تفسير سورة ص [17-20]


الحلقة مفرغة

قال الله جل جلاله: اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:17].

لا نزال في سورة (ص) مع داود عليه السلام، ومع نبينا عليه الصلاة والسلام وهو يدعو قومه والناس أجمعين إلى عبادة الله الواحد، وترك الأصنام والأوثان والشركاء من غير الله، فقال الله له: اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ[ص:17].

يسليه جل جلاله ويعزيه بعد أن قص علينا قصص أولئك الكافرين الجاحدين من تكذيبهم له، ومن صدهم لرسالته، وحربهم لدينه، ومقاومتهم لأتباعه، وكفرهم بالله صباح مساء، ولكن الله أنكر عليهم وهددهم بما صنع بالأمم السابقين، ثم وعد نبيه وصبره فقال: اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ[ص:17] أي: اصبر يا محمد! فإن لك أجراً عندما تدعوهم إلى الله.

اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ[ص:17] أي: من تكذيبك، وعدم الإيمان بك.

وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ[ص:17].

ثم أخذ يذكر له قصص الأنبياء من إخوانه السابقين وآبائه كقصة داود وسليمان وأبيه الأعلى إبراهيم وإسماعيل وبقية أنبياء بني إسرائيل، وما حصل لهم من المشركين الكافرين ممن لم يقبل رسالتهم ودعوتهم فقال له: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ[ص:17] أي: تذكر داود وما أُملي عليك فيه فيما سبق من سور وآي.

قوله: عَبْدَنَا دَاوُدَ[ص:17] ونسبة عبوديته إلى الله فيها تشريف لداود، وداود هو أبو سليمان، وهو أحد كبار الأنبياء من بني إسرائيل، وكبار قومه بما أعطاه الله من معجزات وكرامات، وهي مفصّلة في سورة الأنبياء، وهنا يذكر الله عنه قصة فيها عبرة.

قوله: ذَا الأَيْدِ[ص:17].

أي: صاحب الأيد، والأيد: القوة.

قوله: إِنَّهُ أَوَّابٌ[ص:17] أي: رجّاع لله، ورجّاع للحق.

و(آب) أي رجع، والأواب: كثير الرجوع، أي: كثير الرجوع إلى الله في عبادته وطاعته وأعماله، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحاح: (أحب الصيام إلى الله صيام داود، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود، فقد كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه) أي: كان يوزّع أيامه يوماً للعبادة ويوماً للقضاء والفصل بين المتخاصمين، ويوماً لشئونه الخاصة ونسائه.

قال الله عنه: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ [ص:18]:

أي: من معجزات داود أن الله هيأ له الجبال تسبّح وتذكر الله معه، وتوحّده معه حيث سار من الأرض.

يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ [ص:18].

في العشي: في المساء إلى الغروب، وفي الصباح منذ الإشراق إلى المساء.

وكون الجمادات توحّد وتسبّح هذا من المعلوم ضرورة في السرائر، وقد قال الله عن الأشياء كلها: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44] (وإن من شيء) أي: جماداً كان أو متحركاً، حيواناً كان أو إنساناً، ملكاً كان أو جناً، كل ذلك يسبّح الله ويعبده ويوحّده، ولكننا لا نفهم تسبيحهم ولا لغتهم ولكن الله يفهم لغتهم وتسبيحهم لداود وولده سليمان عليهما وعلى نبينا السلام، كما أفهم ذلك لنبينا عليه الصلاة والسلام، فقد كلّمه الجذع والضب والجمل والجماد.

