شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الأول)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

في مقدمة شرحنا لـلامية شيخ الإسلام وتسمى (عقيدة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى) أود أن أنبه على أهمية العلم وفضله.

فقد ورد في فضل العلم آيات وأحاديث، وليس درسي هو بيان فضل العلم، ولكني أحث الأحبة جميعاً أن يبدءوا قبل بدايتهم في هذه الدورة، حبذا لو أنهم قرءوا خمسة كتب في آداب طالب العلم؛ وذلك لأهميتها؛ نظراً لأننا نرى كثيراً من الشباب ينطلقون إلى حلق العلم انطلاقاً عاطفياً، فسرعان ما يسمع فضل العلم وأهميته، ثم تراهم جثوا بالركب في المساجد أسبوعاً أو أسبوعين، وربما بلغوا شهراً أو شهرين، ثم انعطفوا عن الطريق وعن المواصلة، ولعل السبب في ذلك أعزوه إلى أمرين:

الأمر الأول: أن الواجب عليهم أن يدرسوا كتباً في آداب الطلب، خاصة الكتب المتقدمة، وكم هي -ولله الحمد- متوفرة في الأسواق، يمكن للإنسان أن يطلع عليها ويقرأها، وتكون تلك القراءة ليست قراءة عاطفية، وإنما قراءة المتمعن المستفيد، ليعلم خبر العلم الذي يطلبه، وفائدته وثمرته.

الأمر الثاني: أن كثيراً من الأحبة لعلهم لا يقرءون سير العلماء وطلاب العلم الذين مضوا، وسير بعض العلماء وطلاب العلم في عصرنا وفي حاضرنا، وكم الشباب في حاجة إليها حاجة صادقة، وكم هي كتب التراجم والسير التي كتبت عن العلماء، وعن حياتهم، وأوقاتهم، وعلمهم، ومشايخهم، وطريقتهم، وظروفهم.. إلى غير ذلك، فقراءة تلك تغرس في النفس همماً عالية في مواصلة الطلب والاستمرار عليه.

وأقول للأحبة: إننا ربما نحضر حلقات للعلم، ولكننا نحضر لها مدة معينة، ثم نجد من أمثلة ذلك: تلك الدورات التي أعتبرها أو أراها في نفسي أنها من الترقيع وليست من التأصيل، وأرى أن طالب العلم ينبغي له أن يجثو بركبتيه عند العلماء وطلاب العلم سنين عديدة، فلا يكفي مجرد دورة يحضرها لمدة أسبوعين أو ثلاثة أو شهر أو شهرين، فتلك أسميها مفاتيح فقط، وهي جرعات تُعطى لطالب العلم لينطلق بعدها للمواصلة، ليس ليعتمد عليها على أنه حصل العلم كله، وعلى أنه استفاد من العلوم كلها بمجرد حضور وقت، ولكنها شحذ للهمم، وفتح للمدارك، وبيان لفضل العلم وأهميته، والمواصلة في الطريق، ولنعتبرها زاداً، لكنه ليس زاداً يستمر إلا في الاستمرار في المواصلة في حضور حلقات العلم.

واقرءوا في تراجم السلف رحمهم الله تعالى ورضي الله عنهم، تجد فيها أنه يقال: إنه لازم شخص شيخه عشرين سنة! جاثياً بركبتيه عند شيخه لا يفلت عنه، ولازم العلماء دهراً طويلاً.. إلى غير ذلك، وقلت: نحن بحاجة إلى دراسة حياة سلفنا رحمهم الله ورضي عنهم.

قضية فضل العلم: في الذهن أنني أتحدث في مقدمة كل درس شحذاً للهمم للمواصلة، وعلها أن تكون مفاتيح خير، وتكون نواة للاستمرار في الطلب، ومعرفة قيمة العلم وثمرته وأهميته في واقع الناس.

قضية فضل العلم.. قد ذكر الله في غير ما آية.. شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ [آل عمران:18] وكما في قوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طـه:114] يقول الإمام القرطبي: لو كان شيء أشرف من العلم لأمر الله به نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأل ربه المزيد منه، فلم يوجد شيء أفضل من العلم.

ولذا قال العلماء رحمهم الله تعالى: "إن طلب العلم أفضل من جميع نوافل العبادات" فجلوسك للعلماء ولطلب العلم والقراءة والتحصيل أفضل من صيام الإثنين والخميس، وأفضل من قيام الليل، وأفضل من كثير من العبادات، بل ربما يكون طلب العلم الذي يحصله الإنسان ويجثو على ركبتيه أفضل من الذهاب إلى العمرة والحج نافلةً وغيرها؛ لأن العلم لا يعدله شيء أبداً.

وسبحان الله! موسى كليم الرحمن يطلب أن يزداد علماً حين سأل الخضر: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً [الكهف:66] وأيهما أفضل: موسى أم الخضر؟

نحن نعلم بأن موسى لا يفضله الخضر أبداً ولن يفضله، ومع ذلك لما آتاه الله شيئاً من العلم سأله سؤال المتأدب المتلطف معه: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً [الكهف:66] وبعد ذلك واصل موسى، ولكن كما قال محمد صلى الله عليه وسلم: (رحم الله موسى ليته صبر، لنعلم من أخبار الخضر وأعاجيبه).

