شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الحادي عشر)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد.. فإن أهل السنة عندهم قاعدة يقولون: إن أسماء الله وصفاته ليست محصورة بعدد معين، وما ورد في الحديث: (إن لله تسعاً وتسعين اسماً) لم يقصد منها الحصر، ويستدلون على ذلك بدليلين:

الدليل الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك ... وفيه: أو استأثرت به في علم الغيب عندك) فدل على أن من أسماء الله ما استأثر الله بعلمه عنده ولا يُطَّلَعُ عليه.

الدليل الثاني: حديث الشفاعة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فأسجد تحت العرش، فيفتح الله عليَّ بمحامد لم أكن أعرفها من قبل) وما يُحمد به إنما يكون في أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى، فدل على أن لله أسماء وصفاتاً تليق بجلاله وعظمته.

يقول العلماء: إن صفات الله تنقسم إلى قسمين:

1- صفات ثبوتيه.

2- صفات سلبية.

فالصفات الثبوتية هي التي ورد ثبوتها في الكتاب والسنة كالسمع، والبصر، والحياة، والعلم، والقدرة.

والصفات السلبية: هي الصفات التي نفاها الله عن نفسه أو نفاها عنه رسوله صلى الله عليه وسلم كالعجز، والظلم، والولد والصاحبة.. وغيرها.

وصفات الله الثبوتية تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: صفات ذاتية.

القسم الثاني: صفات فعلية.

فالصفات الذاتية: هي التي لا تتعلق بالإرادة والمشيئة، مثل: الحياة، والسمع، والبصر، والعلم.

والصفات الفعلية: هي التي تتعلق بالإرادة والمشيئة، كالمحبة، والغضب، والرضا، والنزول.. وغيرها من صفات الله تعالى، كل هذه الصفات قاعدتنا فيها هي قول الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11].. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:4] فلا يتطرق إلى أذهاننا شيء من التشبيه أو التجسيم لله سبحانه وتعالى.

ثم قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

وأقول في القرآن ما جاءت به     آياته فهو القديم المنزل

لفظ: (القديم) عندنا، ولعل هذا اللفظ: (القديم) كان هو السبب في التوقف في نسبة هذه الرسالة أو هذه المنظومة إلى شيخ الإسلام ابن تيمية، ولكن يمكن أن يحمل على محملٍ صحيح، وعندها لا يوجد ثمة إشكال في الجملة.

الأصل أن إطلاق القرآن أنه (قديم) ليس هو قول أهل السنة والجماعة ، والسبب في ذلك: أن هذا القول -كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية- أول من أحدثه هو عبد الله بن سعيد بن كلاب ، وسار عليه طوائف، فـالأشاعرة يرون أن كلام الله قديم، وكذلك السالمية يعتقدون أن كلام الله قديم، ولهذا تُحمل أو تُخرج هذه اللفظة كما في نسخة: (وهو الكريم المنزل) فإذا جاءت: (وهو الكريم) انتهى الإشكال، وليس في العبارة شيء من الوهم، ولكن تحمل على معنىً يقصد به، وهو ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة في كلام الله بأنه قديم النوع حادث الآحاد، متعلق بالإرادة والمشيئة بحرف وصوت يسمع، وكل لفظ وجزئية من هذه العبارة ترد على طائفة انحرفت.

وأهل السنة والجماعة في كلام الله تعالى منضبطون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقولنا: قديم النوع، فيه رد على الكرامية التي تعتقد أن الكلام حدث لله بعد أن لم يكن متكلماً فكان، لم يكن متكلماً ثم حدثت له صفة الكلام، وهذا الكلام ليس صحيحاً بل باطل، والسبب أنه يؤدي إلى أن يكون الله ناقصاً ثم وجد له الكلام فأصبح كاملاً به، ولهذا قالوا: أصلها قديم، أي: أنه لا بداية لكلام الله تعالى، فنقول: أفي هذا الزمن بدأ يتكلم وقبله لم يكن متكلماً؟ بل الله سبحانه وتعالى موصوف بالكلام أزلاً ولا بداية لكلامه سبحانه وتعالى.

