هكذا علم الأنبياء


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى إخوانه من أنبياء الله ورسله الذين حملوا الرسالة وأدوها وبلغوها وجاهدوا في الله حق جهاده حتى أتاهم اليقين من ربهم، فصلوات الله تبارك وتعالى عليهم أجمعين وسلامه، وجزاهم الله تعالى عنا أفضل الجزاء وأكمله وأعظمه وأوفاه.

هذا الاسم الكريم اللامع العظيم الجميل: (الأنبياء) على مدار التاريخ كانوا يبعثون ويجاهدون ويصابرون، وكانوا منارات يهتدي بها الناس في الظلمات، وطالما تحملوا ما تحملوا، ولقوا ما لقوا، وصبروا على الأذى من أقوامهم، لا يرجون جزاءً ولا شكوراً، ولا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، كل همهم أن يعبِّدوا الناس لرب العالمين جل وعلا، كل نبيٍ منهم كان يبعث إلى قومه على حين فترة؛ فيناديهم ليلاً ونهاراً ويخاطبهم سراً وجهاراً، ويتحمل في سبيل دعوته ما يلقى من صدود وأذى وتكذيب؛ ولذلك كتب الله تعالى لهم الذكرى الحسنة في هذه الدنيا، فما من إنسان إلا ويهش لسماع ذكرهم ويفرح بحديثهم ويثني عليهم ويحبهم ويصلي ويسلم عليهم كلما ذكروا، فصلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

وما أعد الله لهم في الدار الآخرة من المنازل العليا في الدنيا والدرجات في الجنة هو فوق ما يخطر على بال المتأملين.

روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي ذر رضي الله عنه قال: {أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فجلست، فقال: يا أبا ذر هل صليت؟ قلت: لا يا رسول الله، قال: قم فصلِّ، قال: فقمت فصليت فجلست، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر تعوذ بالله من شر شياطين الجن والإنس، قال: قلت: يا رسول الله وللإنس شياطين! قال: نعم، قلت: يا رسول الله ما الصلاة؟ قال: خير موضوعٍ من شاء أقل ومن شاء أكثر، قال: قلت: يا رسول الله! فما الصوم؟ قال: فرضٌ مجزٍ وعند الله مزيد، قال: قلت يا رسول الله، فالصدقة! قال: أضعاف مضاعفة، قال: قلت يا رسول الله، ما أفضلها -أو أيهما أفضل-؟ قال: جهدٌ من مقلٍ، وسرٌ إلى فقير -جهدٌ من مقل أي: ولو كانت صدقة قليلة ولكنها هي ما يملكها الإنسان وما يستطيعه- قال: قلت يا رسول الله أي الأنبياء كان أول؟

قال: آدم عليه السلام، قلت ونبيٌ كان؟ قال: نعم، نبيٌ مكلم، قال: قلت يا رسول الله، كم المرسلون؟ قال: ثلاثمائة وبضعة عشر، جماً غفيراً- وفي بعض الطرق والروايات قال: وخمسة عشر- قال: قلت يا رسول الله! أيما أنـزل عليك أعظم؟ قال: آية الكرسي (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] } وهذا الحديث رواه النسائي في كتابه السنن الكبرى ورواه البزار وغيرهم وفيه المسعودي وهو ثقة ولكنه اختلط، وللحديث شواهد منها حديث أبي أمامة رضي الله عنه بنحوه عند الإمام أحمد وفيه علي بن زيد بن جدعان، وللحديث طرق أخرى عند ابن حبان وغيره.

مقاومة الانحراف المتأصل

هذا الجم الغفير من أنبياء الله ورسله الذين هم ثلاثمائة وبضعة عشر، كلهم رفعوا راية الإصلاح في وسط مجتمعات سيطر عليها الفساد بكل صوره وألوانه، ولم يكتفوا بمجرد صلاح أنفسهم، فلم يكن من بينهم قط واحد رضي بأن يعيش بين قومٍ ضالين منحرفين وهو مخالفٌ لهم، أبداً إلا أن يصدع بدعوة الحق والتوحيد بين أظهرهم، ولهذا كان الراجح من أقوال أهل العلم في التفريق بين النبي والرسول: هو أن النبي من جاء مجدداً لدعوة من قبله ولم يأت بشريعة جديدة، وإلا فكلهم بعثوا دعاة لأقوامهم مجددين لدين الله عز وجل مجاهدين في سبيل الله، وهم يحملون راية الإصلاح.

