تفسير سورة الأنعام - الآية [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى, وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير, وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فنحمد الله الذي جمعنا في هذا المجلس المبارك، ونسأله سبحانه كما جمعنا فيه أن يجمعنا في جنات النعيم, وأن يرزقنا لذة النظر إلى وجهه الكريم, وأن يجعلنا إخواناً على سرر متقابلين، أما بعد:

فابتداء من هذا الدرس -إن شاء الله- نشرع في تفسير سورة الأنعام, وقبل الشروع في تفسير آياتها نذكر مقدمات تتعلق بأغراض هذه السورة وعدد آياتها, ومن أي النوعين هي: أمكية أم مدنية؟ ثم نتكلم عن وقت نزولها وترتيبها في كتاب الله عز وجل, مع بيان اسمها وحكمة إنزالها جملة واحدة.

تسمية سورة الأنعام

أما اسمها: فسورة الأنعام, ولم يذكر لها المفسرون اسماً آخر, فهي من السور التي ليس لها إلا اسم واحد, فبعض سور القرآن لها اسم واحد, وبعض سوره لها أكثر من اسم، فالبقرة وآل عمران تسميان الزهراوين, وسورة النساء قال بعضهم: تسمى سورة الضعيفين, وليس لسورة المائدة والأنعام والأعراف سوى اسم واحد, وأما سورة الأنفال فتسمى سورة الأنفال وسورة بدر, وأما سورة التوبة فتسمى: التوبة وبراءة والمقشقشة والمزلزلة والمدمدمة والفاضحة والبحوث.

وسورة الأنعام ورد تسميتها بهذا الاسم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقد جاء في معجم الطبراني الأوسط عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( نزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة، وشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد )، ففي هذا الحديث سماها عليه الصلاة والسلام سورة الأنعام، وكذلك سماها عمر بن الخطاب و عبد الله بن مسعود و عبد الله بن عباس و أنس بن مالك و جابر بن عبد الله و أسماء بنت يزيد بن السكن , رضوان الله عليهم أجمعين.

وأما سبب تسميتها بسورة الأنعام فلأن كلمة الأنعام قد ذكرت فيها ست مرات؛ في قول الله عز وجل: وَجَعَلُوا للهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا للهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَمَا كَانَ للهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ [الأنعام:136]، إلى أن قال سبحانه: وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا [الأنعام:139]، وما بعدها من الآيات.

ومعلوم أن السورة في الغالب تسمى بشيء قد ذكر فيها, فسميت سورة البقرة بهذا الاسم لخبر بقرة بني إسرائيل فيها, وسورة آل عمران لقوله تعالى إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [آل عمران:33], وسورة النساء لأن أغلب آياتها تناولت أحكاماً تخص النساء.. وهكذا في سائر سور القرآن.

نزول سورة الأنعام

وهذه السورة مكية باتفاق, وقد تقدم معنا في أصول التفسير أن المكي معني به ما كان نازلاً قبل الهجرة, سواء نزل بمكة أو بالمدينة أو بغيرهما, والمدني ما نزل بعد الهجرة, وهذه السورة نزلت بمكة، بل قال ابن عباس : نزلت بمكة ليلاً جملة واحدة, فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب فأملاها عليهم، يعني: هذه الآيات الخمس والستون ومائة آية أملاها الرسول صلى الله عليه وسلم على كتاب الوحي في تلك الليلة.

لكن بعض أهل التفسير يقول: إن قول الله عز وجل: وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:91]، وقوله سبحانه: تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام:151] الآيات، ست آيات نزلت بالمدينة، وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:91]، وسيأتي معنا الكلام في أن هذه الآية نزلت في شأن رجل من أحبار اليهود وهو كعب بن أسد عليه لعنة الله, لما دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام وقال له: ( يا كعب ! اتق الله، وإنك تعلم أني رسول الله، فقال له: والله ما أعلم أنك رسول الله, فقال له صلى الله عليه وسلم: أنشدك الله! هل تعلم فيما أنزل الله على موسى أن الله يبغض الحبر السمين -وكان الرجل سميناً بديناً- فقال له: ما أعلم ذلك, وما أنزل الله على بشر من شيء, لا موسى ولا غيره )، فجحد كتب الله المنزلة على أنبيائه ورسله؛ فأنزل الله عز وجل هذه الآية.

