شرح سنن أبي داود [119]


الحلقة مفرغة

شرح حديث أبي هريرة في التصفيق في الصلاة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب التصفيق في الصلاة.

حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا سفيان عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء) ].

أورد أبو داود هذه الترجمة وهي: التصفيق في الصلاة.

أي أن هذا الحكم الذي هو التصفيق في الصلاة إنما هو سائغ في حق النساء وليس في حق الرجال، فإذا حصل للإمام شيء يحتاج إلى أن ينبه عليه؛ فإنه يسبح الرجل وتصفق المرأة، فالتسبيح للرجال والتصفيق للنساء، ولا يكون العكس، فالرجال لا يصفقون والنساء لا تسبح في الصلاة عند تنبيه الإمام على أمر قد حصل منه، فشأن التصفيق أن يكون للنساء لا للرجال.

والتصفيق هو أن تضرب المرأة ببطن كفها أو بإصبعين من كفها اليمنى على ظهر الأخرى، ومعناه أنه لا يكون التصفيق باليدين متقابلتين؛ لأن تصفيق بطن اليد على اليد يكون فيه زيادة صوت وزيادة إزعاج، فإنما يكون بتصفيق خفيف، بحيث يكون بطن واحدة على ظهر الأخرى أو العكس، حتى يكون أخف فيحصل به المقصود دون أن يكون هناك صوت مرتفع للتصفيق، كما يحصل فيما إذا كانت بطن اليد اليمنى على بطن اليد اليسرى.

ذكر بعض الأحكام التي تختلف فيها النساء عن الرجال

جاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في التفريق بين الرجال والنساء في التصفيق والتسبيح، والأصل أن الأحكام يتساوى فيها الرجال والنساء، ولا يختلف الرجال والنساء في الأحكام إلا إذا حاء نص يدل على التفريق كهذا الحديث الذي معنا، وإلا فإن الأصل أنه لا فرق بين الرجال والنساء في الأحكام.

والأمثلة كثيرة على هذا، منها أمور خمسة جاء النص على أن النساء على النصف من الرجال فيها: فهن في الميراث على النصف، لقوله تعالى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11].

وكذلك الشهادة، لقوله عز وجل: فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ [البقرة:282].

وكذلك الدية، فدية المرأة على النصف من دية الرجل.

وكذلك العتق، لأن الرجل إذا أعتق عبداً كان فكاكه من النار، فإذا أعتق جاريتين كانتا فكاكه من النار.

والخامسة العقيقة، فإن الغلام يعق عنه بشاتين والجارية يعق عنها بشاة واحدة، هذه من الأمور التي جاءت الشريعة فيها التفريق بين النساء والرجال، وجعلت المرأة على النصف من الرجل فيها.

وأما الأحكام الأخرى التي يختلف فيها الرجال عن النساء فأمثلتها كثيرة، ومنها هذا المثال الذي معنا، وهو التسبيح والتصفيق في الصلاة، فإن المرأة تصفق والرجل يسبح، ومن ذلك الغسل من بول الجارية والرش من بول الغلام، ومن ذلك كون الإمام إذا صلى على جنازة المرأة فإنه يقف عند وسطها، وعند رأس الرجل، يعني: هناك مواضع عديدة جاءت السنة فيها بالتفريق بين الرجال والنساء في الأحكام، وعلى هذا فإن الأصل كما قلت هو التساوي بين الرجال والنساء في الأحكام، إلا إذا وجدت نصوص تفرق، فإنه يصار إلى ذلك التفريق.

تراجم رجال إسناد حديث أبي هريرة في التصفيق في الصلاة

قوله: [ حدثنا قتيبة بن سعيد ].

هو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا سفيان ].