والإصلاح يعني: أنك سوف تقاوم وتنكر أشياء تعارف الناس عليها وألفوها وأصبحت جزءاً من موروثهم ومن تقاليدهم ومن حياتهم، ومن عاداتهم، فأنت سوف تقاومها وتحاربها وقد تكون أشياءً متأصلة في قلوبهم وأي أمرٍ آصل وأعظم في قلوب الناس من أمر العقائد.

فإذا كان الناس في مجتمعٍ ما نشأوا منذ طفولتهم وولادتهم وتربوا وترعرعوا على عبادة أصنام (طوطم) أو شجر أو حجر أو شخص أو غير ذلك، ويظنونه إلههم ويتعبدون له، فيأتي النبي يفاجئهم بهذا الأمر الذي هو مستقرٌ في قلوبهم: قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنبياء:66-67] فينكر عليهم عبادة غير الله، ويحارب هذا الشرك المتأصل المستقر في قلوبهم.

الفرق بين دعوة الرسل وصلاح بعض الصالحين غير الدعاة

تلاحظون الفرق الكبير بين الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام من المصلحين؛ وبين غيرهم ممن قد يكونون صالحين ولكنهم لم يقاوموا الفساد ولم يحاربوه، رضوا بالطريق السهل اللين الذي ليس فيه عناء ولا جهد، فمثلاً في الجاهلية كان يوجد الحنفاء الذين لا يعبدون إلا الله ولا يرتكبون المخالفات الشرعية، ولا يتعرضون للناس في شيء، فلم يكن ينالهم من الناس شيء.

على سبيل المثال زيد بن عمرو بن نفيل وقد كان موجوداً في مكة كما هو معروف في الجاهلية، وقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمر: { أن زيد بن عمرو بن نفيل لقي النبي صلى الله عليه وسلم بأسفل بلدح -وهو جبل ووادٍ بين مكة وجدة على طريق التنعيم أو غيره- فلقي النبي صلى الله عليه وسلم وكان معه زيد بن حارثة، وقد قدمت وقربت للنبي صلى الله عليه وسلم سفرة من طعامٍ فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يدنو منها فيأكل، فقال: إني لا آكل ما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله تعالى عليه، وأن زيد بن عمرو بن نفيل كان ينكر على قريش ذبائحهم، ويقول: يا معشر قريش، الشاة خلقها الله تعالى، وأنـزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض -يعني العشب- ثم أنتم تذبحونها على غير اسم الله، إنكاراً لذلك وإعظاماً له}، وكان يصرح لقريش بإنكار عباداتهم، فيقول:

هجرت اللات والعزى جميعاً     كذلك يفعل الجلد الصبور

فلا عُزّى أطيع ولا ابنتيها     ولا صنمي بني عمرو أزور

ولكن أعبد الرحمن ربي     كذلك يفعل الجلد الصبور

وكان يقف قبالة الكعبة ويستعيذ بالله تعالى ويسأله ويتحنث ويتعبد ويقول:

عذت بما عاذ به إبراهم     مستقبل الكعبة وهو قائم

يقول أنفي لك عانٍ راغم     مهما تجشمني فإني جاشم

وانظر كيف القلب المؤمن، والحي، والموحد، يخاطب الله تعالى ولا يعبد غيره، ويقول: أعوذ بك يا ربي كما عاذ بك إبراهيم عليه الصلاة والسلام، حين وقف مستقبل القبلة يدعوك، ويسألك ويستعيذ بك، ويقول: أنفي لك راغمٌ في التراب، ذليلٌ بين يديك، ومهما تحملني فأنا أتحمله في سبيلك.