وكذلك قال أبو جحيفة : في قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ [الأنعام:111]، بأن هذه الآية أيضاً مدنية, لكن على اعتبار هذا الخلاف فمعظم السورة وأغلبها مكي.

الحكمة من إنزال سورة الأنعام جملة واحدة

تقدم معنا أن هذه السورة المباركة نزلت جملة واحدة, وقد علمنا بأن القرآن خاصة السور الطوال كالبقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأعراف, قد نزلت مفرقة منجمة بحسب الحوادث, وبين ربنا جل جلاله الحكمة من ذلك في آيتين من كتابه في قوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا [الفرقان:32]، وقوله سبحانه: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا [الإسراء:106]، وكان ربنا جل جلاله ينزل الكتب الماضية على أنبيائه دفعة واحدة, وجملة واحدة، كما في قوله تعالى: وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ [الأعراف:150]، أي: الألواح التي كتبت فيها التوراة.

وأما القرآن فقد نجم على امتداد ثلاث وعشرين سنة, ابتداء من قوله تعالى: اقْرَأْ [العلق:1]، وانتهاء بقوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ [البقرة:281]، أو قوله تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1]، أو قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3]، على اختلاف بين أهل التفسير في ذلك.

فما الحكمة في إنزال هذه السورة جملة واحدة؟ فهي السورة الوحيدة من السبع الطوال التي نزلت جملة واحدة.

يقول العلامة ابن عاشور رحمه الله: لعل حكمة إنزالها جملة واحدة قطع تعلل المشركين في قولهم: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً [الفرقان:32], توهماً منهم أن تنجيم نزوله يناقض كونه كتاباً؛ فأنزل الله سورة الأنعام, وهي في مقدار كتاب من كتبهم التي يعرفونها، كالزبور؛ ليعلموا أن الله قادر على ذلك إلا أن حكمة التنجيم أولى بالمراعاة.

فالشيخ رحمه الله يقول: إن المشركين عندهم شبهة, فهم يقولون: إن الكتب نزلت جملة واحدة, فلو كان القرآن من عند الله كما يزعم محمد فلم ينزل مفرقاً منجماً؟ فأنزل الله عز وجل هذه السورة جملة واحدة -وهي تعدل الزبور- ليبين لهم أنه على كل شيء قدير, لكنه جل جلاله ينجمه ويفرقه لحكم أعظم، ومصالح أكبر, وأيضاً ليحصل الإعجاز بمختلف أساليب الكلام، من قصر وطول وتوسط, فالله عز وجل أنزل سورة الكوثر وهي ثلاث آيات دفعة واحدة, وهي معجزة, وأنزل سورة الأنعام خمساً وستين ومائة آية أيضاً دفعة واحدة، وهي معجزة, فالله عز وجل يعجزهم بجميع أنواع الكلام, طويله وقصيره ومتوسطة.

وقال الفخر الرازي رحمه الله في مفاتيح الغيب: السبب في إنزالها دفعة واحدة أنها مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوة والمعاد، وإبطال مذاهب المعطلين والملحدين, فإنزال ما يدل على الأحكام قد تكون المصلحة في أن ينزله الله عز وجل على قدر حاجاتهم وبحسب الحوادث، أما ما يدل على التوحيد, فإنه ينزل جملة واحدة.

