تفسير سورة الكهف - تساؤلات في قصة الخضر


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.

وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59].

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى إخوانه الأنبياء والمرسلين، وآله وصحبه أجمعين، وأحسن الله ختامي وختامكم وختام المسلمين، وحشر الجميع تحت لواء سيد المرسلين.

اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى.

أما بعد:

في الدرس الأخير كان الكلام عن بعض المسائل التي يكثر سؤال الناس عنها في قصة موسى مع العبد الصالح عليهما السلام، وهذه الأسئلة خلاصتها: هل الخضر نبي أو ولي؟ وهل هو حي أم ميت؟ وهل هو أفضل من نبي الله موسى؟ وهل يسع أحداً الخروج على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم مثلما وسع الخضر الخروج على شريعة موسى عليه السلام؟ ثم آخر هذه الأسئلة: لماذا قال الله عز وجل: فَأَرَادَ رَبُّكَ [الكهف:82]؟

الخضر عليه السلام بين النبوة والولاية

أول هذه المسائل: هل الخضر نبي أم ولي؟

أقول: الإمام الماوردي رحمه الله حكى في المسألة ثلاثة أقوال:

القول الأول: أن الخضر عليه السلام نبي.

القول الثاني: أنه ولي.

القول الثالث: أنه من الملائكة.

قال الإمام النووي رحمه الله في القول الثالث: وهذا غريب باطل، أي: القول بأن الخضر من الملائكة غريب باطل، والذي عليه أكثر أهل العلم أن الخضر عليه السلام نبي، وقد دل على ذلك أمور ستة:

الأمر الأول: قول الله عز وجل على لسان الخضر: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف:82]، فدل ذلك على أنه نبي يوحى إليه.

الأمر الثاني: قول الله عز وجل: آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً [الكهف:65]، وفي القرآن الكريم تطلق كلمة الرحمة مراداً بها النبوة، كقول الله عز وجل: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ [الزخرف:31-32]، أي: النبوة.

وقول الله عز وجل: وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [القصص:86]، أي: نبوة.

وكذلك كلمة العلم، كما في قول ربنا سبحانه: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً [النساء:113]، وقوله تعالى: وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:68].

الأمر الثالث: استدل على نبوة الخضر بكونه أعلم من موسى عليه السلام، وما ينبغي أن يكون الأعلم من النبي إلا نبياً، لكن هذا الدليل حقيقةً أجيب عنه بأن الخضر عليه السلام كان أعلم من موسى في نوع من العلم، وليس في مطلق العلم، وقد يوجد نبي ويكون عند بعض خلق الله من العلم ما ليس عنده، كما قال الهدهد لسليمان عليه السلام: أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ [النمل:22]، وكما كان الصحابة يشيرون على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمور هم أخبر بها منه صلوات ربي وسلامه عليه.

الأمر الرابع: أن الخضر قد وقع منه عدوان على النفس، وإتلاف للمال، والعدوان على الناس في أنفسهم وأموالهم لا يصح إلا عن طريق الوحي من الله عز وجل؛ لأن الله تعالى حصر طرق الإنذار في الوحي، فقال سبحانه: قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ [الأنبياء:45].

الأمر الخامس: أن موسى عليه السلام تواضع معه، وتأدب في خطابه وحديثه، فقال له: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً [الكهف:66]؟ وكذلك قال له: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً [الكهف:69]، مع أن الخضر قد أغلظ له في الكلام حين قال: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً [الكهف:68].

الأمر السادس: أنه ينبغي الاعتقاد بنبوته؛ لئلا يتذرع أهل الباطل بذلك في دعواهم بأن الولي أفضل من النبي.

هذه جملة الأمور التي قررها جمهور العلماء في الاستدلال على أن الخضر عليه السلام نبي، ولا شك أن النبي أرفع درجةً من الولي.

أول هذه المسائل: هل الخضر نبي أم ولي؟

أقول: الإمام الماوردي رحمه الله حكى في المسألة ثلاثة أقوال:

القول الأول: أن الخضر عليه السلام نبي.