ولعل من اللطائف في قصة موسى مع الخضر، وفيها دروس وآداب لطالب العلم عجيبة جداً، وكم يستنبط العلماء منها من الآداب، ذكر ابن كثير وذُكر في الصحيح وغيره في أصل هذه القصة: أن موسى عليه الصلاة والسلام خطب في بني إسرائيل بعد أن ذكرهم: إني لأعلم أهل الأرض، فعتب الله عليه، ثم بين له أنه يوجد في الأرض من هو أعلم منه، وسأل ربه أن يستفيد منه، وإذا هو الخضر، مشى موسى مع الخضر وفي آخرها بعد أن علَّمه الخضر الأحداث الثلاثة وأسبابها، كان معه على السفينة فوجد طيراً ينقر في البحر، فقال الخضر لموسى عليه الصلاة والسلام: يا موسى! إنما علمي وعلمك في علم الله تعالى كمثل ما نقر هذا الطير من هذا البحر.

فمهما حصلت من العلم ستجد أنه ليس عندك شيء، وسبحان الله! كلما ازداد الإنسان علماً ازداد معرفة بجهله إذا كان صادقاً في الطلب والعلم، ولكن مشكلتنا أن الإنسان يقرأ كتاباً أو كتابين ويحفظ متناً أو متنين، ثم يتصدر للناس بمسائل تبصير وتوجيه وإفتاء وشرح للمتون وقراءة للمطولات، وهو لم يؤسس القواعد التي نعتبرها كما قال سلفنا من قبل: (من حفظ المتون حاز الفنون).

ولعل الأحبة يرون أننا أخذنا متناً صغيراً وهو لا يجاوز (15) بيتاً، وفي بعض النسخ (16) بيتاً، ولكني أعتبر أنه يجب علينا أن نعلم أنه لا بد أن نبدأ بالمتون لنؤسس بها، ثم ننطلق على ضوء تلك في الاستفادة والتحصيل.

ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في البخاري ومسلم من حديث معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) وتكلم العلماء على هذا الحديث كلاماً عظيماً عجيباً، وأخذوا بمفهومه المعاكس أن من لم يطلب العلم فإنه لم يرد الله به الخير حتى ولو كان هذا الإنسان على توجيه وعلى حرص على الخير والاستقامة، لكن هذا الخير الذي ميز الله به العلماء وطلاب العلم نعتبره اصطفاءً ربانياً يؤتيه الله من يشاء ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ [الجمعة:4].

وأقول للأحبة: إن هذا الحديث الذي سأذكره يجب أن نستشعره دائماً في حضورنا لحلقات العلم، وجثونا بالركب للاستفادة والتحصيل، فقد ثبت من حديث أبي الدرداء الذي رواه أبو داود والترمذي وحسنه الشيخ ناصر الدين الألباني وهو حديث: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة).

أخي المسلم: إنك إذا انطلقت لدرسٍ أو لعلم -وأخاطب أحبتي الذين يدرسون في الكليات الشرعية- هل إذا انطلقت تشعر بأنك تمشي في طريق الجنة، وتبحث عن رضا ربك، وأنك تريد من هذا العلم فائدةً وتحصيلاً ترفع الجهل عن نفسك، ثم تعمل بسنة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم تبلغ ما علمت إلى الناس وتوصله إليهم، أم أنك تذهب وترجع بمجرد الحضور والبركة؟

لا شك أن حضور حلقات العلم ولو لم يستفد الإنسان شيئاً كما ثبت في الصحيح : (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) وهنيئاً لأولئك الذين يحضرون حلقات العلم، ولو لم يكن لهم تخصصاً شرعياً، فالعلم الشرعي ليس خاصاً بطائفة معينة، وليس لصنفٍ معين، لا للصغير ولا للكبير، وليس لطلاب الكليات الشرعية فقط، بل كل من جثا بركبتيه في المساجد لطلب العلم فإنه يحظى بما ورد من الفضائل في القرآن والأحاديث، وفي غيرها من كلام السلف في فضل العلم وأهميته، ولذلك فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم) ومن يوازي محمد صلى الله عليه وسلم؟! وإنما هذا من باب التشبيه؛ شحذاً للهمم من حضور حلقات العلم والاستفادة منها؟

وهذا الحديث قد رواه الإمام الترمذي وقال: حسن صحيح، وصححه الشيخ ناصر الدين الألباني .

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سلوا الله علماً نافعاً، وتعوذوا بالله من علم لا ينفع) في سجودك وفي آخر تشهدك سل ربك دائماً أن يرزقك علماً نافعاً، وكم من الناس قد يؤتون علماً ولكنهم لا يستفيدون منه شيئاً، ولا يفيدونه لغيرهم، ولذلك لما وصف الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى علماء أهل الكلام، قال: أوتوا ذكاء ولم يؤتوا زكاءً، ولما ترجم الإمام الذهبي رحمه الله تعالى لأحد علماء أهل الكلام قال: إنه من بحور العلم، لكنه قال بعدها: من بحور العلم الذي لا ينفع؛ لأنه بعيد عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .. بعيد عما كان عليه سلف الأمة، فلا يستفد من ذلك العلم شيئاً.

أتكلم حول أدب واحد وأسكت بعدها؛ لأنطلق لشيخ المسلمين وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

أقول للأحبة: أول أدب: إخلاص النية لله تعالى في الطلب، كيف لا وطلب العلم يعتبر عبادة! وعندنا قاعدة: أن العبادة لا تصح إلا بنية خالصة، وأي إنسان يطلب ثواباً للعبادة بدون نية وبدون إخلاص فإنه لا يستفيد من ذلك أبداً، والله تعالى قال: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5].