فـ الرازي رحمه الله يقول: إن سورة الأنعام أغلب آياتها ليست أحكاماً, وإنما نزلت في تقرير التوحيد, وفي تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم, وفي تقرير أن البعث والمعاد حق لاريب فيه, وهذه أصول الدين. وأما الأحكام فإنها تنزل مفرقة بحسب الحوادث وحاجات الناس؛ تقع جريمة الزنا مثلاً فينزل الله عز وجل حكم الزنا, يختلف -مثلاً- بنو المغيرة من بني مخزوم مع ثقيف في شأن الربا فينزل الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا [البقرة:278]، يكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم من النظر إلى السماء فينزل الله عز وجل: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [البقرة:144]، وقس على ذلك، فكثير من آيات الأحكام قد نزلت بسبب تجدد الحوادث.

فضل سورة الأنعام

هذه السورة المباركة قد ورد في فضلها حديث لا يقل عن درجة الحسن, من ذلك: ما رواه الحاكم في مستدركه, وقال: صحيح على شرط مسلم ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما, قال: ( لما نزلت سورة الأنعام سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم قال: لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق ), وتعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى الملائكة عليه الصلاة والسلام.

وجاء في صحيح البخاري : عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة الأنعام, يعني: بعد الآية مائة وثلاثين إلى نهاية السورة, ابتداء من قوله تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِرَاءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [الأنعام:140].

الأغراض التي اشتملت عليها سورة الأنعام

اشتملت هذه السورة المباركة على أغراض:

أولاً: أنها في ابتدائها أشعرت الناس بأن حق الحمد ليس إلا لله؛ لأنه سبحانه وتعالى مبدع العوالم كلها, سواء كانت جواهر كالسموات والأرض, أو أعراضاً كالظلمات والنور, فهو المتفرد بالإلهية, وإبطال تأثير الشركاء من الأصنام والجن.

ثانياً: تنزيه الله عز وجل عن الصاحبة والولد: بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ [الأنعام:101] رداً على المشركين الذين قالوا: الملائكة بنات الله, واليهود الذين قالوا: عزير ابن الله, والنصارى الذين قالوا: المسيح ابن الله.

قال أبو إسحاق الإسفرائيني رحمه الله تعالى: في سورة الأنعام كل قواعد التوحيد: توحيد الربوبية, وتوحيد الألوهية, وتوحيد الأسماء والصفات, ففي توحيد الربوبية قوله: قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا َ [الأنعام:164]، وفي توحيد الألوهية قوله: قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا [الأنعام:14]، وقوله: أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا [الأنعام:114]، وفي توحيد الأسماء والصفات قوله: إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَمُخْرِجُ المَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [الأنعام:95-96]، إلى غير ذلك من الآيات المباركات.

ثالثاً: موعظة المعرضين عن آيات القرآن، والمكذبين بالدين الحق, وتهديدهم بأن يحل بهم ما حل بالقرون المكذبين من قبلهم, يقول الله عز وجل: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ [الأنعام:6].

يقول الله عز وجل: يا معشر قريش! يا أيها المعاندون المكذبون! لا تظنوا أنكم بدع من الأمم, فقد أهلكت من قبلكم عاداً وثمود, وأصحاب الرس، وقوم نوح وقوم لوط.. وغيرهم من الأمم كانوا أشد منكم قوة, وأكثر أموالاً وأولاداً, فلو أنكم تماديتم في تكذيبكم فسيسري عليكم ما سرى عليهم.

رابعاً: تثبيت قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأنه لا يؤاخذ بإعراض قومه, يقول الله عز وجل: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33] يعني: يقول الله عز وجل: يا محمد! صلوات الله وسلامه عليه, هؤلاء الناس لا يعتقدون أنك كذاب, فهم يعلمون بأنك صادق؛ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [الأنعام:33-34], أي: لست أول رسول يكذب, فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا [الأنعام:34], وكما أتاهم نصرنا سيأتيك نصرنا, وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ [الأنعام:34].

ثم يسلي الله نبيه صلى الله عليه وسلم: وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ [الأنعام:35]، يقول الله له: ماذا أنت صانع بهؤلاء القوم الذين يطلبون الآيات ويقترحونها؟ يقولون: لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا [الفرقان:21], لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ [الإسراء:90-93] وهذا الكلام كانوا يقولونه، ويتبجحون به في مواجهة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأمره الله عز وجل بالإعراض عنهم وتركهم.