هو سفيان بن عيينة المكي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، إذا جاء شخص غير منسوب بأن ذكر اسمه ولم يذكر نسبه يقال له: مهمل، وإذا جاء قتيبة يروي عن سفيان ، فالمراد به ابن عيينة ، وإذا جاء سفيان يروي عن الزهري ، فالمراد به ابن عيينة ، وهنا يروي سفيان عن الزهري ، إذاً المراد به سفيان بن عيينة المكي ، وليس سفيان الثوري الذي مر ذكره في الأحاديث السابقة، وابن عيينة متأخر عن الثوري في الوفاة، وإن كان متقدماً، لأنه يروي عن الزهري والزهري من التابعين، وكانت وفاته سنة مائة وأربع وعشرين أو مائة وخمس وعشرين، وابن عيينة توفي سنة مائة وثمان وتسعين، أو قريباً من ذلك، فقد طال عمره وأدرك الزهري وأكثر من الرواية عنه.

[ عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة ].

قد مر ذكر هؤلاء الثلاثة قريباً.

شرح حديثي سهل بن سعد في التصفيق في الصلاة

قال المصنف رحمه الله تعالى:

[ حدثنا القعنبي عن مالك عن أبي حازم بن دينار عن سهل بن سعد : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم وحانت الصلاة، فجاء المؤذن إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال: أتصلي بالناس فأقيم؟ قال: نعم، فصلى أبو بكر ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس في الصلاة، فتخلص حتى وقف في الصف، فصفق الناس، وكان أبو بكر لا يلتفت في الصلاة، فلما أكثر الناس التصفيق التفت، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امكث مكانك، فرفع أبو بكر يديه فحمد الله على ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف، وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف قال: يا أبا بكر ! ما منعك أن تثبت إذ أمرتك؟ قال أبو بكر : ما كان لـابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لي رأيتكم أكثرتم من التصفيح؟ من نابه شيء في صلاته فليسبح، فإنه إذا سبح التفت إليه، وإنما التصفيح للنساء) قال أبو داود : وهذا في الفريضة.

حدثنا عمرو بن عون قال: أخبرنا حماد بن زيد عن أبي حازم عن سهل بن سعد أنه قال: (كان قتال بين بني عمرو بن عوف، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاهم ليصلح بينهم بعد الظهر، فقال لـبلال : إن حضرت صلاة العصر ولم آتك فمر أبا بكر فليصل بالناس، فلما حضرت العصر أذن بلال ثم أقام ثم أمر أبا بكر فتقدم، قال في آخره: إذا نابكم شيء في الصلاة فليسبح الرجال وليصفح النساء) ]..

جاء في الترجمة: باب التصفيق في الصلاة، وتقدم في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (التسبيح للرجال والتصفيق للنساء)، وأورد أبو داود رحمه الله هنا حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله تعالى عنه من طريقين، وهو يدل على ما ترجم له المصنف؛ لأنه جاء في آخره: (من نابه شيء في صلاته فليسبح الرجل ولتصفق المرأة).

وفيه أنه إذا حصل التسبيح التفت إليه، فدل هذا على أنه عند حصول أمر يستدعي تنبيه الإمام على شيء أنه يسبح له بالنسبة للرجال وتصفق النساء، وأن هذا من الأحكام التي يختلف فيها الرجال والنساء، حيث إن الرجال يسبحون في الصلاة والنساء تصفق، ولا يحصل العكس، بأن تسبح المرأة ويصفق الرجل، وإنما الأمر كما جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، التسبيح للرجال والتصفيق للنساء.

وأشرت في الحديث السابق إلى أن هذه من المسائل التي يختلف فيها الرجال والنساء، وقلت: إن الأصل في الأحكام التساوي بين الرجال والنساء، فالأحكام الثابتة للرجال تثبت للنساء، والأحكام الثابتة للنساء تثبت للرجال، إلا ما يكون من خصائص النساء ولا يكون للرجال به علاقة، وأنه قد جاءت نصوص تميز بين الرجال والنساء في الأحكام، ومنها هذا الموضع الذي معنا، فإنه جاءت السنة أن النساء تصفق وأن الرجال يسبحون، وهناك مسائل كثيرة هي من هذا القبيل وقد أشرت إلى جملة منها في الفوائد المنتقاة من فتح الباري وكتب أخرى، حيث ذكرت هذه الفائدة، وذكرت ثماني عشرة مسألة كلها من المسائل التي يختلف فيها الحكم بين الرجال والنساء.

