منهج لرد الشبهات حول التسامح الإسلامي
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
منهج لرد الشبهات حول التسامح الإسلامي
لقد اعتُرِض على التسامح الإسلامي بمجموعة اعتراضات تنكر عليه تسامحه وسلمه؛ فقال أصحاب الاعتراض من المبشِّرين والمستشرقين والمستغربين، ومَن لف لفهم، ونحا نحوهم:
"أولاً: كيف يكون الإسلام دين السماحة، ويدعو إلى السلم، ويدافع عن الأمن، ثم يُبِيح لأتباعه أن يتدخَّلوا في أديان غيرهم، ويحاربوهم بناء على هذا، مع أن هذا الأمر مخالف لقول الله - تعالى -: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ [البقرة: 256]؟!
وكيف يجوز باسم الفتوحات الإسلامية أن يقتل الرجال، وتُسبَى النساء، وتؤخَذ الأموال، وتُسلَب مقدسات، وتُنتهك حرمات؟!
وهل من التسامح أن يحمل الرسول -صلى الله عليه وسلم- السيف، وينشر الإسلام بالقوة، ولا يكتفي بالإقناع والحجة؟ وأين هذا مما يدل عليه قوله - تعالى -: ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ [الكافرون: 6].
إن المخالفين أيضًا لهم الحرية في البقاء على أديانهم وعقائدهم!
وأين هذا التسامح المزعوم من قول الله - تعالى -: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 193]
وبسبب ذلك لم يستطع المسلمون في أية بقعة من العالَم أن يتعايشوا مع غيرهم بالأمن والسلام، فما لغيرهم أن يتعاونوا ويتسامحوا معهم حتى في الشؤون المدنية والاجتماعية، ما دامت عقيدتهم السياسية الأساسية هي الحاجز الأكبر دون نشوء هذا التعاون والتسامح؟[1]".
ثانيًا: أين من التسامح الذي تزعمونه هذه الحدود "الوحشية"، وتلك العقوبات "الهمجية"، وما تسمونه بالشريعة الإسلامية، والمطالبة بتطبيقها على الناس قهرًا وقسرًا، وما ذنب إخواننا من أهل الكتاب في تلك الحدود المجحفة، والشريعة البدوية، التي يجب أن تطبق على البدو في الصحراء، لا على أناس متحضرين، يأخذون بأسباب الرقي والمدنية، ثم يراد منهم أن يرجعوا إلى الوراء - قرونًا عديدة - بعدما تخلصوا من تبعات ذلك ومن ويلاته، فيما يشبه الحكومات الدينية في عصور أوروبا المظلمة؟!
"هل من التسامح هذا القصاص الذي جاء به الإسلام، والذي فيه مقابلة السيئة بالسيئة، وأين هذا مما جاء في المسيحية من السلم: مَن لطمك على خدك الأيمن، فأدرْ له الأيسر؟!
إن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- حين يقول بالقصاص - الذي رضي عنه اليهود - يكون قد ساير أحكام زمانه وقومه"[2]!
وهل من السماحة والصفح أن يؤخَذ كل إنسان بجريرته، فلا يعطى فرصة لمراجعة نفسه، والرجوع عن خطئه، ولا يُعفَى عنه، بل يؤخَذ أخذ عزيزٍ منتقم، فتقطع يد السارق، ويجلد القاذف، والشاب الزاني "غير المحصَن"، ويُرجَم المتزوِّج بطريقة رجمِ الكلاب! فيُصبِح المجتمع ما بين جزء منه مشوَّه مبتور، عاطل مقهور، وجزء منه قد لقي حتفه، ومات ميتة الكلاب، فهل هذا هو التسامح؟![3]".
ثالثًا: هل من التسامح الإسلامي إذلال أهل الكتاب، وأخذ الجزية منهم ظلمًا وعدوانًا مع ذلتهم وصغارهم؟
أليس هذا التضييقُ على الذميين منبعثًا من تعصب أو من بغضاء؟
أليس في اشتراط "خالد بن الوليد" على أهل الحيرة ألا يتشبهوا في زيِّهم بالمسلمين ما يدل على ترفع المسلمين عليهم، أو زرايتهم بهم؟
وفي منعهم من أن يلبسوا زي الحرب، وفي إقصائهم عن الوظائف العامة، فإن هذا الإقصاء لم يكن إلا عن تعصب ديني!