ويقول الإمام ابن جماعة رحمه الله تعالى في مسألة حسن النية في طلب العلم: إن حسن النية لا يكون إلا بأمور:

1- أن يقصد الإنسان بطلب العلم وجه الله تعالى.

2- أن يقصد به أن يعمل بهذا العلم، وإن العلم الذي يحمله ربما يكون حجة عليه لا حجة له بين يدي الله تعالى.

3- أن يقصد به إحياء الشريعة ونشرها في الناس، وتبصير الناس فيما علم.

4- تنوير قلبه وتحلية باطنه.

5- القرب من الله تعالى يوم القيامة والتعرض لما أعده الله لأهل العلم من رضوانه وعظيم فضله.

يقول سفيان الثوري رحمه الله تعالى: "ما عالجت شيئاً أشد علي من نيتي".

وسبحان الله! فقد نقل عن كثير من السلف أن بعضهم ربما تصدر يوماً لإلقاء كلمة أو بيان شيء للناس ثم يسكت، قيل: لِمَ لم تتكلم؟

قال: "أعجبتني نفسي فأردت أن أهينها" كأنها استشرفت فأراد أن يؤدبها تأديباً عملياً، فأعظم ما يؤدب الإنسان أن يؤدب نفسه، وغيره ربما لا يطلعون عليه، وما في القلب والنفس لا يعلم به إلا الله سبحانه وتعالى تحتاج تصفية.

ولهذا وجب على المسلم أن يقصد بطلبه للعلم وجه الله، لا يريد منه أغراضاً دنيوية، ولا تحصيل رياسة، ولا جاه، ولا مال، ولا مباهاة الأقران، فربما بعض الأحبة يحضر حلقات العلم، قال: لأكون أفضل من فلان وفلان، أو من أجل أنك إذا بحثت مسألة ناقشته وأفحمته في هذه المسائل.

نقول: أبعد هذا المرض من قلبك فإنه يفسد عليك العلم، ويسحب منك بركته، وبعضهم قد يطلبه لتعظيم الناس له، وللتصدر في المجالس.

لقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (من طلب العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو ليصرف وجوه الناس إليه فهو في النار) والحديث رواه ابن ماجة ، وصححه الشيخ ناصر الدين الألباني حفظه الله.

فنعوذ بالله أن نسير على طريق آخره إلى النار، بل نسأل الله أن يكون طريقنا إلى جنات عدن.

أختم بحديث عظيم جداً ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة ، وقد بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم أوائل من تسعر بهم النار، وأول من يقضى عليه يوم القيامة، ذكر منهم النبي صلى الله عليه وسلم والحديث طويل: (رجل تعلم العلم وقرأ القرآن، ولكنه أوتي به، فعرفه الله نعمه، ثم قيل له: تعلمت ليقال: عالم، وقرأت ليقال: قارئ ثم يؤمر به فيلقى في النار) نعوذ بالله أن نكون من هؤلاء القوم.

وبناءً عليه: وجب علينا أن نحرص على طلب العلم، وأن نستفيد منه.

أذكر قصة واقعية: كنا في حلقة شيخنا قريباً من عشر سنوات أو أكثر من ذلك، وهو شيخنا العلامة مفتي هذه الديار، وكان أحد طلابه يقرأ عليه من فتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية ، وكان فيه بيان فضل العلم وطلبه وأهميته، وقد ذكر شيخ الإسلام حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي في الصحيح، والحديث طويل: (إن لله ملائكة سيارة يبحثون عن حلق العلم، حتى إذا وجدوها نادى بعضهم بعضاً: هلموا إلى بغيتكم، فتجتمع الملائكة، وتحضر إلى حلقة العلم، فإذا انقضى الدرس ذهبوا إلى ربهم وسألهم وهو أعلم بهم) -الحديث بطوله: يسألونك الجنة، كيف لو رأوها؟ قالوا: لكانوا أشد لها طلباً... يستعيذون بالله من النار، كيف لو رأوها؟ قالوا: لكانوا أشد هرباً منها وفزعاً منها...

ثم يقول الله: ماذا يسألون؟ قالوا: يسألونك يا رب مغفرة الذنوب، فيقول الله: أشهدكم أني قد غفرت لهم، فتقول الملائكة: إن فيهم فلاناً ليس منهم -كمن مر حول المسجد فسمع هاتفاً فدخل ولم يكن في نيته طلب العلم- فيقول الله: (أشهدكم أني قد غفرت لهم جميعاً، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) وقال الشيخ هنا وقفة عجيبة: وبكى الشيخ في هذا الموطن وهو في حلقة علم، وأعظم حلقة أشعر بها في نفسي في وجه الدنيا حلقة شيخنا، ومع ذلك قال: "وإنا لنرجو الله أن نكون منهم".

إذا كان هذا الشيخ يقول هذه الكلمة، نقول نحن: وإنا لنسأل الله أن نكون منهم، وهذا يدلنا على فضل حلقات العلم وحضورها، وأنها ليست هينة، ولئن زهد الناس فيها فهي عند الله عظيمة، ولها منازل عالية.