ورقم الفائدة في الفوائد المنتقاة: (483).

فضل الصلح بين المسلمين

واشتمل حديث سهل بن سعد رضي الله عنه على عدة أحكام وعلى عدة فوائد، منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن بني عمرو بن عوف حصل بينهم خلاف وحصل بينهم تضارب واقتتال ذهب ليصلح بينهم، وهذا يدلنا على أهمية الصلح بين المسلمين، وذلك في العمل على ما يزيل الخلاف، ويحصل معه الوئام.

وأيضاً يدل على أن الكبير ينبغي له أن يتولى ذلك بنفسه؛ وذلك لما يترتب عليه من قبول وساطته وصلحه بينهم، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينب أحداً في ذلك، وإنما ذهب بنفسه صلى الله عليه وسلم.

استنابة إمام المسجد من يصلي بالناس عند غيابه في أول الوقت

وفي هذا الحديث أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـبلال : (إذا حضرت الصلاة ولم آتك فمر أبا بكر فليصل بالناس) وهذا يدلنا على أن على إمام المسجد إذا أراد أن يتخلف أو حصل له شيء يشغله عن المجيء يجعل من ينوب عنه في ذلك.

وفيه أيضاً دليل على الإتيان بالصلاة في أول وقتها، وذلك أن بلالاً أذن وأقام في أول الوقت، ولم ينتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يدلنا على فضيلة الصلاة في أول وقتها، وعلى أنه ينبغي المبادرة إلى الصلاة في أول وقتها، وقد جاء في الرواية الأولى، أن بلالاً استأذن أبا بكر ليقيم الصلاة، وفي الرواية الثانية أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره إذا حان وقت الصلاة أن يقدم أبا بكر ، ولا تنافي بين ذلك، لأن الرواية الثانية فيها أن ذلك الإذن حصل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن بلالاً لما حان وقت الصلاة جاء إلى أبي بكر ليستأذنه في الإقامة، لا من أجل أنه يستأذنه هل يصلي أو لا يصلي، لأنه قد أمر بلالاً أن يأمر أبا بكر أن يصلي بالناس، وهذا يدلنا على أن الإقامة حق للإمام، وليست للمؤذن، وأن الإمام هو الذي يأذن بذلك.

جواز أن يكون في الصلاة إمامان

في هذا الحديث جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد دخل الناس في الصلاة وكانوا في أولها، فتخلص حتى وقف في الصف الأول، ودخل في الصلاة مأموماً خلف أبي بكر رضي الله عنه، فجعل الناس يصفقون لما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فـأبو بكر رضي الله عنه كان لا يلتفت، ولكنه لما رأى كثرة التصفيق التفت فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله عليه الصلاة والسلام قد دخل في الصلاة، فأشار إليه أن امكث مكانك، إشارة بدون كلام، فرفع أبو بكر رضي الله عنه يديه إلى السماء، وحمد الله عز وجل على ذلك، يعني كون النبي صلى الله عليه وسلم أقره وأمره أن يبقى، ولكنه فهم أن هذا الأمر ليس للإيجاب ولا للإلزام، ولم ير من المصلحة أن يكون إماماً للرسول عليه الصلاة والسلام، فتأخر ومشى القهقرى حتى صار في الصف، ثم تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصار هو الإمام، وهذا إنما كان في الركعة الأولى، وهو يدلنا على أمور، منها:

أنه يمكن أن يكون في الصلاة إمامان، إمام في الأول يدخل في الصلاة، ثم يكون إمام بعد ذلك، كما حصل من رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان إماماً بعد إمامة أبي بكر ودخوله في الصلاة، فصار فيها إمامان: أبو بكر دخل في الصلاة حتى مضى شيء من الركعة الأولى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم تقدم وصلى بالناس أكثر الصلاة، فما حصل لـأبي بكر إلا جزء يسير من أول الركعة الأولى، والباقي إنما هو لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

