شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [10]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة السلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً وأنت جعل الحزن إذا شئت سهلاً، أما بعد:

فقد تقدم معنا في الموعظة السابقة ما يتعلق بتشكل الجن وذكر أن الغيلان إذا تغولت فإنها تطرد بالأذان، وقلنا: يتعلق بهذا أمران، ذكر الأول منهما، والآن نذكر الأمر الثاني وهو: ورد في بعض الأحاديث الصحيحة أن الحيات مسخ الجن، فهل الحيات التي نشهدها هي جن في الأصل مسخت ثم تناسلت؟ سأذكر الحديث ثم أبين المراد منه إن شاء الله.

ثبت في معجم الطبراني الكبير والأوسط، والحديث رواه البزار في مسنده، ورجال الإسناد رجال الصحيح كما قال الهيثمي في المجمع في الجزء الرابع، صفحة ست وأربعين، وأثر البزار في كشف الأستار في الجزء الثاني، صفحة اثنتين وسبعين، والحديث رواه ابن أبي حاتم في كتاب العلل في الجزء الثاني، صفحة تسعين ومائتين، وهو في الأحاديث الجياد المختارة للإمام المقدسي ، وهو في صحيح ابن حبان ، كما في موارد الظمآن صفحة خمس وستين ومائتين، ورواه أبو الشيخ في كتابه العظمة كما في جمع الجوامع للسيوطي في الجزء الأول، صفحة تسع وأربعمائة، والحديث صحيح من رواية عبد الله بن عباس عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحيات مسخ الجن، كما مسخت القردة والخنازير من بني إسرائيل)، ما معنى هذا الأثر؟ هل هذه الحيات الموجودة من الجن مسخت إلى حيات ثم تناسلت بعد ذلك؟

الذي يظهر والعلم عند رب الأرض والسموات: أن المسخ حصل للجن كما حصل للإنس، ففي الإنس حصل مسخ من صورة الآدميين إلى صورة القردة والخنازير، لكن كل من مسخ من الإنس انقرض، فلا يمكن للتي طرأ عليها المسخ أن تعيش، ولا أن تعقب ولا تنسل، وهكذا حصل في مسخ الجن، فمسخ الله فريقاً من الجن إلى حيات، فحصل لتلك الحيات ما حصل للقردة والخنازير الذين مسخوا من بني آدم، وكما أن القردة والخنازير من بني آدم انقرضوا، فالحيات التي كانت أصلاً من الجن انقرضت أيضاً، فالنبي عليه الصلاة والسلام عندما يقول: (الحيات مسخ الجن)، كأنه يريد أن يقول: مسخ فريق من الجن إلى حيات، كما مسخ فريق من الإنس إلى قردة وخنازير، وكما أن صورة المسخ في الجن هي الحيات، فصورة المسخ في الآدميين هي القردة والخنازير، والذي ينكر ذلك يرد كلام الله الجليل، فهذا وارد في آيات القرآن، وهو وارد بعد ذلك في الآثار الصحيحة الحسان الثابتة عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وعن السلف الكرام كما سأذكر.

الأدلة على وقوع المسخ

أما دلالة القرآن على ذلك فيقول الله جل وعلا في سورة البقرة: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:65-66].

وهكذا قول رب العالمين في سورة الأعراف: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [الأعراف:163-166].

وهكذا قول رب العالمين في سورة المائدة: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:60].

إذاً: فهذه الآيات المحكمة تدل على أن العتاة من بني إسرائيل مسخهم ربنا الجليل إلى قردة وخنازير.

إجماع السلف على أن المقصود بالمسخ مسخ الأبدان

وهذا المسخ وقع على الأبدان حقيقةً، وعلى هذا جميع السلف الكرام، لم يخالف في هذا إلا مجاهد بن جبر رحمه الله، وهذا من باب الزلـل والخطأ الذي يرد على من قاله ويستغفر لصاحبه، قال كما في تفسير الطبري ، وتفسير ابن المنذر ، وتفسير ابن أبي حاتم ، والإسناد إليه ثابت بإسناد جيد كما في تفسير ابن كثير في الجزء الأول، صفحة خمس ومائة عند قوله تعالى من سورة البقرة: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [البقرة:65]، يقول مجاهد : مسخت قلوبهم ولم تمسخ أبدانهم، وهذا مثل ضربه الله لهم كقوله: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة:5]، أي: كما أن هؤلاء كمثل الحمار في البلادة، فأولئك كمثل القردة والخنازير في الخبث والنجاسة، مسخت قلوبهم، ولم تمسخ أبدانهم.

