شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الثاني)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قبل أن أبدأ بالدرس لعلي أقول للأحبة توجيهاً لهم ولنفسي.

أولاً: إن ثمرة العلم التقيّد بسنة محمد صلى الله عليه وسلم، ولعلي لاحظت ملحوظة لطيفة، ولا بد من بيان التناصح والتوجيه فيما بيننا، أن بعض الأحبة يسارع إلى مكانه قبل أن يؤدي سنة محمد صلى الله عليه وسلم، وأقول لكم قاعدة: كلما عظم في نفس الإنسان الحرص على تأدية سنة محمد صلى الله عليه وسلم، كل ما يسر الله للعبد أموره، ويسر له كلما يحتاج إليه، ورفع منزلته وأعلى كلمته؛ لأن مبعث الحرص والتقيّد هو التأسي بمحمد صلى الله عليه وسلم.

وأقول: هذه الظاهرة ليست موجودة هنا بل في كثير من حلقات العلم، ومن أعظمها حلقة شيخنا العلامة، تجد بعض الأحبة ينسى أوراد الصباح في درس الفجر، وفي المغرب ينسى السنة الراتبة، وينسى ورد المساء وغيره حرصاً منه على المكان، ويبقى الأحبة يزدحمون فلا يجد أحدهم موقعاً يصلي السنة فيه.

وبناءً عليه نحن بحاجة إلى الحرص على التأسي بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولعل على ضوء ما شاهدته لم أجد شخصية فيها من الحرص على سنة محمد صلى الله عليه وسلم كشخصية شيخنا العلامة، وما أظنه نسي ورداً أبداً فيما علمت، ولا أداء سنة، وسبحان الله! أمر هذا الرجل عجيب! وما علم بسنة ثبتت عن محمد صلى الله عليه وسلم إلا حفظها وعمل بها مباشرة، ولهذا أبقى الله ذكره، وأعظم الله منزلته، وأصبح يشار إليه بالبنان؛ لما لسنة محمد صلى الله عليه وسلم في قلبه من التعظيم والإجلال.

ونحن ينبغي أن نتربى على مثل هذا المنهج، وهو منهج سلفنا رحمهم الله تعالى ورضي الله عنهم.

وقلت: لا بد أن نعلم أن ثمرة العلم هو الأدب والسلوك، والامتثال والانقياد، وقديماً قال سلفنا رحمهم الله تعالى: (إن نصف العلم الأدب) ليس العبرة بكثرة ما يحفظ الإنسان، أو يقرأ، وإنما الثمرة هو أن يحرص على أن يطبق ما علمه؛ حتى يكون لذلك أثراً عظيماً في حياة الإنسان وسلوكه.

أنطلق إلى ما أود أن أنبه عليه، وسأذكر عدداً من القواعد وإن كنت لم أرتبها ترتيباً علمياً دقيقاً يُحتاج إليه، ولكني أذكرها لكم خواطر، وأرى أن طالب العلم الذي يريد أن يطلب علماً في مسائل الاعتقاد لا بد أن يعلمها:

القاعدة الأولى: الأصل في جميع الناس هو التوحيد

الأصل في الناس هو التوحيد وليس الشرك، والدليل على ذلك: أن آدم عليه الصلاة والسلام كان على توحيد الله تعالى، وبقي آدم عليه الصلاة والسلام وذريته على التوحيد عشرة قرون، وقد دل على ذلك حديث ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو قدسي: (خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين).

فأصبح الأصل في الناس هو توحيد الله ليس الانحراف، وقبول هذا الدين، والعمل به، وبقي آدم عليه الصلاة والسلام يبلغ دين الله لأولاده، وأولاده ساروا على ذلك حتى مضى عشرة قرون وهم على ذلك، ودليله: (ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه) ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: أو يمسلمانه؛ لأن الأصل فيه هو الإسلام، والأصل فيه هو قبول هذا الدين والعمل به.

سبحان الله! لم تقتضِ حكمة الله أن يستمر الناس على التوحيد إلى أن يلقوا ربهم، وتبدأ قضية الانحراف في مسائل الاعتقاد، وأول انحراف وقع هو في قوم نوح عليه الصلاة والسلام، إذ أنه وُجد عندهم عباد صالحون كما ذكرت كتب السيرة، وورد كذلك لها أصل في الصحيح، كان منهم: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، وكانوا أهل صلاح وإيمان وتقوىً وزهد وبعد عن الدنيا، وكان الناس يحبونهم حباً جماً، ويفرحون إذا رأوهم أو لقوهم، فإذا شاهدهم أحد من عصرهم يجتهد في طاعة الله تعالى، ويحرص على الانقياد، وقد روي في الأثر: (إن من خير الناس من إذا رأيته ذكرك الله) إذا رأيته تعترف بتقصيرك وتفريطك في حق ربك، وإذ تراه تشعر أنه أنموذجاً فريداً في العبادة والصلاح والتقوى.

ويقدر الله أن يموت هؤلاء في خلال شهر، وحزن الناس على فقدهم حزناً عظيماً، وكانت النتيجة أن جاء الشيطان فقال لهم: ألا أصنع لكم مثل صورهم؛ حتى إذا أردتم أن تنشطوا في العبادة ترونهم فتذكروا الله تعالى وتزدادوا طاعة وقربى؟

وأقول: إن هذه شبهة قد ترد في الذهن، وهذه ذكرى طيبة أن يتذكر الإنسان طاعة الله ويجتهد، ولو جاء الإنسان بمجرد العقل لقال: إن هذا العمل طيب، إذ يذكرنا الصلاح والخير والإيمان، ويمضي القرن الأول وهم على ذلك، ثم يأتي جيل بعده، فأتاهم الشيطان فقال: إن أهلكم لم يضعوا هذه الصور وهذه التماثيل إلا لأنهم يرجون بركتها ويرجون نفعها، فأخذ هؤلاء وبدأت بوادر الشرك بتوسل وبتبرك.

