تفسير سورة ص [62-88]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ * أَاتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمْ الأَبْصَارُ * إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [ص:62-64].

دخل الأتباع والمتبعون النار فالتفتوا يميناً وشمالاً لعلهم يرون رجالاً كانوا يهزءون بهم في الدنيا فسألوا عنهم: وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ [ص:62-63]، فقد كان الكفار يستهزئون بالمؤمنين الصالحين في دار الدنيا، ويسخرون منهم، ويحقرونهم فيقولون عنهم: رجعيون، متخلفون، فيقولون: أين هؤلاء؟ لِمَ لم نرهم؟ فقد كنا نهزأ بهم وبأحوالهم؟ ألم يوجدوا معنا أو وجدوا ولكن زاغت عنهم الأبصار؟ أي: مالت عنهم.

ولكن هؤلاء هم بدورهم في الجنة، يبحثون عنهم، ويقولون لهم: فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ [الأعراف:44] وهكذا قيل لـأبي جهل عندما دخل النار: أين بلال وصهيب ؟ وأين من كان يهزأ بهم من مساكين الصحابة وفقرائهم؟

فإنهم في أعلى عليين مع محمد وصحبه صلى الله عليه وسلم، ورضي الله على أصحابه أجمعين، فكل كافر في النار كان في دنياه يهزأ بالصالحين، وعندما يدخل النار سيبحث عن أولئك الذين كان يهزأ بهم في دار الدنيا ولم يرهم في جهنم، فيقول لنفسه: هل زاغ بصري ومال عنهم.

وقوله تعالى: كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ [ص:62]، أي: كنا نعدهم شريرين ضالين مغرورين.

وقوله: أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ [ص:63]، هل عندما كنا هزأنا بهم كنا ظالمين ضالين لا نعلم الحق من الباطل؟ أم زاغت أبصارنا ومالت عنهم فلم ترهم.

ويقول ربنا: إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [ص:64].

يخبرنا جل جلاله بأن خصومة أهل النار هي حق، فيلعن الإمام المؤتم، والصغير الكبير، والمتبوع التابع، والتابع المتبوع، فهم يتخاصمون ويتنازعون وهم مع ذلك في عذاب خالد دائم.

قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ [ص:65-66].

يقول الله لنبيه: قل لهؤلاء الكفرة بك، وبإلهك، وبالكتاب المنزل عليك، إنما أنا منذر، لست إلهاً ولا معبوداً فأنا بشر مثلكم، أرسلني الله إليكم لأنذركم، ولأخوفكم، ولأهددكم عقوبة يوم القيامة، ولست ساحراً أو كاهناً أو مجنوناً، ولكنكم قوم لا تعقلون، فأنا أبشر المؤمنين بالجنة، وأنذر الكافرين بالنار.

وقوله: وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [ص:65]، أي: ليست هناك آلهة متعددة، وقد جئتكم بإله واحد، وجعلت الآلهة إلهاً واحداً، وأخذتم تتعجبون، وتقولون: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5]، واعجباً في ذلك! والعجب في كفركم وفي قولكم، وفي بعدكم عن الله.

فما من إله إلا الله الواحد القهار، ولا إله معبود بحق إلا الله الخالق الرزاق الواحد القهار، الذي خلق الخلق، وقهرهم بالموت، وبالعرض عليه يوم القيامة لينالكم الجزاء: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8].

وهو القاهر فوق عباده، وما كل من ادع الألوهية والربوبية إلا خلق من خلق الله، لا يضر ولا ينفع، ملكاً كان أو إنساً، أو جناً ومن باب أولى إن كان جماداً.

وقوله: رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا [ص:66].

أي: ربها وخالقها ورازقها، فهو مدبر السماوات وما علاها، ومدبر الأرض وما فيها، وما قد خفي فيها، وما بين السماوات والأرض من نجوم وكواكب متنقلات مما لا يعلمه إلا الله، فكله خلق الله، وكله تحت قهره وتدبيره، يحيي من يشاء ويميت من يشاء، لا شبيه له لا في صفة ولا في ذات، لا في أفعال.

وقوله: الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ [ص:66].

العزيز هو الذي لا ينال، ولا يوصل إليه لعزته وقهره جل جلاله، وهو مع ذلك يغفر لمن أساء ثم أناب، فيغفر للمستغفرين وللتوابين ولمن رجع إليه، فالله يتوب على من تاب إليه إلا من أبى إلا البقاء على الشرك والاستمرار فيه ومات عليه، فإن الله لا يغفر أن يشرك به، ومن مات على الشرك والكفر يستحق العذاب الدائم الذي لا مغفرة فيه ولا سماح.

