شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الخامس عشر)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فلعلنا تكلمنا عن بعض ما يتعلق باليوم الآخر، وشرحنا قول المؤلف رحمه الله حلاً لعبارته:

وأقر بالميزان والحوض الذي     أرجو بأني منه رياً أنهل

وتكلمنا عن بعض أحداث يوم القيامة إمراراً سريعاً دون تفصيل؛ نظراً لأن هذه الأحداث قد تطول بنا.

وبينا أن الله سبحانه وتعالى يبدل الأرض غير الأرض والسماوات، وأن هذه الأرض التي نعيش فيها ليست هي أرض المحشر، وإنما تكون بيضاء كالفضة ولم يعص الله فيها أبداً.

ويصبح الناس على أحوال، فالكفار لهم حال، والعصاة لهم حال، والمنافقون لهم حال، والمؤمنون لهم حال، فأما الكفار فالله قد بين حالهم يوم القيامة، وأن وجوههم مسودة، وما ذلك إلا لكفرهم وإشراكهم وإلحادهم بالله تعالى.

وهؤلاء الكفار قد توعدهم الله تعالى بوعيد، وأصبحوا يشاهدون ذلك الوعيد وينتظرون متى يحل بهم، ولهذا قال الله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [الأعراف:53] وهذا الكلام حين الحشر والعرض على الله سبحانه وتعالى.

- وطائفة من الناس وهم عصاة المؤمنين الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فجمعوا بين أمرين: السيئات والحسنات، فهؤلاء تبقى مغبة الذنوب أمام أعينهم، وخاصة الذين لم يتوبوا من الذنوب والمعاصي، أما من تاب من الذنوب والمعاصي فنحن نعلم أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له أصلاً، وهذا من رحمة الله تعالى بالمؤمنين أنهم يذنبون فيتوبون فيتوب الله عليهم، وبين لنا أحوال هؤلاء الذين ماتوا، فممن بين الله لنا: أهل الزكاة، وما يكون من حالهم، وأن أموالهم التي كنزوها فإن كانت ذهباً وفضة فتكوى بها جنوبهم وجباههم وظهورهم، وكذلك بين لنا حال صاحب الربا الذي يتخبطه الشيطان من المس، وبين لنا كذلك حال المتكبرين، أولئك الذين تكبروا على الله وتكبروا على الخلق، وأنهم يحشرون يوم القيامة كأمثال الذر يطؤهم الناس بأقدامهم.. وغيرها من الذنوب.

وبين لنا كذلك حال المؤمنين الأتقياء، وأن منهم طائفة وهم أعلاهم سبعين ألفاً، هؤلاء يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، لا يصابون بشيء، وهذا من فضل الله تعالى ومن رحمته، ولا شك أن هؤلاء الذين هم أعلاهم لا يحصل لهم شيء منهم من هم أقل منهم رتبة، وكما بين أن الشمس تدنو من الخلائق ويخرج منهم العرق، ويصبح العرق في الناس على قدر أعمالهم في الدنيا، فمنهم من يصل العرق إلى كعبيه، ومنهم إلى أنصاف ساقيه، .. إلى ركبتيه، .. إلى حقويه، .. إلى ترقوته، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، أي: كاللجام في فمه، وهؤلاء على حسب ذنوبهم وتقصيرهم يحدث لهم مثل هذا الأمر.

ومن أحداث يوم القيامة: أن الناس يحاسبون على ما قدموا، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أول ما يحاسب عليه العباد الصلاة، فإذا صلحت صلح سائر العمل، وإذا فسدت -نعوذ بالله- فسد سائر عمل الإنسان.

ويصبح الناس في حال الحساب أقسام أربعة:

القسم الأول: يحاسبون حساباً شديداً، يدقق عليهم في كل شيء -حساباً عسيراً- وهؤلاء هم الكفار، والملاحدة والمشركون.

القسم الثاني: يحاسبون حساباً ولكنه ليس كحساب الكفار، ويدخل فيه عصاة المؤمنين، فإن هؤلاء يحاسبون على أعمالهم، من المعاصي والفجور الذي وقع منهم.

القسم الثالث: لا يحاسبون أبداً وهم السبعون ألفاً، ومن رحمة الله تعالى أن أعطى نبيه مع كل ألف سبعون ألفاً، وهذا من فضل الله تعالى ورحمته.