قولنا: حادث الآحاد، أي: أن آحاده متجددة، بمعنى: أن الله قبل أن يخلق آدم خاطب الملائكة: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30] ثم بعد أن خلق الله آدم قال له: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة:35] هل كل هذا الكلام كان في وقت واحد؟ لا، الله تكلم قبل أن يخلق آدم، ثم تكلم بعد أن خلق آدم، كذلك قال لآدم: اخرج أنت وزوجك، أمرهم بالخروج من الجنة، فحدث كلام، ثم كلم موسى بعد ذلك، ثم كلم محمداً صلى الله عليه وسلم، ولم يزل ربنا يتكلم متى شاء كيف شاء.

وقولنا: متعلق بالإرادة والمشيئة: وهو أنه بمعنى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] وإذا أراد الله أن يتكلم بالوحي أخذت السماوات منه رجفة، دل على أنه متعلق بإرادته ومشيئته، يتكلم متى شاء كيف شاء سبحانه وتعالى وبما شاء يتكلم.

وقولنا: (بحرف وصوت): لا يمكن أن يكون الكلام أبداً إلا بحروف؛ ولأننا نجد من طوائف المبتدعة من تقول: إن الكلام حدث كله في وقت واحد، وهذا قول للسالمية، فمثلاً: بسم الله الرحمن الرحيم، أو أي آية من القرآن قالوا: إنها خرجت جملة واحدة، فلم يتقدم الميم على الباء، في باسم الله، بل خرجت كلها خروجاً واحداً، وهذا كلام باطل لا يمكن أن نسلم به بوجه من الوجوه، بل إن مجرد التأمل -كما قال الإمام ابن القيم- يكفي في بطلان هذا الرأي، وبطلان هذا القول.

وقولنا: (بحرف وصوت يسمع) رداً على المبتدعة الذين يقولون: إن كلام الله لا يسمع، كذلك بالصوت، فقد قال البخاري رحمه الله تعالى وذكره الحافظ ابن حجر وغيره من كبار أئمة السلف: إن كلام الله بصوت، والدليل عليه: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ [مريم:52] والنداء لا يكون إلا بصوت، إذا قيل: نادِ فلاناً، لا يمكن أن تناديه بدون صوت، والله سبحانه وتعالى نادى موسى عليه الصلاة والسلام، ونادى محمداً، وحصل له مناداة ومناجاة، ويقال: إن النداء يكون بصوت مرتفع، والنجاء يكون بصوت منخفض، وكلها تدل على أن فيها صوتاً، وأنها تسمع، فسمع آدم كلام الله, وسمع موسى كلام الله، وسمع محمد صلى الله عليه وسلم كلام الله تعالى.

نأتي إلى لفظ: (القديم) إطلاق القدم بالنسبة للرب سبحانه وتعالى نجد أن صاحب الطحاوية قال: (قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء) والأصل عندنا في الألفاظ التي نصف الله تعالى أو نسمي الله بها أنه لابد فيها من نص، فلفظ القديم لا نطلقه على الله تعالى على أنه من أسمائه وصفاته لأننا لم نجد له دليلاً من كتاب ولا سنة، وإنما الدليل ورد في الأول: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء) أما إطلاق (القديم) فإنه لا يعتبر من أسماء الله الحسنى.

ومن غرائب المتكلمين أنهم يجعلون أخص وصف لله هو القدم!! وهذا قول للمعتزلة ، وذكر العلماء رحمهم الله تعالى أن لفظ القدم ليس من الأسماء أو الصفات التي هي حسنى، والسبب: أن الله لما ذكر القمر قال: حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس:39] والعرجون القديم دل على أنه كان من قبل فيه كمال ثم رجع عرجوناً، والعراجين هي في النخل يحصل فيها ميلان، ثم بعد ذلك كانت قبل ليست مائلة، ثم حدث فيها ميلان، ووصف القدم يدل على أنه كان سابقاً فيه شيء من الحسن، ثم بعد ذلك تقادم فأصبح الناس لا يرون فيه حسناً، ولهذا تجد أن العملات القديمة والآثار القديمة وغيرها ليست مجالاً لأن يعتز بها وتعتبر شيئاً حسناً في الجملة، ولهذا لما ذكر الله: أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ [الشعراء:76] يعني: المتقدمون عليكم أنتم.