والذين يولعون بتتبع شواذ العلماء في هذا الوقت كـرشيد رضا وشيخه محمد عبده ، فرحا بهذه الرواية غاية الفرح، ففي تفسير المنار في الجزء الأول، صفحة أربع وأربعين وثلاثمائة يقرران أن المسخ لم يقع على الأبدان وأن هذا يستحيل، كما أنه ليس في مسخ الأبدان عبرة، إنما هذا مسخ للقلوب، فيقول رشيد رضا وشيخه: أي: صارت أخلاق بني إسرائيل كأخلاق القردة والخنازير فقط، والمسخ للأبدان لم يقع، وهذا باطل قطعاً وجزماً، بل مسخهم الله قردةً وخنازير.

آثار السلف في أن المسخ يشمل الأبدان

وقد ثبت في تفسير الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة رحمه الله، قالا: مسخ الله الشباب إلى قردة، وجعل الله الشيوخ خنازير. أي: أن بني إسرائيل شيوخهم وشبانهم الذين فعلوا ما فعلوا، مسخ الله الشيوخ خنازير، والشباب قردة، وهذا منقول عن هذين العبدين الصالحين صحابي وتابعي.

إذاً: أثر مجاهد الذي تقدم معنا كما قلت: هو من باب زلل العلماء، وينبغي لطالب العلم إذا نقل له قول عن سلفنا المتقدمين، وهذا القول باطل في الدين، يجب عليه أن يرد هذا القول، وأن يلتمس عذراً للقائل، هذا إذا كان القائل من المهتدين، وأما إذا كان من المخبطين كـمحمد عبده وغيره، فهذا نقول له: ليست هذه عثرة حتى نقول: عثرة رجل يستغفر له؛ لأن السبيل الذي يمشي عليه كله معوج، فهذا اعوجاج في اعوجاج، أما السلف فالأصل أنهم على هدى، فإن زل أحدهم في مسألة، فيرد الزلل ويستغفر للقائل، وكما قال علمائنا: من تتبع زلل العلماء ضل، ومن أخذ برخصة كل عالم اجتمع فيه الشر كله، وكل واحد يخطي ويصيب، والإنسان إذا كان يسير على الخطأ طول حياته فهذا هو الضلال.

نحن عندما نرد قول مجاهد لا نرده بآرائنا، بل لأن أئمتنا تتابعوا بلا استثناء على رد قول مجاهد ، وأخبرونا أن هذا من باب زلـله وخطئه يغفر الله لنا وله، أما أن يأتي من هو في الأصل يخبط في دين الله ويهوس، ويدخل عقله في كل قضية، فهذا نرد خطأه ونشنع عليه، فلا بد من أن نفرق بين الصنفين.

رد كلام مجاهد في نفيه مسخ الأبدان

فكلام مجاهد كما قلت مردود قطعاً وجزماً لأمور كثيرة أجملها ضمن خمسة أمور:

الأمر الأول: الآثار الواردة عن نبينا المختار عليه وعلى آله وصحبه صلوات الله وسلامه، وعن صحابته الأبرار تصرح بوقوع المسخ، وأن الله بعد أن مسخ من مسخهم من بني إسرائيل استأصلهم وقطع دابرهم، وما تركهم يتناسلون ولا يعيشون، وإذا ثبت الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام فلا كلام لمتكلم.

ثبت في مسند الإمام أحمد ، وصحيح مسلم ، ومسند الحميدي ، والحديث رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار، من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! القردة والخنازير هي مما مسخ؟)، والمعنى: هل هذه القردة والخنازير التي نراها مما مسخ وأخبرنا الله عنها بقوله: وجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ [المائدة:60]؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لم يهلك قوماً أو يعذب قوماً فيجعل لهم نسلاً، وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك).

أي: إن الله إذا أهلكهم لا يكون لهم نسل، بل يستأصلون ويبادون، وكما سيأتينا أنهم عاشوا ثلاثة أيام بعد مسخهم، ثم انقرضوا وماتوا عن بكرة أبيهم.

فهذا نص صحيح صريح من نبينا عليه الصلاة والسلام بأن المسخ وقع في بني إسرائيل، لكن هذه القردة والخنازير ليست من نسل من مسخوا من بني إسرائيل، بل كانت القردة والخنازير قبل ذلك.