القسم الرابع: وهم الذين يحاسبون حساباً يسيراً، وهو ما يسمى بقضية العرض، وهو العرض على الله تعالى، تعرض الذنوب ثم بعد ذلك يقرر بها الإنسان، ويعترف بها، ثم يقول الله: (إني سترتها عليك في الدنيا، وإني أغفرها لك اليوم) وهذه من رحمة الله تعالى بالمسلم أن يكون من هؤلاء القوم إذ أنه تقرر ذنوبه، وفي بعض الروايات: أن هؤلاء يحصل لهم أنها تبدل سيئاتهم حسنات، فالسيئات التي عملوها في الدنيا تنقلب إلى حسنات، وهذا من فضل الله تعالى ورحمته.

ذكر بعض أهل العلم أن بعد الحساب تتطاير الصحف، فمن الناس من يأخذ كتابه بيمينه، ويطير به فرحاً.. هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ [الحاقة:19] ومن الناس من يأخذ كتابه بشماله ووراء ظهره، وعند ذلك يحدث لهؤلاء القوم بسبب تطاير الصحف.. فليس للإنسان خيار، فالإنسان له حركة في الأخذ والعطاء، لكنه عند تطاير الصحف ليس له خيار، تتجه الكتب لأهل الإيمان والصلاح فيأخذونها بأيمانهم، وذاك لا يستطيع أن يمد يمينه، وإنما يأخذها بشماله، ولا شك أن هذه عقوبة لهم، بل هذا نوع وجزء من عقوبة الله تعالى لهؤلاء القوم.

ثم يحدث بعد إيتاء الكتب أن يؤتى بالميزان، وقضية الميزان هي من أحداث يوم القيامة، ولذلك قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وأقر بالميزان) ومقصوده في إقراره أنه يعترف ويعتقد بالميزان ولا ينكره، وقد ذكرنا أن الإقرار هو أعظم الأدلة في إثبات الحق، ولهذا يسمى سيد الأدلة، فالشيخ رحمه الله تعالى يذكر قضية الميزان، وإعطاؤنا الميزان، والصراط، والحوض، والنار .. وغيرها، هذه نعتبرها من الأحداث الغيبية، ويسميها بعض العلماء (السمعيات) أي: أنها لا تؤخذ إلا من النصوص، ولو لم يرد لنا نص في قضية الوزن ما أثبتناه، ولو لم يرد لنا نص في إثبات الصراط ما أثبتناه، وليس للعقل فيها مجال أبداً، وتصبح من الأمور التوقيفية، ويوزن الناس يوم القيامة.

اختلاف العلماء فيما يوزن

اختلف العلماء في الذي يوزن على ثلاثة أقوال:

القول الأول: أن الذي يوزن هو العمل ويستدلون لذلك بحديث ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كلمتان خفيفتان على اللسان، حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله بحمده، سبحان الله العظيم) وهذا يدل على أن هذه الأعمال توزن.

وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق) وهذا يدل على أن حسن الخلق عمل، وهو الذي يوزن يوم القيامة وهذا عمل.

القول الثاني: أن الذي يوزن هي الصحائف، ويستدلون على ذلك بحديث صاحب البطاقة، فإن صاحب البطاقة يؤتى به يوم القيامة وله تسع وتسعون سجلاً كلها مد البصر، ويقال له: أتنكر هذه؟ فلا ينكر شيئاً منها، ويقال له: هل لك حسنة؟ قال: لا، فيقول الرب: إنك لا تظلم اليوم، ثم بعد ذلك يؤتى ببطاقة فيها: لا إله إلا الله، فتوضع لا إله إلا الله في كفة، ثم توضع البطاقة في كفة، فتطيش بها بطاقة لا إله إلا الله، قالوا: فهذا وزن للصحف التي تكتب، ودل على أن الإنسان تكتب عليه الملائكة كل عمل يعمله في هذه الدنيا في صحف، ثم بعد ذلك توزن يوم القيامة.

القول الثالث: أن الذي يوزن هو الشخص نفسه، العامل نفسه، ويستدلون لذلك بحديث ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالرجل السمين فيوضع في الميزان يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة) ويستدل له كذلك بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه كان يجني للنبي صلى الله عليه وسلم الأراك، وقد كان رضي الله عنه وأرضاه دقيق الساقين، وربما كشفت الريح عن ساقيه وفي بعضها أنها تكفأه الريح، فرأى الصحابة دقة ساقيه، فضحك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (مم تعجبون؟ قال الصحابة: يا رسول الله! نضحك من دقة ساقيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنهما لفي الميزان يوم القيامة أثقل من جبل أحد ).

