً، أو أن يكون بها عيب يمنع من المعاشرة الزوجية، ومن هذه الأحوال أيضاً: أن يتعلق قلب الرجل بامرأة أخرى، فشرع الإسلام هذا الطريق الطاهر للالتقاء بينهما.

ومن الحكم كذلك معالجة المشكلات الاجتماعية التي تتمثل في كثرة النساء بسبب الحروب، أو أحياناً يكون هناك أرملة أو مطلقة تحتاج إلى من يؤويها ويكفلها ويتزوجها، وهذا يحدث أمام أعيننا، فمثلاً: إنسان يموت أخوه وقد ترك أيتاماً فيتزوج هذا الأخ بامرأة أخيه من أجل أن يضم هؤلاء الأيتام إليه، أو واحدةً من ذوات رحمه يموت زوجها أو تطلق منه فيتزوج بها رأفةً بحالها، واقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه ما تزوج سودة بنت زمعة ، ولا أم حبيبة بنت أبي سفيان ، ولا هند بنت أبي أمية بن المغيرة أم سلمة رضي الله عنهن إلا بعد وفاة أزواجهن.

وعرفنا بأن تعدد الزوجات كما أنه يفرح الرجال فكذلك يفرح النساء، فرب نساء كثيرات يحتجن إلى الزواج، ولا هم لهن أن يكون هذا الإنسان عنده زوجة أو زوجتان أو ثلاث، المهم أن تجد إنساناً تأوي إليه، وتأنس به، وتحقق عاطفة الأمومة من خلاله، فنستطيع أن نقول: بأن هذا تشريع من رب حكيم خبير، يعلم ما يصلح عباده، فقد قال تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]، وقال عز وجل: أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمْ اللَّهُ [البقرة:140]، فالله جل جلاله هو خالق الذكر والأنثى، وهو أعلم بمصلحتهما، ولكن هذا التعدد له قيود:

أول هذه القيود: أن يأنس الإنسان من نفسه العدل، قال الله عز وجل: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:3]، والعدل المقصود هو العدل المادي في النفقة والمبيت، أما العدل في المحبة القلبية فقد قال الله عز وجل: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ [النساء:129].

ومن القيود: ألا يتجاوز الحد الأقصى وهو أربع زوجات؛ لقوله تعالى: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3].

ومن القيود: القدرة على الإنفاق على المرأة، فلو كان الإنسان عاجزاً عن النفقة فلا ينبغي له أن يعدد، وعرفنا بأن الواجب في النفقة العدل وليس التسوية، بل لكل زوجة ما يناسبها وما يكفيها، وكذلك المسكن ليست التسوية مطلوبة فيه، فليس بالضرورة أنك أسكنت هذه في بيت له خمس غرف أن تسكن الأخرى في بيت مثله، بل ربما تكفيها غرفة واحدة.

وكذلك لا بد من العدل في المبيت، فتعدل بين الزوجتين، سواء في ذلك الشابة منهن والعجوز، أو بين المريضة والصحيحة، والولود والعقيمة، وسواء في ذلك الشوهاء والجميلة، فلا بد أن تعدل بين الزوجات في المبيت، ولا تفضل إحداهن على الأخرى، ولو كان الإنسان مريضاً ويشق عليه التنقل بينهن فله أن يستأذنهن في الإقامة عند واحدة، فإن أذن فالحمد لله وإلا أقرع بينهن، فمن خرج سهمها بقي عندها، بدلاً من التنقل بما يستتبع المشقة، وشريعة الإسلام جاءت باليسر، قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ [البقرة:185].

وكذلك القسم ليس بالضرورة أن يكون يوماً وليلة لكل منهن، بل يمكن أن تكون عند هذه يومان وليلتان، وعند هذه يومان وليلتان، أو ثلاث وثلاث، أو أسبوع وأسبوع، أو شهر وشهر، بحسب الطاقة، وما هو أيسر لك، ولو أن الزوج أراد أن يدخل على الزوجة الأخرى في غير نوبتها من أجل أن يسلم فلا حرج في ذلك؛ (لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى العصر طاف على نسائه يسلم عليهن، ويدنو من غير مسيس إلى أن يصل إلى التي عندها النوبة).