وسبحان الله! إني أرى عجباً، أخيار السماء -ملائكة الله- ينزلون على أخيار الأرض، جمع الله الطيبين مع الطيبين، ولذلك سل ربك دائماً أن تكون من القوم الذين لا يشقى بهم جليسهم، فإن في ذلك الخير والبركة والنفع.

هو شيخ الإسلام ابن تيمية ، فلا أدري ما أحدثكم عن أخباره وعن واقعه، ولكني أذكر لكم وقفات، وللعلم بأن هذه الدورة أعتبرها دورة مختصرة، ولعل الله أن ييسر أن نكمل هذه الأبيات، وإن في نفسي أن هذا الوقت ربما لا يكفي، ولكن سوف نجاهد النفس ما استطعنا ألا نتوسع توسعاً كثيراً في بعض الأمور، لكن ما سنحتاجه سنقف معه.

وسوف يكون منهجنا -إن شاء الله- حل العبارات التي ذكرها المؤلف شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، ثم التعرض للمسائل العلمية التي تطرق لها، ثم ذكر ما نحتاج إليه مما نراه مكملاً لهذه المسائل، ولعلنا -إن شاء الله- في كل جزئية من الجزئيات نذكر المصادر والمراجع العلمية التي يمكن أن يستفيد منها طالب العلم حول هذه القضايا التي ذكرها الشيخ رحمه الله تعالى، وربما نذكر في أثناء عرضنا مقدمات نحتاج لها دائماً، ويحتاج لها كل دارس لكتب العقيدة، خاصة أن الناس في حاجة إلى ذكر شيء من القواعد والتأصيل في المنهج، وخاصة في مسائل الاعتقاد.

وإذا عرف الناس قواعد في الصفات، وقواعد في الربوبية، وقواعد في الألوهية، وقواعد في الغيبيات، وكيف كان السلف رحمهم الله تعالى يتعاملون مع النصوص، أصبح يقرأ في أي كتابٍ على ضوء بصيرة ونور، فتلك القواعد كان قصب السبق في تأصيلها أو جمعها وتبينها هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

نسب شيخ الإسلام ابن تيمية

شيخ الإسلام : هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني الدمشقي، ويقال: الحنبلي ، وإن كان في النفس منها هنيهة، ولكنا نقول: إنه درس على مذهب الحنابلة، ونعتبره إماماً مجتهداً رحمه الله تعالى، ويفتخر الحنابلة وإن كان السلفيون منهم أن شيخ الإسلام منهم، ويوجد من لا يكون من الحنابلة على منهج سلف الأمة، وهذا أمر سيأتي الكلام عليه، ولكنا سنذكر تقعيداً -إن شاء الله- حول هذا الأمر، وهو أن الأئمة الأربعة كلهم على منهج سلف الأمة.

وما نقل عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى: أنه مر في مراحل حياته، واستتيب عدة مرات كما نقله الإمام عبد الله بن الإمام أحمد في كتابه: السنة، نقول: هذه مرت في أول حياته، وأما آخرها فإنه كان على ما كان عليه سلف الأمة رحمهم الله تعالى.

والحنابلة كغيرهم من الأئمة من الطوائف أو المذاهب الأخرى، فيوجد من أتباع أبي حنيفة والشافعي ومالك من ليس على منهج سلف الأمة في باب الصفات أو في باب القضاء والقدر، ولكن التقعيد عندنا: من وافق الكتاب والسنة سرنا على ضوئه، ومن خالف ذلك لم نلتفت إليه، والعبرة بالمنهج لا بالأشخاص، نحن لا نعبد أناساً أو أشخاصاً معينين، وقد يرد في الذهن ما قاله الشاعر:

أنا حنبلي ما حييت وإن أمت     فوصيتي للناس أن يتحنبلوا

نقول: المقصود من هذا البيت أنه على مذهب الإمام أحمد في مسائل الاعتقاد، وهذا أمر سيأتي -إن شاء الله- بيانه: أن كل من انحرف ثم رجع إلى منهج أهل السنة أعلن أنه على مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى، ونقول: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِى [الجمعة:4] شرَّف الله هذا الإمام بأن أصبح منافحاً عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عقيدة الإسلام، ومبيناً للمنهج الحق.

ذكر العلماء من صفات شيخ الإسلام بأنه الإمام الفقيه، المجتهد الناقد، المفسر البارع، الأصولي، علم الزهاد، نابغة دهره، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن الإمام المجتهد شيخ الإسلام مجد الدين ، صاحب المنتقى رحمه الله، قال كثير من أهل العلم: إنه كالعلم فلا يحتاج أن يطلب فيه.

مولد شيخ الإسلام ابن تيمية وبداية طلبه العلم

ولد رحمه الله تعالى يوم الإثنين العاشر من ربيع الأول سنة (661هـ) بـحران ، وقدم به والده مع إخوانه إلى دمشق عند استيلاء التتر على كثيرٍ من بلاد الإسلام سنة (667هـ)، فسمع في أثناء قدومه من علماء دمشق عدداً كبيراً رحمه الله تعالى، عُني رحمه الله بعلم الحديث، وسمع المسندات وحفظ كثيراً منها، وسمع كتب السنة الستة، ومعجم الطبراني، وكتباً حديثية كثيرة، حتى قال بعض أهل العلم ومن معاصريه: أي حديث لا يعرفه شيخ الإسلام ابن تيمية فليس بحديث، وإن كنا نقول: في هذا نوع من المبالغة، لكنه ثناء عليه بما آتاه الله من العلم.

