شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الرابع)


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:

يا سائلي عن مذهبي وعقيدتي     رزق الهدى من للهداية يسأل

الشرح:

كنت أتمنى أن أتكلم عن كثيرٍ من المقدمات التي يحتاجها طالب العلم في مسائل الاعتقاد، ولكننا نخشى أن تأخذ وقتاً طويلاً، وربما نُغفل مما أراد شيخ الإسلام بيانه في هذه العقيدة التي ألفها، وتسمى عقيدة شيخ الإسلام رحمه الله تعالى.

هذه القصيدة قد عزاها إلى شيخ الإسلام ابن تيمية : الألوسي في جلاء العينين ، وممن عزاها إليه الشيخ: محمد خليل هراس رحمه الله تعالى، وممن عزاها كذلك الشيخ: محمد الشيباني في ترجمته لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وقد شرحها أحمد بن علي المرداوي وأومأ إلى أنها تنسب لشيخ الإسلام ابن تيمية في شرحه.

إن العلماء رحمهم الله تعالى إذ يؤلفون كتبهم ومصنفاتهم في العقيدة تكون لأمورٍ عدة:

أولها: لبيان حاجة الناس في مسألة العلم، وخاصة لنشر العلم الشرعي إذ ينتشر الجهل في مسائل الاعتقاد ويكثر، فعند ذلك يؤلف العلماء كتباً ورسائل يتلقاها الطلاب، ويقومون بنشرها، ويرتفع الجهل عن الناس بسبب ذلك.

ثانيها: قد يكون في مسائل الاعتقاد لإبطال عقائد كانت سائدة، كما ألف عدد من سلف الأمة كتباً في الرد على المعتزلة ، وكما ألف شيخ الإسلام ابن تيمية منهاج السنة في الرد على الرافضة القدرية ، وكما ألف جمع من العلماء في الرد على الأشاعرة، وفي الرد على الماتريدية ، فإذا انتشرت طائفة ونحلة ليست على منهاج النبوة، وليست على الكتاب والسنة، شعر العلماء بأن مهمتهم الدفاع عن عقيدة السلف ، وإبطال تلك العقائد.

وقد يكون السبب في تأليفها إجابة لبعض السائلين، كما هي هذه العقيدة التي بين أيدينا:

يا سائلي عن مذهبي وعقيدتي

لقد ألف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عدداً من الرسائل بسبب أنه يفد إليه بعض الطلاب والتلاميذ من مناطق متعددة، فيطلبون منه أن يكتب مختصراً لهم، أو كتاباً يرجعون به إلى بلدهم، وذكروا منها العقيدة الواسطية ، فإن شيخ الإسلام ابن تيمية كتبها بعد العصر رحمه الله تعالى، وأعطاها لأهل واسط ؛ لأنهم سألوه أن يكتب لهم مختصراً في العقيدة يستفيدون منه.

مؤلفات العلماء رحمهم الله تعالى تنقسم إلى أقسام: منها ما يكون مختصراً، ومنها ما يكون مطولاً، ومنها ما يكون بين ذلك.

أسباب استحباب تأليف الكتب المختصرة

وتأليف العلماء رحمهم الله تعالى للمختصرات يكون لأمور عدة:

أولاً: ليسهل على طالب العلم حفظها؛ وذلك نظراً لأن المختصرات تعتبر كالقاعدة لطالب العلم، ويجعلونها هي المنطلق لبداية الطلب.

ولذلك قال العلماء رحمهم الله تعالى: من حفظ المتون حاز الفنون، دل على أن أول ما يُقعِّد به طالب العلم هو حفظ المتون، وإني أقترح على المسئولين في هذا المسجد أن يُجعل مسابقة في حفظ بعض المتون، كحفظ الحائية ، وكحفظ النخبة ، وكحفظ الثلاثة الأصول والأربعين النووية ، ولامية شيخ الإسلام ، ثم بعد ذلك يجعل هناك ثمة حوافز للتشجيع؛ نظراً لغربة قضية حفظ المتون في عصرنا، ونحن نعيش في عصر يُعلَّم الناس أن أهم شيء هو الفهم، دون أن يكون للطالب تقعيد وتأصيل في علمه، وإن كنا نقول: أصل العلوم كلها وقاعدتها هو حفظ كتاب الله تعالى، ثم بعد ذلك حفظ سنة محمد صلى الله عليه وسلم، وحفظ ما تيسر من المتون العلمية التي تعتبر تأصيلاً لطالب العلم.