وكان يقول: يا معشر قريش إياكم والربا فإنه يورث الفقر، وكان يأتي إلى الرجل وعنده جارية يريد أن يئدها ويقتلها من بناته، ويقول له: لا تقتلها، أي ذنبٍ فعلت حتى تقتلها؟ إذا كان يشق عليك أن تطعمها وتكسوها فهاتها لي فأنا أطعمها وأكسوها، فيأخذها منه ويطعمها ويكسوها، فإذا كبرت قال لأبيها: إن شئت أخذتها وإن شئت أبقيتها عندي، ولذلك تمدّح ََالشاعر بأنه ينتسب إلى مثل هذا الرجل فقال:

ومنا الذي منع الوائدات     وأحياء الوئيد فلم يوءد

لكن زيد بن عمرو بن نفيل ومجموعة من الحنفاء في مكة لم يكن لهم أي تأثير، لماذا؟ لأنهم كانوا أشبه باليائسين من الإصلاح، ولأنهم يرون أن العالم كله يعج بألوان الشرك والوثنية والانحراف، والقاذورات الأخلاقية، والنظم وغيرها من الأشياء؛ التي يرون أن لا طاقة لهم ولا قبل لهم بها، فكانوا يرضون بصلاح أنفسهم فقط، ويدعون ما وراء ذلك، حتى وإن بدر منهم كلمات أو توجيهات أو مشاركات فهي أشياء جزئية ومحدودة ومعدودة وفي نطاق معين، أما أن يكون عندهم خطة للإصلاح الكامل في كل شئون الحياة، فهذا ما لم يكونوا يستطيعونه، ولهذا بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل، وانطماس من السبل، فهدى به من الضلالة، وبصر به من العمى، وأيده بهؤلاء الصحاب الكرام، الذين جاهدوا إلى جواره عليه الصلاة والسلام، ورضي الله عنهم وأرضاهم.

تنكر قريش لمألوفاتها من أجل الدفاع عن عقيدتها

فأنت تجد الفرق -مثلاً- بين زيد بن عمرو بن نفيل هذا الذي لم ينقل أنه لقي من قريش شيئاً، وقد يسخرون منه، وقد يردون دعوته، لكن وقف هذا الأمر عند هذا الحد، ولما بعث الرسول عليه الصلاة والسلام؛ ففي البداية لم يكن يدعو إلا إلى التوحيد: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، قولوا: لا إله إلا الله، فماذا لقي صلى الله عليه وسلم؟ ما تركوا أسلوباً من أساليب الحرب إلا سلكوه، وذموه، وخالفوه حتى فيما كانت قريش تتعاهده، وما كنت العرب تفتخر به.

وعلى سبيل المثال: كان العرب يفتخرون بالكرم -إكرام الضيف- تفتخر به حتى في جاهليتها، وهناك أجواد كرماء معروفون في الجاهلية، منهم -مثلاً- عبد الله بن جدعان، كان معروفاً بـمكة وكان كريماً يقري الضيفان حتى إنه يبعث أناساً في مشارقمكة ومغاربها ينادون من أراد الطعام فليأت إلى دار عبد الله بن جدعان، ولذلك مدحه أمية بن أبي الصلت فقال:

لـه داعٍ بـمكة مشمعـلٌ     وآخر فوق دارتها ينادي

إلى قطع من الشيزى ملاء     لباب البر يُلبَك بالشهاد

أي أن له دعاة ينادون الناس إلى قطع من ألوان الخشب وغيرها من الأواني التي فيها العسل وألوان الأطعمة الجميلة والبر وغير ذلك، فلما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم وآمن به من آمن، حاربوهم حتى حاصروهم في شعب أبي طالب ومنعوا عنهم الطعام والشراب، حتى إن الواحد منهم يذهب من أجل أن يقضي حاجته فيجد تحته شيئاً فينظر فإذا هي قطعة من القد -جلد يابس- فيأتي فيطحنه ويسفه ويشرب عليه الماء فيتقوى به أياماً، وحتى كانت قريش تسمع تضاغيهم وتضاغي أطفالهم، وتسمع صياحهم فلا تلين لها قناة، ولا تتحرك في قلوبها دوافع الرحمة.

بل أشد من ذلك، لما ضايقوا الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين بـمكة، فروا بدينهم إلى الحبشة، فلم تقل قريش: هؤلاء قومٌ خرجوا منا فدعوهم وما ذهبوا إليه، لا،بل صاروا يطاردونهم ويلاحقونهم مثل ما تعرفون الآن، فالآن يوجد في العالم جهاز يسمونه جهاز الإنتربول أو البوليس الدولي، هذا مهمته ملاحقة من يسميهم العالم بالمجرمين في أي مكان، لا تحده الحدود ولا القيود ولا السدود.