تغيير الإمام يكون في الركعة الأولى

وما جاء في هذا الحديث من كون النائب يدخل في الصلاة، فيدخل الإمام الأصلي بعد دخول ذلك النائب، فهذا فيما إذا كان في الركعة الأولى، أما بعد ذلك فإن الأولى أن يستمر النائب في الصلاة، وألا يدخل الإمام الأصلي في الصلاة وقد مضى بعض ركعاتها، وذلك كما ثبت أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه، كان في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة من الغزوات؛ والرسول صلى الله عليه وسلم تأخر هو والمغيرة بن شعبة ، وجاء وقت صلاة الصبح، فتقدم عبد الرحمن بن عوف وصلى بالناس، ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد مضى ركعة، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف وصلى بصلاة عبد الرحمن بن عوف ، ولما سلم عبد الرحمن بن عوف من الصلاة، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي الركعة التي فاتته، هو والمغيرة بن شعبة .

وهذان الحديثان يدلان على التفريق بين هذين الأمرين في كون الإمام يدخل في الصلاة ويكون إماماً، وفي كونه يترك النائب الذي ناب عنه يتم الصلاة، ويقضي الإمام الأصلي ما فاته بعد سلام ذلك الإمام النائب.

وفي هذا أيضاً دليل على أنه يمكن للإنسان في صلاته أن يتقدم ويتأخر لمصلحة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تقدم من الصف الأول إلى المكان الذي يصلي فيه الإمام، وأبو بكر تأخر من المكان الذي يصلي فيه الإمام إلى الصف الأول، فيجوز السير خطوات يسيرة لمصلحة كما حصل من رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومن أبي بكر رضي الله عنه، حيث رجع القهقرى وهو مستقبل القبلة.

جواز رفع المصلي يديه شكراً لله

في هذا الحديث أيضاً أن المصلي له أن يرفع يديه عند تجدد نعمة وهو في الصلاة ويحمد الله على ذلك؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه عندما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يثبت مكانه؛ رفع يديه وقال: الحمد لله، أي: على أن النبي صلى الله عليه وسلم أقره، وأراد منه أن يبقى وأن يستمر في صلاته.

جواز الإشارة في الصلاة للحاجة

في هذا الحديث دليل على أن الإشارة في الصلاة للحاجة والمصلحة لا بأس بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إليه أن اثبت مكانك، فسميت هذه الإشارة أمراً، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتكلم.

وفيه أدب أبي بكر رضي الله عنه مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، حيث لم يستمر ولم يصل بالناس ورسول الله صلى الله عليه وسلم وراءه، بل تأخر، وهذا كما عرفنا إنما كان في أول الصلاة وليس في وسطها، وأما عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه فقد كان في وسطها.

اعتبار الإشارة في الخطاب

لما صلى رسول الله عليه الصلاة والسلام بالناس وفرغ من صلاته قال لـأبي بكر : (ما منعك أن تثبت في مكانك إذ أمرتك) هذا أمر بالإشارة وليس بالكلام، فهو يفيد بأن إشارة المصلي في صلاته معتبرة، وأنها تقوم مقام القول، ومثل ذلك الأخرس الذي لا يستطيع أن يتكلم، فإن إشارته المفهمة الدالة على مقصوده تكون معتبرة، فتقوم مقام الكلام، وكذلك من لا يحل له الكلام كمن يكون في صلاة، فإن الإشارة تقوم مقام الكلام.

وفيه دليل على أن الإنسان إذا احتاج إلى الالتفات لأمر لا بد منه، فإن له أن يلتفت بلي عنقه دون أن ينصرف عن القبلة.

قوله: (ما منعك أن تثبت إذ أمرتك؟ قال: ما كان لـابن أبي قحافة ... )، معناه أنه فهم أنه ليس هناك أحد أن يتقدم على الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الأمر ليس لازماً.

