اليسار يتوحّد ضد إسلاميي مصر
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
منذ تنحّي الرئيس المخلوع حسني مبارك عن سدة الرئاسة المصرية يوم 11 فبراير من العام الماضي، والمشهد السياسي على وقع حالات عدة من الاستقطاب، والدخول في العديد من المعارك، ما أرهق هذا المشهد بالعديد من المصطلحات، التي ما يلبث أن يتم تحريرها، إلى أن تطفو على السطح مرة أخرى، فتبدو هذه المعارك، كما لو كانت خلايا عنكبوتية لايمكن لها أن تلتئم.
من هذه المصطلحات التي جرى تحريرها أكثر من مرة أن الإسلاميين يسعون إلى إقامة دولة دينية، على الرغم من النفي المتكرِّر بأن التيار الإسلامي لايسعى إلى إقامة مثل هذه الدولة، وأن الإسلام ذاته لايعرف مثل هذا النوع من الحكم.
غير أن هذا النفي مراراً وتكراراً قولاً عبر تصريحات إعلامية وفعلاً باستحقاق الإسلاميين لأغلبية برلمانية ومنصب رئاسي، كل ذلك لم يشفع لغلاة القوم بأنه ليست هناك نية أو رغبة في أوساط الإسلاميين لإقامة مثل هذه الدولة، غير أن ذلك لايلقى صداه لدى قوى اليسار ومن على شاكلتهم، ما يجعلهم يعودون من وقت لآخر لتلوك ألسنتهم مثل هذه الافتراءات لإرهاق الإسلاميين في مناوشات وخلافات بغية تعطيلهم عن مشروعهم في الاستحقاق الرئاسي.
وأمام حالة العبث بالمصطلحات بدعوى هيمنة الإسلاميين على الجميعة التأسيسية المعنية بوضع أول مشروع لدستور مصر بعد الثورة، والسعي لبسط نفوذ التيار الإسلامي على مفاصل الدولة، تحشد القوى الليبرالية والقومية واليسارية من كل حدب وصوب لمواجهة الإسلاميين عبر اندماجات وتحالفات لأحزاب وقوى سياسية، واجتماعات تنفض ثم تنعقد لمواجهة الإسلاميين، وليس هذا من باب التزايد على هؤلاء بشأن موقفهم وعلاقتهم بالإسلاميين، بل بإعترافهم هم بأن الهدف من السعي لتجمعهم ووحدتهم هو مواجهة الإسلاميين، وكأن هؤلاء (الإسلاميين) وحاشاهم ولانزكيهم على الله عزّ وجل بالنبت الشيطاني الذي ينبغي تطهير مصر منه واجتثاثه من أرضها، للدرجة التي جعلت البعض يؤكد أن معركتهم القادمة مع الإسلاميين، وإعادتهم إلى مصيرهم الذي كان إبّان النظام المخلوع، في إشارة إلى توقيفهم مرة أخرى بالسجون والمعتقلات.
على هذا النحو نظر هؤلاء إلى الإسلاميين، وكأن مشاكل مصر قد تم حلها، وأنه لم يعد عائقاً أمام نهضتها سوى الإسلاميين، وأنه وقت أن يتم الإجهاز عليهم وإقصائهم من المشهد السياسي، فإن هذا سيكون هو طريق التقدم للوطن المصري، وأنه من دون تهميش الإسلاميين وإقصائهم، فلن تتحقق النهضة لمصر، للدرجة التي جعلت بعض من يدّعي الثورة بأن يتحسر على إطلاق نشطاء إسلاميين من السجون، في الوقت الذي كان ينبغي فيه حسب مطالباتهم إطلاق المحالين لمحاكم عسكرية في قضائية جنائية، بتهم القتل والاغتصاب والسرقة والاعتداء على منشآت الدولة.
يأتي هذا من جانب دعاة الحريات العامة ورفض الإقصاء والتهميش لأي فصيل سياسي، ولكن يبدو أن هؤلاء لا يعرفون الحرية سوى أنها لكل من هم خارج نطاق العمل الإسلامي، وأن السياسة ينبغي أن تكون متاحة لجميع الفصائل والقوى من دون التيار الإسلامي، حتى لايعمل على العودة بمصر إلى عصور الظلام والرجعية والكتب الصفراء، كما يزعمون ويدعون.
أمثال هؤلاء كأنهم لم يجدوا في مصر مشاكل وتحديات خلفتها الأنظمة الاستبدادية على مدى 60 عاماً من القهر والتعذيب بأنظمة لم تكن تعرف للحريات سبيلا، أو للكرامة طريقا، وكانت ترى أن مقاعدها مرهونة بالقضاء على الإسلاميين، لذلك كان هدفها بالأساس تغييب الإسلاميين إما خلف السجون قهراً أو تكميم أفواههم قسراً، أو تصفية أجسادهم عنوة، حتى توارثت قوى اليسار في مصر لهذه الأساليب القمعية فذهبت لتعمل على تطبيقها اليوم على الإسلاميين، ولم يدري هؤلاء أن في مصر ثورة أطلقت الحريات من عقالها.