فهكذا قريش لما ذهب الصحابة إلى الحبشة، لم ترض بمقامهم هناك، بل عزمت أن تبعث إلى الحبشة من يحاول أن يوغر صدر رئيسها وملكها عليهم ليخرجهم من أرضه، فبعثوا عبد الله بن أمية وعمرو بن العاص وغيرهم إلى النجاشي ليقولوا له: إن هؤلاء القوم فيهم وفيهم، وقومهم أبصر بهم فردهم إليهم.

انظر إلى هذه الحرب، وانظر كيف تنكرت قريش لمألوفاتها الجاهلية من إكرام الضيوف، والحرص عليهم. وأين قصائدهم وأشعارهم ومعلقاتهم؟! كل المعلقات السبع وغيرها مليئة بالمدح بالكرم والجود والسخاء، كل ذلك ضاع لما صارت المعركة بين التوحيد والشرك، هذا كله لم يلقه زيد بن عمرو بن نفيل، ولا أمية بن أبي الصلت ولا غيرهم ممن كانوا حنفاء في الجاهلية، لم يلقوا من قريش شيئاً يذكر، وكانت تحترمهم في أحيان كثيرة، لماذا؟ لأنهم لم يعلنوها دعوة صريحة مجلجلة في نوادي قريش وأحيائها، ولم يجمعوا الناس على كلمة التوحيد، ولم يقدموا للناس خطة إصلاحية تبدأ في الحياة من أولها إلى آخرها، كلا؛ وإنما كانوا يعايشون الوضع الفاسد المنحرف الذي كان في الجاهلية، وربما أنكروا بألسنتهم في حدودٍ ضيقة.

هذا الجم الغفير من أنبياء الله ورسله الذين هم ثلاثمائة وبضعة عشر، كلهم رفعوا راية الإصلاح في وسط مجتمعات سيطر عليها الفساد بكل صوره وألوانه، ولم يكتفوا بمجرد صلاح أنفسهم، فلم يكن من بينهم قط واحد رضي بأن يعيش بين قومٍ ضالين منحرفين وهو مخالفٌ لهم، أبداً إلا أن يصدع بدعوة الحق والتوحيد بين أظهرهم، ولهذا كان الراجح من أقوال أهل العلم في التفريق بين النبي والرسول: هو أن النبي من جاء مجدداً لدعوة من قبله ولم يأت بشريعة جديدة، وإلا فكلهم بعثوا دعاة لأقوامهم مجددين لدين الله عز وجل مجاهدين في سبيل الله، وهم يحملون راية الإصلاح.

والإصلاح يعني: أنك سوف تقاوم وتنكر أشياء تعارف الناس عليها وألفوها وأصبحت جزءاً من موروثهم ومن تقاليدهم ومن حياتهم، ومن عاداتهم، فأنت سوف تقاومها وتحاربها وقد تكون أشياءً متأصلة في قلوبهم وأي أمرٍ آصل وأعظم في قلوب الناس من أمر العقائد.

فإذا كان الناس في مجتمعٍ ما نشأوا منذ طفولتهم وولادتهم وتربوا وترعرعوا على عبادة أصنام (طوطم) أو شجر أو حجر أو شخص أو غير ذلك، ويظنونه إلههم ويتعبدون له، فيأتي النبي يفاجئهم بهذا الأمر الذي هو مستقرٌ في قلوبهم: قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنبياء:66-67] فينكر عليهم عبادة غير الله، ويحارب هذا الشرك المتأصل المستقر في قلوبهم.

تلاحظون الفرق الكبير بين الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام من المصلحين؛ وبين غيرهم ممن قد يكونون صالحين ولكنهم لم يقاوموا الفساد ولم يحاربوه، رضوا بالطريق السهل اللين الذي ليس فيه عناء ولا جهد، فمثلاً في الجاهلية كان يوجد الحنفاء الذين لا يعبدون إلا الله ولا يرتكبون المخالفات الشرعية، ولا يتعرضون للناس في شيء، فلم يكن ينالهم من الناس شيء.