ويمضي هذا القرن، ثم يأتي جيل بعده فقال: إن أهلكم لم يضعوها إلا لأنهم يدعونها، ويستشفونها، ويطلبون العلاج منها وغيره ذلك، فعبدت من دون الله تعالى.

ثم كانت النتيجة أن بعث الله نوحاً عليه الصلاة والسلام إلى هؤلاء القوم، ومكث فيهم تسعمائة وخمسين عاماً يدعوهم إلى الله تعالى.

سبحان الله! نوح عليه الصلاة والسلام تعتبر حياته أعظم مدرسة للدعاة إلى الله تعالى، وللذين يريدون أن ينشروا توحيد الله، فإن نوحاً مكث تسعمائة وخمسين عاماً كان حصيلته: وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود:40] ويقال له بعد هذا الجهد الطويل: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ [هود:36].

ويقدر الله بعد هذا الجهد الذي يتعب من أجله نوح في الليل والنهار وفي السر والجهر، وفي مجتمعاتهم وفي أفرادهم، حتى أصبح القوم كلما رأوه استغشوا ثيابهم وغطوا وجوههم، لا يريدون أن ينظروا إليه، ووضعوا أصابعهم في آدانهم لا يريدون أن يسمعوا دعوته، وهم يعلمون ما عنده، ولا يريدون أن يقبلوا منه إطلاقاً، ومع ذلك يستمر ويستمر، كأنها تربية للأنبياء من بعده، ولنا نحن وللدعاة إلى قيام الساعة أننا لا نيأس من هداية أحدٍ كائناً من كان.

إن كثيراً من الأحبة قد ينصح أخاه أو قربيه في معصية، وترى النتيجة بعد ذلك يقطع الأمل بمجرد أن يقول له: لا تنصحني، فإني أعرف ولا أقبل منك شيئاً، وهذا نعتبره خلاف ما كان عليه أنبياء الله ورسله.

وإنا لنرى عجباً وخوارق عجيبة في قصة نوح، كموضع هذه الديار ليس فيها بحار ولا غيرها، ولو رأينا شخصاً من الناس يصنع سفينة في الأرض المجاورة عندنا لقلنا: سبحان الله! لعل في عقله شيئاً، وما تغني السفينة في صحراء قاحلة، وفي أرض ليس فيها أنهار ولا بحار، وأصبح قومه كلما مروا ونظروا إليه سخروا منه، ولكنه إيمان النبي الموقن بوعد الله: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [هود:38-39].

وينتظر نوح عليه الصلاة والسلام متى ترسو هذه السفينة وتطفو وترتفع، ووعد الله صادق وسيكون لا محالة، ثم دعا نوح بعد ذلك على قومه: أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر:10] وفجر الله الأرض عيوناً، وانهمرت السماء بالأمطار، وأغرقت الأرض كلها، وطفت سفينة الإيمان والتوحيد، ويُحمل فيها نوح عليه الصلاة والسلام ومن آمن معه ومن كان من أهل التوحيد الذين ساروا على منهاج هذا النبي الكريم، ويُحمل فيها أهل الإيمان، ويُحمل فيها ما أمر الله من كلِّ زوجين اثنين.

وسبحان الله! تدرك هذا النبي شفقة الأبوة، وينادي ابنه ولم يكن مؤمناً: يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ [هود:42] وإننا بمنظارنا الواقعي الحسي المادي أن كل إنسان إذا وجد شيئاً يبحث عن أعلى موقع، فما كان من الابن إلا أن قال: سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ [هود:43] ولكن نوحاً عليه الصلاة والسلام عالم بأن الله مريد إهلاك هؤلاء ولن ينجو إلا من كان معه، قال له كلمة الموقن: لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [هود:43].

ولا زال نوح يتعلق بابنه وفلذة كبده، ويدعو ربه: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ [هود:45] ويرد الله عليه مبيناً المنهج إلى قيام الساعة أنه لا رابطة بين أحدٍ كائناً من كان إلا رابطة الإيمان والتوحيد: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِي [هود:46] وتقطع العلائق والوشائج كلها، وتبقى رابطة الإيمان وحدها، ورابطة التوحيد التي ينبغي أن نؤصلها في نفوسنا؛ لنسير على ضوء ما كان عليه أنبياء الله ورسله، وما كان عليه سلف الأمة .

القاعدة الثانية: براءة الصحابة من البدع

الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لم يكن أحد منهم مؤسساً لبدعة ولا لفرقة ضالة أبداً، ولعلي إذ أرسي هذه القاعدة؛ لأبين أن بعضاً من الناس أو بعضاً من الكتَّاب، أو الوعاظ، أو المذكرين، تجده يتكلم عن ظواهر منحرفة، فيقول: ظاهرة الغلو كانت في حياة محمد صلى الله عليه وسلم إذ قال أحدهم: لا أتزوج..، وآخر: ظاهرة الإرجاء كانت في حياة الصحابة موجودة إذ قال قدامة بن مظعون قولته، ونقول: رويدك!! فإنك لم تعرف الأدب مع هؤلاء القوم.