وذكر الله أن فرعون يقدم قومه يوم القيامة بمعنى: يتقدم قومه، وسميت القدم قدماً نظراً لأنها تتقدم على جسد الإنسان أو على بدنه في المشي، لكن إدخال (القديم) في أسماء الله الحسنى ليس بصحيح، بل هو مشهور عند أهل الكلام ، وقد أنكر السلف عليهم في هذا، ولكن نقول: الأولى الأخذ بضابط الشرع ونقول: (أنت الأول فليس قبلك شيء) وهو الصحيح الذي دل عليه الكتاب وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

ذكر العلماء ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في الفتاوى ، وكذلك الإمام ابن القيم في الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة ، وكذلك شارح العقيدة الطحاوية وغيرهم: أن أقوال الناس في مسألة كلام الله متعددة ومختلفة، حتى ذكر بعضهم أنها تصل إلى تسعة أقوال، ولن نتعرض للأقوال كلها؛ لأن بعضها قد انقرض، لكن نذكر ما تمس الحاجة إليه.

قول الاتحادية في كلام الله

القول الأول: قول الاتحادية : وهم الذين يقولون: إن الكون كله متحد في ذاته، ويقولون: إن كل كلام في الكون كله فهو لله تعالى، وهذا الكلام باطل لا شك في بطلانه، وبناءً عليه يكون الكفر والسحر والشتم واللعن والهجاء وكذلك الفحش كله كلام لله تعالى، ويقول شاعرهم:

وكل كلام في الوجود كلامه     سواء علينا نثره ونظامه

أي: كل كلام في هذا الوجود فهو كلام الله تعالى، وهذا قول باطل، وهو مبني على أصلهم الذي أصلوه، وهو أن عين هذا الوجود واحد، فيقولون:

العبد رب والرب عبد     يا ليت شعري من المكلف

إن قلت عبد فذاك رب     أو قلت رب أنَّى يكلف

أي: لا فرق بينهما إطلاقاً، وهذا كلام لا شك في بطلانه، وقد دل الكتاب والسنة على نفي هذا، وأصل المذهب باطل، فإنهم يقولون: إن كل شيء في هذا الوجود هو رب ولا فرق فيه.

إذاً .. الكلام هو كلام الرب، وليس هناك فرق بينه وبين كلام غيره من المخلوقات.

قول الفلاسفة في كلام الله

القول الثاني: وهو مذهب الفلاسفة، ولعلنا نومئ إليه نظراً لأنه يوجد من تأثر بـابن سينا والفارابي والطوسي .. وغيرهم، هؤلاء الفلاسفة يقولون: إن الكلام هو فيض فاض على العقل الفعال وعلى نفس فاضلة زكية، وهذا مبني على قولهم الباطل، وهو: إن الإنسان يمكن أن يخرج قرآناً، وأن يكون نبياً، ولذلك يقول الفلاسفة : إن النبوة مكتسبة، يمكن أن يكتسبها كل أحد، لكن بشروط:

1- قوة التأثير.

2- قوة التصور والتخيل.

3- قوة التعبير، فإذا وجدت هذه يمكن أن يكون الإنسان نبياً، وأن يخرج للناس قرآناً أياً كان هذا الشخص، بشرط أن توجد فيه هذه الشروط وهذا الكلام لا شك في بطلانه، بل هذا هو عين الكفر، إذ أنه كيف يمكن أن تكون النبوة مكتسبة، وبناءً عليه يقولون: إن قضية الأنبياء والرسل والملائكة وغيرهم هذه تخيلات يتخيلها النبي فقط، ولا يوجد ملك يكلمه، أو يوجد كلام صدر إليه، وإنما هو من عقله الفعال.