على سبيل المثال زيد بن عمرو بن نفيل وقد كان موجوداً في مكة كما هو معروف في الجاهلية، وقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمر: { أن زيد بن عمرو بن نفيل لقي النبي صلى الله عليه وسلم بأسفل بلدح -وهو جبل ووادٍ بين مكة وجدة على طريق التنعيم أو غيره- فلقي النبي صلى الله عليه وسلم وكان معه زيد بن حارثة، وقد قدمت وقربت للنبي صلى الله عليه وسلم سفرة من طعامٍ فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يدنو منها فيأكل، فقال: إني لا آكل ما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله تعالى عليه، وأن زيد بن عمرو بن نفيل كان ينكر على قريش ذبائحهم، ويقول: يا معشر قريش، الشاة خلقها الله تعالى، وأنـزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض -يعني العشب- ثم أنتم تذبحونها على غير اسم الله، إنكاراً لذلك وإعظاماً له}، وكان يصرح لقريش بإنكار عباداتهم، فيقول:

هجرت اللات والعزى جميعاً     كذلك يفعل الجلد الصبور

فلا عُزّى أطيع ولا ابنتيها     ولا صنمي بني عمرو أزور

ولكن أعبد الرحمن ربي     كذلك يفعل الجلد الصبور

وكان يقف قبالة الكعبة ويستعيذ بالله تعالى ويسأله ويتحنث ويتعبد ويقول:

عذت بما عاذ به إبراهم     مستقبل الكعبة وهو قائم

يقول أنفي لك عانٍ راغم     مهما تجشمني فإني جاشم

وانظر كيف القلب المؤمن، والحي، والموحد، يخاطب الله تعالى ولا يعبد غيره، ويقول: أعوذ بك يا ربي كما عاذ بك إبراهيم عليه الصلاة والسلام، حين وقف مستقبل القبلة يدعوك، ويسألك ويستعيذ بك، ويقول: أنفي لك راغمٌ في التراب، ذليلٌ بين يديك، ومهما تحملني فأنا أتحمله في سبيلك.

وكان يقول: يا معشر قريش إياكم والربا فإنه يورث الفقر، وكان يأتي إلى الرجل وعنده جارية يريد أن يئدها ويقتلها من بناته، ويقول له: لا تقتلها، أي ذنبٍ فعلت حتى تقتلها؟ إذا كان يشق عليك أن تطعمها وتكسوها فهاتها لي فأنا أطعمها وأكسوها، فيأخذها منه ويطعمها ويكسوها، فإذا كبرت قال لأبيها: إن شئت أخذتها وإن شئت أبقيتها عندي، ولذلك تمدّح ََالشاعر بأنه ينتسب إلى مثل هذا الرجل فقال:

ومنا الذي منع الوائدات     وأحياء الوئيد فلم يوءد

لكن زيد بن عمرو بن نفيل ومجموعة من الحنفاء في مكة لم يكن لهم أي تأثير، لماذا؟ لأنهم كانوا أشبه باليائسين من الإصلاح، ولأنهم يرون أن العالم كله يعج بألوان الشرك والوثنية والانحراف، والقاذورات الأخلاقية، والنظم وغيرها من الأشياء؛ التي يرون أن لا طاقة لهم ولا قبل لهم بها، فكانوا يرضون بصلاح أنفسهم فقط، ويدعون ما وراء ذلك، حتى وإن بدر منهم كلمات أو توجيهات أو مشاركات فهي أشياء جزئية ومحدودة ومعدودة وفي نطاق معين، أما أن يكون عندهم خطة للإصلاح الكامل في كل شئون الحياة، فهذا ما لم يكونوا يستطيعونه، ولهذا بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل، وانطماس من السبل، فهدى به من الضلالة، وبصر به من العمى، وأيده بهؤلاء الصحاب الكرام، الذين جاهدوا إلى جواره عليه الصلاة والسلام، ورضي الله عنهم وأرضاهم.

فأنت تجد الفرق -مثلاً- بين زيد بن عمرو بن نفيل هذا الذي لم ينقل أنه لقي من قريش شيئاً، وقد يسخرون منه، وقد يردون دعوته، لكن وقف هذا الأمر عند هذا الحد، ولما بعث الرسول عليه الصلاة والسلام؛ ففي البداية لم يكن يدعو إلا إلى التوحيد: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، قولوا: لا إله إلا الله، فماذا لقي صلى الله عليه وسلم؟ ما تركوا أسلوباً من أساليب الحرب إلا سلكوه، وذموه، وخالفوه حتى فيما كانت قريش تتعاهده، وما كنت العرب تفتخر به.