قرأ رحمه الله كتباً كثيرة، ورزقه الله حافظة قوية، وكان سريع القراءة رحمه الله، وسبحان الله! أقول للأحبة: من آداب طالب العلم أن يكثر من القراءة، ويسهل عليه بعد ذلك أن يقرأ، بعض طلاب العلم ربما يقرأ في كتاب فيشعر أنه لا يقضي عشر صفحات إلا في وقت طويل، وبعضهم مع الاستمرار يقرأ في جلسة واحدة ما بين الظهر إلى العصر مقدار مائتي صفحة إلى ثلاثمائة صفحة ويفهم ما فيها؛ نظراً لأنه ينمو عنده قضية التحصيل والقراءة، وهكذا ما ينمو من قضية الحفظ.

أقبل رحمه الله تعالى على تفسير القرآن، وكان متميزاً فيه، وذكروا أنه فسر سورة نوح في سنوات عديدة، كان يشرحها يوم الجمعة رحمه الله تعالى، وهذا يدل على سعة إطلاعه ومعرفته وإدراكه بتفسير القرآن.

كان لسجنه أثراً عظيماً جداً في تعمقه وفهمه لكتاب الله تعالى، يقول لما سجن: لا أدري ماذا أجزي من سجنني على ما حصل لي من الخير، فسجن معه أخويه، وكان يسجن هو ويدخل أخوه معه من أجل أن يخدمه رحمه الله تعالى، وكانا يعرضان القرآن، يسمع بعضهم لبعض، وفي سنته الأخيرة التي توفي فيها مكث في السجن سنتين ثم توفي، قالوا: إنه ختم ثمانين ختمة وهو يتأمل القرآن، وكان يستحضر الآيات كأن المصحف أمام عينيه رحمه الله تعالى، مما يدل على قوة حافظته، يقول لما سجن: سبحان الله! بدأنا نفهم القرآن ونتأمله، والسبب أنه لما كان خارجاً كان اهتمامه بمناظرة المبتدعة، وبشرح بعض الكتب والتوسع فيها، وتبيين وتأليف بعض المسائل في الاعتقاد وغيره، فلما سجن تفرغ لكتاب الله تعالى رحمه الله ورضي عنه.

قالوا: إنه تأهل للإفتاء والتدريس وعمره دون العشرين سنة، وأصبح يفتي بعد أن بلغ عشرين سنة.

قالوا عن حافظته: إنه ما حفظ شيئاً فنسي، وتولى التدريس بعد وفاة والده الذي تعلم عليه، ودرس بدار الحديث في أول سنة (683هـ).

كان يحضر دروسه بعض مشايخه وعلمائه ويتعجبون من فطنته وذكائه، ومن استحضاره للنصوص، وسبحان الله! رجل تميز بفنون عديدة، وإذا تكلم بفنٍ معين ظن السامع أنه لا يجيد إلا هذا الفن، بل والأعجب من ذلك أنه درس علم الفلسفة، وهو خلاف ما كان عليه الإمام الغزالي عفا الله عنا وعنه وهو أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الذي يسمى حجة الإسلام الفقيه الشافعي المشهور.

ذاك درس العلم وخاض في الفلسفة قبل أن يؤصل عقيدة أهل السنة والجماعة ، وكتب كتابه العجيب الذي اسمه (المنقذ من الضلال ) ، ذكر في مقدمته أنه كان من منهج الإمام أحمد رحمه الله تعالى عدم القراءة في كتب أهل البدع، وعدم الحضور في حلقاتهم، وعدم الاجتماع بهم، ولا التعلم عليهم، ولا دراسة علومهم، قال: ولكني لم آخذ بها، فدرس الفلسفة وخاض فيها، حتى قيل فيه: أراد أن يبتلعها فغُص بها، حتى توفي وفي قلبه شيء من الفلسفة، ولم يرجع إلى ما كان عليه سلف الأمة رحمهم الله تعالى ورضي عنهم.

بخلاف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فإنه ما درس الفلسفة إلا لحاجة بيان بطلان ما كانوا عليه، ولأن الفلاسفة كان لهم قوة وصولة في عصره رحمه الله، وحتى أنه يناظر الفلاسفة ويبين لهم شيئاً من أصولهم لم يفهموها هم، بل لم يطلعوا عليها من كلام كبار أئمة أهل الكلام ، مما يدل على اطلاعه رحمه الله تعالى.

ومن اللطائف: أنه تناظر مع أبي حيان رحمه الله، وهو الإمام المفسر، وكان أبو حيان قد أعجب بـشيخ الإسلام أشد الإعجاب، وأثنى عليه أشد الثناء، وكتب رحمه الله ثناءً عليه، ولكنه لما ناظره في مسائل نحوية -وكان من كبار أئمة النحو- وبين أن هذا القول ليس بصحيح، فرد عليه بأن سيبويه قد قال كذا، قال: لقد أخطأ سيبويه في كتابه (الكتاب ) -وهو من أنفس الكتب التي كتبت في النحو- في ثمانين موضعاً، ثم قال: لا تعرفها أنت ولا غيرك، فغضب عليه أشد الغضب، وبعدها عاداه أشد المعاداة، مما يدل على سعة اطلاعه في النحو والفلسفة وفي مسائل الاعتقاد وغيره.