ومن الأمثلة على قضية التأثير العقلي الفعال: أنك قد تسير في الطريق بسيارتك، وتنظر إلى أمامك وإذا بشخص يحرك يديه ويتكلم، تمر ولا أحد عنده يتكلم معه، وعنده مشكلة معينة أو موقف معين، فيفرغ ما في نفسه بالكلام وبالصوت، ويحرك يديه تحريكاً عنيفاً، ويتحدث، وتشعر أنه تكلم، وهو الآن ليس عنده أحد، لكن أصبح عقله يتفاعل مع الحدث الذي حدث، فهم يقولون: محمد عنده هذا التصور وأخرج للناس قرآناً، ويمكن أن يكون لكل أحد، ولا شك أن هذا هو الكفر وهذا باطل.

قول الجهمية في كلام الله

القول الثالث: وهو قول الجهمية، ويدخل فيهم جزء من المعتزلة، وإن كان الجهمية لهم مذهب فريد، وهم يقولون: إن كلام الله تعالى مخلوق، وهو من بعض مخلوقات الله تعالى، ولم يقم به سبحانه وتعالى كلام أبداً، وإنما يعتبر خلقاً من مخلوقات الله تعالى، وهذا الكلام لا شك في بطلانه، ولهم أدلة على هذا يمكن أن نومئ إلى دليل واحد ونبين بطلان مذهبهم من خلاله فيما بعد.

قول جعفر بن حرب في كلام الله

القول الرابع: وهو قول من يزعمون أن كلام الله سبحانه وتعالى عرضاً وليس حقيقياً، والأعراض هي التي تذهب وتزول، وذكروا أنه مخلوق، وأحالوا أن يوجد في مكانين في وقت واحد، وزعموا أن المكان الذي خلق سبحانه وتعالى كلامه فيه محال انتقاله منه، أي: أن الله خلقه في مكان معين، ويستحيل أن ينتقل إلى جهة أخرى، وهذا نقل عن جعفر بن حرب، وأكثر البغداديين.

قول الكلابية في كلام الله

القول الخامس: وهو قول الكلابية ، نظراً لأن أول من قال بالقدم في كلام الله تعالى هو: عبد الله بن سعيد بن كلاب ، وهذا الرجل يقول: إن الكلام معنىً قائم بالنفس، لا يتعلق بالإرادة والمشيئة أبداً، وأنه لازم لذات الرب سبحانه وتعالى كلزوم الحياة والعلم والقدرة، وأنه لا يسمع على الحقيقة، والحروف والأصوات ليست إلا حكاية عن كلام الله، وليست هي كلام الله، وهي مخلوقة من المخلوقات، وهذا يؤدي إلى نفي أن يكون الكلام صفة من صفات الله تعالى.

قول الأشاعرة في كلام الله

قول الأشعري ومن وافقه، وهو مذهب الأشاعرة المنتشر أن كلام الله معنىً واحد، قائم بذات الرب سبحانه وتعالى، وهو صفة قديمة أزلية، وقالوا: هو معنىً نفسي، وليس بحرف ولا صوت، ولا ينقسم، ولا يتبعض ولا يتجزأ .. ولا غير ذلك وقالوا: إن كلام الله واحد فقط، فالأمر والنهي معناه واحد، والتوراة والإنجيل معناهما واحد لا فرق بينهما، وهذا كلام باطل لا شك في بطلانه.

كون كلام الله نفسي هذا باطل، وكون معناه واحد باطل، وكون التوراة والإنجيل والقرآن كلها واحدة هذا ليس بصحيح .. هل ما ورد في القرآن هو ما ورد في التوراة وهو ما ورد في الإنجيل؟ لا، والله قد قال: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً [المائدة:48] فجعل الله لمحمد شرعة، وجعل لموسى شرعة، ولعيسى ولغيره من أنبياء الله جعل لكل واحد شرعةً ومنهاجاً.

قول السالمية في كلام الله

القول السابع: وهو قول السالمية ومن وافقهم من أتباع الأئمة الأربعة، وبعض أهل الحديث قالوا: إن كلام الله تعالى صفة قائمة بذات الرب سبحانه وتعالى، وأنه لم يزل ولا يزال يتكلم، وأنه لا يتعلق بإرادته ولا مشيئته، وحروفه وأصواته وسوره وآياته كذلك سمعها جبريل من الرب، ومحمد سمعها من جبريل، وذكروا أن القرآن خرج جملة واحدة، مثل: باسم الله لم تسبق الباء الميم، وإنما خرجت دفعة واحدة، وهذا كلام باطل.