ثانياً: تأليف المختصرات لتصبح مرجعاً لطالب العلم على مر العصور كلها، فمهما بلغ العالم رتبة عالية فلا يستغني عن هذه المتون التي حفظها، وسبحان الله! كم نسمع من شيخنا العلامة أمد الله في عمره، يستشهد بـالنخبة ، ويستشهد بـالبلوغ ، ويستشهد بـأليفة ابن مالك ، ويستشهد بـالواسطية ، ويستشهد بـكتاب التوحيد .. وغيره؛ لأنها قواعد، ويصبح الإنسان إذا حفظ هذه المتون كلما وجد علماً من العلوم أو قرأ في فن من الفنون، أصبح عنده قاعدة يمر ما جاءه من العلوم الجديدة على هذه المتون، فيزداد نوراً ومعرفة وإدراكاً وتصوراً، أما إذا كان طالب العلم كما هو حاصل يقرأ طالب العلم في الكتب المطولة، ثم يصبح جمَّاعة لأقوال لا يميز بين الراجح من المرجوح، ولا يميز بين الصواب من الخطأ، ولا يستطيع فرز شيء من هذه العلوم، لا يستطيع أن يجعله أصلاً، ولا يعتبر مكملاً للعلم، يصبح كشكولاً للعلم دون أن يكون علمه رصيناً قوياً، فرحم الله العلماء الذين ألفوا هذه المتون لتصبح تأسيساً لطالب العلم.

ونجد الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى ألف كتبه في الفقه: العمدة ، ثم انطلق بعد ذلك إلى المقنع ثم إلى الكافي ، ثم إلى المغني، بالتدريج، جعل العمدة قاعدة لطالب العلم لحفظه، ثم ينتقل بعد ذلك إلى الروايتين والثلاث، ثم ينتقل إلى الموسوعة الضخمة وهو كتاب المغني ، الذي قال فيه العز بن عبد السلام : من لم يكن عنده أو لم يقرأ كتاب المغني والمحلى لـابن حزم فلا يحق له أن يفتي في مسائل العلم الشرعي، هذا فيما يتعلق بقضية المتون والمختصرات.

نحن في عصر نؤسس بالمختصرات، لكن كان سلفنا رحمهم الله تعالى لا يحفظون المختصرات فقط، بل يحفظون المطولات، وأظن منذ أكثر من سبع عشرة سنة كنا في حلقة شيخنا عبد الله بن حميد رحمه الله وغفر له وكان يقول: إن ابن مفلح رحمه الله، ألف كتابه الفروع ، وكتاب الفروع خمسة مجلدات، ولو نشر بالطباعة المتوسعة يوصل إلى عشرة مجلدات -قالوا: إنه لما ألفه ذكر أنه جرده من كثير من الأدلة ومسائل الخلاف المطولة، قال: ليسهل على طالب العلم حفظه.

ونجد الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى -ولعل الإمام ابن كثير استفاد من مدارس الحنابلة- حين تقرأ في البداية والنهاية وتقرأ في تفسيره رحمه الله تعالى، لا تجد حدثاً من الأحداث، بل لا تجد آية من الآيات فسرها إلا وروى لنا فيها أحاديث عن المسند ، مما يدل على حفظه لكتاب المسند رحمه الله تعالى، مع أنه اشتمل على أربعين ألف حديث.

وإنا لنتأمل ما كتبه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في مقدمة أعلام الموقعين ، أن الإمام أحمد سئل: أيفتي طالب العلم إذا حفظ مائة ألف حديث؟ قال: لا، قال: أيفتي إذا حفظ مائتي ألف حديث؟ قال: لا، قال: أيفتي إذا حفظ ثلاثمائة ألف حديث؟ قال: إني لأرجو أن يفتي هنا.

ولسنا بذلك بل تضعف الهمم في قضية الطلب، ولكن هذا من باب شحذ الهمم لحفظ ما استطاع الإنسان من المتون العلمية وإن كنا نقول:

أولها: كتاب الله.

وثانيها: سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

وثالثها: المختصرات التي ألفها العلماء لطلاب العلم.

أسباب تأليف كتب المطولات

الطريقة الثانية للعلماء: كتابة المطولات، والمطولات إذ يؤلفها العلماء رحمهم الله تعالى يقصدون من ذلك: نشر العلم والتوسع فيه، وبيان مسائل الخلاف، وعرض العلم بتأصيل وعمق، ونجد عجباً في كتب أهل العلم أن شخصاً واحداً يشرح حديثاً ويستخرج منه ألف مسألة علمية، ومن ذلك ما يوجد في كتابات العراقي كما في طرح التثريب، وكذلك تجد ابن حجر مثلاً في فتح الباري، ومثلها كتابات شيخ الإسلام ابن تيمية ، وكتابات الإمام ابن القيم رحمهم الله تعالى فقد تكون مسألة واحدة يسأل عنها العالم فيؤلف مجلدات بسبب هذه المسألة، ولو نظرنا إلى ابن القيم عندما شرح منازل السائرين ، وهي مختصر صغير، ولكنه كتب ثلاثة مجلدات ضخمة في شرح هذا المتن الصغير، فرحمه الله تعالى.