غير أن غلاة القوم رأوا أن الإسلاميين وصلوا إلى سدة الحكم على أكتاف من قاموا بالثورة، ونسيَ هؤلاء أو تناسوا الدور الذي بذله شباب الجماعات الاسلاميية عموما في حمايتهم لتخوم ميدان التحرير على مدى الأيام الثمانية عشر يوماً، إبان الاعتصام في الميدان منذ 25 يناير من العام الماضي إلى تنحي المخلوع وسقوط النظام.
المشهد الحالي يؤكد أن قوى اليسار لم تجد أمام مصر أي من التحديات أو المشاكل سوى أن الإطاحة بالتيار الإسلامي أصبح ضرورة تفرضها الأوضاع الحالية في مصر، لذلك كان توحدهم واندماجهم على نحو ما هو قائم في تحالف القوى الليبرالية ضمن "حزب المؤتمر"، والأحزاب الناصرية في "الحزب الناصري"، والقوى الإشتراكية والقوى ضمن "التحالف الثوري"، وكان عنوان الجميع بلا مواربة هو الإطاحة بالتيار الإسلامي، وعلى الرغم من أن أمثال هؤلاء كان هدفهم هذا بالأساس منذ استفتاء المصريين على التعديلات الدستورية في 19 مارس من العام الماضي، إلا أنهم اليوم يترجمونه بصورة أكثر واقعية على الأرض بتحالفات واندماجات، إمتداداً لما كانوا يصدعون به المصريين منذ هذا التاريخ بأن الإسلاميين لا هم لهم سوى الهيمنة والاستقطاب.
حتى إذا كان البرلمان بغرفتيه، ادّعوا أن الأداء البرلماني لا يرقى لمستوى تحديات المصريين، للدرجة التي جعلتهم يسيرون مظاهرات ووقفات احتجاجية أمام البرلمان من وقت لآخر لإسقاط الإسلاميين وإفشال دورهم داخله، إلى أن كان مكرهم وخديعتهم على نحو ما فعلته نائبة رئيس المحكمة الدستورية عندما طلبت من المجلس العسكري التدخل لحل البرلمان، منعاً لتعزيز نفوذ الإسلاميين عليه، إلى أن بلغ المكر والدهاء مداهماً، عندما استخدم "العسكري" المحكمة الدستورية لإصدار حكم معيب تجاوز اختصاص المحكمة بالأساس، لتصدر حكمها بحلّ مجلس الشعب منتصف شهر يونيو الماضي.
ومع نجاحهم في حل البرلمان تمكنوا أيضاً بمكرهم في حلّ الجمعية التأسيسية الأولى، واليوم يسعون لإبطال "الثانية"، بل والمناداة بإعادة الاتخابات الرئاسية، بدعوى أنها لم تُفرز رئيساً يعبّر عن الثورة أو عن جميع المصريين، ولذلك يقومون بحشد وتعبئة واستقطاب مختلف قواههم السياسية لتحقيق مثل هذه الأهداف، بغية الوصول إلى ترجمتها، حتى إذا فشلوا فيها في الهدف الأكبر، كان الأصغر هول الحاصل وهو إرهاق الإسلاميين واشغالهم عن إنجاز الاستحقاق الرئاسي، ليبدو الإسلاميين في أوساط الرأي العام بالعاجزين عن مواجهة مشاكل المصريين.
لذلك تدعم قوى اليسار ومن لف لفيفها في مصر أية مظاهرات أو وقفات احتجاجية، حتى مصابي الثورة وأُسر الشهداء يُتاجرون بقضاياهم ويُزايدون بها على الرئيس محمد مرسي.
والواقع أن أمثال هؤلاء لم يقدموا مشروعاً أو مقترحاً لحلّ أي من الأزمات الحالة في مصر، بل يعملون على إذكاء ما هو قائم منها والسعي إلى تفاقمها، ويصدرون هذه الأزمات إلى الخارج، حتى أن أحدهم دعا بوضوح إلى أهمية تدويل قضية الجمعية التأسيسية، وتوظيف الدول الكبرى للمطالبة بحلّ الجميعة أو تعطيل ما يدور بداخلها.
هؤلاء وإن كانت الانتخابات البرلمانية والرئاسية قد عكست ضحالة وجودهم في الشارع المصري، الا أنهم يمثلون بنفيرهم الإعلامي موضع إزعاج للمصريين، فهم أصحاب صوت عال واستجداء بالغرب، وامتلاك لسطوة الإعلام ونفوذه، وإن كان الرأي العام قد مل من تنظيرهم والاستخفاف بما يرفعونه، بعدما زعموا مئات المرات أن اختيارات المصريين ليست في مواضعها بالتصويت للإسلاميين، ما جعلهم يحدثون ضجيجاً لا طحين من ورائه، وسيتعزز فشلهم هذا عندما تدور الكرة مرة أخرى بإجراء انتخابات برلمانية، ليعرف أمثال هؤلاء أوزانهم الحقيقية في الشارع المصري، علها تكون حجراً تُلقم به أفواههم، أو توجه بوصلتهم إلى جادة الصواب، لتتجه تحالفاتهم إلى بناء الوطن وليس إلى الإستعداء أو التشوية أوالتشهير.
علا محمود سامي