طمأنة الخائف - فهد بن عبد العزيز الشويرخ
مدة
قراءة المادة :
13 دقائق
.
{بسم الله الرحمن الرحيم } الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:فالخوف الشديد جمرة من العذاب، يجعل القلب يقلق، والنفس تذهل، ولقد صور القرآن الكريم حال من أُصيب بخوف شديد، قال الله عز وجل عن المنافقين: ﴿ {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} ﴾ [الأحزاب: 19]، قال الإمام الشوكاني رحمه الله: الذي نزل به الموت وغشيته أسبابه، يذهل ويذهب عقله، ويشخص بصره فلا يطرف، كذلك هؤلاء تشخص أبصارهم لما يلحقهم من الخوف، وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: قوله سبحانه وتعالى: (تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ)؛ لأن الخائف غالبًا يُركز على جهة الخوف...
وتدور عيناه على غير نظر سليم، يعني: كأنها تدور بغير اختيارهم من شدة الخوف.
والخائف يمكن الاستدلال على خوفه من ملامحه؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿ {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ } ﴾ [هود: 70]؛ قال الإمام الشوكاني رحمه الله: ﴿ { قالوا لا تَخَف} ﴾، قالوا له هذه المقالة مع كونه لم يتكلم بما يدل على الخوف، بل أوجس ذلك في نفسه، فلعلهم استدلوا على خوفه بأمارات كظهور أثره على وجهه.
وقال الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ} ﴾ [العنكبوت: 33]
قال العلامة العثيمين: من فوائد الآية الكريمة: الاستدلالُ على الأحوال بالملاح، لقولهم: {(لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ} )، ولأنهم رأوا من العلامات الظاهرة على ملامحه ما يدلُّ على خوفه، وقال الله عز وجل: ﴿ {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ } ﴾ [الذاريات: 28]، قال العلامة الشوكاني رحمه الله: فلما رأوا ما ظهر عليه من أمارات الخوف، ( {قالوا لا تَخَف} ).
وفي حادثة صلح الحديبية دخل أحد الرجلين الذي فرَّ من أبي بصير رضي الله عنه، على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال علية الصلاة والسلام حين رآه: ( «لقد رأى هذا ذُعرًا» )؛ أي: خوفًا.
والخائف إنسان يحتاج إلى عون، وأهم وأول عون يقدم له: طمأنته، من أجل أن يزول عنه خوفه، ويسكن روعه، قال الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَن} ﴾ [العنكبوت: 33]؛ قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: ينبغي طمأنة الخائف ليزول عنه خوفه؛ لقوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ { لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ} ﴾، ومن هذا ما يستعمل في الطب الآن، فإن الطبيب يقول للمريض: هذا أمر سهل وهين، يطمئنه لأجل أن ينشرح صدره.
وقال الله جل جلاله: ﴿ { إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ} ﴾ [ص: 22]قال العلامة العثيمين رحمه الله: من الفوائد: أنه ينبغي إن لم نقل يجب أن يطمئن المُفزع مما فزِعَ منه بنفي سبب الفزع قبل كل شيء؛ حيث قالوا ﴿ لَ {ا تَخَفْ} ﴾
يقول الطبيب النفسي الدكتور محمد عبدالفتاح المهدي: « تتفق جميع مدارس العلاج النفسي على أن الهدف الرئيسي للعلاج النفسي هو التخلص من القلق ، وبث الشعور بالأمن في نفس الإنسان ».
ويُطمئن الخائف بالكلام الطيب النافع المريح الذي يُذهبُ خوفه، ويُسكن روعه؛ قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ } ﴾ [القصص: 7]؛ قال العلامة السعدي رحمه الله: فبشرها بأنه سيرده إليها، وأنه سيكبر ويسلم من كيدهم، ويجعله الله رسولًا، وهذا من أعظم البشائر الجليلة، وتقديم هذه البشارة لأم موسى؛ ليطمئن قلبها، ويسكن روعها، وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: من فوائد الآية الكريمة: قول الله تبارك وتعالى: ﴿ {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} ﴾، فيه دليل على إكرام الله سبحانه وتعالى لأُم موسى، وهذا الإكرامُ يُفهمُ من عدة أوجه حقيقةً، يُفهمُ من تطمينها في قوله: ﴿ {وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي} ﴾.
وقال الله سبحانه وتعالى مخاطبًا موسى عليه السلام: ﴿ {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ } ﴾ [القصص: 31]؛ قال الإمام ابن عطية الأندلسي رحمه الله: وهذا من تأمين الله تعالى إياه، وقال العلامة السعدي رحمه الله: ﴿ {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} ﴾، وهذا أبلغ ما يكون في التأمين، وعدم الخوف، فإن قوله: ﴿ {أَقْبِلْ} ﴾ يقتضي الأمر بإقباله، ويجب عليه الامتثال، ولكن قد يكون إقباله، وهو لم يزل في الأمر المخوف، فقال: ﴿ {لَا تَخَفْ} ﴾ أمر له بشيئين: إقباله، وألا يكون في قلبه خوف، ولكن يبقى احتمال، وهو أنه قد يقبل وهو غير خائف، ولكن لا تحصل له الوقاية والأمن من المكروه، فلذلك قال: ﴿ { إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} ﴾، فحينئذ اندفع المحذور من جميع الوجوه، فأقبل موسى عليه السلام غير خائف، ولا مرعوب، بل مطمئن.