وقالوا عنه رحمه الله: كان يتميز بأن عنده دراية ومعرفة بأقوال الصحابة أمراً عجيباً، ويتميز بالإسناد.

ولذلك كلما وجدت عالماً يربطك بما كان عليه سلف الأمة في الفقه، والأصول، والعقائد، والحديث، وغيرها فامسك بغرزه؛ لأنه يرجعك إلى المنبع، ويؤصل لك المنهج، وتستفيد منه استفادة عظيمة.

ذكر الإمام الذهبي رحمه الله ترجمة له وافية، وذكر في معجم شيوخه في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية قال: إنه برع في التفسير وغاص في دقائقه ومعانيه بطبع سيال، وخاطر إلى واقع الإشكال ميال، واستنبط منه أشياء لم يسبق إليها، وبرع في الحديث وحفظه، فقلَّ من يحفظ مثلما يحفظه رحمه الله، وكان لا يحفظ شيئاً إلا ويعزوه إلى أصوله وإلى صاحبه الذي قاله، وكان شديد الاستحضار للأدلة وإقامتها، وفاق الناس في معرفة الفقه واختلاف مذاهب الفقهاء، وفتاوي الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، بحيث أنه إذا أفتى في مسألة لم يلتزم بمذهب معين، بل يقوله مع دليله رحمه الله، وأتقن العربية أصولاً وفروعاً وتعليلاً واختلافاً، ونظر في العقليات.. إلى غير ذلك مما قال.

ثم قال في آخره: وأوذي رحمه الله في ذات الله تعالى من قبل المخالفين، وأخيف في نصرة السنة المحضة، حتى سار على منارة، وعلى وضوح، ولكن الله جمع له قلوب أهل التقوى، وجمعهم على محبته، والدعاء له، وكبت الله أعداءه، وهداه إلى صراطه المستقيم، وبين أن له علماً بالملل والنحل وغيرها.

قال الإمام الذهبي رحمه الله مع جلالته في آخر ترجمته له: وهو أكبر من أن ينبه على سيرته مثلي -يعني في عظمته ومحبته له وإعجابه به- فلو حلفت بين الركن والمقام وكنت صادقاً لحلفت أني ما رأيت بعيني مثله رحمه الله تعالى ورضي عنه، مما يدل على تمكنه ومعرفته.

تصانيف شيخ الإسلام ابن تيمية

تصانيفه رحمه الله كثيرة جداً، ولن أتعرض لتصانيفه لوجود كثير منها، وقد ذكروا أنها بغلت (300) مجلد، وبعضهم أوصلها إلى (500) مجلد، وذكروا أن كتبه لو قسمت على حياته فكأنه يكتب كل يوم مائة صفحة، وكان له خطاً عجيباً ربما لا يقرؤه إلا ابن القيم رحمه الله من سرعة كتابته وتأليفه، وذكروا أنه لما سجن في القلعة كان يكتب كتباً هناك، وكان الطلاب يصلون إليه، وذكروا أنه كتب في آخر حياته لما سجن ستين مجلداً، وبعدها كان الناس يفدون إليه إلى السجن ويتعلمون، فعلم الوالي هناك بهذا فأمر بسحب كتبه، وسحبت كذلك أقلامه، وما كان يكتب، قالوا: فكان يكتب بالفحم -لعله كان في السجن يوقد له- على الأوراق وغيرها رحمه الله تعالى.

صفة شيخ الإسلام الخلقية

ذكروا في صفته الخلقية أنه: كان أبيض .. أعين .. أسود الرأس واللحية .. قليل الشيب .. شعره إلى شحمة أذنيه .. وكأن عينيه لسان ناطق، يعني في نظرته تشعر بالرجولة والقوة والشجاعة، بعيد ما بين المنكبين .. جهوري الصوت .. فصيحاً .. سريع القراءة .. تعتريه حدة، أي: شدة، ولكنه يقهرها بالحلم رحمه الله وغفر له.

قال الإمام الذهبي رحمه الله في صفاته الخلقية: كان محافظاً على الصلاة والصيام، معظماً لشعائر الله ظاهراً وباطناً، لا يؤتى على سوء، أي: لا يذكر فيه شيء مما يقدح به، سبحان الله! ادعى عليه أناس واتهموه.

الاتهامات والامتحانات التي واجهها شيخ الإسلام

نقول قاعدة: كل صاحب نعمة محسود، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية قد حسده من كان في عصره من أقرانه من العلماء وطلاب العلم، وكان من أكبرهم ابن مخلوف المالكي القاضي ، اتهمه رحمه الله بأنه خالف ما كان عليه سلف الأمة ، وذكر اتهامات له في العقيدة وهي باطلة:

منها: أن شيخ الإسلام يقول: إن الله فوق العرش حقيقة، وإن الله يتكلم بحرف وصوت، ولعل هذا الكلام يومئ إلى أن هذا الإمام المالكي كان على مذهب الأشاعرة نتيجة هذا التهمة لما وشى به عند الحاكم، وكان ذلك في عشرين رمضان سنة (705هـ) نتيجة حبس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في برج من الأبراج هناك أياماً، ثم نقل منه ليلة العيد إلى حبس معروف بالجب عندهم، رافقه أخوه شرف الدين عبد الله وزين الدين عبد الرحمن .