وبعض الطوائف ذهبت إلى أن الأعمال لا توزن أصلاً، وقالوا: لأن الأعمال أعراض وليست أجساداً، ولكن هذا اعتراض عقلي، وقاعدتنا في الأمور الغيبية التسليم لما ورد في النصوص، فلا مجال للعقل فيها أصلاً، والله قادر على أن يجعل الشيء الذي يسمى عرضاً أن يجعله شيئاً محسوساً كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اقرءوا القرآن.. ثم قال: فإنه تقدمه الزهراون البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أو غيايتان، أو كطير صواف تحاج عن صاحبها) فكيف يكون هذا. هو عرض -قراءة قرآن- ومع ذلك تحاج له، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن القرآن حجة لك أو عليك، أي: تستفيد منه يوم القيامة، مما يدل على أن قول الذين قالوا: إن الأعمال لا توزن قول غير صحيح، بل هو مخالف لما دلت عليه النصوص.

وجمع بعض أهل العلم رحمهم الله تعالى جمعاً لطيفاً هنا، وقالوا: إنه لا مانع من أن توزن الثلاثة كلها، يوزن العمل، ويوزن العامل، وتوزن الصحف؛ لأن كل واحد منها قد دل عليه النص، ولا مانع من أن يحدث هذا الأمر كله، وهذا هو الذي يرجحه شيخنا العلامة، وقد أومأ إليه الإمام حافظ الحكمي ، وجمع بعض العلماء رحمهم الله تعالى إيماءً إلى أن النصوص كلها ورادة، ولا تعارض بين هذه الأقوال.

ماهية الميزان

مسألة: الميزان هل هو حسي أم معنوي؟

الصحيح أن الميزان حسي وليس ميزاناً معنوياً، وقد وردت أحاديث تبين أن هذا الميزان له لسان وكفتان، فتوضع الحسنات في كفة والسيئات في كفة، ثم يوزن الإنسان أو عمله أو الصحف التي وردت، فأصبح هذا الميزان حسياً وليس معنوياً، وبعض الذين لا يقبلون هذه النصوص ولا يؤمنون بها كما سيأتي أن المعتزلة أنكرت قضية الوزن أصلاً، وقالوا: الله عالم بهذا الأمر فلا يحتاج إلى قضية الميزان، ولكن هذا الكلام باطل؛ نظراً لمخالفته لما دلت عليه النصوص، والله سبحانه وتعالى يقول: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً [الأنبياء:47].. فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ *فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ [القارعة:6-7] ويأتي في المقابل: وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ [القارعة:8-9] دل على أن الوزن للحسنات وللسيئات.

الميزان للإنس والجن سواء، وليس خاصاً بالإنس وحدهم، والسبب في ذلك إذا ذكرنا الحكمة من الوزن يتبين أن من الحكمة إظهار عدل الله تعالى، وأنه لا يظلم عنده أحد أبداً، والله قد قال: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة:7] مثاقيل الذر تعملها تجدها أمام عينيك، وعلى العكس أن مثاقيل الذر من الشر ستجدها أمام عينيك لن تظلم إطلاقاً، مما يدل على أن هذا الخطاب للإنس وللجن سواء، والله سبحانه وتعالى هو العدل الحكم سبحانه، وإن لم يحدث لكن بإقامة الحجة على الناس.

وزن أعمال الكفار

مسألة: هل توزن أعمال الكفار أم لا توزن؟

الجواب: اختلف العلماء فيها، فمن العلماء من قال: إنها لا توزن أصلاً، ولا حاجة لوزنها، قالوا: لأن الكفار ليس لهم أعمال توزن، والله يقول: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ [الفرقان:23] خاصة من الأعمال الصالحة.. فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23] لا يستفيدون منها شيئاً، فما دامت هباء منثوراً، فلا يستفيد الكافر منها شيئاً، فما الذي يوزن، كله سيئات فهو يقحم في النار مباشرة.

ومن العلماء من قال: إنها توزن وإن لم يكن له شيء من الحسنات إلا أن سيئات الكفار تختلف ويختلف الناس فيها، فمن الناس من سيئاته أعظم وأكبر من غيره، فهذا يجعل له عقوبة أشد، ومن الكفار من تكون عقوبته أقل كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في عم النبي صلى الله عليه وسلم أبي طالب ، حيث أنه عمل أعمالاً فخفف عنه العقوبة يوم القيامة، ولهذا ذكر الإمام ابن القيم تنبيهاً لطيفاً، وأظن أنه ذكره شيخ الإسلام رحمه الله، من التنبيه الذي ذكره قال: إن مشروعية جهاد الكفار حتى ولو أدى إلى قتلهم هذا من رحمة الله تعالى بهم، حيث أنهم لو عاشوا لازدادوا في السيئات والذنوب، فيقحمون في النار أكثر، وتزداد عقوبتهم حتى لو أدى إلى قتلهم، فدل على أن وجود الوزن أن هؤلاء وهؤلاء يوزنون ولكن شتان بين ميزان أهل الإيمان وميزان الكفار.