وهذا الأثر الثابت روي أيضاً عن أمنا أم سلمة رضي الله عنها في مسند أبي يعلى ، ومعجم الطبراني الكبير، كما في مجمع الزوائد في الجزء الثامن، صفحة اثنتي عشرة، والإسناد جميع رجاله ثقات أثبات، رجال الصحيح، وليس فيهم من حوله كلام إلا: ليث بن أبي سليم الذي تقدم معنا ذكره والإشارة إلى حاله مراراً، وهو من رجال مسلم ، والسنن الأربعة، وروى له البخاري تعليقاً، وقلت: إنه طرأ عليه الاختلاط فترك، لكن معنى الحديث ثابت في رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، ورواية أبي يعلى في المطالب العالية في الجزء الثالث، صفحة أربع وثلاثين وثلاثمائة، ورواه الطبراني في معجمه الأوسط من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

إذاً: عندنا ثلاث روايات للحديث؛ رواية عبد الله بن مسعود ، وأمنا أم سلمة ، وابن عمر رضي الله عنهم أجمعين.

أما رواية ابن عمر ففيها: مسلمة بن عُلي بضم العين، وهو ضعيف كما قال الهيثمي في المجمع، في الجزء الثامن، صفحة اثنتي عشرة.

إذاً: رواية أمنا أم سلمة ، وعبد الله بن عمر ، ضعيفتان وتشهد لهاتين الروايتين رواية عبد الله بن مسعود وهي صحيحة في المسند، وصحيح مسلم وغير ذلك.

الأمر الثاني: ظواهر الآيات تدل على هذا الأمر، كقوله الله سبحانه: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [الأعراف:166]؛ لأن مسخ القلوب ثابت لهم قبل أن يقول الله لهم: كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [الأعراف:166]؛ ولأن كل من انحرف عن الشرع المبين فقد مسخ قلبه، فمسخ القلب، ليس خاصاً بهذه الثلة الشرذمة الضالة، بل مسخ القلب حاصل لكل من يعصي الله، فيمسخ قلبه؛ لأنه انحرف عن شرع الله، إنما أراد بالمسخ هنا ما يطرأ على الإنسان فيغير صورته إلى صورة هذا الحيوان المستقذر الخبيث ألا وهو القرد أو الخنزير، وظاهر القرآن يدل على هذا، وترك الظاهر بلا دليل من علامة الضلال، فعلامة الضلال في الإنسان أن يترك الظواهر بلا دليل، وظاهر النص يجب أن تأخذ به إلا إذا كان عندك دليل يوجب عليك ترك هذا الظاهر، وهنا لا يوجد مبرر لترك الظاهر، بل إن هذا الذي أخبرنا الله عنه وقع في ثلاث آيات من القرآن كما تقدم فلا مبرر لتركه.

الأمر الثالث: هذا القول هو قول السلف قاطبةً من صحابة وتابعين وعلى ذلك أئمة المسلمين، وما نازع في هذا إلا مجاهد ، فهذا زلل منه، وهو وإن كان من الأئمة إلا أنه يرد عليه، ويستغفر له ولا يجوز أن نتعلق بزلل عالم، وأن نترك النصوص المحكمة، ثم نترك الأمة بأسرها من أجل قول مجاهد ، كما أنه لا يجوز أن نشنع على مجاهد ولا أن نعرض به.

الأمر الرابع: في مسخ أبدانهم إلى صور القردة والخنازير موعظة بليغة، خلافاً لما قاله رشيد رضا وشيخه: إنه ليس في ذلك موعظة بليغة، وأي موعظة في مسخ أبدان هؤلاء إلى قردة وخنازير؟ ونحن نقول: أي موعظة أبلغ من مسخ صورة الآدمي إلى قرد وخنزير؟ بل الموعظة حاصلة؛ لأن هذا فيه زجر وتهديد، فكأن الله يقول: اعلموا أنكم لا تعجزونني، فلقد عصاني من قبلكم فحولته إلى قرد وخنزير، فخافوا المعصية وابتعدوا عنها، وإلا سأفعل بكم كما فعلت بهم، والله على كل شيء قدير. ففي ذلك موعظة بليغة وتحذير، فالعاصي يحذر من معصية الله ويعلم أنه إذا عصى الله فسيعامل كما عوملت تلك الأمة، مسخ العاصي منهم إلى قرد وخنزير، فنحن لسنا بأكرم على الله منهم إذا عصيناه سبحانه وتعالى.