قال تعالى: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ [ص:67-68].

أي: قل لهؤلاء: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ [ص:67]، وهو كقوله تعالى: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ [النبأ:1-2].

والنبأ العظيم: الآخرة والقرآن الكريم، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبي الله ورسوله الخاتم، ورسالات الله كلها نبأ عظيم، ومع ذلك على عظمته، وعلى قوته، وعلى سعادة من علم وعمل به، وعلى شقاوة من أنكره ولم يعمل به، هو عظيم، لا يضعفه كفر الكافر ولا جحود الكافر، وهو عظيم على كل اعتبار.

قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ [ص:67] أي: القرآن نبأ عظيم، فقد أوحى به إلى نبيه وخاتم الأنبياء، فمن آمن به سعد، ومن كفر به شقي.

وقوله: أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ [ص:68] أي: هم قد أعرضوا عنه، وأدبروا عن الإيمان به، وأشركوا بما جاء فيه من حقائق، وقد تجد إنساناً وهو لا يزال حياً يرزق، وهو لا ينتهز فرصة حياته وقوته وشبابه للتوبة والإنابة والعبادة، والبعد عن الكفر والفجور، فستجدهم مع ذلك يتساءلون عن هذا النبأ العظيم: أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ [يونس:53].

يقول لأتباعه وللعرب وللعجم ولكل الناس: خذوا المعجزة والصدق، إن كانت لكم عقول.

قل: مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ [ص:69].

أي: ليس لي علم بالملأ الأعلى، وهم الملائكة في السماوات العلا، فلست أدري بذلك لا أنا ولا غيري من سكان الأرض.

مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ [ص:69] أي: اختصام الملائكة، والملأ الأعلى هم الملائكة الأشراف والسادة.

وليس لأحد من الخلق علم بالملأ الأعلى، إذ إن ما بين السماء الدنيا والأرض خمسمائة عام، وبين كل سماء مع السماء التي فوقها ما بين السماء والأرض، ومع ذلك فقد أخبر نبينا بخبر الملائكة وبمحاورتهم، وبمذاكرتهم، فيما قصه الله علينا، قال تعالى: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة:30]، فعندما أخبرهم الله بأنه سيخلق خليفة في الأرض وهو آدم ليعبده، وتعبده ذريته وأبناؤه، قال بعض الملائكة: كيف يكون ذلك يا ربنا! وهم يسفكون الدماء، ويظلمون ويفسدون في الأرض؟! فهذا معنى الاختصام.

وقد قال المفسرون هو خصام من حيث الأخذ والعطاء، وإلا فمن الذي يخاصم ربه ولكنها محاورة ذكرت بلفظ الخصام، فحاوروا ربهم وذاكروا ربهم عندما أخبرهم بأنه جاعل في الأرض خليفة، فقالوا له: (أتجعل فيها) وهذا استفهام ولم يكن إنكاراً، معاذ الله! فملائكة الله معصومون.

إنما هي خصومة من حيث القول، ومحاورة من حيث الواقع، فيقول نبينا ما علمه الله أن يقول: مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ [ص:69]، فلم يكن له علم بما حصل بين الله وملائكته، وبين الله وإبليس من مخالفة ومن خروج عن الحق واستعلاء وتكبر.

فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلم بما لا يفهم، فقد نزل عليه الكتاب الواضح البين وبينه ووضحه، وما سنته إلا بيان وشرح وتفسير لكتاب ربنا المنزل عليه، قال تعالى: إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ [ص:70]، فالنبي عليه الصلاة والسلام عبد الله كواحد منكم، ولكن الله اختاره للنذارة وللرسالة وللنبوءة.

قال بعد ذلك: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [ص:71-72].

وهذا كان بين الله وملائكته في السماوات العلا عند خلق آدم في السماء، وبقي فيها إلى أن صدر منه تلك الهفوة فأنزله الله إلى الأرض؛ ليتم أمر الله في عباده وخلقه.

فقوله: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ [ص:71] أي: ملائكة الملأ الأعلى، والآية الماضية مقدمة لهذا والذي بعده.

وقوله: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ [ص:71] أي: أصنعه وأخلقه وأجعله من طين؛ فخلق ربنا أبانا الأول آدم من صلصال من حمإ مسنون، ثم خلق أمنا حواء من ضلع آدم، وخلقنا من نفس واحدة وجعل منها زوجها، والنفس الواحدة هي آدم، وجعل من النفس الواحدة زوجها، وهو ما بينه المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في الصحاح من أن المرأة خلقت من ضلع أعوج، فإن أنت أقمتها كسرتها، وإن تركتها تمتعت بها وبها عوج.