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: من فوائد الآية: عناية الله تعالى به؛ حيث ناداه وطمأنه بقوله: ﴿ { أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ} ﴾، ولم يقتصر على قوله: ﴿ {وَلَا تَخَفْ} ﴾، بل طلب منه الإقبال إليه: ﴿ {أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ} ﴾، ثم طمأنه بقوله: ﴿ {إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} ﴾ تأكيدًا لقوله: ﴿ {وَلَا تَخَفْ} ﴾.
وقال الله عز وجل لموسى وهارون عليهما السلام: ﴿ {اذهَبا إِلى فِرعَونَ إِنَّهُ طَغى*فَقولا لَهُ قَولًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَو يَخشى *قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَن يَفرُطَ عَلَينا أَو أَن يَطغى*قالَ لا تَخافا إِنَّني مَعَكُما أَسمَعُ وَأَرى} ﴾ [طه:43-46]؛ قال العلامة السعدي رحمه الله: قوله: ﴿ {إِنَّني مَعَكُما أَسمَعُ وَأَرى} ﴾؛ أي: أنتما بحفظي ورعايتي، أسمع قولكما، وأرى جميع أحوالكما، فلا تخافا منه، فزال الخوف عنهما، واطمأنت قلوبهما بوعد ربهما.
وقال الله عز وجل: ﴿ {قالوا يا موسى إِمّا أَن تُلقِيَ وَإِمّا أَن نَكونَ أَوَّلَ مَن أَلقى * قالَ بَل أَلقوا فَإِذا حِبالُهُم وَعِصِيُّهُم يُخَيَّلُ إِلَيهِ مِن سِحرِهِم أَنَّها تَسعى * فَأَوجَسَ في نَفسِهِ خيفَةً موسى * قُلنا لا تَخَف إِنَّكَ أَنتَ الأَعلى} ﴾ [طه:65-68]؛ قال الإمام الشوكاني رحمه الله: فأذهب الله سبحانه ما حصل معه من الخوف بما بشره به بقوله: ﴿ {قُلنا لا تَخَف إِنَّكَ أَنتَ الأَعلى} ﴾، وقال العلامة السعدي رحمه الله: ﴿ قُلنا ﴾ له تثبيتًا وتطمينًا، ﴿ {لا تَخَف إِنَّكَ أَنتَ الأَعلى} ﴾ عليهم، أي: ستعلو عليهم وتقهرهم، ويذلون لك ويخضعون.
قال سبحانه وتعالى: ﴿ {فلَمَّا رَأى أَيدِيَهُم لا تَصِلُ إِلَيهِ نَكِرَهُم وَأَوجَسَ مِنهُم خيفَةً قالوا لا تَخَف} ﴾ [هود:70] قال الإمام ابن عطية الأندلسي رحمه الله: ﴿ {وَأَوجَسَ} ﴾ معناه: أحسَّ في نفسه خيفة منهم، فأمنوه بقولهم: ﴿ {لا تَخَف } ﴾.
قال الله عز وجل: ﴿ {فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } ﴾ [القصص:25]؛ قال العلامة السعدي رحمه الله: قال: مسكنا روعه، جابرًا قلبه: ﴿ لَ {ا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ﴾؛ أي: ليذهب خوفك وروعك، فإن الله نجاك منهم، حيث وصلت إلى هذا المحل الذي ليس لهم عليه سلطان، وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: قوله: ﴿ { لَا تَخَفْ} ﴾ يفيد طُمأنينة الرجل.
وفي حديث مجيء جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار حواء، في آخره: رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤادهُ، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فقال: ( «زمِّلوني، زمِّلوني، فزمِّلوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي)، فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم وتحمل الكلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعينُ على نوائب الحق» )؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي هذه القصة من الفوائد: استحباب تأنيس من نزل به أمر بذكر تيسيره عليه وتهوينه لديه.
والصحابي الجليل: خبيب بن الحارث رضي الله عنه، كان أسيرًا عند بني الحارث بن عامر بن نوفل بن عبدالمطلب، فاستعار من بنت الحارث موسى يستحد بها، فأعارته، فأخذ ابنًا لها وهي غافلة، فذهب إلى خبيب، فوضعه حين أتاه على فخِذِه، فلما رأت ابنة الحارث ابنها على فخذ خبيب، فزغت فزعةً عرفها خبيب في وجهها، فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك.
فهو رضي الله عنه لما رأى فزع بنت الحارث، لخوفها أن يقتل ابنها، طمأنها بقوله: بأنه ما كان يفعل هذا.
ومما يزيد في طمأنينة الخائف: أن ينادي باسمه أو كنيته؛ قال الله عز وجل: ﴿ { يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} ﴾ [النمل:10]؛ قال العلامة العثيمين رحمه الله: وقوله: ﴿ {يَا مُوسَى لَا تَخَفْ } ﴾ ناداه باسمه ليُطمئنه؛ لأن الإنسان الذي يناديك وهو يعرفك تطمئن إليه أكثر، ولم يقل: يا هذا لا تخف أويا مُوَلِّي لا تخف، بل قال: ﴿ { يَا مُوسَى } ﴾؛ لأنه معلوم أن الذي يعرفك تطمئن إليه أكثر، مثال ذلك لو رأيت من ظننته عدوًّا، ثم هربت منه، فقال: يا فلان، يا فلان، فإنك تطمئن؛ لأنك تقول: هذا يعرفني، ما ينالني بسوءٍ.
اللهم اجعلنا من المطمئنين الآمنين، في الدنيا والآخرة، يا رحمن، يا رحيم.
كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