صفة الميزان

مسألة: ذكر العلماء رحمهم الله تعالى في صفة الميزان أنه ميزان حقيقي ذو كفتين وله لسان، وذكر بعض أهل العلم صفات الميزان وسعته وشكله، وأمور نحن في حاجة إلى نص ثابت من كتاب وسنة ولم نجد، ولكن نثبت الميزان ونعرف مدلوله ومعناه، ونقول: إنه ميزان حقيقي، وأما التفاصيل فلا عبرة إلا بنص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

عدد الموازين

مسألة: اختلف العلماء في الموازين، هل هي ميزان واحد أم أنها موازين متعددة؟ فبعض أهل العلم يقول: إنها ميزان واحد، وهذا لجميع الأمم كلها، وتأتي مسألة: كيف توزن الأعمال كلها وهو ميزان واحد؟

نقول: هذه من الأمور الغيبية، وقاعدتنا في الأمور الغيبية أننا لا نحكم الذهن فيها أبداً، ونسلم أن هناك ميزاناً توزن به أعمال العباد.

والقول الثاني: أن لكل أمة ميزاناً.

والقول الثالث: أن لكل واحد من المكلفين ميزاناً خاصاً به، وهذا القول نقل عن الحسن البصري رحمه الله تعالى.

وذكر بعض أهل العلم لما قال: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ [الأنبياء:47].. فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ [المؤمنون:102] قال: هناك موازين للأعمال، وموازين للأقوال، وموازين للاعتقادات، وهذه تفاصيل تحتاج إلى نصوص تفصل تلك وتبينها، والأصل أننا نثبت الموازين ونثبت الميزان، والتدقيق والتفصيل فيه يحتاج إلى بينة.

الحكمة من نصب الميزان يوم القيامة

عندنا من المسائل المتعلقة بالميزان: الحكمة من قضية الوزن، مع أن الله سبحانه وتعالى مطلع على أعمال العباد وعارف بها، فلماذا إذاً توزن هذه الأعمال مع أن الله سبحانه وتعالى عالم بهذه، ذكر العلماء رحمهم الله تعالى الحكمة فيها، منهم من قال: تعريف العباد بما لهم من الجزاء والأعمال، ولو سئل كل واحد منا الآن: اذكر السيئات التي عملت فقط؟

قد لا نذكر إلا الجرائم العظام فقط، وما عداها من السيئات ننساها، فجيء بالميزان لأجل أن يرى الإنسان ما عمله من بداية تكليفه إلى أن توفي، يراه أمام عينيه، ولهذا جاء في قوله تعالى: مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49] سبحانه وتعالى، فيُعرِّف الله تعالى عباده بما عملوه من خير أو شر.

ومنهم من قال: لإظهار عدل الله سبحانه وتعالى, وأنه الحكم العدل، وأن الناس لن يظلموا عنده أبداً: وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47] أي: أن الله سبحانه وتعالى لن يضيع الإنسان.

ومن العلماء من قال: إن الناس لو دخل هؤلاء الجنة وهؤلاء النار، لقال صاحب الجنة: إني دخلت هذه بما قدمت من الأعمال والدرجات وغيرها، وأنا أستحق بعملي، ولقال العاصي عند ذلك: إني دخلت هذه النار بسبب أني قد أكون ظلمت، وقد أدخلت هذه النار بسبب أعمال لا تستحق، لكن إذا جعلت الموازين، والناس يشاهدون هذا الوزن، ويرون الصغير والكبير يعرض، يطمئن الإنسان بعدها، فمن دخل الجنة -ونسأل الله أن نكون من أهلها- فرح وسعد، ومن دخل النار -نعوذ بالله منها- يكون قد علم أنه إنما دخل ذلك بسبب ما قدمت يداه في هذه الحياة الدنيا.

اختلف العلماء في الذي يوزن على ثلاثة أقوال:

القول الأول: أن الذي يوزن هو العمل ويستدلون لذلك بحديث ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كلمتان خفيفتان على اللسان، حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله بحمده، سبحان الله العظيم) وهذا يدل على أن هذه الأعمال توزن.

وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق) وهذا يدل على أن حسن الخلق عمل، وهو الذي يوزن يوم القيامة وهذا عمل.