ومن الأمثلة على ذلك حديث الذي جامع أهله في نهار رمضان، ذكر شيخنا الشيخ: محمد بن صالح العثيمين أن بعض العلماء استنبط من هذا الحديث ألف مسألة علمية، ونقول: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الجمعة:4] وهو مصداق لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) أي: يعطيه ملكةً لاستنباط مسائل العلم والاستفادة منها.

ونقول لطالب العلم: اقرأ في المطولات بعد أن تؤسس نفسك بمسائل المتون وقراءة المختصرات، ونجد عجباً في حال بعض الأحبة من طلاب العلم، فتجده في حال الطلب ربما لم يطلب العلم إلا بعد أن خرجت لحيته، وربما شعر بأنه قد وصل إلى رتبة لا حاجة إلى أن يقرأ في متنٍ صغير، ويبدأ بالكتب المطولة، ويقول: إني أفهم وأعرف ما يقوله هؤلاء العلماء، فلست بحاجة إلى أن أبدأ بالمختصرات التي لصغار طلاب العلم، ولكن نقول: أخطأت الطريق، ولو بلغت ما بلغت من السن فلا بد أن تبدأ بالمتون الصغيرة؛ لأنها قاعدة لطالب العلم ينطلق بعدها إلى ما بعده.

وكان مشايخنا رحمهم الله تعالى وغفر لهم يجعلون لطلاب العلم دروساً وملتقيات، يبدءون المبتدئين فيها بالمختصرات، ويجعلون للكبار المطولات، وربما لا يسمحون للمبتدئ أن يحضر المطولات؛ مخافة أن يزهد في المختصرات وفي تأصيلها، ويجد الإنسان إذا رأى أنه جلس مع كبار طلاب العلم فرح وانشرح صدره، وربما بعد شهرين وثلاثة قد يجرؤ على الفتيا فيقول: أنا معهم، والعلم الذي يقوله الشيخ قد سمعته، فلا مجال لأن أحجم عن قضية المواصلة وعن الطلب، ولكن هؤلاء لم يعرفوا الطريق في طلب العلم.

وتأليف العلماء رحمهم الله تعالى للمختصرات يكون لأمور عدة:

أولاً: ليسهل على طالب العلم حفظها؛ وذلك نظراً لأن المختصرات تعتبر كالقاعدة لطالب العلم، ويجعلونها هي المنطلق لبداية الطلب.

ولذلك قال العلماء رحمهم الله تعالى: من حفظ المتون حاز الفنون، دل على أن أول ما يُقعِّد به طالب العلم هو حفظ المتون، وإني أقترح على المسئولين في هذا المسجد أن يُجعل مسابقة في حفظ بعض المتون، كحفظ الحائية ، وكحفظ النخبة ، وكحفظ الثلاثة الأصول والأربعين النووية ، ولامية شيخ الإسلام ، ثم بعد ذلك يجعل هناك ثمة حوافز للتشجيع؛ نظراً لغربة قضية حفظ المتون في عصرنا، ونحن نعيش في عصر يُعلَّم الناس أن أهم شيء هو الفهم، دون أن يكون للطالب تقعيد وتأصيل في علمه، وإن كنا نقول: أصل العلوم كلها وقاعدتها هو حفظ كتاب الله تعالى، ثم بعد ذلك حفظ سنة محمد صلى الله عليه وسلم، وحفظ ما تيسر من المتون العلمية التي تعتبر تأصيلاً لطالب العلم.

ثانياً: تأليف المختصرات لتصبح مرجعاً لطالب العلم على مر العصور كلها، فمهما بلغ العالم رتبة عالية فلا يستغني عن هذه المتون التي حفظها، وسبحان الله! كم نسمع من شيخنا العلامة أمد الله في عمره، يستشهد بـالنخبة ، ويستشهد بـالبلوغ ، ويستشهد بـأليفة ابن مالك ، ويستشهد بـالواسطية ، ويستشهد بـكتاب التوحيد .. وغيره؛ لأنها قواعد، ويصبح الإنسان إذا حفظ هذه المتون كلما وجد علماً من العلوم أو قرأ في فن من الفنون، أصبح عنده قاعدة يمر ما جاءه من العلوم الجديدة على هذه المتون، فيزداد نوراً ومعرفة وإدراكاً وتصوراً، أما إذا كان طالب العلم كما هو حاصل يقرأ طالب العلم في الكتب المطولة، ثم يصبح جمَّاعة لأقوال لا يميز بين الراجح من المرجوح، ولا يميز بين الصواب من الخطأ، ولا يستطيع فرز شيء من هذه العلوم، لا يستطيع أن يجعله أصلاً، ولا يعتبر مكملاً للعلم، يصبح كشكولاً للعلم دون أن يكون علمه رصيناً قوياً، فرحم الله العلماء الذين ألفوا هذه المتون لتصبح تأسيساً لطالب العلم.