لم يكن أحد من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم مسانداً لمبتدع، ولا مؤسساً لبدعة أبداً، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حدث منهم شيء من التقصير أو الخطأ رضي الله عنهم وأرضاهم يوجهون مباشرة فينقادون للمنهج مسارعين، وليس كالمبتدعة.. يُبَين للمعتزلة ويصرون على باطلهم، ويبين للمرجئة ويصرون، ويبين لغيرهم من طوائف الانحراف ولا يقبلون دين الله مع وضوحه كالشمس، أما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه متى وضح له فإنه سرعان ما يلتزم بما جاءه عن الله وعن رسوله.

قدامة بن مظعون رضي الله عنه أحد الصحابة الأخيار، جلس مع الصحابة يتذاكرون القرآن، فتلوا قول الله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [المائدة:93] ويكملون الآية.. فقالوا: الحمد لله نحن ممن آمن، ونحن على صلاح وتقوى، وليس علينا جناح فيما طعمنا، فجاءوا بالخمر فشربوه رضي الله عنهم وأرضاهم، فعلم عمر بالخبر، وأُخبر بهذا الأمر، وأنه فهم عجيب وغريب، ثم جاء عمر بـقدامة ومن كان معه، فقال له: اجتمع رأي الصحابة جميعاً فيهم وسألوا قدامة بن مظعون لِمَ؟ وتأول لهم الآية، فقال له عمر بن الخطاب : أخطأت استك الحفرة، أما إنك لو كنت اتقيت لما شربت الخمر.

ثم قال لمن حوله من القضاة: سلوهم فإن شربوها مستحلين كفروا، وإن شربوها متأولين جلدوا، وعلم قدامة بن مظعون رضي الله عنه وأرضاه بعد ذلك أنه قد أخطأ وعصى الله ورسوله، فماذا كانت النتيجة بعدها؟

قالوا: مكث دهراً وهو يبكي على نفسه حتى وصل به الحد إلى أن يئس من رحمة الله، متعجباً كيف به وهو صاحب رسول الله لا يفهم هذا الفهم، كيف يقع في مثل هذه الكبيرة العظيمة؟

أين أثر الإيمان وغيره، فجاء به عمر رضي الله عنه مرة أخرى، ثم قال له: لا أدري أي ذنبيك أعظم.. استحلالك الخمر؟ أم يأسك من رحمة الله؟ وتلا عليه أول سورة غافر: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ [غافر:3] وبعدها سار على ما كان عليه سلف الأمة ، وهو ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وبناءً عليه .. لا يمكن أن نجعل لطائفة بدعية منحرفة أن تقول: هذا هو قول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أن الصحابة هم الذين أسسوا هذه الطائفة الضالة، أبداً وكلا، بل لهم المنازل العليا رضي الله عنهم وأرضاهم.

القاعدة الثالثة: الخلاف بين الصحابة في الفروع لا في العقائد

يجب أن نعلم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وقع بينهم خلاف في مسائل كثيرة، في مسائل التشريع والفروع، أما مسائل العقائد ومسائل الأسماء والصفات فلم يقع بينهم شيء من الاختلاف رضي الله عنهم وأرضاهم، وقد أسسنا هذه القاعدة لكي ننطلق إلى مفهومٍ نعلم أن كل قول في مسائل العقيدة لم يكن عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نعلم بأنه مبتدع ومنحرف عن منهج الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن هذا ليس منهج سلف الأمة رحمهم الله تعالى.

كم حدث بين الصحابة من خلافٍ في مسائل الطهارة، وفي مسائل الصلاة والصيام والزكاة .. وفي غيرها، لكن أين الاختلاف في أصول الدين، وفي مسائل الاعتقاد وباب الأسماء والصفات؟

لم يكن ذلك موجوداً، ليعطينا أنهم كانوا على ما كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يتجاوزوا ذلك أبداً.

ويرسيها الصحابة فيما بينهم بوصايا: [من كان مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تُؤمَنُ عليه الفتنة] ثم يذكر لنا ابن مسعود وغيره رضي الله عنه وأرضاه ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم معطياً منازلهم: [أولئك أصحاب محمد، -ويصفهم بالصفات العلى- أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً وفهماً وتصوراً، ثم يقول: اعرفوا لهم قدراً].

وهذا هو الواجب علينا أن نسير على ضوء ما سار عليه هؤلاء الصحابة، وأن نعلم يقيناً أنه ما حدث بينهم شيء من الاختلاف في مسائل الاعتقاد رحمهم الله تعالى ورضي عنهم.

الأصل في الناس هو التوحيد وليس الشرك، والدليل على ذلك: أن آدم عليه الصلاة والسلام كان على توحيد الله تعالى، وبقي آدم عليه الصلاة والسلام وذريته على التوحيد عشرة قرون، وقد دل على ذلك حديث ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو قدسي: (خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين).

فأصبح الأصل في الناس هو توحيد الله ليس الانحراف، وقبول هذا الدين، والعمل به، وبقي آدم عليه الصلاة والسلام يبلغ دين الله لأولاده، وأولاده ساروا على ذلك حتى مضى عشرة قرون وهم على ذلك، ودليله: (ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه) ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: أو يمسلمانه؛ لأن الأصل فيه هو الإسلام، والأصل فيه هو قبول هذا الدين والعمل به.

سبحان الله! لم تقتضِ حكمة الله أن يستمر الناس على التوحيد إلى أن يلقوا ربهم، وتبدأ قضية الانحراف في مسائل الاعتقاد، وأول انحراف وقع هو في قوم نوح عليه الصلاة والسلام، إذ أنه وُجد عندهم عباد صالحون كما ذكرت كتب السيرة، وورد كذلك لها أصل في الصحيح، كان منهم: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، وكانوا أهل صلاح وإيمان وتقوىً وزهد وبعد عن الدنيا، وكان الناس يحبونهم حباً جماً، ويفرحون إذا رأوهم أو لقوهم، فإذا شاهدهم أحد من عصرهم يجتهد في طاعة الله تعالى، ويحرص على الانقياد، وقد روي في الأثر: (إن من خير الناس من إذا رأيته ذكرك الله) إذا رأيته تعترف بتقصيرك وتفريطك في حق ربك، وإذ تراه تشعر أنه أنموذجاً فريداً في العبادة والصلاح والتقوى.