والنساء ناقصات عقل ودين، فإذا جئت بالأعوج وحاولت أن تقيمه كسرته، وإذا حاولت أن تتمتع به تمتعت به وبه عوج، لتكون أماً، ومعينة لك في عبادة ربك، ولتكون الأسرة بواسطتها، ولا بد من بذر ولا بد من أرض، فكان البذر مني الرجل، وكانت الأرض رحم المرأة.

وهكذا بعد أن خلق الله أبانا من تراب من طين، وخلق أمنا منه بعد ذلك، خلقنا من ماء مهين من نطفة، وجعل من النطفة ذكراً وأنثى، وهكذا دواليك، ولم تتغير هذه القاعدة إلا في عيسى، فقد خلقه الله من أم بلا أب.

وقوله: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ [ص:72] أي: صنعت صورته على الشكل المعروف، وانتقل من كونه جماداً تراباً إلى صورة لا حراك بها.

وقوله: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [ص:72] أي: أصبح الإنسان متحركاً ذا روح، فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [ص:72] فامتثل الملائكة الذين حاوروا ربهم: كيف تخلق خلقاً يسفكون الدماء، ويفسدون في الأرض، ولا شك أنهم ما قالوا ذلك إلا أنه كان خلق قبلنا قد سفكوا الدماء، وأفسدوا في الأرض، ثم اندثروا وانتهوا، فخاف الملائكة أن يعاد ذلك؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وقد أخذ علماؤنا والعارفون بالله هذا المعنى من هذه الآية.

وهذه القصة ذكرت في سورة البقرة وبيناها مفصلة، وفي سورة الأنعام، وسورة الكهف، وعديد من السور، وفي كل سورة تذكر لحكمة ولمعنى مع السياق ومع نظم الآي.

قال الله تعالى: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [ص:72-74].

أمر الله الملائكة أن تسجد لآدم الذي صنعه بيده ونفخ فيه من روحه، فامتثلوا أمر الله، فسجد الملائكة كلهم إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين.

وإبليس لم يكن ملكاً، فقد قال الله عنه: كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف:50] ولكنه كان معهم وفي ملئهم، ويجتمع باجتماعهم، ويدين الله بدينهم طاعة وتقى، ولكن النفس الخبيثة تأبى إلا أن تعود لفطرتها وأصلها.

فقوله: إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [ص:74] أي: تعاظم، وهو حد الكفر والشرك والتكبر.

وسمي إبليس من أبلس، أي: طرد من رحمة الله، فهو عندما عصى وخرج عن الطاعة والأمر، طرد من الرحمة ونزع منها كما نزع الثوب من الإنسان.

قال تعالى: قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ [ص:75].

أي: يا إبليس لِمَ لم تسجد لهذا الذي خلقته بيدي، وقد أمرتك مع الملائكة بالسجود له، هل استكبرت وتعاليت في نفسك، وظننت لنفسك ميزة واعتباراً، أم وجدت نفسك أعلى مقاماً، وأرفع نسباً، وأفضل خلقاً؟

فيجيب إبليس بكل سفه مبيناً سبب استكباره واستعلائه: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص:76].

فأخطأ وزل مرتين، مرة في كبريائه وتعاظمه، ومرة في ظنه: أن النار خير من الطين، وهيهات هيهات! ولولا الطين ما زرع حب ولا نبت شجر ولما عاش مخلوق، أما النار فلا تقبل نباتاً ولا زرعاً ولا خيراً، وإن كانت لها مصالحها؛ ولكن مع ذلك فإن التراب والأرض والطين أكثر وأعم نفعاً.

قال تعالى: قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [ص:77].

طرده الله من رحمته، وأخرجه من جنته وأبعده عن ملائكته، وقال له: فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [ص:77] أي: مرجوم وملعون، وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ [ص:78]، فهو ملعون مطرود عن رحمة الله إلى يوم القيامة.

قال تعالى: قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [ص:79].

عندما لعنه الله لعنة دائمة مستمرة إلى يوم الدين، طمع أن يبقى حياً إلى ذلك اليوم فقال: رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [ص:79].

أي: أرجعني وأخرني في موتي إلى يوم البعث والنشور.

قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ [ص:80-81].