ونجد الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى ألف كتبه في الفقه: العمدة ، ثم انطلق بعد ذلك إلى المقنع ثم إلى الكافي ، ثم إلى المغني، بالتدريج، جعل العمدة قاعدة لطالب العلم لحفظه، ثم ينتقل بعد ذلك إلى الروايتين والثلاث، ثم ينتقل إلى الموسوعة الضخمة وهو كتاب المغني ، الذي قال فيه العز بن عبد السلام : من لم يكن عنده أو لم يقرأ كتاب المغني والمحلى لـابن حزم فلا يحق له أن يفتي في مسائل العلم الشرعي، هذا فيما يتعلق بقضية المتون والمختصرات.

نحن في عصر نؤسس بالمختصرات، لكن كان سلفنا رحمهم الله تعالى لا يحفظون المختصرات فقط، بل يحفظون المطولات، وأظن منذ أكثر من سبع عشرة سنة كنا في حلقة شيخنا عبد الله بن حميد رحمه الله وغفر له وكان يقول: إن ابن مفلح رحمه الله، ألف كتابه الفروع ، وكتاب الفروع خمسة مجلدات، ولو نشر بالطباعة المتوسعة يوصل إلى عشرة مجلدات -قالوا: إنه لما ألفه ذكر أنه جرده من كثير من الأدلة ومسائل الخلاف المطولة، قال: ليسهل على طالب العلم حفظه.

ونجد الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى -ولعل الإمام ابن كثير استفاد من مدارس الحنابلة- حين تقرأ في البداية والنهاية وتقرأ في تفسيره رحمه الله تعالى، لا تجد حدثاً من الأحداث، بل لا تجد آية من الآيات فسرها إلا وروى لنا فيها أحاديث عن المسند ، مما يدل على حفظه لكتاب المسند رحمه الله تعالى، مع أنه اشتمل على أربعين ألف حديث.

وإنا لنتأمل ما كتبه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في مقدمة أعلام الموقعين ، أن الإمام أحمد سئل: أيفتي طالب العلم إذا حفظ مائة ألف حديث؟ قال: لا، قال: أيفتي إذا حفظ مائتي ألف حديث؟ قال: لا، قال: أيفتي إذا حفظ ثلاثمائة ألف حديث؟ قال: إني لأرجو أن يفتي هنا.

ولسنا بذلك بل تضعف الهمم في قضية الطلب، ولكن هذا من باب شحذ الهمم لحفظ ما استطاع الإنسان من المتون العلمية وإن كنا نقول:

أولها: كتاب الله.

وثانيها: سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

وثالثها: المختصرات التي ألفها العلماء لطلاب العلم.

الطريقة الثانية للعلماء: كتابة المطولات، والمطولات إذ يؤلفها العلماء رحمهم الله تعالى يقصدون من ذلك: نشر العلم والتوسع فيه، وبيان مسائل الخلاف، وعرض العلم بتأصيل وعمق، ونجد عجباً في كتب أهل العلم أن شخصاً واحداً يشرح حديثاً ويستخرج منه ألف مسألة علمية، ومن ذلك ما يوجد في كتابات العراقي كما في طرح التثريب، وكذلك تجد ابن حجر مثلاً في فتح الباري، ومثلها كتابات شيخ الإسلام ابن تيمية ، وكتابات الإمام ابن القيم رحمهم الله تعالى فقد تكون مسألة واحدة يسأل عنها العالم فيؤلف مجلدات بسبب هذه المسألة، ولو نظرنا إلى ابن القيم عندما شرح منازل السائرين ، وهي مختصر صغير، ولكنه كتب ثلاثة مجلدات ضخمة في شرح هذا المتن الصغير، فرحمه الله تعالى.

ومن الأمثلة على ذلك حديث الذي جامع أهله في نهار رمضان، ذكر شيخنا الشيخ: محمد بن صالح العثيمين أن بعض العلماء استنبط من هذا الحديث ألف مسألة علمية، ونقول: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الجمعة:4] وهو مصداق لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) أي: يعطيه ملكةً لاستنباط مسائل العلم والاستفادة منها.

ونقول لطالب العلم: اقرأ في المطولات بعد أن تؤسس نفسك بمسائل المتون وقراءة المختصرات، ونجد عجباً في حال بعض الأحبة من طلاب العلم، فتجده في حال الطلب ربما لم يطلب العلم إلا بعد أن خرجت لحيته، وربما شعر بأنه قد وصل إلى رتبة لا حاجة إلى أن يقرأ في متنٍ صغير، ويبدأ بالكتب المطولة، ويقول: إني أفهم وأعرف ما يقوله هؤلاء العلماء، فلست بحاجة إلى أن أبدأ بالمختصرات التي لصغار طلاب العلم، ولكن نقول: أخطأت الطريق، ولو بلغت ما بلغت من السن فلا بد أن تبدأ بالمتون الصغيرة؛ لأنها قاعدة لطالب العلم ينطلق بعدها إلى ما بعده.