الأمر الخامس وهو آخر الأمور: وهو قاعدة كنت ذكرتها مراراً ولا بد من التنبه لها في مثل هذه المواطن، نحن نقول: مسخ أبدانهم إلى قردة وخنازير، وتحويل أشكالهم إلى قردة وخنازير، أمر ممكن ورد به الشرع ويجب الإيمان به، ولا يجوز رده ولا جحده، وتحويل بدن الآدمي إلى قرد أو خنزير في دائرة الإمكان، والله على كل شيء قدير، وورد الشرع به فيجب عليك أن تؤمن به ولا يجوز لك أن تكابر ولا أن تؤول، وهذا المسخ الذي وقع في الأمم السابقة تواترت الأحاديث به، كما قال ابن القيم وساق ذلك عن نبينا عليه الصلاة والسلام وبين أنه سيقع في هذه الأمة، كما وقع في الأمم السابقة، ونحن لا ندري متى سنستيقظ ليقال: خسف في بيت فلان، ورجم بيت فلان، ومسخ بيت فلان، ثم نراهم بأعيننا فهذا غيب لا يعلمه إلا الله، لكن سيقع هذا في هذه الأمة، ونجزم بذلك بلا تردد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا بذلك، وأخبر أنه سيكون في هذه الأمة من يمسخ قردة وخنازير، كما أنه سيحصل فيها خسف، وسيحصل فيها قذف، كما حصل في الأمم السابقة.

وقوع المسخ في هذه الأمة

أما المسخ -كما قلت- فالأحاديث به متواترة كما نص على ذلك ابن القيم في إغاثة اللهفان.

من ذلك الحديث الثابت في صحيح البخاري ، والسنن الكبرى للبيهقي ، ورواه أبو داود مختصراً من رواية أبي عامر أو أبي مالك الأشعري ، عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر)، جمع حر وهي الفروج الزنا نسأل الله العافية، (يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)، والمعازف، هي: آلات الطرب والغناء، وهو الغناء بلا استثناء، ومن آلات اللهو: العود الموسيقى والطربكة والطبل وغيرها من البلاء الذي ينتشر في الأمة في هذه الأيام، ولعله لا يوجد إذاعة من إذاعات العالم تخلو من هذه المعازف، وليتهم يفعلونها ويقولون: نحن عصاة، لكانت المسألة أخف؛ لأنهم يعترفون بمعصيتهم وأمرهم إلى الله، وإنما تفعل الآن على أنها شيء طبيعي، بل وصل الانحطاط في بعض البلاد إلى أنهم بين المقاطع التي يسمونها دينية وإذاعات القرآن يخرجون الفواصل بينها بالموسيقى.

قال: (يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم لهم -وهو الجبل- تروح عليهم بسارحة -والسارحة هي: الغنم الماشية تأتي إليهم وتروح إليهم في المساء ويحضر لهم ما يريدون من هذه الأنعام من اللبن لبطرهم وأشرهم وهم بجنب العلم- فيأتيهم -يعني: الفقير لحاجة ويطلب منهم مساعدةً ومعونةً- فيقولون: ارجع غداً)، وقولهم هذا: من باب المماطلة، والمعصية لله، وعدم شفقتهم على عباد الله، (فيقولون: ارجع غداً، فيبيتهم الله ويضع العلم) أي: يدك الجبل ويساويه بالأرض (ويمسخ آخرين قردةً وخنازير إلى يوم القيامة).

وقوله: (فيبيتهم الله)، أي: يرسل عليهم النوم، ويدخل عليهم الليل، وقوله: (ويضع العلم)، أي: الذي نزلوا بجواره يستظلون بظله، ويخيمون عنده، يدكه بالأرض، وإذا عاقب الله قوماً نزل العقاب على ذلك المكان، وهذا الجبل يتأثر بالعقاب الذي يقع على تلك الأمة وعلى أولئك الناس. والحديث كما قلت في صحيح البخاري وغيره، فلماذا نستغرب وقوع المسخ في الأمم السابقة؟

التناسل في الأمم الممسوخة وأقوال العلماء في ذلك

مما ينبغي أن يعلم أن المسخ إذا وقع لا يمكن أن تطول بصاحبه الحياة، ولا أن يعيش، ولا أن يعقب، ولا أن ينسل، بل يستأصل ويباد ويفنى، والمسخ سيقع في هذه الأمة قطعاً وجزماً، وأول من يقع عليهم هم: من يستحلون الغناء ومزامير الشيطان، كما سيقع فيمن يستحلون الخمر ويسمونها بغير اسمها، كما سيقع في علماء السوء الذين يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً.