وممن اتهمه كذلك الصوفية ، وكان شيخ الإسلام من أشد الناس إنكاراً على الصوفية ، وتكلم عليهم كلاماً قاسياً قوياً، وسبحان الله! عجباً من هؤلاء الصوفية ما أقل عقولهم، وما أقل فقههم، ابن عربي وابن الفارض وغيرهم من الذين يتكلمون بكلام إلحادي وكفري، ومع ذلك يبجلونهم هؤلاء القوم، يقول أحدهم وهو ينفض جبته: ما في الجبة إلا الله، ويذكرون أشعاراً شركية وإلحادية ومع ذلك يعتبرونهم من كبار الأئمة، ابن الفارض قُتل بفتوى علماء زمانه لإلحاده، ومع ذلك يعتبر شهيد الصوفية ، وأن الناس وشوا به ولا يعرفون كلامه.

لما تكلم شيخ الإسلام رحمه الله في الصوفية وعقد له مجلس قضاء الشافعية، وادعي عليه بأشياء رحمه الله، ومع ذلك لم يثبت منها شيء، ودحض حجتهم وباطلهم.

ومما حدث له كذلك: الإفتاء في مسألة الطلاق، وكان رحمه الله تعالى يفتي بأن الطلاق الثلاث يعتبر طلاقاً واحداً وقد رجع، وهذه المسألة خلافية ولن أتعرض لها بشيء، ويفتي بها سماحة شيخنا العلامة حفظه الله وأمد في عمره، نتيجة لما أخبر الناس بهذا الخبر امتحن رحمه الله من قبل علماء زمانه وقضاتهم، وكان نتيجتها أنه رحمه الله تعالى مُنع من الإفتاء بذلك، ولكنه سئل مرة أخرى فافتى بها وكانت النتيجة أن حبس في القلعة خمسة أشهر وثمانية عشر يوماً، وأخرج يوم الإثنين في عاشوراء سنة (721هـ).

ومنها كذلك: افترى عليه بعض المفترين ومنهم الطوفي ، وكان على مذهب الحنابلة ولكنه أشعري، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية قد رد على الأشاعرة وأبطل ما كانوا عليه من المذهب في أغلب كتبه رحمه الله تعالى، وتكلم على الإمام الغزالي وبأنه من أئمة الأشاعرة ومن منظريهم، وله كتب في ذلك في الرد عليهم.

وتكلموا عليه كذلك في مسألة النزول، وكذلك في غيرها من المسائل، وكانت النتيجة أن عقد له مجلس ونوقش فيه ورد عليهم.

من الاتهامات العجيبة التي اتهمه بها ابن بطوطة، قد نقول: يستحق أن نقول له: قبحه الله إن ثبتت عنه هذه الكلمة، ذكر ابن بطوطة صاحب الرحلة المشهورة أنه دخل دمشق، وذكر أنه رأى شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال: إنه من كبار فقهاء الحنابلة، ورآه يتكلم في فنون عديدة، وتكلم.. قال: وحضرت له يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكرهم، قال: فكان من جملة كلامه -أي: شيخ الإسلام- أن قال: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا كنزولي هذا، ونزل شيخ الإسلام درجتين، وهذا كلام باطل وليس بصحيح، وأصبح الناس يتناقلون هذا الكلام، ورد عليه جمع من تلامذة شيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم، ومنهم: ابن عبد الهادي رحمه الله وهو من كبار تلامذته، ومنهم: أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب في طبقات الحنابلة .. وغيرهم، وذكروا أن الوقت الذي زار فيه ابن بطوطة دمشق كان شيخ الإسلام ابن تيمية في القلعة مسجوناً، فكيف يخرج هنا وهناك، ذاك أمر لا يقر به إلا غلاة الصوفية.

ولكننا نقول: إن شيخ الإسلام ابن تيمية لا يقول مثل هذا الكلام وهو أعظم من نافح عن عقيدة السلف الصالح ، وأعظم من قرر منهج أهل السنة والجماعة رحمه الله تعالى، وحاشاه أن يتكلم، ولكن ليس إلا الحسد والكذب، وليس غريباً أن يوجد هذا من الأقران وغيرهم، أو من المبتدعة في مقالاتهم.

ولعلي أذكركم بقصة من اللطائف للصوفية كانت لهم، ذكرها الشعراني في طبقاته، وكان من العجائب التي ذكر: أن أحد أئمة الصوفية، وكان يعتبر ولياً من أولياء الله، ويعظمونه ويجلونه، دخل المسجد يوم الجمعة فصعد المنبر، ثم قام خطيباً في الناس، وقال: أشهد أن لا إله لكم إلا إبليس عليه الصلاة والسلام، فقال الناس وهم حضور: كفر الشيخ، كيف يقول هذا الكلام، فنزل عليهم بسيفه وخرج أغلب من في المسجد مخافة منه، قالوا: فجلس على المنبر والناس لم يستطيعوا الدخول لما رأوا من كلامه، ومكث إلى قريب العصر، يقول: فجاء رجل من قريةٍ من القرى إلى هذه البلدة التي فيها الشيخ القبيح، فقالوا: أما علمت ما قال الإمام والشيخ والولي؟

قال: ماذا قال؟

فذكروا له، فقال: قبحكم الله، والله لقد كان بنا خطيباً صلى بنا الجمعة وخطب بنا أربع خطب، وهو في قرية وقال كذلك، ولكن شيخ الإسلام ابن تيمية لن يقول مثل هذا الكلام، وهو أعظم من نافح عن عقيدة السلف الصالح ، وأعظم من قرر منهج أهل السنة والجماعة وحاشاه أن يتكلم بهذا، ولكن هذا سببه الحسد والكذب، وليس غريباً أن يوجد هذا من الأقران وغيرهم، وخاصة إذا كانوا من المبتدعة.