قول الكرامية في كلام الله

القول الثامن: قول الكرامية حيث ذكروا أنه متعلق بالإرادة والمشيئة، وقائم بذات الرب سبحانه وتعالى، وهو حروف وأصوات، ولكنهم قالوا: إنه حدث بعد أن لم يكن، أي: حدث كلام الله بعد أن لم يكن متكلماً، كان الله غير متكلم ثم بعد ذلك تكلم، ولا شك أن هذا الكلام باطل؛ لأنه يلزم منه أن يوصف الله سبحانه وتعالى بالنقص، إذ أنه كان ناقصاً ثم حدثت له صفة الكلام.

ونحن نقول: هل الكلام صفة مدح أم صفة ذم؟

الجواب: بالاتفاق أن الكلام صفة مدح، وبناءً عليه إذا قلنا: إن الله لم يكن متكلماً ثم تكلم كان يلزم منه أن يكون الله فيه نقص ثم بعد ذلك حدث له الكمال، وهذا كلام باطل، ونحن نعلم أنه لم يحدث لله صفة لم تكن من قبل.

ولهذا قال الطحاوي رحمه الله في متنه: (ليس بعد خلق الخلق استفيد اسم الخالق، ولا بإحداث البرية استفيد اسم الباري) ولهذا قال: (له معنى الربوبية ولا مربوب، ومعنى الخالق ولا مخلوق) دليل على أنه لم تطرأ عليه صفة لم تكن موجودة من قبل، بل هو سبحانه وتعالى قبل أن يخلق وبعد أن خلق صفاته واحدة لم يحدث له شيء من التجدد.

قول أهل السنة في كلام الله

القول التاسع: وهو قول أهل السنة وهو ما ذكرنا من أنهم يقولون: كلام الله قديم النوع، حادث الآحاد، متعلق بالإرادة والمشيئة، وأنه بحرف وصوت يسمع، يقول بعضهم: يجب علينا أن نؤمن بأن الله سبحانه وتعالى يتكلم بكلام حقيقي، وليس كلامه مجازي، حتى لا يقال: هذا معنى أو عبارة عن كلام الله تعالى، وكما يقول بعض المبتدعة في تأويلهم لصفات الرب سبحانه وتعالى فيقولون: اليد مجازية، والكلام مجازياً، والسمع مجازي، بل نقول: كلام الله على الحقيقة، وأنه يتكلم متى شاء، وكيف شاء، فدل على أنه متعلق بالإرادة والمشيئة، وأنه بحرف وصوت، وصوت الرب ليس كصوت الآخرين المخلوقين أبداً.

وكذلك من عقيدة أهل السنة والجماعة في القرآن: أنه كلام الله، منزل، ودل على تنزيله: تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [فصلت:2] وكذلك تنزيل الكثير من القرآن: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185].. إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1] كذلك نقول: إنه غير مخلوق والدليل على ذلك قول الله: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف:54] فدل على أن الخلق غير الأمر، والقرآن من الأمر وليس من الخلق، والله يقول: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف:54] ففرق الله بين الخلق وبين الأمر، فلو كان القرآن مخلوقاً لدخل في الخلق، فدل على أن الخلق غير الأمر، والقرآن غير مخلوق.

القول الأول: قول الاتحادية : وهم الذين يقولون: إن الكون كله متحد في ذاته، ويقولون: إن كل كلام في الكون كله فهو لله تعالى، وهذا الكلام باطل لا شك في بطلانه، وبناءً عليه يكون الكفر والسحر والشتم واللعن والهجاء وكذلك الفحش كله كلام لله تعالى، ويقول شاعرهم:

وكل كلام في الوجود كلامه     سواء علينا نثره ونظامه

أي: كل كلام في هذا الوجود فهو كلام الله تعالى، وهذا قول باطل، وهو مبني على أصلهم الذي أصلوه، وهو أن عين هذا الوجود واحد، فيقولون:

العبد رب والرب عبد     يا ليت شعري من المكلف

إن قلت عبد فذاك رب     أو قلت رب أنَّى يكلف

أي: لا فرق بينهما إطلاقاً، وهذا كلام لا شك في بطلانه، وقد دل الكتاب والسنة على نفي هذا، وأصل المذهب باطل، فإنهم يقولون: إن كل شيء في هذا الوجود هو رب ولا فرق فيه.