قال تعالى: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ [ص:18] ومن المعلوم أن لداود صوتاً كان إذا سمعه الطير والشجر والحجر حنَّ وأنّ إليه، وسبّح بتسبيحه، وذكر الله بذكره، وقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلاً على أبي موسى الأشعري وهو يقرأ القرآن، فوقف برهة ينصت إليه معجباً بصوته وتلاوته وبتدبّره للتلاوة والقراءة، فلما أصبح الصباح قال له عليه الصلاة والسلام: (لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود) أوتي جمالاً وحلاوة في الصوت كأنه صوت ومزمار داود، وقد قال ربنا: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ [فاطر:1] وقُرئ يَزِيدُ فِي الْحَلْقِ مَا يَشَاءُ [فاطر:1] هكذا كان داود، فإذا أخذ يتلو الزبور ويذكر ربه ويوحده ويسبحه أو يبكي على ذنبه أو زلّته فهو يتلو ويتغنى بتلاوة ما أُنزل عليه من كتاب الله الزبور، ومن تسبيحه وتحميده، كان يسبّح معه -حال تسبيحه- الطير والجماد، والشجر والحجر، وكل من في الأرض ممن يسمع صوته إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ [ص:18] في العشي مساء، وفي الإشراق صباحاً.

قال عبد الله بن عباس : (ما كنت أدري ما صلاة إشراق حتى قالت لي أم هانئ : إن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح دخل عندها فاغتسل وصلى ثمان ركعات ضحى وإشراقاً، وقال لها: يا أم هانئ ! هذه صلاة الإشراق).

وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم ثلاث وصايا: قال: لا تنم إلا على وتر، وصم من كل شهر ثلاثة أيام، وصل ركعتي الضحى). وصلاة الضحى: هي ثمان ركعات في الأكثر، وركعتان في الأقل، وهي سنة مستحبة عند جميع المذاهب، ووقتها عند شروق الشمس وصعودها في الأفق، وتعميمها على الأرض وهاداً وجبالاً، يقال لغة: شرقت الشمس أي: طلعت، وأشرقت الشمس: أي ابيضّت، وصعدت في الآفاق وأنارت الجبال والوهاد: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ [ص:18].

قال تعالى: وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ [ص:19].

أي: كما سخّر الله له الجبال تُسبّح معه عشية وصباحاً سخّر له الطير، والألف واللام للجمع أي: جميع أنواع الطير، فكانت كذلك تحوم في الجو عندما تسمع داود يتغنى بذكر ربه، وبتوحيده وتسبيحه، وذاك معنى قوله تعالى: وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً [ص:19] أي: محبوسة واقفة في الهواء تسبّح وتوحّد وتنزّه وتمجّد ربها مع داود نبي الله، وهو يسبّح، ويتلو الزبور بصوته الشجي، قوله: كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ [ص:19] .

كُلٌّ التنوين هنا تنوين العوض أي: كل الجبال والطير والحيوانات تجدها أوّابة ومطيعة.

قال تعالى: وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ [ص:20].

جمع الله لداود بين الملك والنبوة، وشد ملكه وآزره وقوّاه، وجعل له من مظاهر العفّة والقوة والمال وكثرة الجند ما كان على بابه من الحرس والجند (33000) صباحاً و(33000) مساء، ولا يأتي الشخص الدور لحراسة داود إلا مرة في العام قالوا: لكثرة جيوشه وحرسه وجنده، وما أعد الله له وهيأ وذلّل من غنى ومال وسلطان وجاه في قيام ملكه، وقيام رسالته، فكان قوياً في ملكه ورسالته وعبادته، ذا أيد كما وصفه الله جل جلاله.

وقال بعض المفسّرين في تفسير وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ [ص:20]: جاءه خصمان يشتكي أحدهما الآخر، وقال المشتكي: إن فلاناً غصبني بقري، فأرجأه إلى اليوم الثاني، وإذا بهما يأتيانه، فيأمر داود بقتل المدّعي الذي أُخذت بقره، فقال المشتكي: يا نبي الله! أنا المظلوم، وأنا الذي غصبت بقري، فكيف تأمر بقتلي؟! قال: فلقد أمرني الله بقتلك، فانظر ماذا صنعت؟

قال: إن كان ولا بد فهو لم يأمر بقتلي لهذه الشكوى، ولكنني سبق لي أن قتلت أبا هذا الذي غصب بقري، ولم يعلم بذلك إلا هو، فقد آن أوان القصاص والعقاب على فعلي هذا.

عند ذلك اشتد ملكه، وأصبح جميع رعيته وأتباعه يهابونه، ويخشون أن يكتموه ذنوبهم ومعاصيهم التي اكتشفها بوحي من الله، فأمر بقتل الجاني على جناية سبقت منه لا على الذي اشتكى منها وهو منها مظلوم.