القول الثاني: أنه ولي.

القول الثالث: أنه من الملائكة.

قال الإمام النووي رحمه الله في القول الثالث: وهذا غريب باطل، أي: القول بأن الخضر من الملائكة غريب باطل، والذي عليه أكثر أهل العلم أن الخضر عليه السلام نبي، وقد دل على ذلك أمور ستة:

الأمر الأول: قول الله عز وجل على لسان الخضر: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف:82]، فدل ذلك على أنه نبي يوحى إليه.

الأمر الثاني: قول الله عز وجل: آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً [الكهف:65]، وفي القرآن الكريم تطلق كلمة الرحمة مراداً بها النبوة، كقول الله عز وجل: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ [الزخرف:31-32]، أي: النبوة.

وقول الله عز وجل: وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [القصص:86]، أي: نبوة.

وكذلك كلمة العلم، كما في قول ربنا سبحانه: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً [النساء:113]، وقوله تعالى: وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:68].

الأمر الثالث: استدل على نبوة الخضر بكونه أعلم من موسى عليه السلام، وما ينبغي أن يكون الأعلم من النبي إلا نبياً، لكن هذا الدليل حقيقةً أجيب عنه بأن الخضر عليه السلام كان أعلم من موسى في نوع من العلم، وليس في مطلق العلم، وقد يوجد نبي ويكون عند بعض خلق الله من العلم ما ليس عنده، كما قال الهدهد لسليمان عليه السلام: أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ [النمل:22]، وكما كان الصحابة يشيرون على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمور هم أخبر بها منه صلوات ربي وسلامه عليه.

الأمر الرابع: أن الخضر قد وقع منه عدوان على النفس، وإتلاف للمال، والعدوان على الناس في أنفسهم وأموالهم لا يصح إلا عن طريق الوحي من الله عز وجل؛ لأن الله تعالى حصر طرق الإنذار في الوحي، فقال سبحانه: قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ [الأنبياء:45].

الأمر الخامس: أن موسى عليه السلام تواضع معه، وتأدب في خطابه وحديثه، فقال له: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً [الكهف:66]؟ وكذلك قال له: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً [الكهف:69]، مع أن الخضر قد أغلظ له في الكلام حين قال: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً [الكهف:68].

الأمر السادس: أنه ينبغي الاعتقاد بنبوته؛ لئلا يتذرع أهل الباطل بذلك في دعواهم بأن الولي أفضل من النبي.

هذه جملة الأمور التي قررها جمهور العلماء في الاستدلال على أن الخضر عليه السلام نبي، ولا شك أن النبي أرفع درجةً من الولي.

المسألة الثانية: قد مر معنا في ثنايا هذه القصة أن موسى عليه السلام تعلم من الخضر وتأدب معه، وأن الخضر عليه السلام كان عنده علم ليس عند موسى عليه السلام، فهل يلزم من ذلك أن يكون الخضر أفضل من موسى.

نقول: قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: وقع لبعض الجهلة أن الخضر أفضل من موسى تمسكاً بهذه القصة، وبما اشتملت عليه، وهذا إنما يصدر عمن قصر نظره على هذه القصة، ولم ينظر فيما خص الله به نبيه موسى عليه السلام من الرسالة، وسماع الكلام، وإعطائه التوراة التي فيها علم كل شيء، وأن أنبياء بني إسرائيل كلهم داخلون تحت شريعته، ويخاطبون بحكم نبوته، حتى عيسى عليه السلام، ويكفينا قول ربنا في القرآن: يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف:144]، و الخضر عليه السلام وإن كان نبياً فليس برسول باتفاق، ومن كان رسولاً نبياً أفضل ممن كان نبياً ليس برسول، ولو تنزلنا وقلنا إنه رسول، فرسالة موسى أعظم، وأمته أكثر وأفضل، وغاية الخضر وأعلى مقاماته أن يكون كواحد من أنبياء بني إسرائيل، وموسى عليه السلام أفضلهم.