إذاً .. الكلام هو كلام الرب، وليس هناك فرق بينه وبين كلام غيره من المخلوقات.

القول الثاني: وهو مذهب الفلاسفة، ولعلنا نومئ إليه نظراً لأنه يوجد من تأثر بـابن سينا والفارابي والطوسي .. وغيرهم، هؤلاء الفلاسفة يقولون: إن الكلام هو فيض فاض على العقل الفعال وعلى نفس فاضلة زكية، وهذا مبني على قولهم الباطل، وهو: إن الإنسان يمكن أن يخرج قرآناً، وأن يكون نبياً، ولذلك يقول الفلاسفة : إن النبوة مكتسبة، يمكن أن يكتسبها كل أحد، لكن بشروط:

1- قوة التأثير.

2- قوة التصور والتخيل.

3- قوة التعبير، فإذا وجدت هذه يمكن أن يكون الإنسان نبياً، وأن يخرج للناس قرآناً أياً كان هذا الشخص، بشرط أن توجد فيه هذه الشروط وهذا الكلام لا شك في بطلانه، بل هذا هو عين الكفر، إذ أنه كيف يمكن أن تكون النبوة مكتسبة، وبناءً عليه يقولون: إن قضية الأنبياء والرسل والملائكة وغيرهم هذه تخيلات يتخيلها النبي فقط، ولا يوجد ملك يكلمه، أو يوجد كلام صدر إليه، وإنما هو من عقله الفعال.

ومن الأمثلة على قضية التأثير العقلي الفعال: أنك قد تسير في الطريق بسيارتك، وتنظر إلى أمامك وإذا بشخص يحرك يديه ويتكلم، تمر ولا أحد عنده يتكلم معه، وعنده مشكلة معينة أو موقف معين، فيفرغ ما في نفسه بالكلام وبالصوت، ويحرك يديه تحريكاً عنيفاً، ويتحدث، وتشعر أنه تكلم، وهو الآن ليس عنده أحد، لكن أصبح عقله يتفاعل مع الحدث الذي حدث، فهم يقولون: محمد عنده هذا التصور وأخرج للناس قرآناً، ويمكن أن يكون لكل أحد، ولا شك أن هذا هو الكفر وهذا باطل.

القول الثالث: وهو قول الجهمية، ويدخل فيهم جزء من المعتزلة، وإن كان الجهمية لهم مذهب فريد، وهم يقولون: إن كلام الله تعالى مخلوق، وهو من بعض مخلوقات الله تعالى، ولم يقم به سبحانه وتعالى كلام أبداً، وإنما يعتبر خلقاً من مخلوقات الله تعالى، وهذا الكلام لا شك في بطلانه، ولهم أدلة على هذا يمكن أن نومئ إلى دليل واحد ونبين بطلان مذهبهم من خلاله فيما بعد.

القول الرابع: وهو قول من يزعمون أن كلام الله سبحانه وتعالى عرضاً وليس حقيقياً، والأعراض هي التي تذهب وتزول، وذكروا أنه مخلوق، وأحالوا أن يوجد في مكانين في وقت واحد، وزعموا أن المكان الذي خلق سبحانه وتعالى كلامه فيه محال انتقاله منه، أي: أن الله خلقه في مكان معين، ويستحيل أن ينتقل إلى جهة أخرى، وهذا نقل عن جعفر بن حرب، وأكثر البغداديين.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور عمر سعود العيد - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الأول) 2459 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الثامن) 2410 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الخامس) 2364 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الخامس عشر) 2220 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس السادس عشر) 2206 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الثاني عشر) 2097 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس التاسع) 2082 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الرابع) 2066 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الثامن عشر) 1999 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الثاني) 1857 استماع