وإن صحت هذه القصة فهي لا تتنافى مع عموم معنى الكلمة وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ [ص:20] أي: شد ملكه بالجاه وبالجند وبالحكمة والسلطان، وبقوة المال والمعرفة للقضاء والأحكام.

وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ [ص:20] أي: أكرمناه بمعرفة الحكمة والصواب والرسالة والنبوة، وقد قال الله تعالى لأمهات المؤمنين: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ [الأحزاب:34] وهي سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

ولقد كان عبد الله بن عمرو بن العاص يكتب حديث النبي صلى الله عليه وسلم ثم توقف؛ فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (ما بالك لا تكتب؟ فقال: يا رسول الله! لقد قالت لي قريش: أتكتب عن رسول الله كل ما يقول وهو بشر ينطق بالرضا والغضب؟! فقال له رسول الله عليه الصلاة والسلام: اكتب فوالله لا يخرج منه إلا الحق) وهو الحكيم صلى الله عليه وسلم، وقد أوتي جوامع الكلم.

قوله: وَفَصْلَ الْخِطَابِ [ص:20].

فصل الخطاب: الفصل في القضاء ومعرفة الحكم، وتمييز الظالم من المظلوم، ومعرفة الحقوق، وأين ذهبت؟ ومن غصبها؟ ومن غُصبت منه؟ وهي علم قائم بنفسه.

وقد يكون الرجل عالماً كبيراً ويكون مغفلاً فلا ينتبه للظالم من المظلوم، وبالتالي لا يولى لأخذ الحقوق من الظلمة، وقد يكون الرجل قليل العلم ولكنه أُعطي معرفة الظالم من المظلوم حكمة وبداهة وفطرة، وهذا كثير في تاريخ القضاء والقضاة، وفي تاريخ المسلمين القديم والحديث، فكان داود قد أُعطي فصل الخطاب، وما هو فصل الخطاب؟

قال علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه: هو الحكم بالبينة على المدّعي واليمين على من أنكر.

وقيل: فصل الخطاب: إرجاء الدعوى زمناً لعله يهتدي ويميّز الظالم من المظلوم، خاصة وقد يكون الظلمة لسنين فُصحاء بباطلهم، ويكون المظلوم عيي اللسان في بيان حقه وإظهاره، وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: (لعل أحدكم يكون أبين بحجته من أحد، فأحكم له بنحو ما أسمع، فمن حكمت له وليس بحق فإنما أقطع له قطعة من نار) أي: الحكم يكون حسب القول، وحسب ظاهر الكلام، فإذا عجز صاحب الحق عن أن يظهر حقه فحُكم له بمقتضى ذلك فإنما هي قطعة من النار، وليس المراد أن يحكم الحاكم بعد تبيين ذلك الحق له وهو يعلم بطلانه، فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يصدر هذا عنه قط في حكم من الأحكام، ولا قضاء من الأقضية، ولكنه يقول ذلك مشرّعاً لأتباعه وأمته؛ حتى لا تغتر بالقول، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (إن من البيان لسحراً، وإن من الشعر لحكمة).

من بعض البيان والفصاحة والبلاغة سحر يسحر به المتكلم سامعيه، فيموه الحقائق، ويظهر الحق باطلاً، والباطل حقاً، فيسحر الأسماع كما يسحر غيره الأعين.

وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ [ص:20] معناه: أعطى الله داود الصواب في القول والحكم والشكوى، بحيث يكون خطابه وحكمه فصلاً يرجع سامعوه إلى الصواب؛ لأنهم يرون فيه حقوقهم، ويرون فيه عودة ما ظلموا فيه، وزوال الظلم عنهم.


استمع المزيد من الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة ص [45-61] 1958 استماع
تفسير سورة ص [29-40] 1805 استماع
تفسير سورة ص [62-88] 1447 استماع
تفسير سورة ص [41-45] 1234 استماع
تفسير سورة ص [1-4] 1086 استماع
تفسير سورة ص [12-17] 1043 استماع
تفسير سورة ص [21-29] 713 استماع