وعلى سبيل المثال: كان العرب يفتخرون بالكرم -إكرام الضيف- تفتخر به حتى في جاهليتها، وهناك أجواد كرماء معروفون في الجاهلية، منهم -مثلاً- عبد الله بن جدعان، كان معروفاً بـمكة وكان كريماً يقري الضيفان حتى إنه يبعث أناساً في مشارقمكة ومغاربها ينادون من أراد الطعام فليأت إلى دار عبد الله بن جدعان، ولذلك مدحه أمية بن أبي الصلت فقال:

لـه داعٍ بـمكة مشمعـلٌ     وآخر فوق دارتها ينادي

إلى قطع من الشيزى ملاء     لباب البر يُلبَك بالشهاد

أي أن له دعاة ينادون الناس إلى قطع من ألوان الخشب وغيرها من الأواني التي فيها العسل وألوان الأطعمة الجميلة والبر وغير ذلك، فلما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم وآمن به من آمن، حاربوهم حتى حاصروهم في شعب أبي طالب ومنعوا عنهم الطعام والشراب، حتى إن الواحد منهم يذهب من أجل أن يقضي حاجته فيجد تحته شيئاً فينظر فإذا هي قطعة من القد -جلد يابس- فيأتي فيطحنه ويسفه ويشرب عليه الماء فيتقوى به أياماً، وحتى كانت قريش تسمع تضاغيهم وتضاغي أطفالهم، وتسمع صياحهم فلا تلين لها قناة، ولا تتحرك في قلوبها دوافع الرحمة.

بل أشد من ذلك، لما ضايقوا الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين بـمكة، فروا بدينهم إلى الحبشة، فلم تقل قريش: هؤلاء قومٌ خرجوا منا فدعوهم وما ذهبوا إليه، لا،بل صاروا يطاردونهم ويلاحقونهم مثل ما تعرفون الآن، فالآن يوجد في العالم جهاز يسمونه جهاز الإنتربول أو البوليس الدولي، هذا مهمته ملاحقة من يسميهم العالم بالمجرمين في أي مكان، لا تحده الحدود ولا القيود ولا السدود.

فهكذا قريش لما ذهب الصحابة إلى الحبشة، لم ترض بمقامهم هناك، بل عزمت أن تبعث إلى الحبشة من يحاول أن يوغر صدر رئيسها وملكها عليهم ليخرجهم من أرضه، فبعثوا عبد الله بن أمية وعمرو بن العاص وغيرهم إلى النجاشي ليقولوا له: إن هؤلاء القوم فيهم وفيهم، وقومهم أبصر بهم فردهم إليهم.

انظر إلى هذه الحرب، وانظر كيف تنكرت قريش لمألوفاتها الجاهلية من إكرام الضيوف، والحرص عليهم. وأين قصائدهم وأشعارهم ومعلقاتهم؟! كل المعلقات السبع وغيرها مليئة بالمدح بالكرم والجود والسخاء، كل ذلك ضاع لما صارت المعركة بين التوحيد والشرك، هذا كله لم يلقه زيد بن عمرو بن نفيل، ولا أمية بن أبي الصلت ولا غيرهم ممن كانوا حنفاء في الجاهلية، لم يلقوا من قريش شيئاً يذكر، وكانت تحترمهم في أحيان كثيرة، لماذا؟ لأنهم لم يعلنوها دعوة صريحة مجلجلة في نوادي قريش وأحيائها، ولم يجمعوا الناس على كلمة التوحيد، ولم يقدموا للناس خطة إصلاحية تبدأ في الحياة من أولها إلى آخرها، كلا؛ وإنما كانوا يعايشون الوضع الفاسد المنحرف الذي كان في الجاهلية، وربما أنكروا بألسنتهم في حدودٍ ضيقة.

قد واجه الأنبياء عليهم صلوات ربهم وسلامه، حملات إعلامية شرسة تستهدف تشكيك الناس في نياتهم ومقاصدهم ومآربهم، وتشكيك الناس في مناهجهم ودعواتهم، وتشكيك الناس في وسائلهم، وتشكيك الناس في مستقبلهم.

تشكيك الناس في مقاصد الرسل

قال الله تعالى: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ [ص:6] يعني أن قريشاً يوصي بعضهم بعضاً بالصبر على دينهم دين الشرك، لماذا؟ قالوا: لأن هذا شيءٌ يراد أي: أن محمداً يريد أن يكون رئيساً وسيداً وملكاً وحاكماً عليكم، ويريد المقاصد الدنيوية، وليس قصده وجه الله، ولا قصده الدعوة إلى الله، والنجاة في الدار الآخرة، وإنما قصده أن يصل إلى الحكم.