ولو حصل ظلم من الرجل فبات عند واحدة -مثلاً- أسبوعاً، فلا يعوض الأخريات؛ لأن المعدوم شرعاً كالمعدوم حساً، والظلم لا يعالج بالظلم، فليس معنى ذلك أنه ظلم الأخريات أن يظلم تلك أيضاً، والمقصود من القسم المؤانسة والعشرة.

أما إذا أراد السفر فله أن يختار من شاء منهن، فله أن يختار المناسبة، فرب واحدة تصلح وأخرى لا تصلح، أما إذا أراد سفر قربة كحج أو عمرة فلا بد من الإقراع بينهن، فمثلاً: إذا كنت تريد سفراً إلى بيروت فخذ من شئت دون قرعة، ولكن إذا كنت تريد حجاً أو عمرة فلا بد من القرعة بينهن، والقرعة يمكن أن تكون بأي وسيلة، كأن تكتب أسماءهن في ورق، ثم تدخل الورق في وعاء وتخلطه، ثم تأتي ببريء كطفل صغير وتقول له: خذ لك ورقة، فتخرج معك من أخذت ورقها، فإذا خرجت عائشة فالحمد لله، وإذا خرجت حفصة فالحمد لله، وإذا خرجت جويرية فالحمد لله.

ويجوز لإحدى الزوجات أن تهب ليلتها لغيرها؛ لأن سودة رضي الله عنها وهبت ليلتها لـعائشة ، لما كبر سنها، فما أحبت أن تشق على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تعلم بأن عائشة أحب أزواجه إليه، ولذلك قالت له: ( يا رسول الله! إني أريد أن يبعثني الله في أزواجك يوم القيامة، وليلتي لـعائشة )، فوهبت ليلتها لـعائشة .

وهذا يدل على رجاحة عقلها، وبعد نظرها، وأنها رضي الله عنها تؤثر الآخرة على الأولى، وهمها أن تكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدار الباقية الخالدة الأبدية السرمدية، أما الدنيا فما هي إلا أيام معدودة، وأنفاس محدودة، وبعد ذلك المنقلب إلى الله.

ولو أن رجلاً تزوج بكراً فله أن يخصها بسبع ليالي، فالسنة أنه إذا تزوج بكراً أن يمكث عندها سبعاً ثم يقسم، وإذا تزوج ثيباً فيخصها بثلاث ثم يقسم، وهذه السنة المطردة من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ففي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: (السنة إذا تزوج البكر أقام عندها سبعاً، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثاً).

وفي صحيح مسلم : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج أم سلمة أقام عندها ثلاثاً، فلما أراد أن يخرج أمسكت بثوبه صلى الله عليه وسلم، ورجت منه البقاء عندها )، يعني: هنيئاً لها رضي الله عنها، بقيت مع النبي الأكرم والرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ثلاث ليال، فرأت من حسن خلقه، وكريم طبعه، وطيب ريحه، وإشراق نفسه، وسعة صدره، صلوات ربي وسلامه عليه، ما جعلها لا تطيق فراقه، ولذلك رجته أن يبقى عندها، فالنبي صلى الله عليه وسلم من حسن خلقه قال لها: ( ليس بك على أهلك هوان )، يعني: أنا لا أخرج من عندك لأنك هينة عندي، أو أنا زاهد فيك، ( ليس بك على أهلك هوان، وإن شئت سبعت لك، وسبعت للأخريات )، يعني: قال لها: الميزة التي ميزت بها في الثلاثة الأيام ستنتهي، فأنت الآن قد فزت بثلاث، وبعد ذلك سيقسم بينك وبين الأخريات، ولكن لو بقيت عندك سبعاً، فسأبقى عند الأخريات سبعاً سبعاً، وهذا من حسن خلقه عليه الصلاة والسلام لما أمسكت بثوبه ما قال لها: دع الجلابية، وما قال لها: دعينا أو ما عندنا شغلة غيرك؟ أو نحو ذلك من الكلام الجارح، وإنما قال لها: ( ليس بك على أهلك هوان، وإن شئت سبعت لك وسبعت للأخريات ).