أو تلك القيود التي وضعها "عمر بن الخطاب" بين المسيحيين وإقامة شعائرهم الدينية في حرية وطلاقة! وهل هذا هو التسامح؟![4].
رابعًا: أين التسامح الإسلامي "المزعوم" مع ما في الإسلام من قوانين الرق، التي تخيل إلينا أنه يريد الاستبقاء على الرق بصفة دائمة، وإذا كان في الإسلام - كما تقولون - أحكام تدل على أن الرق ما كان أمرًا مرضيًّا، وإنما كان عتق الرقيق ومنحهم الحرية هو الأمر المرضي المنشود، فإذا كان الأمر كذلك، فما السبب من عدم إلغاء الإسلام للرق؟
إن الاسترقاق مخالف للفطرة، ولكن لما كان الرق شائعًا في العالم، وكان العرب عندهم العبيد - زمن نزول القرآن - لذا فإن القرآن - نظرًا لبعض المصالح - أقرَّ ملكيتهم لهؤلاء العبيد إذا كانوا دخلوا فيها من قبلُ، فالإسلام دين المصالح، لا دين التسامح!
أليس الرق - في صورتيه - بمعنى القبض على الأحرار في بعض البلاد، ثم بيعهم وشرائهم عبيدًا وإماءً.
أو بمعنى استعباد الأسرى في الحروب؟ وهل يرضى الإسلام أن نتمتع بأسرى الحرب المسلمين، فضلاً عن بيعهن أو شرائهن؟
ثم أليس التمتع بالسراري بغير عقد نكاح اتباعًا للهوى؟ وهو مما يحاربه الإسلام ويندِّد بأهله، بل يقال: أليس نظام السراري هذا فيه من نواحي القبح ما فيه، أو ما يمكن أن يعبر عنه بأنه البِغَاء المرخَّص؟ الذي يصرح به للجنود في غَيْبتهم عن أوطانهم وبيوتهم؟!"[5].
خامسًا: وأين من التسامح الإسلامي "الموهوم "ما عامل به الإسلام المرأة؟!
لقد ظلم الإسلام المرأة في كل شيء! ظلمها إذ جعلها أقلَّ من الرجل، وأنكر عليها المساواة به! وهضم حقها؛ إذ حرَمها من حق التعليم، وواجب العمل!
واشتدَّ ظلمه لها في التفرقة بينها وبين الرجل؛ إذ جعل شهادتها نصف شهادة الرجل، وجعل ميراثها نصف ميراث الرجل، فأي ظلم هذا؟!
ولم يكتفِ بهذا، بل في زواجِها جعل عصمتَها بيد الرجل (زوجها)، يفعل فيها ما يشاء، فهو يضطهدها، ثم إذا ذعرتْ وفرَّت، طلبها في بيت الطاعة، وفي ذات الوقت يتزوَّج عليها، ويعدِّد الزوجات، وهي لا تملك من ذلك شيئًا، فإذا ضاقت عليها الأرض بما رحبت، وضاقت بها الحياة الزوجية فهي لا تجد مخرجًا ولا سبيلاً؟ لأن الطلاق أيضًا بيد الرجل، يستغله كما يشاء، فماذا تفعل المرأة؟!
وأين حقوق المرأة في هذا الوحل، أين التسامح الذي تدَّعونه؟!
لماذا لا تأخذ المرأة حقوقها؟ لماذا لا تخرج؟ لماذا لا تسافر؟ لماذا لا تنطلق وهي تأخذ زينتها، وتملك حريتها، وتخرج بمشيئتها؟ لماذا هذا الكبت وتلك الرجعية؟ لماذا التخلف والجمود؟ لماذا لا تكون كأوروبا في حضارتها ومعيشتها وسائر قوانينها وأحوالها؟ لماذا؟ لماذا؟
هكذا المستشرقون - والمستغربون في بلادنا - ينظرون إلى القضايا، ويتهمون الإسلام[6]!