ولو قلنا: بأن الخضر ولي وليس بنبي، فالنبي أفضل من الولي، وهو أمر مقطوع به نقلاً وعقلاً، قال الحافظ: والصائر إلى خلافه كافر؛ لأنه أمر معلوم من الشرع بالضرورة، وإنما كانت قصة موسى مع الخضر امتحاناً لموسى ليعتبر.

والواجب أن نعلم أن نبي الله موسى عليه السلام هو واحد من أولي العزم، وأولو العزم هم في أعلى درجات عباد الله الصالحين، فأعلى الدرجات درجة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى ذلك من الأدلة عشرات وعشرات، ويأتي في الدرجة الثانية بعد محمد صلى الله عليه وسلم الخليل الثاني الذي هو إبراهيم عليه السلام، ثم في الدرجة الثالثة بقية الخمسة أولي العزم وهم: نوح وموسى وعيسى، ثم بعد ذلك رسل الله عز وجل، ثم أنبياؤه، ثم أولياؤه، ثم بعد ذلك درجات الصالحين من عباده، فموسى عليه السلام هو أحد أولي العزم من الرسل، وقد صاحبت مولده جملة من المعجزات والآيات البينات، ومن ذلك أن الله عز وجل أوحى إلى أمه إذا خافت عليه أن تلقي به في اليم، وقدر الله أن يلتقطه آل فرعون، وأن ينشأ في بيت فرعون، ثم قص الله عز وجل خبره، وكيف أنه أهلك فرعون وقومه، ونجى موسى وقومه، وما زلنا معشر المسلمين نحتفل بنجاة موسى الكليم في كل عام بصيام عاشوراء؛ اليوم العاشر من المحرم استناناً بهدي نبينا صلى الله عليه وسلم.

وقد آتاه الله تسع آيات بينات: الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والعصا، واليد، والسنين، ونقص من الثمرات، وآتاه الله عز وجل التوراة فيها علم كل شيء، وكلمه الله تكليماً، وأكثر نبي ذكر في القرآن هو موسى عليه السلام، وأكثر قصة نبي تكررت في القرآن قصة موسى عليه السلام.

قال شيخ الإسلام رحمه الله في مجموع الفتاوى: وثنى ربنا قصة موسى مع فرعون؛ لأنهما في طرفي نقيض في الحق والباطل، فإن فرعون في غاية الكفر والباطل، هذا الذي قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، وقال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، وقال: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى [غافر:29]، وكان يقول: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر:26]، وهذا يعني أن فرعون كان أستاذاً في الباطل، أو بتعبير الناس اليوم ممكن نقول: أستاذ كرسي في الباطل، لا يوجد في العالمين أشد بطلاناً منه، فأخبث البشر فرعون، هذا الذي ادعى دعوى ما ادعاها أحد قبله ولا بعده، فلا يوجد أحد من البشر قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، ممكن يقول: أنا ربكم مثل المسيح الدجال، وغيره من الدجاجلة، لكن (أنا ربكم الأعلى) هذه اختص بها فرعون، وبلغ به من العته والفساد أن يقول لوزيره: يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً [غافر:36-37]، وبالمقابل موسى عليه السلام في غاية الحق والإيمان، من جهة أن الله كلمه تكليماً، فلم يجعل بينه وبينه واسطة من خلقه، فهو مثبت لكمال الرسالة، وكمال التكلم، ومثبت لرب العالمين بما استحقه من نعوت الجلال والكمال، إلى آخر ما قال رحمه الله.

وقد تكرر ذكر نبي الله موسى في القرآن مائة وست وثلاثين مرة، وبعض المفسرين المعاصرين يقولون: تكررت قصة موسى مع فرعون؛ لأن الفرعونية ظاهرة تتكرر في التاريخ، يعني: أنه يوجد فراعنة كثيرون، فلا يكاد يخلو عصر من العصور من فرعون من الفراعنة.