ولا يجب القسم بين الزوجات والتسوية بينهن في الوطء؛ لأن ذلك متروك لتهيؤ الإنسان واستعداده، وهذا دليل على أن هذه الشريعة منزلة من رب العالمين، فلا تجد هذا في أي قانون في الدنيا، أي: بيان هذه التفاصيل لا تجدها في أي قانون في الدنيا، بهذه السعة، وبهذا الشمول.

النوع السادس من المحرمات حرمة مؤقتة: المبتوتة، المرأة التي طلقها زوجها ثلاثاً، فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره، نكاح رغبة لا نكاح تحليل.

نذكر الآن بقية المحرمات من النساء تحريماً مؤقتاً.

المرأة الملاعنة

النوع السابع من المحرمات حرمة مؤقتة: الملاعنة، فلا تجوز خطبة المرأة الملاعنة، ولا نكاحها ممن لاعنها فمثلاً: لو أن إنساناً اتهم امرأته بالزنا -وقانا الله السوء-، ونفى حملها منه، وذهب عند القاضي وأقسم بالله أربع مرات بأن هذه المرأة زنت، وأن هذا الحمل الذي في بطنها ليس منه، وفي المرة الخامسة قال: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، والمرأة حلفت بالله أربع مرات أنها ما زنت، وأن هذا الحمل من هذا الرجل، وأشارت إليه، وفي المرة الخامسة قالت: غضب الله عليها إن كان من الصادقين، فالرجل حلف والمرأة حلفت، فالقاضي هاهنا يحكم بأربعة أحكام:

الحكم الأول: أنه يفرق بينهما، فلا يجتمعان أبداً، فلا يأتي بعد شهر أو شهرين ويقول: والله أنا كنت ظالماً لها وأريد أن أرجعها.

الحكم الثاني: أنه يسقط الحد عنهما، فلا يجلد الرجل حد القذف، ولا يقام على المرأة حد الرجم.

الحكم الثالث: أنه يحرم قذف المرأة، وقذف ولدها، فلا يجوز أن نقول للمرأة: يا زانية؛ لأن الحقيقة لا يعلمها إلا الله، ولا يجوز أن نقول لولدها: يا ابن الزانية، أو يا ابن الحرام، فهذا حرام.

الحكم الرابع: أنه يجب لها المهر كله بما استحل من فرجها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ( يجب لها المهر كله، إن كان صادقاً فبما استحل من فرجها، وإن كان كاذباً فهو أبعد له منها )، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

النكاح في المرض المخوف

النوع الثامن من المحرمات حرمة مؤقتة: النكاح في المرض، فلا يجوز للرجل أن يتزوج وهو مريض مرض الموت المخوف الذي يغلب على الظن هلاكه به، مثل: الأمراض التي يحكم الأطباء -بحسب قانون الطب- بها بأن فلاناً هذا ما بقي له إلا قليل ويموت.

ومثله: المحكوم عليه بالإعدام، فمثلاً: واحد محكوم عليه بالإعدام، وقد ألبسوه الملابس الحمراء، وعزلوه في مكان خاص، وينتظر في أي لحظة أن يقال له: هلم إلينا من أجل أن يقتل.

وهذا الكلام ينطبق على الرجل وينطبق على المرأة، يعني: كما أن الرجل يصاب بمرض الموت المخوف، فكذلك المرأة، وكما أن الرجل يحكم عليه بالإعدام، فكذلك المرأة.

وهنا مسألة: لم تمنع الشريعة من هذا النكاح؟

الجواب: لأن الغالب أن القصد من ورائه الإضرار بالورثة، فمثلاً: لو أن عندي مالاً، وهذا المال سيرثه أولاد أخي أو سيرثه أولادي مثلاً، وأريد أن أصادر بعض حقهم؛ وكما قال الشاعر:

إن أنت لم تنفع فضر فإنما يراد الفتى كيما يضر وينفع

فالذي لا يقدر أن ينفع فالأحسن له أن يضر، فهذا الرجل تأكد من أنه ميت لا محالة، فيريد الإضرار بالورثة، أو العكس: المرأة عجوز قد بلغت من العمر سبعين سنة، وأصابها مرض الموت المخوف، وهي لم تتزوج بعد، أو تزوجت ومات زوجها من قبلها، وتعلم بأن مالها سيذهب إلى بعض بني الإخوة، أو بني العمومة، فتريد أن تضر بهم، فتأتي بزوج، ولو أتت بالزوج فإنه يحصل على النصف، يعني: لو تركت ملياراً، فإنه سيصادر خمسمائة مليون، ولو ماتت بعد العقد بربع ساعة، يعني: لو تزوجها بعد المغرب وماتت بعد العشاء فإنه يأخذ النصف له هنيئاً مريئاً.

فلما كان القصد في الغالب ولا نجزم بأن هذا هو القصد؛ لأن الشريعة تحكم بالغالب، وتحكم بالظواهر، أما القصد حقيقةً وجزماً فلا يعلمه إلا الله، ومثله ما يذكر في كتاب المواريث: لو أن رجلاً طلق امرأته الطلقة الثالثة وهو في مرض الموت، ثم مات، فإننا نورثها منه؛ لأن الغالب أنه قصد من هذا الطلاق حرمانها من الإرث؛ ولذلك نعامله بنقيض قصده؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا ضرر ولا ضرار )، وهذه من القواعد الفقهية المتفق عليها.

واسمعوا هذه القصة: في عهد عمر بن الخطاب طلق غيلان الثقفي نساءه وكان عنده عشر نسوة، والرسول صلى الله عليه وسلم قال له: ( اختر أربعاً )، لما كان في مرض موته طلق الأربع، وقسم ماله بين الأولاد، فبلغ ذلك عمر ، فقال له: إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع سمع بموتك بمعنى أن الشيطان يسترق السمع، كما قال الله عز وجل على لسان الجن: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ [الجن:9]، فالشيطان مرة يخطف شيئاً مما قدره الله عز وجل في اللوح المحفوظ، فتكلمت به الملائكة، فالملائكة يكلم بعضهم بعضاً أن فلاناً هذا اذهبوا فخذوا روحه، فالشيطان يسترق، فهنا عمر قال له: إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع سمع بموتك، فقذفه في نفسك، ولعلك لا تلبث إلا قليلاً، وايم الله! لتراجعن نساءك، ولترجعن مالك، أو لأورثهن منك، يعني: طلاقك هذا كأنه ما كان، يعني: لو مت وقد طلقتهن لأورثهن؛ لأن طلاقك هذا يظهر منه أنك تريد به حرمانهن من الميراث.

فنكاح المريض فاسد، ونعني بالمريض هنا: مرض الموت المخوف، أما من كان عنده نزلة برد ويريد أن يعقد فهذا له ذلك، ولا نمنعه، و مثلاً: رجل عنده حساسية فهذا نقول له: اعقد هنيئاً مريئاً، لكن المقصود بالمرض هو: مرض الموت المخوف، فهذا عقد فاسد، ويفسخ قبل الدخول وبعده، ولا تترتب عليه آثار سوى أن للزوجة الصداق المسمى إذا حصل الفسخ بعد الدخول، وإذا مات الزوج المريض قبل الفسخ فللزوجة أقل الثلاثة: إما الصداق المسمى لها، أو صداق مثلها من النساء، أو ثلث التركة؛ لأن الالتزام بالصداق في المرض تبرع، والمريض لا حق له في التبرع بأزيد من الثلث، فروعيت مصلحة الورثة في ذلك.

إذاً: لو أن إنساناً تزوج امرأةً في مرض الموت المخوف، فإن هذا النكاح يفسخ، فإذا حصل الفسخ قبل الدخول فما للمرأة شيء، وإذا حصل الفسخ بعد الدخول فلها الصداق المسمى، وإذا مات الزوج المريض قبل الفسخ فهذه الزوجة نعطيها واحداً من ثلاثة، وهو أقل الثلاثة: إما الصداق، وإما مهر مثلها من النساء، أو ثلث التركة، فنعتبر أن الزوج تبرع لها بالثلث، فمثلاً: لو أن رجلاً مات وترك ثلاثة ملايين، فننظر أيهما أقل: هل هو الصداق هو سمى لها صداقاً بمليون جنيه مثلاً، أو مهر مثيلاتها من النساء. فننظر للعائلة وللقبيلة كم المهر عندهم؟ وجدنا أن المهر مليوناً ونصف المليون، وثبتنا على المليون، ثم ننظر في ثلث التركة كم هو؟ مليون دولار، إذاً: نعطيها الصداق المسمى الذي هو مليون جنيه، ولا نعطيها مهر المثل، ولا نعطيها ثلث التركة، وعلى ذلك فقس.

