أرشيف المقالات

صيام التطوع

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
الصيام هو الامتناع عن الطعام والشراب والشهوات بنية، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وهذا هو الصيام في الإسلام، وفي كل الأمم قبل الإسلام، وأي صيام غير هذا، فهو شريعة محرَّفة مُزوَّرة؛ قال تعالى:  {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}  [البقرة: 79].
 
والصيام عبادة تشحَذُ الهِممَ، وتقوِّي الإرادة، وتسمو بالنفس، وترتقي بالروح، وتغرس التقوى في القلب ؛ لِما فيها من مجاهدة الطبع، وميول النفس الجارف لتلبية شهوة البطن والفَرْجِ، فالصيام مجاهدة عنيفة للنفس؛ ليتمكن المؤمن من امتلاك زمام نفسه، وإحكام السيطرة عليها؛ قال تعالى:  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
 
فشرع الصيام لأهداف عديدة؛ من أهمها: مجاهدة النفس توطئة وتمهيدًا لبِناءِ نفوس تقِيَّة، تَقْوى على مجاهدة أعداء الإسلام بالسِّنان، والحسام، واللسان.
 
وليستقيم للمسلم صيامُ رمضان َ، شرع الإسلام صيام النافلة تمهيدًا لصيام رمضان، فكان سلف الأمة يستعدُّون لصيام رمضان قبله بستِّ شهور، فإن لم يتيسر استعدوا من شهر رجب، فكانوا يصومون تطوُّعًا لتهيئة القلب، وتعويد النفس على استقبال رمضان بحبٍّ واشتياق، كما يقوم اللاعب بعملية إحماء قبل بدء المباراة، فالمسلم يقوم بعملية إحماء قبل شهر رمضان؛ ليتمكن من خوض مباراة الجهاد مع نفسه التي هي أعدى أعدائه، وليتمكن من تحقيق نصرٍ حاسمٍ على شهواته وأهوائه في الشهر الفضيل.
 
وصيام النفل أو صيام التطوع مشروع طيلة أيام السنة عدا خمسة أيام فقط، يحرُم صومها؛ وهي: يوما العيدين، وأيام التشريق، وهي الثلاثة الأيام التي تلي عيد الأضحى، ويوم الشك، وهو يوم الثلاثين من شعبان، اختلف الفقهاء في حكم صومه، فقيل: يجوز لمن له عادة في الصيام فوافق يوم الشك عادته في الصوم، وقيل: يُكرَه، وقيل: يحرُم.
 
ورغَّب الإسلام في صيام التطوع، وأعدَّ الله عز وجل الثواب العظيم، والخير الجزيل لمن صام تطوعًا في سبيل الله تعالى؛ ففي الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((‌ «من ‌صام ‌يومًا ‌في ‌سبيل ‌الله، بعَّد الله وجْهَه عن جهنمَ سبعين خريفًا»؛ (متفق عليه).
 
وصيام التطوع كصوم الفريضة في الوقت والقدر والكيفية، ولا فرق بينهما إلا في تبييت النية، ولا أقول النية، فالنية فريضة لازمة لا بد منها في كل عمل يعمله المسلم، بل لا بد من النية في كل ما يأتي المسلم، وما يترك؛ حتى يُثاب على عمله، وأما تبييت النية، فهو نية الصيام من الليل قبل الفجر، فلا بد من نية الصيام قبل الفجر في صيام الفرض، وأما في صيام النفل فيجوز نية الصيام بعد الفجر قبل الظهر على رأي الجمهور، بينما يرى المالكية أن تبييت النية في النفل لا بد أن يقع قبل الفجر كصيام الفرض، وعند الحنابلة يجوز نية النفل في الفرض قبل الزوال وبعده، شرط أن يقع قبل المغرب، واتفق الجميع على أنه لا بد أن يكون على صفة الصائم من أذان الفجر، وألَّا يكون تناول طعامًا أو شرابًا حتى تصحَّ نيته، ويصحَّ صومه.
 