المسألة الثالثة: هل يسع أحداً الخروج على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما وسع الخضر الخروج على شريعة موسى؟ يعني: الخضر ما التزم بشريعة موسى حين خرق السفينة، وقتل الغلام، وبنى الجدار، فهل يمكن لواحد من الناس أن يأتي بأمور تتنافى مع شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فيما أحلت وحرمت، ثم يستدل على ذلك بأنه ولي، وأن الخضر قد خرج على شريعة موسى، يقول: فأنا أخرج كما خرج؟

الجواب: يقول الإمام أبو عبد الله القرطبي المالكي: ذهب قوم من الزنادقة إلى سلوك طريقة تستلزم هدم أحكام الشريعة، فقالوا: إنه يستفاد من قصة موسى والخضر: أن الأحكام الشرعية تختص بالعامة والأغبياء، وأما الأولياء والخواص فلا حاجة لهم إلى تلك النصوص، بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم، ويحكم عليهم بما يغلب على خواطرهم؛ لصفاء قلوبهم عن الأكدار، وخلوها عن الأغيار، فتنجلي لهم العلوم الإلهية، والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكائنات، ويعلمون الأحكام الجزئيات، فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، كما اتفق للخضر عليه السلام، فإنه استغنى بما ينجلي به من تلك العلوم عما كان عند موسى، والدليل على ذلك الحديث المشهور: ( استفت قلبك وإن أفتوك )، فبعض الناس يقول: لأن الخضر كان ولياً قد صفا قلبه عن الأكدار، فقلبه صاف، هذا الولي بلغ درجةً من الولاية أن يكون من خواص أولياء الله، فلا يحتاج إلى نصوص الشريعة الظاهرة: هذا حلال وهذا حرام، وإنما يحتكمون إلى ما ينقدح في خواطرهم، وما تنجلي عنه قلوبهم، ولذلك الواحد منهم ليس مخاطباً بالنصوص الظاهرة، فله أن يترك الصلاة، وله أن يرتكب المحرمات، فهذا ولي لا يسأل، كما قال الخضر لموسى: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي [الكهف:70]. هذه هي خلاصة مقالة القرطبي رحمه الله.

قال رحمه الله: وهذا القول زندقة وكفر، يعني: القول بأن الولي يبلغ درجةً من الخصوصية يستغني بها عن ظواهر النصوص الشرعية، وإنما يستدل بالإلهامات الربانية والخواطر القلبية، هذا القول زندقة وكفر؛ لأنه إنكار لما علم من الشرائع، فإن الله تعالى قد أجرى سنته، وأنفذ كلمته بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله السفراء بينه وبين خلقه.

فليس عندنا طريق لمعرفة الحلال من الحرام والحق من الباطل إلا عن طريق الرسل؛ لأن الرسل هم السفراء بيننا وبين الله عز وجل، فالذي ينقلونه إلينا هو كلام الله، وما يقولون: هو حلال فمعنى ذلك أن الله هو الذي أحله، وإذا قالوا: هذا حرام فمعنى ذلك أن الله هو الذي حرمه.

ثم قال رحمه الله: قال تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنْ النَّاسِ [الحج:75]، وقال تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124]، وأمرنا بأن نطيع الرسل، قال سبحانه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [النساء:64]، وأمر بطاعتهم في كل ما جاءوا به، فكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فنحن نطيعه فيه، وخلاصة القول: أن الله عز وجل جعل رسله هم السفراء بينه وبين خلقه، وأمرنا جل جلاله أن نطيعهم في كل ما جاءوا به، وقد مضى التنبيه على هذا في تفسير قول ربنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، وأنه كرر الفعل في طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يكرره في طاعة أولي الأمر؛ لأن طاعة أولي الأمر مقيدة بأن تكون في طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أما طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام فإنها تجب استقلالاً، قال الله عز وجل: مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80].

وقال تعالى: وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].