ولما فرغ أبو بكر من الكلام وقال: (ما كان لـأبي بكر ...)، سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه، ولم يقل كان لازماً عليك أن تفعل كذا وكذا، فدل هذا على أن فعل أبي بكر حسن، وأن هذا هو اللائق بمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث كان أبو بكر في أول الصلاة.

قوله: (ما لي أراكم أكثرتم من التصفيح)، هو بالحاء، وهو بمعنى التصفيق؛ لأن التصفيق والتفصيح بمعنى واحد، فهو يأتي بالحاء ويأتي بالقاف، ومنهم من فرق بينهما بأن التصفيق هو ما يكون بضرب باطن اليد ببطن اليد، والتصفيح ما كان ببطن اليد على ظهر الأخرى، ولكن قد جاء في الحديث الذي مر ذكر التصفيق، فدل هذا على أن التصفيق والتصفيح بمعنى واحد.

قوله: (من نابه شيء في صلاته فليسبح) معناه أن المشروع بدل التصفيق أن يكون هناك التسبيح، ويكون هذا في حق الرجال، وأما النساء، فهن صاحبات التصفيح أو التصفيق.

صفة الالتفات داخل الصلاة

قوله: (فإنه إذا سبح) أي المأموم وراء الإمام، (التفت إليه) يمكن أن يكون المقصود من ذلك حيث لا يكون هناك بد من الالتفات، وأما إن كان الأمر يفهم بدون التفات كما يحصل في السهو، وما إلى ذلك، فإنه لا يحتاج إلى التفات.

ويمكن أن يكون الالتفات على معنى أعم، وهو أن يكون التفات بالعنق، حيث يحتاج الأمر إلى ذلك، وقد يكون المقصود به كونه ينتبه إلى تسبيحه، بمعنى أنه كان تنبيهاً على أمر من الأمور، حيث لا يحتاج إلى الالتفات بالعنق، فلا يلتفت بالعنق، وليس معناه أنه كلما حصل تسبيح التفت، وإنما يلتفت إذا كان الأمر يقتضي الالتفات كما حصل من أبي بكر رضي الله عنه.

(وقد كان لا يلتفت في صلاته) ولكن حيث يحتاج إلى الالتفات يلتفت وإذا لم يحتج إلى الالتفات فإنه يدخل في المعنى الأعم، فيكون معناه انتبه إلى التسبيح وفهم المقصود منه، أو غير ذلك.

(قال أبو داود : وهذا في الفريضة)، يعني: الأمر واضح أنه في الفريضة، لأنه جاء في الحديث أنه استأذن أبا بكر أن يقيم وهو في الفريضة، وقول أبي داود رحمه الله: وهذا في الفريضة معناه: فالنافلة من باب أولى أن يسوغ فيها ما ساغ في الفريضة.

تراجم رجال إسناد حديثي سهل في التصفيق في الصلاة

قوله: [ حدثنا القعنبي ].

هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة .

[ عن مالك ].

هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة الإمام المشهور، وهو أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبي حازم بن دينار ].

هو سلمة بن دينار وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن سهل بن سعد الساعدي ] سهل بن سعد رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، وسهل بن سعد الساعدي هذا كنيته: أبو العباس ، وقد قيل: إنه ليس في الصحابة من يكنى بأبي العباس سوى اثنين: وهما سهل بن سعد الساعدي ، وعبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا الإسناد من الرباعيات عند أبي داود ؛ لأن القعنبي يروي عن مالك ، ومالك يروي عن أبي حازم بن دينار وأبو حازم بن دينار يروي عن سهل بن سعد الساعدي ، فبين أبي داود وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أشخاص، فهذا أعلى ما يكون عند أبي داود من الأسانيد؛ لأنه ليس عنده شيء من الثلاثيات، ليس عنده حديث بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ثلاثة أشخاص، وإنما أعلى ما عنده الرباعيات، وأما البخاري فعنده اثنان وعشرون حديثاً ثلاثياً في صحيحه، بين البخاري وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أشخاص، والترمذي عنده حديث واحد ثلاثي، وابن ماجة عنده خمسة أحاديث ثلاثية، كلها بإسناد واحد، وذلك الإسناد ضعيف لا تقوم به حجة، أما مسلم وأبو داود والنسائي فهؤلاء الثلاثة فأعلى ما عندهم الرباعيات، وليس عندهم شيء من الثلاثيات.