الأمة الكتابية

النوع التاسع من المحرمات حرمة مؤقتة: الأمة الكتابية، والكتابية يجوز نكاحها بشرط أن تكون حرة عفيفة؛ لأن الله عز وجل قال: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [المائدة:5]، وكلمة الإحصان في القرآن تطلق ويراد بها الزواج، وتطلق ويراد بها الحرية، وتطلق ويراد بها العفة، فالآية التي أريد بها العفة قول الله عز وجل: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ [النور:4]، يعني: العفيفات، ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور:4]، ومن إطلاق الإحصان على الزواج قول الله عز وجل: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ [النساء:23]، إلى أن قال: وَالْمُحْصَنَاتُ [النساء:24]، يعني: المتزوجات أيضاً محرمات.

ويطلق الإحصان كذلك في اصطلاح القرآن ويراد به الحرية، وهذا في آيات كثيرة من القرآن.

المرأة المعتدة

النوع العاشر من المحرمات حرمة مؤقتة: المرأة المعتدة، فلا يجوز لك يا مسلم! أن تعقد على امرأة وهي في العدة، سواء كانت عدة طلاق، أو عدة وفاة؛ لأن الله عز وجل قال: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ [البقرة:235]، فمثلاً: لو مات رجل وترك زوجة، سواء دخل بها أو لم يدخل بها، المهم أنه مات، فلا يجوز لأحد أن يذهب ويقول لهذه الزوجة: أنا أريدك أو أنا أخطبك، فهذا حرام، ولا يجوز له أن يواعدها فيقول لها: إن شاء الله بعد الأربعة الأشهر هذه وعشرة أيام أنا سأتزوجك، فلا يجوز مواعدتها سراً، ولكن يجوز التعريض؛ مثل الرسول صلى الله عليه وسلم قال لـأم سلمة : ( عسى الله أن يبدلك خيراً من أبي سلمة )، يعني: بذلك نفسه عليه الصلاة والسلام، وهو خير العالمين، فالتعريض جائز.

والتعريض: هو الكلام المحتمل الذي قد يفهم منه طلب النكاح، وقد يفهم منه غيره، مثل: أن يقول الرجل أمام المرأة: إني أريد الزواج.

وخرج الدارقطني عن سكينة بنت حنظلة قالت: استأذن علي محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وهو المعروف بـالباقر العالم الفاضل، ولم تنقض عدتي من مهلك زوجي، فقال لها: قد عرفت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرابتي من علي، وموضعي في العرب.

وكانت سكينة بنت حنظلة ذكية، فلم تقل له: ماذا تريد بهذا الكلام؟ ولم تقل: وما شأني بهذا الكلام؛ بل قالت له: غفر الله لك يا أبا جعفر، إنك رجل يؤخذ عنك، يعني: يؤخذ عنك العلم، تخطبني في عدتي، فقال لها: إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرابتي من علي، فالرجل ما زاد على أن قال: قد عرفت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرابتي من علي ، وموضعي من العرب، لم آت بسيرة زواج، ولا سيرة نكاح، وسكت على ذلك رضي الله عنه، ورحمه الله.