قال ابن القيم : ومن لم يمسخ من هؤلاء في حياته فيمسخ في قبره. نسأل الله حسن الخاتمة.

إذاً المسخ ثابت، ولذلك لا داعي للتأويل، وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (الحيات مسخ الجن)، كقولنا: القردة والخنازير مسخ الإنس، أو كقوله عليه الصلاة والسلام: (كما مسخت القردة والخنازير من بني إسرائيل)، أي: مسخ من مسخ من بني آدم إلى قردة وخنازير ثم استؤصلوا، ومسخ من مسخ من الجن إلى حيات ثم استؤصلوا، والحيات هذه ليست من مسخ الجن، كما أن القردة والخنازير هذه ليست من مسخ الإنس، والعلم عند الله جل وعلا.

هذا هو المعتمد، وهناك خلاف في هذه القضية من بعض علماء الإسلام، كـابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث، صفحة ثلاث وسبعين ومائة، وبعده الزجاج في معاني القرآن في الجزء الثاني، صفحة سبع وثلاثين وأربعمائة، حيث لم يجزما في هذه المسألة بقول، بل أوردا احتمالاً حاصله: أن القردة والخنازير يمكن أن تكون من نسل من مسخ من بني إسرائيل، ولا قيمة لهذا الاختلاف عند أئمتنا الكرام.

قال ابن قتيبة : أظن أن القردة والخنازير هي المسوخ بأعيانها توالدت. أي: أن من مسخه الله من بني إسرائيل إلى قردة وخنازير، ثم توالدت هذه القردة والخنازير، وتبعه على هذا الزجاج ، وهذا الظن مردود قطعاً وجزماً، بقول نبينا عليه الصلاة والسلام: (إن الله لم يهلك أمة، أو لم يعذب قوماً، فيجعل لهم نسلاً، وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك)، وهذا ظن من ابن قتيبة والزجاج ، وأما أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن في الجزء الثاني، صفحة تسع وتسعين وسبعمائة عند آية الأعراف التي تقدمت معنا في قصة أصحاب القرية فيقول: الصحيح عندي أن الممسوخ ينسل، يعني: أن من مسخ تستمر حياته ويعقب ويأتي منه نسل وذرية، وعليه فإن هذه القردة والخنازير من نسل من مسخ من بني إسرائيل، فكأن أبا بكر بن العربي يجزم بهذا ويصححه، وهو وما قبله مردودان بما تقدم، في تفسير الطبري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن الله مسخهم ولم يحيوا إلا ثلاثة أيام ثم أبادهم، فهم عاشوا ثلاثة أيام فقط وما بقي منهم أحد.

وفي تفسير ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: ما كان للمسخ نسل، يعني: لا يمكن أن يكون له نسل، فكل من مسخ يستأصل ويفنى.

وثبت في تفسير ابن أبي حاتم ، وابن المنذر ، عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: انقطع نسلهم. أي: انقطع ذلك النسل، وهذا ثابت عن نبينا صلوات الله وسلامه عليه.

وخلاصة الكلام: أن الجن يتشكلون بكيفية لا يعلمها إلا الله، ونحن نفوض هذا إلى الحي القيوم، وإذا تشكلوا لإنسان وظهروا بصورة مخيفة مفزعة فليلجأ إلى الأذان، وليستعصم بذي الجلال والإكرام، وأن ما ورد من أن الحيات مسخ الجن، فهذا كما ورد من أن القردة والخنازير مسخ بني آدم، أي: أن من الجن من مسخوا إلى هذه الصورة، ومن الإنس من مسخوا إلى هذه الصورة.

أما دلالة القرآن على ذلك فيقول الله جل وعلا في سورة البقرة: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:65-66].

وهكذا قول رب العالمين في سورة الأعراف: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [الأعراف:163-166].

وهكذا قول رب العالمين في سورة المائدة: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:60].

إذاً: فهذه الآيات المحكمة تدل على أن العتاة من بني إسرائيل مسخهم ربنا الجليل إلى قردة وخنازير.


استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [4] 4045 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [6] 3979 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [9] 3906 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [46] 3793 استماع
شرح الترمذي - مقدمات [8] 3787 استماع
شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [2] 3771 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [18] 3570 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [24] 3486 استماع
شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [10] 3465 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [6] 3416 استماع