ويجب أن يوضع في الاعتبار، وننبه الأذهان إلى تلك الحقيقة:
إن حديثنا عن هذه الشبهات والرد عليها، ليس معناه أننا ندافع عن الإسلام؟
إن اعتبار الإسلام متهمًا - ينبغي أن تنبري أقلامنا للدفاع عنه - هو منهجٌ خاطئ يجب الابتعاد عنه؛ لأن النظام الرباني لا يحتاج إلى دفاع البشر عنه لتبرئته من "التهم"، ولا إلى إعلان براءته مما يتهمه به الناس!
ويكون نقصًا في عقيدتنا إنْ ظننا لحظة واحدة أن دين الله "مُحْتاج" إلى تبرئة ساحته بكلام يقوله البشر من عند أنفسهم!
إنما يحتاج الناس دائمًا إلى "بيان" حقائق الإسلام لهم، وتوضيح ما أشكل عليهم: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 44]؛ فالمنهج الصحيح إذًا هو بيان حقائق الإسلام للناس، فهم في حاجة دائمة إلى هذا البيان في كل جيل من أجيالهم، وفي الأجيال المعاصرة خاصة، التي أصبح الإسلام غريبًا بينها، من شدة جهلها بحقائقه.
ولا بأس - في أثناء بيان حقائق الإسلام - أن نقف عند شبهة تَرِدُ في أذهان الناس من أنفسهم بسبب عدم المعرفة، أو يثيرها الأعداء ليفتنوا بها المسلمين عن دينهم، فتجلى هذه الشبهة ببيان الحقيقة فيها!
أما "الدفاع" عن الإسلام، فقد كان بعض الكتَّاب الإسلاميين قد وقعوا فيه بحسن نية، وفي وقتٍ كانت آثار الهزيمة الداخلية ما تزال عالقة بالنفوس إزاء الهجوم المستمر العنيف الذي يثيره المستشرقون وأعداء الإسلام لفتنة الشباب "المثقف" عن دينه.
وأفضل منهج ينبغي أن يتبع، هو بيان حقائق الإسلام للناس ابتداءً، لا وضع الشبهة والرد عليها[7]!
[1] راجع على سبيل المثال: "الإسلام" ألفريد جيوم، ترجمة محمد مصطفى هدارة، وشوقي اليماني السكري ص 41، ط مكتبة النهضة المصرية، ط أولى سنة (1958م)، وتاريخ العرب العام لـ: "أسيديو" ترجمة عادل زعيتر، ط عيسى الحلبي، سنة "1367 هـ - 1948م "، والعقيدة والشريعة في الإسلام، جولد تسيهر، ترجمة محمد يوسف موسى وآخرين ص 34، ط دار الكتب الحديثة، والتعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام دحض شبهات ورد مفتريات - ردًّا على كتاب "مسلمون وأقباط" جاك تاجر - للشيخ محمد الغزالي ص 38، 39، بتصرف، ط دار الكتب الحديثة، والإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة للمودودي ص 49، 50، بتصرف.
[2] السيرة النبوية وأوهام المستشرقين، عبدالمتعال الجبري ص 103، بتصرف ط مكتبة وهبة.
[3] موسوعة "اليونسكو"، الفصل الخاص بالإسلام للكاتب "جاستون فييت" الفرنسي، بتصرف، ومفتريات اليونسكو على الإسلام للأستاذ محمد عبدالله السمان ص 63 - 68، بتصرف، ط المختار الإسلامي، الأولى سنة "1396 هـ - 1976م".
[4] انظر بتوسيع: موسوعة "إديونسكو"، وكذلك "دراسات إسلامية" لـ: "هبكر"، وحوليات الإسلام "ليوم كايتانو".
[5] الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة للمودودي (ص 63 - 108) بتصرف، انظر: العقيدة والشريعة في الإسلام، لجولد تسيهر، وتراث الإسلام، شاخت ويوزورث، ترجمة د/محمد زهير السمهوري، ود/ حسين يونس، د/ إحسان صدقي العمد، تعليق وتحقيق د/ شاكر مصطفى، مراجعة د/ فؤاد زكريا ج 1 ص165، 170، ط عالم المعرفة والثانية سنة 1988 م.
[6] انظر: العقيدة والشريعة في الإسلام، جولد تسيهر، وما قاله "جاستون فييت" في موسوعة "اليونسكو" ومفتريات اليونسكو على الإسلام.
[7] واقعنا المعاصر للأستاذ/ محمد قطب ص 510، 511 بتصرف.