فأنظره الله وأجله وأخره ليبتلي به من يبتليه، ويختبر به من يختبر، ليكون إيمان المؤمن عن ثبات ويقين بعد الابتلاء والفتنة قال تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2]، والفتنة تكون بالشيطان بإغوائه ووساوسه، وكذلك في البرزخ لامتحان إيمان المؤمن.

قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ [ص:79-80] أي: المؤجلين، المؤخرين، إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ [ص:81] أي: يوم القيامة .. يوم البعث .. يوم النشور .. يوم الحياة الثانية، فطمع الشيطان فقال: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83].

فإذا الشيطان زاد طغياناً وإغواء لبني آدم لأن آدم كان سبب شقائه وبلائه ولعنته وطرده من الجنة ومن رحمة الله، ورأى أن هذه المدة إلى يوم القيامة طويلة يستطيع فيها الإغواء والإفساد.

قَالَ فَبِعِزَّتِكَ [ص:82] طلب الله بعزته وجلاله وبمقامه، أي: أسألك وأتوسل إليك بعزتك لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82] أي: لأدعو جميع البشر إلى الغواية والضلال والعصيان والمخالفة والشرك والكفر وفساد الطاعة وغير ذلك.

إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:83] إلا من أخلصوا لعبادتك، ممن أخلصتهم برحمتك وتوفيقك، وأبعدتهم عن وساوسي وإغوائي.

فيجيبه الله جل جلاله فيقول: قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:84-85].

يقول الله جل جلاله: قَالَ فَالْحَقُّ [ص:84] أي: أنا الحق، فالحق أنا، وقرئ: (فالحق) وهو منصوب على حذف الفعل وتقديره: أقول الحق، فقد أقسم الله بجلاله وباسمه الحق أنه سيملأ جنهم من الشيطان وذريته وممن أغواهم.

والله يأمر الناس بواسطة رسله وكتبه أن يتركوا الشيطان وأن يتخذوه عدواً كما اتخذ الإنسان عدواً، وأخرج أباهم وأمهم من الجنة، بسبب إغوائه لآدم طرد من الجنة من أجله.

هذه القصة بتفاصيلها قد مضت من قبل، فالله تعالى يذكر نبينا الذي فضله على النوع البشري الذي اختصه الله بالخلق بيده، وبالنفخ فيه من روحه، وأكرمه بسجود الملائكة له، ومن كان كذلك فيجب أن يعنى بنفسه وبذاته، فلا يغويه الشيطان ولا يتبع وساوسه وإنما يطيع الله الذي شرفه وكرم أصله حيث صنعه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته.

قال تعالى: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86].

أي: يا محمد يا رسول الله! قل لهؤلاء الذين غووا وضلوا، وكذبوك وكفروا: لم آتكم بالرسالة أطلب مالاً أو جاهاً أو أجراً أو سلطاناً أو نساءً أو تاجاً، وقد أرادوا ذلك بواسطة أبي طالب والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي على أن أدع هذا الأمر ما تركته حتى أهلك أو يقضي الله بيننا)، فقد عرض عليه كل ذلك وأبى، حتى أظهر الله دينه وكان سيد السادة وإمام المرسلين.

وكانت الجنود والأباطرة يتشرفون بقدومه وباتباع رسالته ابتداء من النجاشي عندما أسلم وآمن به، واتبع دينه، وقال: ما منعني من مجيئي إليك وأن أغسل عن قدمك إلا سؤدد هؤلاء، ولم يأمره النبي عليه الصلاة والسلام بأن يترك الحبشة ليحمي المهاجرين الذين هاجروا من مكة إليه بعد أن آذتهم قريش.

وقوله: وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ[ص:86]، الذين يتكلفون ما لا يعلمون، ويقولون ما لا يعلمون، أي: لولا أن الله أرسلني وأمرني لم أتكلف رسالة ولا علماً ولا أقحمت نفسي فيما لا أعلم.

قال عبد الله بن مسعود : من علم شيئاً فليعلم غيره، ومن لا يعلم فليقل: الله أعلم، فهذا نبيكم صلى الله عليه وسلم كان يقول: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ[ص:86]، أي: لا أكلف نفسي أن أقول ما لا علم لي، وإنما أقول ما علمني ربي، فأمرني أن أقول: وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ[ص:86].

قال تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ [ص:87].

أي: إن القرآن والرسالة تذكير لعالم الإنس والجن، والعوالم كلها، منذ خرج وظهر في هذه البطاح المقدسة، وقال: (يا أيها الناس! إني رسول الله إليكم جميعاً)، وكلهم وجد علماً من علوم رسول الله، وكما قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: (والله لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي).