وقد ذكروا أنه رحمه الله سجن سجوناً عديدة، منها: أنه سجن في قلعةٍ في الشام في رجب سنة (720هـ) إلى عاشوراء سنة (721هـ)، وسجن في القلعة في القاهرة ، كذلك سجن في الجب، أُدخل رحمه الله سنة (698هـ) وذكر بعضهم أنه أخرج بعدها بسنوات.

ذكر الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى كلاماً عظيماً جداً في سجن شيخ الإسلام ابن تيمية ، وأنه توفي رحمه الله تعالى في السجن، ويقال: لما توفي كانت وفاته يوماً مشهوداً، ضاقت بجنازته الطرق، وسارع الناس من كل فج عميق يتقربون إلى الله بحضور جنازته رحمه الله تعالى، وكلهم يسارع إلى حمل جنازته.

ذكروا من صفاتها: أنه أغلقت الحوانيت والمحلات، حضرها عدد من الرجال والنساء قدَّر بعضهم بأنها أكثر من مائتي ألف شخص.

وذكروا -وإن كان هذا غلواً ولا نرتضي بالغلو- أن طاقيته رحمه الله بيعت بخمسمائة درهم، ولكنا نقول: إن هذا من التبرك غير المشروع، وقاعدتنا أنه لا يجوز التبرك بأحدٍ كائناً من كان إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم بذاته، أما ما عداه فسوف يأتي إن شاء الله بيان شيء من التبرك.

ذُكر في جنازته الضجيج والبكاء والتضرع إلى الله، والناس أخذوا يزورون قبره رحمه الله، ورثاه جمع من الناس، صلي عليه مراراً، صلى عليه الشيخ محمد بن تمام مع الناس في القلعة، ثم صُلي عليه بجامع دمشق عقب صلاة الظهر، ثم صلى عليه أخوه زين الدين في سوق الخيل مرة ثالثة، ثم دفن بعد ذلك، توفي في الصباح ولم يدفن إلا قريب العصر رحمه الله تعالى.

ذكر بعضهم أنه صلي عليه صلاة الغائب في كثير من البلدان المجاورة، حتى ذكروا -وإن كان هذا فيه مبالغة- أنه صلي عليه في الصين، وفي اليمن .. وفي غيرها من البقاع.

شيخ الإسلام : هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني الدمشقي، ويقال: الحنبلي ، وإن كان في النفس منها هنيهة، ولكنا نقول: إنه درس على مذهب الحنابلة، ونعتبره إماماً مجتهداً رحمه الله تعالى، ويفتخر الحنابلة وإن كان السلفيون منهم أن شيخ الإسلام منهم، ويوجد من لا يكون من الحنابلة على منهج سلف الأمة، وهذا أمر سيأتي الكلام عليه، ولكنا سنذكر تقعيداً -إن شاء الله- حول هذا الأمر، وهو أن الأئمة الأربعة كلهم على منهج سلف الأمة.

وما نقل عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى: أنه مر في مراحل حياته، واستتيب عدة مرات كما نقله الإمام عبد الله بن الإمام أحمد في كتابه: السنة، نقول: هذه مرت في أول حياته، وأما آخرها فإنه كان على ما كان عليه سلف الأمة رحمهم الله تعالى.

والحنابلة كغيرهم من الأئمة من الطوائف أو المذاهب الأخرى، فيوجد من أتباع أبي حنيفة والشافعي ومالك من ليس على منهج سلف الأمة في باب الصفات أو في باب القضاء والقدر، ولكن التقعيد عندنا: من وافق الكتاب والسنة سرنا على ضوئه، ومن خالف ذلك لم نلتفت إليه، والعبرة بالمنهج لا بالأشخاص، نحن لا نعبد أناساً أو أشخاصاً معينين، وقد يرد في الذهن ما قاله الشاعر:

أنا حنبلي ما حييت وإن أمت     فوصيتي للناس أن يتحنبلوا

نقول: المقصود من هذا البيت أنه على مذهب الإمام أحمد في مسائل الاعتقاد، وهذا أمر سيأتي -إن شاء الله- بيانه: أن كل من انحرف ثم رجع إلى منهج أهل السنة أعلن أنه على مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى، ونقول: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِى [الجمعة:4] شرَّف الله هذا الإمام بأن أصبح منافحاً عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عقيدة الإسلام، ومبيناً للمنهج الحق.

ذكر العلماء من صفات شيخ الإسلام بأنه الإمام الفقيه، المجتهد الناقد، المفسر البارع، الأصولي، علم الزهاد، نابغة دهره، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن الإمام المجتهد شيخ الإسلام مجد الدين ، صاحب المنتقى رحمه الله، قال كثير من أهل العلم: إنه كالعلم فلا يحتاج أن يطلب فيه.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عمر سعود العيد - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الثامن) 2412 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الخامس) 2366 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الخامس عشر) 2222 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس السادس عشر) 2207 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الثاني عشر) 2101 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس التاسع) 2086 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الرابع) 2068 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الثامن عشر) 2001 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الحادي عشر) 1941 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الثاني) 1860 استماع