وكان مشايخنا رحمهم الله تعالى وغفر لهم يجعلون لطلاب العلم دروساً وملتقيات، يبدءون المبتدئين فيها بالمختصرات، ويجعلون للكبار المطولات، وربما لا يسمحون للمبتدئ أن يحضر المطولات؛ مخافة أن يزهد في المختصرات وفي تأصيلها، ويجد الإنسان إذا رأى أنه جلس مع كبار طلاب العلم فرح وانشرح صدره، وربما بعد شهرين وثلاثة قد يجرؤ على الفتيا فيقول: أنا معهم، والعلم الذي يقوله الشيخ قد سمعته، فلا مجال لأن أحجم عن قضية المواصلة وعن الطلب، ولكن هؤلاء لم يعرفوا الطريق في طلب العلم.

سؤال الشخص غيره عن معتقده

أولاً: نقول: أي شخص يسألك عن معتقدك فهو لا يخلو عن أحد هؤلاء الأشخاص:

الشخص الأول: أن يكون معجباً بما أنت عليه من العقيدة والدين، ويريد أن يأخذ منك هذه العقيدة، ولعل مثالاً على ذلك: لو جلس إنسان مع عالم من العلماء الكبار، ثم بدأ يتكلم في مسائل الاعتقاد، تجد أنك تسأل: ما هي عقيدتك؟ وكأنه جاء بأمرٍ مستند إلى كتاب وسنة، ولعل الإمام ابن تيمية كان من أعجب الناس في عرضه لمسائل الاعتقاد.

ومن الأمثلة على ذلك: ما ثبت في الصحيح أن عمرو بن عبسة رضي الله عنه لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عما جاء، فسأله من أنت؟ (قال: أنا نبي، قال: وما نبي؟ قال: أرسلني الله، قال: وبم أرسلك؟) معجباً، وكان يسمع بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يصل إليه، ثم أسلم من لحظته رضي الله عنه وأرضاه.

الشخص الثاني: أن يكون حاقداً ولا يريد ذات العلم، وإنما يريد أن يفرز هذا المعتقد الذي جئت به لقصد أن يرد عليك أو يبطل معتقدك، أو يشي بك عند بعض العلماء ليقوموا برد معتقدك، وهذا قد حصل لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وكم حصل له من الحاسدين والحاقدين الذين لم يقبلوا منه، وكانوا يسألونه ويستفهمون منه لا للبحث عن الحق لذاته، وإنما كان قصدهم إبطال ما كان عليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.

وكم عقدت له من المناظرات بين يدي الخليفة، وكانوا يشون به إلى السلطان، وكم حصل له بسبب ذلك من السجن عدة مرات بسبب عقيدته رحمه الله تعالى، وسبحان الله! كان لا يجلس معهم مجلساً يناظرهم فيه إلا وقف موقف المتحدي لهم أن يأتوا بدليل من كتابٍ أو سنة، أو بقول صحابي، أو بقول أحد من سلف الأمة يخالف ما عليه معتقده، ويلقمهم الحجر، ولكن في قلوبهم من الغيظ والحقد عليه مما كان سبباً لسجنه مراراً بل وموته في السجن رحمه الله تعالى.

الشخص الثالث: أن يكون السائل جاهلاً يطلب منك علماً، كما حدث، ليس في قضية العقيدة فقط للنبي صلى الله عليه وسلم مع المسيء في صلاته، قال: يا رسول الله! والله لا أحسن إلا هذه فعلمني، يا رسول الله! دلني، مثلما تأتي إلى بعض الأشخاص فتبين له أو يسألك فيقول: دلني على الخير، دلني على المعتقد الصحيح، دلني على المنهج الذي أسير على ضوئه، فيدل الإنسان.

وربما نقول: قد يكون السائل يقصد منه دلالة المسئول إلى الحق، أنت تسأل ويكون مقصودك أن تدل المسئول إلى الحق، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع حصين رضي الله عنه، سأله النبي صلى الله عليه وسلم: (كم تعبد؟ قال: أعبد سبعة، ستة في الأرض وواحداً في السماء) ثم دله النبي صلى الله عليه وسلم إلى المعتقد الصحيح صلوات الله وسلامه عليه.

فوائد السؤال

قاعدة يجب أن نعلمها: السؤال يستخرج به العلم، ولا يستفاد العلم إلا بالسؤال، ولذلك قيل: لا يأخذ هذا العلم ولا يحوزه ولا يصل إليه مستحٍ ولا مستكبر.

إن بعض الناس يحضرون إلى حلقات العلم، ولكن الواحد منهم يمكث سنوات عديدة في الحلقة ما سأل سؤالاً واحداً، لِمَ لم تسأل؟

قال: إني أستحي.

ولذلك فإن الذي يستحي لا يحصِّل علماً أبداً.

ومنهم المتكبر، ولعل قضية التكبر تحصل بين الأقران أو بين الطلاب ليس تكبراً عن العلم، وإنما يتكبر أن يسأل، فربما رد عليه الشيخ بردٍ قاسٍ، أو ربما ضحك الطلاب من سؤاله وعجبوا منه، فيتكبر يقول: سكوتي خير لي من كلامي، وبعد ذلك تمر عليه مسائل عديدة، وإشكالات متعددة، ومع ذلك يبقى على جهله فلا يستفيد شيئاً.