ويقدر الله أن يموت هؤلاء في خلال شهر، وحزن الناس على فقدهم حزناً عظيماً، وكانت النتيجة أن جاء الشيطان فقال لهم: ألا أصنع لكم مثل صورهم؛ حتى إذا أردتم أن تنشطوا في العبادة ترونهم فتذكروا الله تعالى وتزدادوا طاعة وقربى؟

وأقول: إن هذه شبهة قد ترد في الذهن، وهذه ذكرى طيبة أن يتذكر الإنسان طاعة الله ويجتهد، ولو جاء الإنسان بمجرد العقل لقال: إن هذا العمل طيب، إذ يذكرنا الصلاح والخير والإيمان، ويمضي القرن الأول وهم على ذلك، ثم يأتي جيل بعده، فأتاهم الشيطان فقال: إن أهلكم لم يضعوا هذه الصور وهذه التماثيل إلا لأنهم يرجون بركتها ويرجون نفعها، فأخذ هؤلاء وبدأت بوادر الشرك بتوسل وبتبرك.

ويمضي هذا القرن، ثم يأتي جيل بعده فقال: إن أهلكم لم يضعوها إلا لأنهم يدعونها، ويستشفونها، ويطلبون العلاج منها وغيره ذلك، فعبدت من دون الله تعالى.

ثم كانت النتيجة أن بعث الله نوحاً عليه الصلاة والسلام إلى هؤلاء القوم، ومكث فيهم تسعمائة وخمسين عاماً يدعوهم إلى الله تعالى.

سبحان الله! نوح عليه الصلاة والسلام تعتبر حياته أعظم مدرسة للدعاة إلى الله تعالى، وللذين يريدون أن ينشروا توحيد الله، فإن نوحاً مكث تسعمائة وخمسين عاماً كان حصيلته: وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود:40] ويقال له بعد هذا الجهد الطويل: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ [هود:36].

ويقدر الله بعد هذا الجهد الذي يتعب من أجله نوح في الليل والنهار وفي السر والجهر، وفي مجتمعاتهم وفي أفرادهم، حتى أصبح القوم كلما رأوه استغشوا ثيابهم وغطوا وجوههم، لا يريدون أن ينظروا إليه، ووضعوا أصابعهم في آدانهم لا يريدون أن يسمعوا دعوته، وهم يعلمون ما عنده، ولا يريدون أن يقبلوا منه إطلاقاً، ومع ذلك يستمر ويستمر، كأنها تربية للأنبياء من بعده، ولنا نحن وللدعاة إلى قيام الساعة أننا لا نيأس من هداية أحدٍ كائناً من كان.

إن كثيراً من الأحبة قد ينصح أخاه أو قربيه في معصية، وترى النتيجة بعد ذلك يقطع الأمل بمجرد أن يقول له: لا تنصحني، فإني أعرف ولا أقبل منك شيئاً، وهذا نعتبره خلاف ما كان عليه أنبياء الله ورسله.

وإنا لنرى عجباً وخوارق عجيبة في قصة نوح، كموضع هذه الديار ليس فيها بحار ولا غيرها، ولو رأينا شخصاً من الناس يصنع سفينة في الأرض المجاورة عندنا لقلنا: سبحان الله! لعل في عقله شيئاً، وما تغني السفينة في صحراء قاحلة، وفي أرض ليس فيها أنهار ولا بحار، وأصبح قومه كلما مروا ونظروا إليه سخروا منه، ولكنه إيمان النبي الموقن بوعد الله: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [هود:38-39].

وينتظر نوح عليه الصلاة والسلام متى ترسو هذه السفينة وتطفو وترتفع، ووعد الله صادق وسيكون لا محالة، ثم دعا نوح بعد ذلك على قومه: أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر:10] وفجر الله الأرض عيوناً، وانهمرت السماء بالأمطار، وأغرقت الأرض كلها، وطفت سفينة الإيمان والتوحيد، ويُحمل فيها نوح عليه الصلاة والسلام ومن آمن معه ومن كان من أهل التوحيد الذين ساروا على منهاج هذا النبي الكريم، ويُحمل فيها أهل الإيمان، ويُحمل فيها ما أمر الله من كلِّ زوجين اثنين.

وسبحان الله! تدرك هذا النبي شفقة الأبوة، وينادي ابنه ولم يكن مؤمناً: يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ [هود:42] وإننا بمنظارنا الواقعي الحسي المادي أن كل إنسان إذا وجد شيئاً يبحث عن أعلى موقع، فما كان من الابن إلا أن قال: سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ [هود:43] ولكن نوحاً عليه الصلاة والسلام عالم بأن الله مريد إهلاك هؤلاء ولن ينجو إلا من كان معه، قال له كلمة الموقن: لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [هود:43].

ولا زال نوح يتعلق بابنه وفلذة كبده، ويدعو ربه: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ [هود:45] ويرد الله عليه مبيناً المنهج إلى قيام الساعة أنه لا رابطة بين أحدٍ كائناً من كان إلا رابطة الإيمان والتوحيد: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِي [هود:46] وتقطع العلائق والوشائج كلها، وتبقى رابطة الإيمان وحدها، ورابطة التوحيد التي ينبغي أن نؤصلها في نفوسنا؛ لنسير على ضوء ما كان عليه أنبياء الله ورسله، وما كان عليه سلف الأمة .

الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لم يكن أحد منهم مؤسساً لبدعة ولا لفرقة ضالة أبداً، ولعلي إذ أرسي هذه القاعدة؛ لأبين أن بعضاً من الناس أو بعضاً من الكتَّاب، أو الوعاظ، أو المذكرين، تجده يتكلم عن ظواهر منحرفة، فيقول: ظاهرة الغلو كانت في حياة محمد صلى الله عليه وسلم إذ قال أحدهم: لا أتزوج..، وآخر: ظاهرة الإرجاء كانت في حياة الصحابة موجودة إذ قال قدامة بن مظعون قولته، ونقول: رويدك!! فإنك لم تعرف الأدب مع هؤلاء القوم.

لم يكن أحد من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم مسانداً لمبتدع، ولا مؤسساً لبدعة أبداً، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حدث منهم شيء من التقصير أو الخطأ رضي الله عنهم وأرضاهم يوجهون مباشرة فينقادون للمنهج مسارعين، وليس كالمبتدعة.. يُبَين للمعتزلة ويصرون على باطلهم، ويبين للمرجئة ويصرون، ويبين لغيرهم من طوائف الانحراف ولا يقبلون دين الله مع وضوحه كالشمس، أما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه متى وضح له فإنه سرعان ما يلتزم بما جاءه عن الله وعن رسوله.

قدامة بن مظعون رضي الله عنه أحد الصحابة الأخيار، جلس مع الصحابة يتذاكرون القرآن، فتلوا قول الله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [المائدة:93] ويكملون الآية.. فقالوا: الحمد لله نحن ممن آمن، ونحن على صلاح وتقوى، وليس علينا جناح فيما طعمنا، فجاءوا بالخمر فشربوه رضي الله عنهم وأرضاهم، فعلم عمر بالخبر، وأُخبر بهذا الأمر، وأنه فهم عجيب وغريب، ثم جاء عمر بـقدامة ومن كان معه، فقال له: اجتمع رأي الصحابة جميعاً فيهم وسألوا قدامة بن مظعون لِمَ؟ وتأول لهم الآية، فقال له عمر بن الخطاب : أخطأت استك الحفرة، أما إنك لو كنت اتقيت لما شربت الخمر.

ثم قال لمن حوله من القضاة: سلوهم فإن شربوها مستحلين كفروا، وإن شربوها متأولين جلدوا، وعلم قدامة بن مظعون رضي الله عنه وأرضاه بعد ذلك أنه قد أخطأ وعصى الله ورسوله، فماذا كانت النتيجة بعدها؟

قالوا: مكث دهراً وهو يبكي على نفسه حتى وصل به الحد إلى أن يئس من رحمة الله، متعجباً كيف به وهو صاحب رسول الله لا يفهم هذا الفهم، كيف يقع في مثل هذه الكبيرة العظيمة؟

أين أثر الإيمان وغيره، فجاء به عمر رضي الله عنه مرة أخرى، ثم قال له: لا أدري أي ذنبيك أعظم.. استحلالك الخمر؟ أم يأسك من رحمة الله؟ وتلا عليه أول سورة غافر: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ [غافر:3] وبعدها سار على ما كان عليه سلف الأمة ، وهو ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وبناءً عليه .. لا يمكن أن نجعل لطائفة بدعية منحرفة أن تقول: هذا هو قول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أن الصحابة هم الذين أسسوا هذه الطائفة الضالة، أبداً وكلا، بل لهم المنازل العليا رضي الله عنهم وأرضاهم.

يجب أن نعلم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وقع بينهم خلاف في مسائل كثيرة، في مسائل التشريع والفروع، أما مسائل العقائد ومسائل الأسماء والصفات فلم يقع بينهم شيء من الاختلاف رضي الله عنهم وأرضاهم، وقد أسسنا هذه القاعدة لكي ننطلق إلى مفهومٍ نعلم أن كل قول في مسائل العقيدة لم يكن عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نعلم بأنه مبتدع ومنحرف عن منهج الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن هذا ليس منهج سلف الأمة رحمهم الله تعالى.

كم حدث بين الصحابة من خلافٍ في مسائل الطهارة، وفي مسائل الصلاة والصيام والزكاة .. وفي غيرها، لكن أين الاختلاف في أصول الدين، وفي مسائل الاعتقاد وباب الأسماء والصفات؟

لم يكن ذلك موجوداً، ليعطينا أنهم كانوا على ما كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يتجاوزوا ذلك أبداً.

ويرسيها الصحابة فيما بينهم بوصايا: [من كان مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تُؤمَنُ عليه الفتنة] ثم يذكر لنا ابن مسعود وغيره رضي الله عنه وأرضاه ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم معطياً منازلهم: [أولئك أصحاب محمد، -ويصفهم بالصفات العلى- أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً وفهماً وتصوراً، ثم يقول: اعرفوا لهم قدراً].

وهذا هو الواجب علينا أن نسير على ضوء ما سار عليه هؤلاء الصحابة، وأن نعلم يقيناً أنه ما حدث بينهم شيء من الاختلاف في مسائل الاعتقاد رحمهم الله تعالى ورضي عنهم.

أمر آخر وأسميه نوع تقعيد، وهو حول مفهوم نحن بحاجة إلى فهمه وتصوره، وهو قضية سلف الأمة ومن يكون سلف الأمة هؤلاء؟!

إن كثيراً من الناس يدعي أنه من سلف الأمة وعلى منهج السلف، ولكن انطلق لمعرفة هؤلاء من هم، وعند ذلك نفتخر ونتشرف بأن كنا على منهاج سلف الأمة رحمهم الله تعالى ورضي عنهم.

