مختصر التحرير [57]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

سبق لنا أنه يشترط في المحكوم عليه العقل وفهم الخطاب، وأن المراد بالعقل المشترط هو عقل الإدراك، وأنه لا يشترط حصول شرط شرعي، مثل الإسلام شرط في قبول العبادة، ودليل ذلك قوله تعالى: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ [التوبة:54]، ولهذا لو تصدق الكافر أو بنى مسجداً أو أصلح طريقاً أو ما أشبه ذلك فإنه لا ينتفع به؛ لأنه فقد شرطاً وهو الإسلام، لكن لو أسلم لنفعه ما عمله فيما سبق؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أسلمت على ما أسلفت من الخير ).

وهذا مما يدلك على أن رحمة الله سبقت غضبه، فالكافر إذا أسلم يكتب له ما كان يعمل سابقاً من الخير، ويمحى عنه ما كان يعمل من الشر، وهذا غاية ما يكون من الفضل والإحسان من رب العباد عز وجل.

خطاب الكفار بأصل الإيمان

إذا كان لا يشترط حصول شرط شرعي وهو الإسلام، فهل الكافر مكلف ومخاطب بالشريعة؟

نقول: أما أصل الإيمان فإنه مخاطب به ومكلف بالاتفاق، يعني: نقول له: آمن، قال النبي عليه الصلاة والسلام وهو يكتب الكتب إلى رؤساء الكفار: ( أسلم تسلم )، فأمره بالإسلام مع أنه كافر.

فالكافر إذاً مخاطب بأصل الإسلام، يعني: نقول أسلم، لكن لا نقول: صل؛ لأنه لو صلى لم ينتفع، ولا نقول: زك، ولا نقول: صم، ولا نقول: لا تشرب الدخان، لا تشرب الخمر، بل نتركه يشرب الدخان ويشرب الخمر ويزني ويسرق ولا نقول له شيئاً؛ لأن الأصل الذي تبنى عليه هذه التكليفات غير موجود، وهو الإسلام، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام لـمعاذ حين بعثه إلى اليمن: ( فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات )، فجعل إعلامهم بفرض الصلوات بعد إسلامهم، ولهذا لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر المشركين أن يصلوا ولا أن يزكوا ولا أن يصوموا؛ لأنهم لو صلوا وصاموا وزكوا ما قبل، فكيف نأمر بالفرع قبل الأصل؟!

إذاً: الأصل اتفق العلماء على أن الكافرين مخاطبون به، وهو الإسلام، فقول المؤلف: (الإيمان) يريد به الإسلام.

خطاب الكفار بالفروع وفائدته

أما الفروع هل هم مخاطبون بها؟

نقول: إن أردت أنهم مخاطبون بها إلزامهم بها، فلا يلزمون بها لقوله تعالى: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ [التوبة:54]، وإذا كان لا تقبل فما الفائدة؟ وإن أردت أنه يلزمهم قضاؤها إذا أسلموا فلا؛ لقوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال:38].

إذاً: ما الفائدة؟

والمؤلف يقول: [ الكفار مخاطبون بالفروع ]، يعني: فروع الإسلام، يعني يوجه إليهم الخطاب، لكن لا على أساس أنهم يؤمرون بها لأن فعلهم لها ينفع، ولا أن يؤمروا بقضائها إذا أسلموا لأن الله أسقط عنهم بإسلامهم كل ما اقترفوه، بل الفائدة ما ذكر المؤلف بقوله: [ والفائدة كثرة عقابهم في الآخرة ].

إذاً: هم مكلفون في الفروع كما أنهم مكلفون بأصل الإسلام، ولكن لا نأمرهم بها ولا بقضائها، والفائدة: كثرة العقاب، فبدلاً من أن يكون العقاب على أصل الإيمان يكون على أصل الإيمان وعلى ما يتبعه من الفروع، ودليل ذلك قوله تعالى: يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ [المدثر:40-47].

الشاهد قوله: (لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين) فهذه ليست من أصل الإيمان، ومع ذلك ذكروا أن لها أثراً في دخلوهم النار، ولولا أن لها أثراً في دخولهم النار لم يكن لذكرها فائدة.

يعني: لو قال قائل: إنهم دخلوا النار لأنهم كانوا يكذبون بيوم الدين ويخوضون مع الخائضين، وأهمل السببين الأولين، قلنا: هذا خطأ، لأنهم ذكروا أربعة أسباب هي: الصلاة، الثاني: ولم نك نطعم المسكين، الثالث: كنا نخوض مع الخائضين، والرابع: كنا نكذب بيوم الدين، فلو كان سبب دخولهم النار تكذيبهم بيوم الدين دون غيره لكان ذكر ترك الصلاة وإطعام المسكين لا فائدة منه، فهذا نص صريح على أنهم يعذبون على تركها.

ثم نقول: أيهما أكرم على الله المسلم أم الكافر؟ سيقال: المسلم، فإذا كان المسلم يعاقب عليها فكيف لا يعاقب الكافر؟

ثم يقال: إذا كان الكافر يعذب على الأكل والشرب واللباس، فكيف لا يعذب على ترك العبادات الواجبة؟ هذا بالقياس.