لما سئل ابن عباس رضي الله عنه ورحمه: كيف حصلت هذا العلم؟

قال: [بلسان سئول وبقلب عقول] لقد كان ينطلق هنا وهناك يسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل صغير وكبير أشكل عليه، وينبغي لطالب العلم أن يكون دائماً كثير السؤال، ولكن بضوابط، وليس السؤال على إطلاقه.

وتذكر كتب الأدب لطيفة من اللطائف والله أعلم بصحتها، أن أبا حنيفة كان مرة بين يدي تلاميذه يشرح لهم ويعلمهم، قالوا: فجاء شخص على هيئة حسنة، وعليه آثار طلب العلم، وكان أبو حنيفة ماداً لرجله، فلما رآه أبو حنيفة كف رجله، فجلس هذا الرجل يسأل، ولعل أبا حنيفة يتكلم عن شهر رمضان وعن أحكامه، ثم سأل هذا السائل ذو الهيئة والسمت: يا أبا حنيفة! أرأيت إذا جاء رمضان في وقت الحج ماذا يعمل الناس، أو قريباً من هذه؟ قال أبو حنيفة: لقد آن لـأبي حنيفة أن يمد رجله الآن.

ظن أنه طالب علم وإذا به جاهل، فما فهم الدرس ولا جاء بشيء يستفاد منه، مما يدل على أن مثل هذه الأسئلة لا يستفاد منها، وينبغي إذا سأل طالب العلم أن يكون السؤال حول العلم الذي يطرح حتى لا يكون كما قال الشاعر:

سارت مشرقة وسرت مغرباً     شتان بين مشرق ومغرب

تعريف السؤال في اللغة والاصطلاح

السؤال في اللغة: مأخوذ من مادة سأل يسأل سؤالاً، يقال: سألته عن الشيء أي: استخبرته، قالوا: ومن معانيه في اللغة: الطلب، وكأن السائل يطلب من شيخ الإسلام أن يخبره عن معتقده ومذهبه.

عُرِّف السؤال: أنه طلب أحد من آخر بذل شيء أو إخباره بخبر، قالوا: فإذا كان الطلب للبذل عدِّي الفعل بنفسه، مثل: أسألك أن تجلس، عدي بنفسه، وإن كان طلباً عن خبر معين من الأخبار عدي بعن مثل كلام شيخ الإسلام : (يا سائلي عن مذهبي) هذا خبر من الأخبار.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما روي عنه -وإن كان الحديث يضعفه بعض العلماء- وهو حديث صاحب الشجة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما شفاء العي السؤال) والعي: هو الجهل.

فإذا كان الإنسان جاهلاً فلا يشفيه إلا أن يسأل.

أنواع السؤال في نصوص الكتاب والسنة

يقول الإمام ابن الأثير رحمه الله تعالى: السؤال في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على نوعين:

أحدهما: ما جاء على وجه التبيين والتعلُّم مما تمس الحاجة إليه، فهو إما مباح أو مندوب أو مأمور به، فإذا سأل الإنسان عن هذه الأمور لا مانع منه.

ولعل من الأمثلة على هذه الأمور: كأن يسألك الإنسان سؤالاً مباحاً، يسألك عن السوق.. دلني على السوق، هذا سؤال مباح ليس واجباً ولا مستحباً، أو يسألك شخص أن تدله على منزل شخص.

وأما بالنسبة للسؤال عن الأمر المندوب، فهو سؤال أن تعلِّمه من سنن النبي صلى الله عليه وسلم؛ من أجل أن يتفقه فيها.

وبالنسبة للسؤال عن الأمور الواجبة كالسؤال عن القبلة في البلد، فمثلاً: إخوة قدموا من خارج المملكة ، ثم أُسكنوا في مسكن ولا يدرون أين القبلة، هل يعذرون بقضية الاجتهاد؟

لا، بل هذا واجب عليهم أن يسألوا، ومثله لما سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته).

ثانيهما: ما كان عن طريق التعنت والتكلف، وهذا مكروه، بل أمر منهي عنه، والله يقول: لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [المائدة:101].

وقالوا: من الأسئلة التي رد الله على سائليها برد فيه توجيه وتأنيب: وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85] كأنه ما كان ينبغي أن يسأل عن هذا السؤال.. يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا [النازعات:42-44] قطع الطريق على العقول أن تصل إلى ما تريد من السؤال، ولهذا نصل إلى قاعدة مهمة وهي: ليس كل سؤال يجاب عليه.