قوله: [ حدثنا عمرو بن عون ].

عمرو بن عون ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ أخبرنا حماد بن زيد ].

هو حماد بن زيد بن درهم البصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبي حازم عن سهل بن سعد ].

وقد مر ذكرهما، وهذا مثل الذي قبله أيضاً رباعي.

وهذا الإسناد الثاني رجاله كلهم خرج لهم أصحاب الكتب الستة، بخلاف الإسناد الأول، فإن القعنبي لم يخرج له ابن ماجة .

وبنو عمرو بن عوف هم جماعة كبيرة من الأوس وهم سكان قباء، وهم الذين نزل فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم أياماً لما قدم من مكة مهاجراً إلى المدينة، وبنى مسجد قباء وصلى فيه، ثم انتقل من قباء إلى مكان مسجده هذا صلى الله عليه وسلم فبناه.

ولا أعلم أحداً شارك عبد الرحمن بن عوف في كونه كان إماماً للرسول صلى الله عليه وسلم في شيء من الصلاة، ولهذا لما جاء أبو نعيم في معرفة الصحابة إلى ترجمة عبد الرحمن بن عوف عبر بعبارة فقال: إمام المصطفى صلى الله عليه وسلم، يعني هو الذي صلى به إماماً ركعة واحدة من صلاة الصبح.

أثر عيسى بن أيوب في وصف التصفيق

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمود بن خالد حدثنا الوليد عن عيسى بن أيوب قال: قوله: (التصفيح للنساء) تضرب بإصبعين من يمينها على كفها اليسرى ].

أورد أبو داود بعد ذكر الحديثين أثراً عن عيسى بن أيوب يصف التصفيق في حق النساء، وأنها تضرب بإصبعين من يمينها على الكف الأخرى، ولعل ذلك من أجل ألا يحصل قوة التصفيق، كما لو ضربت بالكف على الكف، والمقصود من ذلك أن يحصل التنبيه، وإذا حصل التنبيه بأمر أخف فإن ذلك يكون كافياً ويكون مغنياً عما هو أكبر منه.

وهذا يسمونه في علم المصطلح المقطوع، وهو أن ينتهي الإسناد إلى التابعي أو من دون التابعي، وهو غير المنقطع؛ لأن الانقطاع هو السقوط في الإسناد، فالمقطوع من صفات المتن، والمنقطع من صفات الإسناد، أما الذي ينتهي إلى الصحابي فيقال له: موقوف، والذي ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له: مرفوع، فهذا الأثر الذي معنا يقال له: مقطوع، لأنه ينتهي إلى عيسى بن أيوب وهو الذي وصف هذا التصفيق أو التصفيح الذي يكون للنساء.

تراجم رجال إسناد أثر عيسى بن أيوب في وصف التصفيق

قوله: [ حدثنا محمود بن خالد ].

هو محمود بن خالد الدمشقي وهو ثقة، أخرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجة .

[ حدثنا الوليد ].

هو الوليد بن مسلم الدمشقي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عيسى بن أيوب ].

وهو صدوق أخرج له أبو داود وحده.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب التصفيق في الصلاة.

حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا سفيان عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء) ].

أورد أبو داود هذه الترجمة وهي: التصفيق في الصلاة.

أي أن هذا الحكم الذي هو التصفيق في الصلاة إنما هو سائغ في حق النساء وليس في حق الرجال، فإذا حصل للإمام شيء يحتاج إلى أن ينبه عليه؛ فإنه يسبح الرجل وتصفق المرأة، فالتسبيح للرجال والتصفيق للنساء، ولا يكون العكس، فالرجال لا يصفقون والنساء لا تسبح في الصلاة عند تنبيه الإمام على أمر قد حصل منه، فشأن التصفيق أن يكون للنساء لا للرجال.