فنقول: نقرر هذا الحكم بالقياس، فالكافر لا يرفع لقمة إلى فمه إلا حوسب عليها، ولا يلبس ثوباً يستتر به عن البرد أو الحر أو النظر إلا حوسب عليه، ودليل ذلك قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة:93].

فقوله: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا يدل على أن غير المؤمنين عليهم جناح، و(فيما طعموا) تشمل الشراب والأكل، وتدل على أن الكافر يعاقب على الأكل والشرب؛ لأن الطعام يشمل الأكل والشرب.

وقال الله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الأعراف:32]، فهي للذين آمنوا، يعني لا للذين كفروا، وقوله: خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ يعني: لا يحاسبون عليها.

إذاً: فالصحيح أن الكفار مخاطبون بفروع الإسلام كما أنهم مخاطبون بأصله، بل نقول: إن الكفار محاسبون وعليهم الإثم فيما تمتعوا به من نعم الله كما تدل عليه هذه الآية، وحينئذٍ يزداد عذابهم على كل أكلة وكل شربة وكل لباس وكل سكن

والعقل يقتضي ذلك؛ لأن الذي أنعم بهذا عليهم هو الله، والعقل يقتضي أن المنعم عليك إذا أمرك أو نهاك تمتثل لأمره وتترك نهيه، فإذا عصيت فإن هذا يعتبر خطأ في العقل.

ما يلزم به الكفار من فروع الشريعة

يقول المؤلف رحمه الله: [وملتزمهم في إتلاف وجناية وترتب أثر عقد كمسلم].

أي ملتزم الكفار في هذه الأمور الثلاثة: الإتلاف والجناية وترتب أثر العقد.

وقوله: (كمسلم)، يعني: أنهم إذا أتلفوا شيئاً ضمنوه كما يضمنه المسلم؛ لأن هذا حق لآدمي، وإذا جنوا على شخص ضمنوه كالمسلم، وإذا باعوا أو اشتروا ترتب أثر العقد على البيع أو الشراء كالمسلم.

وقول المؤلف: (ملتزمهم) خرج به من لم يكن ملتزماً منهم كالحربي مثلاً، فالحربي لا يترتب عليه ما يترتب على المسلم، وعلى هذا نقول: لو أن حربياً أتلف مالاً لمسلم لم يضمن، كذلك لو جنى على مسلم فإنه لا يضمن هذه الجناية، ولو باع أو اشترى لم يترتب عليه أثر العقد؛ لأنه غير ملتزم، وأما هل يقتل أو لا يقتل أو يعزر أو لا يعزر فهذا يرجع إلى الإمام؛ لأنه لا شك أن الكافر الأصلي يجب عليه أن يخضع لأحكام الإسلام.

وقوله: (ملتزمهم في إتلاف) مثاله: رجل ذمي أتلف شيئاً لمسلم فإنه يضمنه بمثله إن كان مثلياً، وإن كان متقوماً فبالتقويم.

رجل من أهل الذمة جنى على مسلم، فإنه يترتب عليه الأثر، فيؤخذ بالجناية، وربما ينتقض عهده.

وقوله: (وترتب أثر عقد)، أي هو في ترتب أثر العقد كالمسلم، فإذا باع أو اشترى صار العقد لازماً، ولهذا اشترى النبي صلى الله عليه وسلم من اليهودي طعاماً ورهنه درعاً، حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم والدرع عند اليهودي.

إذا كان لا يشترط حصول شرط شرعي وهو الإسلام، فهل الكافر مكلف ومخاطب بالشريعة؟

نقول: أما أصل الإيمان فإنه مخاطب به ومكلف بالاتفاق، يعني: نقول له: آمن، قال النبي عليه الصلاة والسلام وهو يكتب الكتب إلى رؤساء الكفار: ( أسلم تسلم )، فأمره بالإسلام مع أنه كافر.

فالكافر إذاً مخاطب بأصل الإسلام، يعني: نقول أسلم، لكن لا نقول: صل؛ لأنه لو صلى لم ينتفع، ولا نقول: زك، ولا نقول: صم، ولا نقول: لا تشرب الدخان، لا تشرب الخمر، بل نتركه يشرب الدخان ويشرب الخمر ويزني ويسرق ولا نقول له شيئاً؛ لأن الأصل الذي تبنى عليه هذه التكليفات غير موجود، وهو الإسلام، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام لـمعاذ حين بعثه إلى اليمن: ( فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات )، فجعل إعلامهم بفرض الصلوات بعد إسلامهم، ولهذا لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر المشركين أن يصلوا ولا أن يزكوا ولا أن يصوموا؛ لأنهم لو صلوا وصاموا وزكوا ما قبل، فكيف نأمر بالفرع قبل الأصل؟!

إذاً: الأصل اتفق العلماء على أن الكافرين مخاطبون به، وهو الإسلام، فقول المؤلف: (الإيمان) يريد به الإسلام.