وصيام النفل نوعان:
1- النفل المطلَق:
فيمكن للمسلم أن يصوم أي يوم في العام عدا الأيام التي يحرم صومها، التي سبق ذكرها، والأيام التي يُكرَه إفرادها بالصوم؛ وهي الجمعة والسبت والأحد، فيُكرَه قصد إفراد هذه الأيام بالصوم، لكن يجوز صومها إذا وافقت يوم عرفة أو عاشوراء، أو وافقت عادة له؛ كمن يصوم يومًا، ويفطر يومًا، وهو صيام داود، وهو أفضل صيام التطوع؛ لحديث النبي صلى الله عليه وسلم:  «أحبُّ الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، وكان ينام نصف الليل، ويقوم ثُلُثه، وينام سُدُسه، ويصوم يومًا، ويُفطر يومًا»؛ (رواه البخاري ومسلم)، ويشترط في الأفضلية ألَّا يُضعفه عن عمل مطلوب منه؛ لِما جاء في الحديث الصحيح: ((كان يصوم يومًا، ويفطر يومًا، ولا يفِرُّ إذا لاقى))؛ (رواه البخاري ومسلم).
 
2- النفل المقيَّد:
ومنه المقيد بحال الشخص؛ كالمقيد بحال الشاب الأعزب الذي لا يستطيع الزواج ، ويتأكد الاستحباب في حقه كلما تعرض للإغراء والمثيرات؛ وذلك لحديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  «يا معشر الشباب ، من استطاع الباءة فليتزوج؛ فإنه أغضُّ للبصر، وأحصن للفَرْجِ، ومن لم يستطع، فعليه بالصوم؛ فإنه له وِجاء»؛ (رواه البخاري ومسلم).
 
ومن أنواع صيام النفل المقيد:
النفل المقيد بوقت؛ ومنه الأسبوعي، ومنه الشهري، ومنه السنوي.
 
فمثال الأسبوعي: صيام الاثنين والخميس من كل أسبوع؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتحرى صيام الاثنين والخميس))؛ (رواه النسائي وغيره)، وسُئل صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الاثنين ويوم الخميس قال:  «ذانِك يومانِ تُعرَض فيهما الأعمال على رب العالمين، فأُحِبُّ أن يُعرَض عملي وأنا صائم»؛ (رواه النسائي وأحمد وغيرهما)، وسئل صلى الله عليه وسلم عن صوم الاثنين فقال:  «فيه وُلدتُ وفيه أُنزل عليَّ»؛ (رواه مسلم).
 
ومثال الشهري: صيام ثلاثة أيام من كل شهر؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((أوصاني خليلي بثلاث لا أدَعُهن حتى أموت: صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى، ونوم على وِترٍ))؛ (رواه البخاري ومسلم)، وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:  «إذا صمت شيئًا من الشهر، فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة»؛ (رواه النسائي، وابن ماجه، وأحمد).
 
ومثال السنوي:
له أمثلة كثيرة؛ منها:
1- صيام أكثر شهر المحرم: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم»؛ (رواه مسلم).
 
2- صيام أكثر الأشهر الحُرُم؛ وهي: ذو القَعدة وذو الحِجة والمحرم ورجب؛ لحديث:  «صُمْ من الحُرُمِ واتْرُكْ»؛ (رواه أبو داود).
 
3- صيام ستة أيام من شوال؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:  «من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوال، كان كصيام الدهر»؛ (رواه مسلم).
 
4- صيام يوم عرفة، وصيام يوم عاشوراء، ويوم عرفة هو يوم التاسع من ذي الحجة، ويوم عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر المحرم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:  «صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله، والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله»؛ (رواه مسلم).
 
5- صيام أكثر شهر شعبان؛ عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يُفطر، ويُفطر حتى نقول لا يصوم، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صيامًا منه في شعبان، كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلًا))؛ (رواه البخاري ومسلم).
 
ولمن أراد أن يصوم العام كله تطوعًا، فهذا جائز ومشروع، بشرط أن يُفطِرَ الأيام التي يحرم صومها؛ وهي العيدان وأيام التشريق، ويوم الشك على خلاف في حكم صومه، وقد ذكرنا آراء الفقهاء في حكم صوم يوم الشك، ويشترط أيضًا لمن أراد أن يصوم العام كله ألَّا يُضْعِفَه عن أداء عمل مطلوب منه.
 
والله تعالى أعلى وأعلم، ونسأله سبحانه وتعالى الإخلاص والقبول.
_______________________________________________________
الكاتب: أ.
د.
حلمي عبدالحكيم الفقي

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