وانظر كيف يغالطون أنفسهم، لأنهم جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن كنت تريد ملكاً ملكناك، وإن كنت تريد مالاً أعطيناك حتى تكون أغنانا، وإن كنت تريد الزواج اخترنا لك أجمل فتاة في مكة وزوجناك، فلما انتهوا قرأ عليهم شيئاً من القرآن، ومع ذلك لما رأوا صبره وإصراره قالوا: إن هذا لشيء يراد.

ومن قبل قال فرعون وقومه عن موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام: قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ [يونس:78] فـفرعون من أجل أن يضمن نفوس الجماهير أن لا تميل مع موسى ولا تتأثر بدعوته، حاول أن يضع حاجزاً، ما هو هذا الحاجز؟ الحاجز أن فرعون كان يقول لموسى ولاحظ كيف التناقض عند فرعون فهو رجل يقول للناس مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24] ويبتز الناس، ويأخذ أموالهم، ويأخذ خيراتهم، ويفرض الضرائب عليهم، ويأخذ من يريد من بناتهم، ويستبد حتى يريدهم أن يعبدوه، ومع ذلك لما دعا موسى ماذا قال؟ -قال: أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ [يونس:78] فيقول للناس: هذان موسى وهارون يريدان أن تكون لهما الكبرياء في الأرض، وأنت ماذا تفعل الآن؟!

لقد مارست ألواناً من فرض الذل على الناس! تقتل أبناءهم وتستحيي نساءهم من أجل الخدمة؛ ومن أجل أن تتمتع بهن متاعاً حيوانياً بهيمياً، ولما قام موسى وهارون يدعوان إلى الله تعالى، ويدعوان الناس إلى الخروج من طغيانك ومن تسلطك ومن بطشك، تقول: وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين!! وليس الغريب أمر فرعون فإن فرعون طاغية أحس بالخطر فأصبح يضرب يمنة ويسرة بلا عقل ولا تفكير، ولكن الغريب أمر تلك الجماهير المضللة التي تصدقه وتطيعه وتتابعه فيما يقول، هؤلاء الجنود الذين قاوموا موسى عليه السلام وحاربوه ومشوا وراءه حتى وصلوا إلى البحر، هؤلاء الجنود أين عقولهم؟! أين تفكيرهم؟! أين إدراكهم؟! أين إنسانيتهم؟! فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ [الزخرف:54].

المهم أن فرعون ومن بعده من أعداء الرسل عليهم الصلاة والسلام كانوا يشككون الناس في نيات الرسل، وفي مقاصدهم، وأنهم لا يقصدون نجاة الناس؛ وإنما يقصدون التسلط على الناس وأن تكون لهم الكبرياء، وأن يصلوا إلى الحكم، هذا الكلام قيل حرفياً عن الرسل عليهم الصلاة والسلام، وذكره الله تعالى في كتابه حتى يعتبر به المعتبرون: مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ [فصلت:43] هذه الكلمات معادة، وهذا شريطٌ مكرر: أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [الذاريات:53].

تشكيك الناس في مناهج الرسل

شككوا الناس في مناهج الرسل، وفي دعوتهم، وهذا كثير: إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأعراف:60] إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ [الأعراف:66] إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ [المطففين:32] قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [الذاريات:52] إلى غير ذلك، حتى قال قوم شعيب لشعيب: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود:87] فهذه سخرية به أن دعوتك ليست مقبولة ولا صادقة، وأنك تتكلم من ضلالة قد وقعت في عقلك، أو من سفاهة تفكيرك، وأن كلامك مردود غير مقبول، فشككوا في دعوتهم وفي مناهجهم وأنهم لا يستطيعون الإصلاح.

الذين جاءوا يدعون الناس إلى التوحيد، ويدعونهم مع التوحيد إلى إصلاح حياتهم على وفق شريعة الله تعالى -كان خصومهم يقولون للناس: إن هؤلاء الرسل لا يستطيعون الإصلاح ولا يملكون الخطة الواضحة للإصلاح، وإنهم ينطلقون من بساطة في التفكير، ومن ضعف في العقل ولذلك لا تتبعوهم ولا تطيعوهم.

تشكيك الناس في وسائل الرسل

شككوا الناس في وسائل الرسل التي يدعون الناس بها.

فمثلاً: قالوا لنوح عليه الصلاة والسلام: قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا [هود:32].