والنبي عليه الصلاة والسلام قال: ( من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أحبني فقد أحب الله، ومن أبغضني فقد أبغض الله )، والله عز وجل يقول: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31].

فنقول: استدلالهم بقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( استفت قلبك ولو أفتوك )، ليس مراداً به أن يلجأ الإنسان إلى الإلهامات، أو إلى ما يراه صواباً، أو ما يتراءى له أنه صواب، وإنما المقصود بذلك أن الإنسان لو سأل عن حكم مسألة بعينها سأل فلاناً وفلاناً ممن ينتسبون إلى العلم، فأفتوه بالحل مثلاً، وهو يعلم في قرارة نفسه أن في هذا الأمر شيئاً، ما اطمأنت نفسه، ولا انشرح صدره لإتيان هذا الفعل، أو هذا القول، ففي هذه الحال يرجح ما أفتاه به قلبه، وإن حكم أهل العلم له بحله، هذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ( استفت قلبك ولو أفتوك )، فليس مراداً به أن نلغي نصوص الشرع، وأن نهمل قواعد الفقه، ويلجأ كل واحد منا إلى قلبه ليحلل ما يشاء ويحرم ما يشاء، وقد بلغت الزندقة -والعياذ بالله- في بعض الناس أن يقول: حدثني قلبي عن ربي، أو أن يقول: أنتم تأخذون علمكم عن الأموات: حدثنا فلان، عن فلان، عن فلان، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أحدثكم عن الحي الذي لا يموت، يعني: كأنه جعل نفسه عياذاً بالله بمنزلة النبي المرسل الذي يملك أن يقول: هذا حلال وهذا حرام، وهذا قد انتشر، فتجد الواحد منهم يقع فيما حرم الله، ثم يزعم بأن عنده علماً خاصاً، أو ما يسمونه بالعلم اللدني يخول له أن يفعل ما يتراءى للناس أنه حرام، قال أهل العلم: وهذا يستلزم إثبات نبوة بعد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الذي يستدل بما ينقدح في القلب هو الرسول عليه الصلاة والسلام، قال صلى الله عليه وسلم: ( إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها ). إذاً: الإلهام الذي يقع في قلب الرسول صلى الله عليه وسلم إلهام معصوم؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى.

ويقول الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان: فإن قيل: قد يكون ذلك عن الإلهام، يعني: بعض الناس مثلاً قد يقول: هذا حلال وهذا حرام، ثم يقول: هذا جاءني عن طريق الإلهام، قال الشيخ: المقرر في الأصول أن الإلهام لا يجوز الاستدلال به؛ لعدم العصمة. وما زالت القصة التي تروى عن الشيخ الإمام عبد القادر الجيلاني رحمة الله عليه لما كان في طريق وأصابه حر شديد حتى جف ريقه وعاين الموت، قال: فأضلتني سحابة هبت منها ريح باردة حتى دار ريقي في فمي، يعني كأنه وجد ماءً، قال: ثم سمعت صوتاً يخاطبني يقول لي: يا عبد القادر ! إني أنا ربك، لكن عبد القادر رحمه الله كان عالماً، فقال له: أنت الله الذي لا إله إلا هو؟ قال له: إني أنا ربك، وقد أحللت لك ما حرمت عليك، يعني: الذي كان حراماً عليك صار حلالاً لك، فقال عبد القادر : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال: فانقشعت تلك الغمامة، ورجع الحر كما كان. ولو كان عبد القادر رحمه الله من خفاف العقول لخرج على الناس بعد ذلك بطوام الأمور، ولصار يتلبس بالنجاسات، ويأوي إلى المزابل، ويأكل القاذورات، ويتكلم بفاحش القول، ويعاشر الكلاب، ويترك الجمعة والجماعة، فإذا قيل له: اتق الله، قال: إني بلغت درجةً من الولاية، بحيث صار عندي علم خاص أتلقاه عن الرب مباشرةً، لكن عبد القادر كان عالماً، يعلم أن النبوة قد ختمت بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأنه لا نسخ بعد ذلك، وأن الحلال حلال إلى يوم القيامة، والحرام حرام إلى يوم القيامة، ولذلك عبد القادر نجاه الله بعلمه.

يقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله: المقرر في الأصول: أن الإلهام لا يجوز الاستدلال به لعدم العصمة، ولعدم الدليل على الاستدلال به، وغير المعصوم لا ثقة بخواطره؛ لأنه لا يأمن دسيسة الشيطان، والأنبياء فقط هم الذين ليس للشيطان عليهم سبيل، أما غيرهم فلا يأمن أحدهم دسيسة الشيطان.

قال رحمه الله: وقد يستدل بعض الناس بحديث: ( استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك )، قال: ولا دليل فيه البتة على اعتبار الإلهام؛ لأنه لم يقل أحد من أهل العلم: إن المفتي الذي تتلقى الأحكام الشرعية من قبله هو القلب، يعني: لا أحد من المسلمين يقول هذا، وإنما المسلمون جميعاً يعتقدون في قول ربنا: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ [النحل:43]، فأي شخص منا لو عرضت له مسألة عليه أن ينظر فيمن يثق في دينه وعلمه فيطرح عليه السؤال، ولا أحد منا يقول: أنا والله سأرجع إلى قلبي، فإن انقدح في قلبي الحل فهو حلال، وإن انقدح في قلبي الحرمة فهو حرام، ولم يقل أحد من أهل العلم ممن يعتد به: إن المفتي التي تتلقى الأحكام الشرعية من قبله هو القلب، بل معنى الحديث التحذير من الشبه، ( استفت قلبك ) معناه كقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه )؛ لأن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهة لا يعلمها كل الناس، فقد يفتيك المفتي بحلية شيء، وأنت تعلم من طريق أخرى أنه يحتمل أن يكون حراماً، وذلك بالاستناد إلى الشرع، فإن قلب المؤمن لا يطمئن إلى ما فيه الشبهة كما قال عليه الصلاة والسلام: ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك )، والحديث الآخر: ( البر حسن الخلق، والإثم ما تردد في الصدر، وكرهت أن يطلع عليه الناس ).

قال الشيخ الأمين الشنقيطي رحمه الله: ومما يدل على ما ذكرنا من كلام أهل التصوف المشهود لهم بالخير والدين والصلاح قول الشيخ أبي القاسم الجنيد بن محمد بن الجنيد القواريري رحمه الله قال: مذهبنا هذا مقيد بالكتاب والسنة. نقله عنه غير واحد من أهل العلم، فـالجنيد يقول: مذهبنا هذا -أي: الصوفية- مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن، ولم يكتب الحديث فلا يصحبنا، يعني: الجنيد يقول لهم: من لم يطلب العلم فلا يمشي معنا، ما قال لهم الجنيد : حدثني قلبي عن ربي، ولا قال لهم: أنا آخذ عن الحي الذي لا يموت، وإنما أئمة التصوف الصالحون كـأبي القاسم الجنيد ، و سهل بن عبد الله التستري ، و سري السقطي ، ومن جاء بعدهم كـبشر بن الحارث وغيرهم هؤلاء جميعاً كانوا يحرصون على طلب العلم، أما بعد ذلك فالتصوف أصابه ما أصاب غيره، حين دخل فيه أقوام يريدون أن يتبعوا الشهوات، وأن يتحللوا من الأوامر والنواهي، ولذلك دخلت هذه الكلمات: حدثني قلبي عن ربي، وما إلى ذلك.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير من سورة الأعلى إلى سورة البلد 2550 استماع
تفسير من سورة الفيل إلى سورة الكوثر 2541 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [98-106] 2513 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [27-29] 2380 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [21-24] 2371 استماع
تفسير سورة الأنعام - الآية [151] 2299 استماع
تفسير سورة الأنعام - الآيات [27-35] 2267 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [71-78] 2175 استماع
تفسير سورة الأنعام - الآيات [115-118] 2091 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [30-36] 2054 استماع