ويجوز الإهداء للمعتدة، فالمرأة التي تكون في العدة ممكن أن تهدي إليها هدية، ولكن لا يجوز لك أن تنفق عليها، يعني: ممكن أن تعطيها كيساً من السكر -مثلاً-، وممكن أن تذهب إليها بكيس من الخضر ومن الفواكه لا بأس، لكن لا يجوز أن تعطيها ذهباً؛ لأن هذا يقوم مقام التصريح؛ ولأن الذهب لا يهادى بين رجل وامرأة إلا وبينهما شيء، فلا يجوز أن تهدي إليها ذهباً ولا ساعة، فلو أنك أهديت إليها كيس سكر، أو أعطيت لها كيس خضار أو كذا، ثم تزوجت بعد ذلك رجلاً غيرك، فلا رجوع لك عليها بما أهديت إليها، فلا تأت وتقول لها: أرجعي لي كيس السكر؛ لأنه رجوع عن الهبة وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( الراجع في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه )، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهنا مسألة: لو أن إنساناً عقد على امرأة وهي في العدة، يعني: امرأة معتدة من طلاق، أو معتدة من وفاة، وواحد استعجل فعقد عليها، وربما يكون جاهلاً بالشرع، أو جاهلاً بالحالة، فلا يعرف أنها معتدة، وإما أن يكون عاصياً، يعني: هو يعرف بأنها معتدة ولكن يتعمد أن يعصي الله عز وجل، فالحكم في هذه الحالة أن العقد باطل مفسوخ، ولا توارث بينهما إن مات أحدهما، ويجب التفريق بينهما، وقد رأى سيدنا عمر: أن الفرقة بينهما مؤبدة من باب العقوبة والتغليظ، فمن تعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه، ويحرم منها أبداً، ولا يجوز له أن يأتي بعد هذا ويقول: والله أنا أريد أتقدم كخاطب من الخطاب.

في الموطأ روى الإمام مالك : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أيما امرأة نكحت في عدتها، فإن كان زوجها الذي تزوجها لم يدخل بها فرق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول، ثم كان الآخر خاطباً من الخطاب، وإن كان دخل بها فرق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من الأول، ثم اعتدت من الآخر، ثم لا يجتمعان أبداً. حتى لو كان جاهلاً؛ لأن عمر رضي الله عنه يرى أن مثل هذا لا يعذر فيه بالجهل، ولكن إن كنتم تريدون الدقة فعامة الصحابة والفقهاء من بعدهم على خلاف قول عمر ، وقالوا: سواء دخل بها أو لم يدخل بها فله أن يتقدم لها كخاطب من الخطاب؛ لأنه سبق أن الحرام لا يحرم الحلال، يعني: هو لما خطبها في العدة فعل حراماً، ولما عقد بها فعل حراماً، ولما دخل بها فعل حراماً، وهذا الحرام قد أوقفناه وذلك بفسخ هذا العقد، والحكم ببطلانه، وممكن أيضاً نعزرهما أي: نعاقبهما بالسجن، أو بالغرامة مثلاً، ثم بعد ذلك لو أراد أن يتقدم كخاطب من الخطاب فله أن يتقدم، ولا حرج في ذلك إن شاء الله؛ لعموم قول الله عز وجل: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء:24]، يعني: الله عز وجل ذكر المحرمات، ولم يذكر من بين المحرمات امرأة معتدة عقدت عليها فهي تحرم عليك أبداً.

المرأة المستبرأة

النوع الحادي عشر من المحرمات حرمة مؤقتة: المستبرأة، يعني: امرأة -أجارنا الله وإياكم، ونسأل الله أن يستر عوراتنا، وأن يحفظنا في أعراضنا- زني بها، أو اغتصبت، فهذه لا يجوز لك أن تتزوج بها إلا بعد أن تستبرئ رحمها، وتعرف أنه لم يعلق بها حمل، فهذا هو الاستبراء: أن نعرف براءة الرحم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في غزوة من الغزوات، وأخذت النساء سبايا، وواحد من الناس لعله كان من الأعراب، أو كان من المنافقين -الله أعلم- وطئ هذه الأمة التي وقعت في سهمه قبل أن يستبرئها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لقد هممت أن ألعنه لعنةً تدخل معه قبره ).

إذاً ملك اليمين حلال؛ والله عز وجل قال: إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [المؤمنون:6]، فإذا اشتركت في معركة، وأسر فيها نساء من الكافرات، ثم بعد ذلك وقع في سهمك بعضهن، فلا يجوز لك أن تطأ هذه الأمة إلا بعد أن تستبرئها بحيضة؛ لأن الغالب أن الحامل لا تحيض، فإذا حاضت علمت براءة رحمها، فلو أنك وطئتها قبل الاستبراء فقد عصيت الله ورسوله؛ لأن ( رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يسقي الرجل بمائه زرع غيره ).