والتصفيق هو أن تضرب المرأة ببطن كفها أو بإصبعين من كفها اليمنى على ظهر الأخرى، ومعناه أنه لا يكون التصفيق باليدين متقابلتين؛ لأن تصفيق بطن اليد على اليد يكون فيه زيادة صوت وزيادة إزعاج، فإنما يكون بتصفيق خفيف، بحيث يكون بطن واحدة على ظهر الأخرى أو العكس، حتى يكون أخف فيحصل به المقصود دون أن يكون هناك صوت مرتفع للتصفيق، كما يحصل فيما إذا كانت بطن اليد اليمنى على بطن اليد اليسرى.

جاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في التفريق بين الرجال والنساء في التصفيق والتسبيح، والأصل أن الأحكام يتساوى فيها الرجال والنساء، ولا يختلف الرجال والنساء في الأحكام إلا إذا حاء نص يدل على التفريق كهذا الحديث الذي معنا، وإلا فإن الأصل أنه لا فرق بين الرجال والنساء في الأحكام.

والأمثلة كثيرة على هذا، منها أمور خمسة جاء النص على أن النساء على النصف من الرجال فيها: فهن في الميراث على النصف، لقوله تعالى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11].

وكذلك الشهادة، لقوله عز وجل: فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ [البقرة:282].

وكذلك الدية، فدية المرأة على النصف من دية الرجل.

وكذلك العتق، لأن الرجل إذا أعتق عبداً كان فكاكه من النار، فإذا أعتق جاريتين كانتا فكاكه من النار.

والخامسة العقيقة، فإن الغلام يعق عنه بشاتين والجارية يعق عنها بشاة واحدة، هذه من الأمور التي جاءت الشريعة فيها التفريق بين النساء والرجال، وجعلت المرأة على النصف من الرجل فيها.

وأما الأحكام الأخرى التي يختلف فيها الرجال عن النساء فأمثلتها كثيرة، ومنها هذا المثال الذي معنا، وهو التسبيح والتصفيق في الصلاة، فإن المرأة تصفق والرجل يسبح، ومن ذلك الغسل من بول الجارية والرش من بول الغلام، ومن ذلك كون الإمام إذا صلى على جنازة المرأة فإنه يقف عند وسطها، وعند رأس الرجل، يعني: هناك مواضع عديدة جاءت السنة فيها بالتفريق بين الرجال والنساء في الأحكام، وعلى هذا فإن الأصل كما قلت هو التساوي بين الرجال والنساء في الأحكام، إلا إذا وجدت نصوص تفرق، فإنه يصار إلى ذلك التفريق.

قوله: [ حدثنا قتيبة بن سعيد ].

هو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا سفيان ].

هو سفيان بن عيينة المكي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، إذا جاء شخص غير منسوب بأن ذكر اسمه ولم يذكر نسبه يقال له: مهمل، وإذا جاء قتيبة يروي عن سفيان ، فالمراد به ابن عيينة ، وإذا جاء سفيان يروي عن الزهري ، فالمراد به ابن عيينة ، وهنا يروي سفيان عن الزهري ، إذاً المراد به سفيان بن عيينة المكي ، وليس سفيان الثوري الذي مر ذكره في الأحاديث السابقة، وابن عيينة متأخر عن الثوري في الوفاة، وإن كان متقدماً، لأنه يروي عن الزهري والزهري من التابعين، وكانت وفاته سنة مائة وأربع وعشرين أو مائة وخمس وعشرين، وابن عيينة توفي سنة مائة وثمان وتسعين، أو قريباً من ذلك، فقد طال عمره وأدرك الزهري وأكثر من الرواية عنه.

[ عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة ].