وأقول للأحبة: إن بعضاً من الناس يكون لديه غيرة ومحبة للدين، وحماساً لنصر دين الله تعالى، فربما يسأل عن أشياء فيتسارع إلى الإجابة عليها، ولذلك ليس كل سؤال يجاب عليه وليس كل سائل يجاب عن سؤاله، فقد يكون السائل متعنتاً لا يريد الحق لذاته، فهنا لا يجاب، وكم سأل الكفار نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ فسألوه أن ينزل معه ملكاً، وسألوه أن يفجر لهم من الأرض ينبوعاً، وسألوه أن يرقى في السماء ولن يؤمنوا لرقيه حتى ينزل عليهم كتاباً يقرءونه، وسألوه أن يأتي بالله والملائكة قبيلاً، فهل أجيبوا على ذلك؟ لا؛ لأنهم لم يقصدوا من هذه الأسئلة حقاً.

وكذلك بعض الناس يجلس مجلساً ثم يقول: أتريدون أن أرفع ضغط هذا الشخص؟ فيثير عليه سؤالين أو ثلاثة، ثم تكون النتيجة بعدها أن هذا يتحمس وينفعل، وذاك جالس على أريكته يضحك لما يرى من حماسه وغيرته ومحبته لبيان الحق، وهو لم يرد الحق، ولذلك نقول: رويداً في كل سؤال يثار إليك! لا تتفاعل معه، لكن إذا كان الإنسان باحثاً عن الحق مريداً له فيجاب هذا الإنسان على سؤاله.

ومن الأسئلة التي لا نجيب عليها، وهي التي نقول: لا يمكن للعقل أن يجيب عليها، ولا نجد في الكتاب والسنة إجابة عليها، ولا نتكلفها أبداً، مثلما حدث من السؤال للإمام مالك رحمه الله تعالى، لما جاءه رجل قال: يا مالك ! الرحمن على العرش استوى، كيف استوى؟

فقال له الإمام مالك رحمه الله تعالى: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة .. ثم قال: وما أراك إلا مبتدعاً"، فأمر به أن يخرج من الحلقة، ولعل السبب في ذلك أنه قد يوجد من الأشخاص من يثير أسئلة تكون سبباً لدخول الشبه في قلوب الحاضرين، ويصبح الشيخ إما أن يوجه التلميذ إلى الإعراض عن مثل هذه الأسئلة إعراضاً كلياً، أو يقول له: إن كان عندك ثمة سؤال فلا مانع أن تأتي إلي في البيت، أو بعد انتهاء الحلقة، وسل عما بدا لك، فإن علم أنه يريد حقاً أجابه، وإن كان لا يريد إلا باطلاً فليس له إلا أن يطرد من المسجد ومن حلقة العلم.

ولذلك فإن الله يبغض الألد الخصم الذي دائماً يجادل ويخاصم، ولقد أثني على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم ما سألوا إلا عن بضع عشرة مسألة يستفتون فيها، ونزل الرد والجواب لهم، ولقد كان من أدب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدبهم أنهم كانوا يفرحون بقدوم الأعرابي؛ لأنه يسأل عما بدا له، ولعل بعض الأعراب قد لا يكون عنده حسن تعامل في بعض الأشياء، ولعل من الأمثلة: قد يرفع صوته, وقد يقطع الحلقة ويتكلم، وما أراده يسأل عنه بفطرته، ويريد أن يرفع عن نفسه الجهل، ولعل من أمثلة ذلك في قضية زر بن حبيش حديث صفوان ، أن زراً سأل صفوان : (هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الهوى شيئاً؟ قال: نعم، جاء أعربي ثم نادى بأعلى صوته: يا محمد! يا محمد! بصوت مرتفع، فقال له الصحابة: اغضض من صوتك فإنك بين يدي رسول الله، قال: والله لا أغض، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم كلامه فرفع النبي بمثل صوته: هاؤم -أي: هاأنا .. ما عندك؟ قال: يا رسول الله! الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم، فقال له الرسول: أنت مع من أحببت، قال: فأنا أحب الله ورسوله) يقول أنس رضي الله عنه: [ما فرحنا بمثل هذا الحديث] أي: لم نجد فرحاً بعد الإسلام أعظم من فرحنا بمثل ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت مع من أحببت) قال أنس : [فإني أحب رسول الله، وأحب أبا بكر وعمر، وإني لأرجو الله أن أحشر مع هؤلاء] كانوا رضي الله عنهم وأرضاهم يسألون ويستفتون.

من الأمور التي ذكرها ابن الأثير رحمه الله ما كان على طريق التكلف والتعنت فهو مكروه ومنهي عنه، قالوا: فكل ما كان من هذا الوجه، ووقع السكوت عن جوابه، فإنما هو ردع وزجر للسائل.. وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85] هذا فيه ردع.. يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا [النازعات:42] أليس الرسول صلى الله عليه وسلم لما سأله الصحابي قال: (يا رسول الله، متى الساعة؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا أعددت لها) هل أجابه؟ لم يجبه عن وقتها، هذا يعتبر تأديباً للسائل أن يسأل، قالوا: فإذا وقع الجواب عن السؤال أُعتبر عقوبة وتغليظاً لهذا السائل.

لقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن كثرة السؤال: (إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) ولعل السبب في ذلك: أن هذا يخالف الأدب في قضية طلب العلم، أن يصبح الإنسان جالساً في مجلس، فكلما ورد في ذهنه سؤال جاء به، ولهذا قال العلماء: إذا كانت الحلقة متعلقة مثلاً بالفقه فلا ينبغي أن يُسأل عن مسائل في النحو، أو يسأل في مسائل في أصول الفقه، وإنما تكون قريبة، وإذا انتهت الحلقة فلا مانع بعد ذلك أن يسأل الطالب عما بدا له وأشكل عليه، لكن إذا كان حول العلم فإنه ينبغي أن يكون حول المسألة التي طرقت.

كان السلف لا يُسألون عن مسألة إلا سألوا السائل: هل وقعت أم لا؟ فإن كانت هذه المسألة وقعت أجابوه، وإن لم تكن وقعت خاصة إذا كانت من الفرضيات، أو كانت من الأمور التي هي معضلة، قالوا: دعوها، فإذا وقعت يقيض الله من يجيب عليها.

أذكر لكم من اللطائف: أننا زرنا بعض بلاد الكفر، وكنا ذات مرة نلقي كلمة عن أهمية العلم وطلبه، فسأل أحد الحضور سؤالاً عجيباً غريباً، قال: -وهو في دولة قد غزت النجوم على ما يسمون وغزت الفضاء- كيف يمكن لنا أن نوصل دعوة الله تعالى إلى الذين يسكنون الكواكب هناك ونبلغهم دين الله تعالى؟ وكأن الأرض قد ملئت بالعلم فما نقص علينا إلا أصحاب الكواكب ليجاب عن مسائلهم وإشكالاتهم.

هل هذه من أسئلة طلب العلم، نقول: هذا مسكين ينشد خيالاً، فهو لم يؤصل نفسه بالعلم ليستفيد، وما أشكلت عليه إلا قضية الساكنين في الكواكب كيف يمكن أن يوصل لهم العلم، والكفار هم الذين وصلوا إلى الكواكب، ونحن المسلمين لم نصل إليها، أي: يشكو حاله بأنه لم يصل إلى غزو النجوم وغيرها، ونقول: هذا ما عرف كيفية العلم والطلب، وما درى به.

ورع الصحابة في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم

كان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يتورعون أن يسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم في المسائل الواقعة الحادثة خاصة التي يخشون أن ينزل عليهم فيها قرآن، ولعل من الأمثلة: قصة الذي جامع أهله، فذكرت كتب السير وشراح الحديث أنه لما جامع أهله في نهار رمضان جاء إلى قومه، فقال: انطلقوا فاسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني أستحي أن أسأله، فقال الصحابة: والله لا نسأل، نخاف أن نسأل فينزل فينا قرآن.

فذهب ضيق الصدر خائفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقف بين يديه وهو يقول: يا رسول الله! هلكت.

تعبير عظيم جداً، مما يدل على حرقته من الذنب الذي قد عمله، ومن أثر المخالفة التي وقعت في نفسه، وهذا يبين لنا ما كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنهجهم الفريد عن منهجنا نحن، الصحابي إذا حدث عنده تقصير أو تفريط، يعبر عن هلاكه وحسرته لما فقد من الأجر والثواب، وعن خوفه من عقوبة الله تعالى، ثم سأله صلى الله عليه وسلم: (ما أهلكك؟ قال: يا رسول الله! واقعت أهلي في نهار رمضان) يقول: فكنت أظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيغضب علي، وسوف يسبني وسيتكلم عليّ، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (أعتق رقبة، قال: يا رسول الله! والله لا أجد، قال صم شهرين متتابعين، قال: يا رسول الله! وهل وقعت إلا بسبب الصيام، لم أصبر شهراً كيف أصبر شهرين، فقال له الرسول: أطعم ستين مسكيناً، قال: والله ليس عندي طعام، خرجت من بيتي وما فيه ما آكله، قال له: اجلس، فجلس، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم بمكتل فيه تمر، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: أطعمه ستين مسكيناً فقال: يا رسول الله! أعلى أفقر منا؟ فقال له الرسول: خذه وكله أنت وأهلك).

وماذا كانت النتيجة؟

رجع إلى قومه يسبهم؛ لأنه أراد منهم أن يشفعوا له عند رسول الله فما شفعوا له، قال: ذهبت إلى رسول الله فوالله ما كهرني ولا نهرني ولا سبني، ثم رجع بمكتل سيأكله بقية رمضان رضي الله عنه وأرضاه، جامع أهله في نهار رمضان، وجاء بطعام يكفي ستين مسكيناً رضي الله عنه وأرضاه، مما يدل على أن الصحابة رضي الله عنهم يتميزون بمزايا وخصائص على سائر الناس.