وأصح ما ورد أننا كثير ما نسمع أن سلف الأمة هم الصحابة والتابعون وتابعوهم بإحسان، ومنهم من يقول: القرون المفضلة، ونجد أن من في التابعين من عليه ملحوظات في المعتقد، وفي القرون المفضلة وجدت بعض طوائف الانحراف، ولكن التعريف الصحيح لذلك: أن سلف الأمة أولهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الصحابة من بعده، ثم نقول: ومن سار على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه أصحابه رضي الله عنهم، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

ولما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم افتراق الأمم، وذكر أن أمته ستفترق إلى ثلاثة وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، أرسى النبي صلى الله عليه وسلم القاعدة إذ قال: (من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي) ربطنا بنفسه صلى الله عليه وسلم وبصحابته رضي الله عنهم وأرضاهم، وبناءً عليه: كل من كان على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وما عليه الصحابة فهو يعتبر على منهج سلف الأمة، وسار على الصراط المستقيم، ويسمى الإنسان (هذا سلفي) ويقصد به: من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم، وأثر الصحابة الأخيار رضي الله عنهم وأرضاهم.

الأمر الأول: الوسطية والاعتدال

مما يتميز به منهج أهل السنة: أنه مذهب وسط بين الإفراط والتفريط، وانطلق إليه في كل جزئية من جزئياته، سواء في الفروع، أو الأصول، أو في مسائل الاعتقاد، أو كذلك في مسائل التأصيل تجد أنهم وسط، فهم وسط في صفات الله .. وسط في أصحاب رسول الله .. وسط كذلك في باب الإيمان .. وسط في باب القضاء والقدر .. وسط فيما هم فيه من التحسين والتقبيح .. إلى غيرها من مسائله الكثيرة في مسائل التأصيل وما كان عليه أولئك السلف.

الأمر الثاني: توحيد مصدر التلقي والاستدلال

مما يتميز به منهج أهل السنة: أنه منهج مستمد من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا يتميز به ما كان عليه سلف الأمة، وتجدهم يقتفون الآثار..

العلم قال الله قال رسوله     قال الصحابة ليس خلفٌ فيه

دل على أنهم يتأسون ويقتدون في كل صغير وكبير، وسبحان الله! نجد ذلك متميزاً في منهج الأئمة الأربعة يحرصون ما استطاعوا على ذلك بأن يأخذوا بكتابٍ وسنة، وبسير على ما قاله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتمد على الكتاب والسنة؛ لأن منهجهم جله متلقى من الله ورسوله، ولا يمكن للعقل أن يأتي بشيء جديد لم يكن دل عليه الكتاب والسنة.

الأمر الثالث: موافقة النقل الصحيح للعقل الصريح

مما يتميز به منهج أهل السنة: أنه موافق للعقل الصريح، فإن العقل متى خلا من الشبهات والشكوك سبحان الله! يقبل هذا الدين قبولاً كاملاً.

ولذلك سيأتينا أن مما تتميز به عقيدة الإسلام أنها عقيدة فطرية، ولعلي ألطف بمثال بسيط في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وقصة واقعية: قدم غماد إلى مكة ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُتهم بأنه مجنون قريش، ويوصم بالنقص وبالسحر وبالكهانة.. وبغيرها، ولما قدم من نجد إلى مكة وقد كان سيداً مطاعاً فخشيت قريش أن يسلم هذا الرجل، فقالوا: الحقوا به، وقولوا له: إن لدينا مجنوناً، فرق بين النساء والأزواج، وكذلك بين الابن وأبيه.. وغيرهم، ولا حاجة للجلوس معه، فقد مس في عقله، يقول غماد : وكنت أعالج من الريح أي: من الجنون في الجاهلية.

ولما دخلت إلى مكة أديت العمرة، ثم مكثت بها أياماً ما كان في ذهني أبداً أن أذهب إلى هذا الرجل، ولو قيل لنا: هناك ثمة مجنون لم يكن لأحد منا أن يذهب ليسلم عليه، وليسأل عن أحواله وأخباره، فما تفيدنا شيئاً فعقله لا يستفاد منه، يقول: ولكني بعد مدة قلت في نفسي: إني أعالج المجانين، فما يضرني أن أذهب إلى مجنون قريش ثم أعالجه إن شُفي على يدي كانت لي منقبة عند قريش، وإن لم يشف فليس بأول مجنون يمر علي أصلاً.

ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم جلس إليه، قال: اسمعني من كلامك، ونحن نعلم أن من كان مجنوناً يعرف بحركته أو بكلامه، فذكرت كتب السير أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: بل أنت أسمعني من كلامك، وتنزلاً مع محمد صلى الله عليه وسلم أخذ يسمع النبي قصائد وأشعاراً للعرب، ولما انتهى قال: أسمعني أنت، فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بخطبة الحاجة، ثم بعد ذلك أخذ يتلو عليه القرآن، ويتلو عليه آيات نزلت على قلبه كالصواعق، ويريد الله أن يحيي قلبه بها، وينتهي النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن وما كان منه إلا أن قال: أمدد يدك أبايعك، لم يحتاج إلى معجزات، ولا إلى خوارق للعادات، ونطق: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.

سمعت قريش بالخبر وقالت له: صبأت، انحرفت، قال: أنتم الصابئون، بين أظهركم رسول الله ولا تقبلون منه، بل أنتم الذين على الانحراف، دلنا على أن هذا المنهج يوافق العقل ويوافق الفطرة، وهو منهج سلف الأمة لم يخرج عن الكتاب والسنة، ولم يخرج عن الفطر السليمة، والعقول الصريحة.