القول الثاني: أن الذي يوزن هي الصحائف، ويستدلون على ذلك بحديث صاحب البطاقة، فإن صاحب البطاقة يؤتى به يوم القيامة وله تسع وتسعون سجلاً كلها مد البصر، ويقال له: أتنكر هذه؟ فلا ينكر شيئاً منها، ويقال له: هل لك حسنة؟ قال: لا، فيقول الرب: إنك لا تظلم اليوم، ثم بعد ذلك يؤتى ببطاقة فيها: لا إله إلا الله، فتوضع لا إله إلا الله في كفة، ثم توضع البطاقة في كفة، فتطيش بها بطاقة لا إله إلا الله، قالوا: فهذا وزن للصحف التي تكتب، ودل على أن الإنسان تكتب عليه الملائكة كل عمل يعمله في هذه الدنيا في صحف، ثم بعد ذلك توزن يوم القيامة.

القول الثالث: أن الذي يوزن هو الشخص نفسه، العامل نفسه، ويستدلون لذلك بحديث ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالرجل السمين فيوضع في الميزان يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة) ويستدل له كذلك بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه كان يجني للنبي صلى الله عليه وسلم الأراك، وقد كان رضي الله عنه وأرضاه دقيق الساقين، وربما كشفت الريح عن ساقيه وفي بعضها أنها تكفأه الريح، فرأى الصحابة دقة ساقيه، فضحك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (مم تعجبون؟ قال الصحابة: يا رسول الله! نضحك من دقة ساقيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنهما لفي الميزان يوم القيامة أثقل من جبل أحد ).

وبعض الطوائف ذهبت إلى أن الأعمال لا توزن أصلاً، وقالوا: لأن الأعمال أعراض وليست أجساداً، ولكن هذا اعتراض عقلي، وقاعدتنا في الأمور الغيبية التسليم لما ورد في النصوص، فلا مجال للعقل فيها أصلاً، والله قادر على أن يجعل الشيء الذي يسمى عرضاً أن يجعله شيئاً محسوساً كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اقرءوا القرآن.. ثم قال: فإنه تقدمه الزهراون البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أو غيايتان، أو كطير صواف تحاج عن صاحبها) فكيف يكون هذا. هو عرض -قراءة قرآن- ومع ذلك تحاج له، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن القرآن حجة لك أو عليك، أي: تستفيد منه يوم القيامة، مما يدل على أن قول الذين قالوا: إن الأعمال لا توزن قول غير صحيح، بل هو مخالف لما دلت عليه النصوص.

وجمع بعض أهل العلم رحمهم الله تعالى جمعاً لطيفاً هنا، وقالوا: إنه لا مانع من أن توزن الثلاثة كلها، يوزن العمل، ويوزن العامل، وتوزن الصحف؛ لأن كل واحد منها قد دل عليه النص، ولا مانع من أن يحدث هذا الأمر كله، وهذا هو الذي يرجحه شيخنا العلامة، وقد أومأ إليه الإمام حافظ الحكمي ، وجمع بعض العلماء رحمهم الله تعالى إيماءً إلى أن النصوص كلها ورادة، ولا تعارض بين هذه الأقوال.

مسألة: الميزان هل هو حسي أم معنوي؟

الصحيح أن الميزان حسي وليس ميزاناً معنوياً، وقد وردت أحاديث تبين أن هذا الميزان له لسان وكفتان، فتوضع الحسنات في كفة والسيئات في كفة، ثم يوزن الإنسان أو عمله أو الصحف التي وردت، فأصبح هذا الميزان حسياً وليس معنوياً، وبعض الذين لا يقبلون هذه النصوص ولا يؤمنون بها كما سيأتي أن المعتزلة أنكرت قضية الوزن أصلاً، وقالوا: الله عالم بهذا الأمر فلا يحتاج إلى قضية الميزان، ولكن هذا الكلام باطل؛ نظراً لمخالفته لما دلت عليه النصوص، والله سبحانه وتعالى يقول: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً [الأنبياء:47].. فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ *فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ [القارعة:6-7] ويأتي في المقابل: وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ [القارعة:8-9] دل على أن الوزن للحسنات وللسيئات.

الميزان للإنس والجن سواء، وليس خاصاً بالإنس وحدهم، والسبب في ذلك إذا ذكرنا الحكمة من الوزن يتبين أن من الحكمة إظهار عدل الله تعالى، وأنه لا يظلم عنده أحد أبداً، والله قد قال: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة:7] مثاقيل الذر تعملها تجدها أمام عينيك، وعلى العكس أن مثاقيل الذر من الشر ستجدها أمام عينيك لن تظلم إطلاقاً، مما يدل على أن هذا الخطاب للإنس وللجن سواء، والله سبحانه وتعالى هو العدل الحكم سبحانه، وإن لم يحدث لكن بإقامة الحجة على الناس.