وهناك سؤال يطرح كثيراً يقال فيه: بأن إنساناً زنى بامرأة، ثم بعد ذلك يريد أن يتزوج بها، فهل يصح له ذلك أو لا يصح؟

نقول: لو أن هذه المرأة استبرئت بحيضة، وعلم براءة رحمها، وتابت إلى الله عز وجل مما كان، وتاب هو مما كان، فلا خلاف بين أهل العلم في أن هذا الزواج زواج صحيح.

إذاً: لو أن رجلاً زنى بامرأة، ثم أراد أن يتزوج بها، نقول: هذا الزواج صحيح باتفاق أهل العلم بشروط:

الشرط الأول: استبراؤها، وهو: أن يعلم بأنها لم تحمل من هذا الزنا.

الشرط الثاني: أن تتوب إلى الله عز وجل.

والشرط الثالث: أن يتوب ذلك الرجل الذي يريد الزواج بها؛ لأن الله عز وجل قال: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3]؛ ولذلك الإمام أحمد يرى تحريم تزويج الزاني، ويرى تحريم الزواج بالزانية.

ولو أن المرأة حملت كما يحصل كثيراً -ونسأل الله العافية- زنى فلان بفلانة وحملت، ومرة تكون حامل بتوأم، ثم بعد ذلك هذا الإنسان يريد الزواج بها، عند المالكية والحنابلة الزواج هذا باطل، والعقد على الحامل باطل.

أما عند الحنفية والشافعية -رحمة الله عليهم- فيرون صحة هذا العقد، ولكلا المذهبين دليله، والآن الفتوى جرت على ما قال به الشافعية والحنفية من باب الستر على الأعراض أولاً، ومن باب تشوف الشريعة إلى إثبات نسب هذا الجنين ثانياً، بدلاً من أن يخرج إلى الدنيا وما يعرف له أب، وقد يعمد أهلها إلى قتلها، أو قد تعمد هي إلى قتله، فتذهب إلى طبيب لا يتقي الله أو طبيبة لا تتقي الله فتجهضه، وبعض الأطباء ممن طمس الله بصائرهم يتفق معها على عملية الإجهاض -مثلاً- بمائتي ألف جنيه، ثم بعد ذلك يمسك في بطنها ويقول لها: لا. هذا كبير، لازم أربعمائة ألف جنيه، مثل حكاية قفة الجرجير أو صفيحة الطماطم، فإذا كان الحمل صغيراً بمائتي ألف، وإذا كان الحمل كبيراً بأربعمائة ألف، فنسأل الله أن يعصمنا وأولادنا وذرارينا وإخواننا وجميع المسلمين.

المرأة المتلبسة بإحرام

النوع الثاني عشر من المحرمات حرمة مؤقتة: المحرمة بحج أو بعمرة، فلا يجوز العقد على المحرمة، ولا يجوز للمحرم أن يعقد لنفسه ولا لغيره؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا ينكح المحرم ولا ينكح ).

فهذه المحرمات حرمة مؤقتة.

نتوقف عند هذا الحد، وفي الدرس الآتي نبدأ من الولي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا نكاح إلا بولي )، فمن هو الولي؟ وما هي شروطه؟ ومتى يجوز للمرأة أن تتزوج بغير إذن وليها؟ وما حكم المرأة التي لا ولي لها؟

ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً، وقنا عذاب النار، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى جميع المرسلين، والحمد لله رب العالمين.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
تعدد الزوجات 2152 استماع
آداب النكاح 1951 استماع
صيغة عقد النكاح 1764 استماع
الحقوق الزوجية [1] 1705 استماع
المحرمات من النساء [1] 1687 استماع
الصداق 1368 استماع
شرط الولي في الزواج 1344 استماع
الإشهاد 1143 استماع
أحكام الخطبة [2] 1129 استماع
المحرمات من النساء [2] 1075 استماع