ولذلك يعتبر العقل الصريح شاهد لمنهج سلف الأمة ولا يعارضه أبداً.

الأمر الرابع: البراءة من وجوه الانحراف والبدع

مما يتميز به منهج أهل السنة: أنه برئ من وجوه الانحراف التي وقعت فيها سائر الطوائف، فطوائف ضلت في تشبيه أو تعطيل، وطوائف ضلت في سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في تأليههم له، وطوائف ضلت فذهبت إلى مذهب الإرجاء، وأخرى إلى مذهب الجبرية .. وهكذا.

أما منهج سلف الأمة فهو خالٍ من هذه الانحرافات كلها ولله الحمد؛ لأن عمدتهم: كتاب وسنة، ومن عمدته الكتاب والسنة فلن يضل ولا يشقى أبداً؛ لأن الله قد بين أن من أعرض عن كتاب الله وسنة رسوله بأن له معيشة ضنكا، ويحشره الله يوم القيامة أعمى.

مما يتميز به أنه خالٍ من أنواع الابتداع، أياً كانت في فروعه أو أصوله، وكم نجد للبدع من الأثر العظيم في انحراف كثير من الطوائف.

سبحان الله! يقلب الإنسان طرفه في واقع أمته وفي مجتمعه الإسلامي يجد العجب من قضية الانحراف: طواف بالقبور، ودعا غير الله، وتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، وحلف بغير الله، وتعليق للتمائم.. وغيرها، كم هي أنواع البدع والانحرافات التي عشعشت على عقول الناس، وسلف الأمة -ولله الحمد- لا يوجد عندهم شيء من ذلك.

ومن هنا نصل إلى نتيجة فنقول: يجب أن نؤسس في نفوسنا دائماً أننا نسير على منهج سلف الأمة، ومن لا يقبل ذلك المنهج فإنه منحرف عن صراط الله، ومنحرف عما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الأمر الخامس: التوقيف في الأمور الغيبية

من ميزات منهج أهل السنة: أن الأصل عندهم في الأمور الغيبية التوقيف، أي أمرٍ غيبي الواجب عليك أن تتوقف فيه، بمعنى: أنه ليس للعقل مجال أبداً في الأمور الغيبية.

الأمر الثاني: أنها ليست محلاً لاجتهادات العلماء، ولا يمكن أن يجتمع جمع من العلماء فيجتهدون لنا في الأمور الغيبية أبداً.

والسبب: لأن الأمر الغائب عن العقول لا يمكن أن نتوصل إليه بمعنى أي أمر غائب عن العقل أو غيبي لا يمكن أن نتعرف عليه إلا بطرق ثلاث:

الطريق الأول: المشاهدة، فأنت إذا شاهدت الأمر الغائب عنك لم يكن غيبياً بعد، نحن هنا جلوس، ولو سئلنا: ماذا وراء الجدار؟ لا نستطيع أن نعرف، لكن لو خرج إنسان ثم جاء وأخبرنا أن وراءه عدد من السيارات، هل يصبح غيبياً؟

لا يصبح غيبياً؛ لأننا توصلنا إلى العلم بهذا الغائب، وهو من الطرق العظيمة، بل هو أعظم الطرق للوصول إلى الأمر الغائب، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً، ولذهبتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش) ونتساءل: لِمَ؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد الجنة، وشاهد النار، وشاهد ما أعد الله لأوليائه، وما أعد الله لأعدائه كما ثبت في الصحيح فإنه في صلاة الكسوف كان يصلي بالناس، وفي أثناء الصلاة تقدم النبي صلى الله عليه وسلم وهو يمد يده الشريفة يريد أن يأخذ شيئاً، وتقدم الصحابة معه، ثم إذا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعدها يرجع ويرجع القهقرى صلوات الله وسلامه عليه، ورجع الصحابة بعده من مكانهم، فقال الصحابة: يا رسول الله! عملت شيئاً لم تكن تعمله من قبل؟ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (فتحت لي الجنة ورأيتها رأي العين، وأردت أن آخذ عنقوداً من عناقيدها، ولو أخذته لأكلتم منه إلى قيام الساعة) أمر عجيب! والسبب المشاهدة.

ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الخبر كالمعاينة) في حديث: (إن لله ملائكة سيرة... يستعيذون من النار، ويسألونك الجنة، يقول الرب: كيف لو رأوها؟ قالوا: لكانوا أشد لها طلباً) وهي الجنة، والنار لو رأوها لكانوا أشد هرباً منها، مما يدلنا على أن الأمر المشاهد له أثر عظيم على النفس.

الطريق الثاني: ونسميه الطريق الذي يوصلنا إلى العلم الغائب الشبيه والمثيل، فإذا وجد شبيه ومثيل لهذا الأمر الغائب وصلنا إلى العلم، وتعرفنا على هذا الأمر الغائب، فلو أخبرتكم مثالاً بسيطاً في شيء، مثلاً: أكلت اليوم تمراً لا يوجد مثله في الدنيا، فتجد أصحاب بلدي يذكرونه، فأهل القصيم يقولون: مثل السكري مثلاً، أو نبت سيف أو غيره؛ لأنه يقربه، فإذا قلت: مثله، قرب إلى الذهن أم لا؟ أو شبيهاً له؟ أوصل لي تصوراً معيناً لهذا الأمر الغائب الذي لم يعرفه الناس، وهذا يعتبر طريقاً صحيحاً، ولكنه ليس كالطريق الأول.