خامساً: بيان حكمة إرسال الله الرسل, وأنها الإنذار والتبشير, وليست وظيفة الرسل إخبار الناس بالمغيبات, يقول سبحانه: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ [الأنعام:50]، فهذه كلها لا أدعيها, لست إلا رسولاً بشراً, مبعوثاً من عند الله عز وجل أبشركم وأنذركم.

سادساً: أن تفاضل الناس بالتقوى, والانتساب إلى دين الله, وإبطال ما شرعه أهل الشرك من شرائع الضلال، فقد كان المشركون كما أخبر عنهم ربنا: قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزخرف:58]، إذا قيل لهم: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً [الأنعام:145]، أي: الميتة حرام, قالوا له: ( يا محمد! الميتة من قتلها؟ قال: الله, قالوا له: ما قتلته بيدك حلال, وما قتله الله حرام! )، قال الله عز وجل: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121]، فيبطل الله عز وجل هذه الشرائع الزائفة التي ادعاها هؤلاء الزنادقة.

سابعاً: المنة على هذه الأمة بما أنزل الله من القرآن, الذي هو هدى ورحمة, كما أنزل الكتاب على موسى, وأن الله جعل هذه الأمة أمة خاتمة للأمم الصالحة, وبيان فضيلة القرآن ودين الإسلام, وما منح الله لأهله من مضاعفة الحسنات، ولذلك في الختام يقول تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الأنعام:160].

هذه هي الأغراض التي اشتملت عليها هذه السورة المباركة.

أما اسمها: فسورة الأنعام, ولم يذكر لها المفسرون اسماً آخر, فهي من السور التي ليس لها إلا اسم واحد, فبعض سور القرآن لها اسم واحد, وبعض سوره لها أكثر من اسم، فالبقرة وآل عمران تسميان الزهراوين, وسورة النساء قال بعضهم: تسمى سورة الضعيفين, وليس لسورة المائدة والأنعام والأعراف سوى اسم واحد, وأما سورة الأنفال فتسمى سورة الأنفال وسورة بدر, وأما سورة التوبة فتسمى: التوبة وبراءة والمقشقشة والمزلزلة والمدمدمة والفاضحة والبحوث.

وسورة الأنعام ورد تسميتها بهذا الاسم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقد جاء في معجم الطبراني الأوسط عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( نزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة، وشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد )، ففي هذا الحديث سماها عليه الصلاة والسلام سورة الأنعام، وكذلك سماها عمر بن الخطاب و عبد الله بن مسعود و عبد الله بن عباس و أنس بن مالك و جابر بن عبد الله و أسماء بنت يزيد بن السكن , رضوان الله عليهم أجمعين.

وأما سبب تسميتها بسورة الأنعام فلأن كلمة الأنعام قد ذكرت فيها ست مرات؛ في قول الله عز وجل: وَجَعَلُوا للهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا للهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَمَا كَانَ للهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ [الأنعام:136]، إلى أن قال سبحانه: وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا [الأنعام:139]، وما بعدها من الآيات.

ومعلوم أن السورة في الغالب تسمى بشيء قد ذكر فيها, فسميت سورة البقرة بهذا الاسم لخبر بقرة بني إسرائيل فيها, وسورة آل عمران لقوله تعالى إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [آل عمران:33], وسورة النساء لأن أغلب آياتها تناولت أحكاماً تخص النساء.. وهكذا في سائر سور القرآن.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير من سورة الأعلى إلى سورة البلد 2549 استماع
تفسير من سورة الفيل إلى سورة الكوثر 2539 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [98-106] 2511 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [27-29] 2379 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [21-24] 2370 استماع
تفسير سورة الأنعام - الآية [151] 2298 استماع
تفسير سورة الأنعام - الآيات [27-35] 2265 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [71-78] 2173 استماع
تفسير سورة الأنعام - الآيات [115-118] 2089 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [30-36] 2053 استماع