قد مر ذكر هؤلاء الثلاثة قريباً.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

[ حدثنا القعنبي عن مالك عن أبي حازم بن دينار عن سهل بن سعد : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم وحانت الصلاة، فجاء المؤذن إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال: أتصلي بالناس فأقيم؟ قال: نعم، فصلى أبو بكر ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس في الصلاة، فتخلص حتى وقف في الصف، فصفق الناس، وكان أبو بكر لا يلتفت في الصلاة، فلما أكثر الناس التصفيق التفت، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امكث مكانك، فرفع أبو بكر يديه فحمد الله على ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف، وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف قال: يا أبا بكر ! ما منعك أن تثبت إذ أمرتك؟ قال أبو بكر : ما كان لـابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لي رأيتكم أكثرتم من التصفيح؟ من نابه شيء في صلاته فليسبح، فإنه إذا سبح التفت إليه، وإنما التصفيح للنساء) قال أبو داود : وهذا في الفريضة.

حدثنا عمرو بن عون قال: أخبرنا حماد بن زيد عن أبي حازم عن سهل بن سعد أنه قال: (كان قتال بين بني عمرو بن عوف، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاهم ليصلح بينهم بعد الظهر، فقال لـبلال : إن حضرت صلاة العصر ولم آتك فمر أبا بكر فليصل بالناس، فلما حضرت العصر أذن بلال ثم أقام ثم أمر أبا بكر فتقدم، قال في آخره: إذا نابكم شيء في الصلاة فليسبح الرجال وليصفح النساء) ]..

جاء في الترجمة: باب التصفيق في الصلاة، وتقدم في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (التسبيح للرجال والتصفيق للنساء)، وأورد أبو داود رحمه الله هنا حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله تعالى عنه من طريقين، وهو يدل على ما ترجم له المصنف؛ لأنه جاء في آخره: (من نابه شيء في صلاته فليسبح الرجل ولتصفق المرأة).

وفيه أنه إذا حصل التسبيح التفت إليه، فدل هذا على أنه عند حصول أمر يستدعي تنبيه الإمام على شيء أنه يسبح له بالنسبة للرجال وتصفق النساء، وأن هذا من الأحكام التي يختلف فيها الرجال والنساء، حيث إن الرجال يسبحون في الصلاة والنساء تصفق، ولا يحصل العكس، بأن تسبح المرأة ويصفق الرجل، وإنما الأمر كما جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، التسبيح للرجال والتصفيق للنساء.

وأشرت في الحديث السابق إلى أن هذه من المسائل التي يختلف فيها الرجال والنساء، وقلت: إن الأصل في الأحكام التساوي بين الرجال والنساء، فالأحكام الثابتة للرجال تثبت للنساء، والأحكام الثابتة للنساء تثبت للرجال، إلا ما يكون من خصائص النساء ولا يكون للرجال به علاقة، وأنه قد جاءت نصوص تميز بين الرجال والنساء في الأحكام، ومنها هذا الموضع الذي معنا، فإنه جاءت السنة أن النساء تصفق وأن الرجال يسبحون، وهناك مسائل كثيرة هي من هذا القبيل وقد أشرت إلى جملة منها في الفوائد المنتقاة من فتح الباري وكتب أخرى، حيث ذكرت هذه الفائدة، وذكرت ثماني عشرة مسألة كلها من المسائل التي يختلف فيها الحكم بين الرجال والنساء.

ورقم الفائدة في الفوائد المنتقاة: (483).


استمع المزيد من الشيخ عبد المحسن العباد - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح سنن أبي داود [139] 2890 استماع
شرح سنن أبي داود [462] 2842 استماع
شرح سنن أبي داود [106] 2835 استماع
شرح سنن أبي داود [032] 2731 استماع
شرح سنن أبي داود [482] 2702 استماع
شرح سنن أبي داود [529] 2693 استماع
شرح سنن أبي داود [555] 2686 استماع
شرح سنن أبي داود [177] 2679 استماع
شرح سنن أبي داود [097] 2654 استماع
شرح سنن أبي داود [273] 2650 استماع