الطريق الثالث: الخبر الصادق: والخبر الصادق لا شك أنه يوصل العلم للإنسان بالأمور الغائبة عن العقول البشرية التي لا تستطيع إدراكها أبداً.

ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية أو تلميذه ابن القيم رحمه الله تعالى تقعيداً لطيفاً هنا في هذا الموضع: إن الشريعة تأتي بما تحار به العقول، ولا تأتي بما تستحيله العقول، ولعل مثالاً بسيطاً للأمور التي هي غيبية عنا لا يمكن للعقل إدراكها أبداً، من الأمثلة: قضية الجنة والنار، وقضية الملائكة وصفاتهم عليهم الصلاة والسلام ورؤيتها رأي العين، مثلما يتعلق كذلك بذات الله سبحانه وتعالى، وكيفية صفاته، لا يمكن للعقل أن يدركه، هل يمكن لنا عن طريق المشاهدة؟

لا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لنا كما في صحيح مسلم : (واعلموا أن أحدكم لن يرى ربه حتى يموت) لا يمكن أبداً.

هل لله شبيه ومثيل؟ الله يقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11].. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:4] فأصبح الطريق الأول والطريق الثاني لا يمكن الوصول إليه.

بقي عندنا الطريق الثالث وهو الخبر الصادق: ونقول الخبر الصادق عندنا هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا فيما يتعلق بمسائل الاعتقاد، وبالنسبة عندما قلنا للكتاب: إنه خبر صادق؛ لأن الله يقول: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً [النساء:122].. وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً [النساء:87].

ولا يوجد إطلاقاً من يخبر عن الله مثل نفسه سبحانه وتعالى، والله أخبرنا عن أسمائه وصفاته، وعن جنته وناره، وعن ملائكته أخباراً يجب علينا أن نؤمن بها، ولا نجد في أنفسنا شيئاً من التردد في إثباتها؛ لأن الله هو الصادق سبحانه وتعالى، وقد وصف نفسه وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً [النساء:122].. وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً [النساء:87].

وبالنسبة لمحمد صلى الله عليه وسلم فلا شك بأنه صادق؛ لأن الله قد قال عنه: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].

ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لـعبد الله بن عمرو بن العاص : (والذي نفسي بيده اكتب فإن كل ما أقوله حق) دل على أنه لا يقول صلوات الله وسلامه عليه إلا كان الصدق والحق الذي يجب أن تطمئن نفوسنا إليه، ولا نجد في أنفسنا شيئاً من التردد تجاه ذلك.

سبحان الله! كنت أقرأ في أحد كتب العقلانين، وإذا به ينكر أحاديث ثابتة كالشمس؛ لأنه أمرَّ العقل عليها وما علم هذا الجاهل المسكين أنه ما عرف قيمة الكتاب والسنة، ولا قدرهما قدرهما، وإلا كيف يكون للعقل مجال لأجل أن نرد كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟

ولعلي أقول للأحبة: لو كان للعقل مجال في أمور الغيبيات فلا ندري نأخذ بعقول من؟ أنأخذ بعقول الأشاعرة ؟! أم بعقول المعتزلة ؟! أم بعقول الفلاسفة ؟! أم بعقول الجبرية ؟! أم بعقول الخوارج ؟! أم بعقول الفساق؟! أم بعقول أهل الصلاح؟! كل الناس لهم عقول ومشارب شتى، ولكن من رحمة الله تعالى أن جعل لنا تقعيداً عاماً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم شيئين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي) وسنته صلى الله عليه وسلم باقية خالدة.

ولعل من المثال على ما تحار به العقول تجاه ذلك من الأمور الغيبية، لما حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن سدرة المنتهى لما رآها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يسير الراكب في ظلها سبعين عاماً لا يقطع ظلها) رسول الله صادق ولا يكذب أبداً، ويبقى العقل حائراً تجاه هذا الخبر، لكنه هل يكون مستحيلاً؟!

لا وربي لن يكون مستحيلاً؛ لأن الله قادر على كل شيء.

ولما حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ملكٍ من الملائكة، كما في سنن أبي داود بسند صحيح إذ قال: (ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام) كيف يكون هذا المخلوق العجيب؟! ولكن نقول: آمنا بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم.

قاعدتنا تجاه الغيبيات هو التسليم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وتصديقاً بذلك، وهذه قاعدة عظيمة جداً.

ولذلك ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، وأرويه لكم بمعناه: لما عدا ذئب على غنم، ثم أخذها الراعي من الذئب -أخذ الذئب شاة فجاء الراعي وأخذها- فتكلم الذئب قال: من لها يوم لا راعي لها إلا أنا!! فقال الصحابة رضي الله عنهم: عجباً ذئب يتكلم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ولكني اؤمن به أنا وأبو بكر وعمر ) تسليم.. قال: وما كان أبو بكر وعمر في المجلس؛ لأن قاعدتهم: هو التسليم للأمر الذي تحار العقول تجاهه، وكم هي الأمور التي جاءتنا في شرعنا يبين لنا أنها غيبية وبعضها خوارق للعادات، والواجب علينا التسليم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.

سار الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بدأ الانحراف بما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بأسبابٍ متعددة، وقد ذكر العلماء رحمهم الله تعالى أسباب هذا الانحراف وبينوه تحذيراً أن يقع الإنسان في مثل هذه الانحرافات التي وجدت فيمن سبق، وأول من حذر عنها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عمر سعود العيد - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الأول) 2468 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الثامن) 2414 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الخامس) 2367 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الخامس عشر) 2224 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس السادس عشر) 2210 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الثاني عشر) 2103 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس التاسع) 2088 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الرابع) 2071 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الثامن عشر) 2004 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الحادي عشر) 1944 استماع