فكتاب الله تعالى ذكر لهم فهو يذكرهم ويعلمهم، ويبين لهم الحقائق والعقائد والحلال والحرام، ويبين لهم كيف يعيشون مع أنفسهم ومع أسرهم، ومع أعدائهم، ومع أحزابهم، وفي داخل البلاد وفي خارجها.

قال الله تعالى: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص:88].

اللام هنا هي اللام الموطئة للقسم، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقسم بما علمه الله وأكد ذلك بنون التوكيد الثقيلة، أي: لتعلمن نبأ هذا الذكر وهذا القرآن وهذه الرسالة وهذا النبأ العظيم، بَعْدَ حِينٍ [ص:88] أي: حين يعلمكم الله ذلك، وتظهر لكم الحقائق من المعجزات التي أتى بها القرآن، والتي نطق بها رسول الله عليه الصلاة والسلام، والتي ستظهر في الكون في آخر الزمان مما أخبر به الله، ونبأ عنه رسول الله الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.

وكذلك عند موتكم، فالإنسان إذا مات أتاه اليقين، قال تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]، أي: اعبد الله ما دمت حياً حتى ينتقل ما آمنت به غيباً فيكون إيمانك به يقيناً ومشاهدة، ويكون ذلك بالموت.

وفي يوم القيامة سيفصل الله بين العباد: بين اليهود والنصارى، وبين المسلمين مع اليهود والنصارى، وبين طوائف المسلمين الذين افترقوا إلى ثلاث وسبعين فرقة كما أخبر الصادق المصدوق.

هذه الفرق تزعم كل منها أنها وحدها على الحق وسواها على الباطل، ومن هداه الله ابتلاه في دنياه، ومن ضل فإنه يبقى ضالاً إلى يوم القيامة إلا أن يدركه الله برحمته وبنعمته، ونرجو من الله أن يجعلنا من هذا القبيل ممن يعلمهم الله ويرشدهم ويلهمهم ما يعود عليهم بخير في الدنيا والآخرة، وهذه الآية الكريمة على قلة ألفاظها هي من جوامع كلم القرآن، وقد كتب كاتب فرنسي نصراني كتاباً يتكلم فيه عن القرآن الكريم موازناً له بالتوراة والإنجيل، وأن كل العلوم والحقائق الكونية سماء وأرضاً مما ذكر القرآن يؤكدها العلم الحديث، وتؤكدها الحقائق، وليس فيها تغيير ولا تبديل، ولا قلب للحقائق، وهذا بخلاف التوراة والإنجيل، فالتوراة قد بدلت، والإنجيل قد غيرت، ودخلها الكذب والتحريف والتبديل، فظهر فيها فساد المفسدين، وهذا من معجزات القرآن، وقد قال الله عن القرآن الكريم: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، وقد مضى عليه أربعة عشر قرناً ولم يستطع أحد أن يغير ما فيه أو يبدله أو يحرفه زيادة أو نقصاًفي حرف أو حركة أو سكون على كثرة أعداء الإسلام، وأعداء القرآن، وأعداء محمد النبي الكريم عليه الصلاة والسلام.

فالقرآن الذي نزل على محمد عليه الصلاة والسلام في مكة المكرمة والمدينة المنورة هو هذا القرآن الذي نقرؤه اليوم بلا تبديل ولا تغيير، بالوقفات والحركات والسكنات، والتقديم والتأخير والنظم، أليس هذا الوحي هو معجزة المعجزات؟ وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن كل معجزات الأنبياء السابقين قد أدت مهمتها وانتهت، وأما القرآن فهو المعجزة التالدة الخالدة التي يدرك إعجازها لفظاً ومعنى كل إنسان يأتي بعد نبينا عليه الصلاة والسلام.

فالأصحاب آمنوا بهذه المعجزة علماً وتصديقاً، وأما نحن فآمنا بها وقوعاً ومشاهدة، وبهذا نكون حققنا ما أخبر به النبي عن كتاب الله.


استمع المزيد من الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة ص [45-61] 1958 استماع
تفسير سورة ص [17-20] 1896 استماع
تفسير سورة ص [29-40] 1805 استماع
تفسير سورة ص [41-45] 1234 استماع
تفسير سورة ص [1-4] 1086 استماع
تفسير سورة ص [12-17] 1043 استماع
تفسير سورة ص [21-29] 713 استماع