فاعتبروا الدعوة نوعاً من الجدال، وقولهم: فأكثرت جدالنا، يوحي بتبرمهم وضيقهم، وهذا لا يقوله إلا إنسان انقطعت عنه الحجة؛ ولم يعد يملك أسلوباً للرد، ولهذا قالوا: أطلت علينا في الكلام، فإذا كان عندك شيء فهاته سواءً أكان عذاباً أو عقوبة أو زلزلة أو غير ذلك، ائتنا بما تعدنا، أما مسألة الجدال والدعوة فما لنا بها من حاجة.

ومرة أخرى يقولون لنبيٍ آخر: قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ [هود:91] فالله تعالى كان يبعث الرسل في علية أقوامهم: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم:4] فكان الرسل الذين يبعثهم الله عز وجل أهل فصاحة وبلاغة وبيان، ويعطيهم الله قوة في الحجة، ويمنحهم من ذلك ما يقيم به الحجة على أممهم وأقوامهم، كما بعث محمداً صلى الله عليه وسلم.

ولهذا لما بعث الله موسى عليه الصلاة والسلام، قال موسى داعياً ومنادياً ربه عز وجل: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه:27-32] إلى قول الله عز وجل: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه:36] فحل الله عقدة لسانه، فكان بيناً فصيحاً بليغاً، وآزره، وأعانه بأخيه هارون عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك كان فرعون يقول: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف:52] فيعيره بحبسة كانت في لسانه قبل النبوة، مسألة اصطياد -كما يقال- في الماء العكر، فهو يقول: لا يكاد يبين أي: لا توجد عنده فصاحة ولا عنده بلاغة، وهنا يقولون لشعيب: يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ [هود:91] هم يفقهون، ويعرفون، لكن قلوبهم في صدود وفي عمى؛ لا يريدون أصلاً أن يفهموا فيتعمدون الصدود عن الحق والإعراض عنه بكل وسيلة.

ولذلك تجد أن الإنسان الذي يتابع اليوم ما يكتبه أعداء الرسل عليهم الصلاة والسلام، أنهم يقعون في تناقضات ليس لها أول ولا آخر، حتى يسخر منهم الإنسان العادي، وربما كانوا -أحياناً- أذكياء، وربما كانوا عقلاء، وربما كانوا عباقرة، ولكن وقوعهم في هذا التناقض؛ لأنهم يحملون الباطل وسبحان الله!! الأرض والسماوات قامت بالحق، فما من إنسان يدافع عن الباطل إلا ويفضحه الله عز وجل، وما من إنسان يدافع عن الحق إلا ويجعل الله تعالى السداد والصواب على لسانه.

وكذلك حين جاء النبي صلى الله عليه وسلم وبعث في جزيرة العرب، كان في ذروة الفصاحة والبلاغة ومع ذلك لم يستطيعوا أن يقولوا مثل ما قيل من قبل: مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ [هود:91]؛ لأن كلامه مما لا يستطيعون أن يحولوا بين الناس وبينه، ولهذا قالوا: ساحر يفرق بين المرء وزوجه، ويفرق بين المرء وأخيه، ويفرق بين المرء وابنه، وما يزالون بالناس حتى يحاولوا ألا يسمعوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إنهم جاءوا إلى الطفيل، وما زالوا به -وكان رجلاً عاقلاً لبيباً- حتى وضع القطن في أذنيه؛ حتى لا يسمع كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنهم يدركون أن للحق سلطاناً على القلوب، ولذلك يفرضون - وهو ما يسمى بلغة العصر الحاضر- التعتيم الإعلامي على الدعوة، ومحاصرتها، وفرض القيود عليها، وحربها؛ لأنهم يعرفون أن كلمة الحق لها سلطان على القلوب، ولها رواج في النفوس، ولها رنين في الآذان، وما أن يسمع الناس بها حتى تنجلي عنهم الغشاوة وينقشع عنهم الظلام، ولهذا يحاولون أن يحولوا بين الناس دائماً وأبداً وبين كلمة الحق بكافة الوسائل.

تشكيك الناس في مستقبل الرسل

أما تشكيكهم في مستقبل الرسل عليهم الصلاة والسلام فذلك مثل قول فرعون عن موسى ومن معه: إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ [الشعراء:54].

انظر كيف التعبير: شرذمة قليلون وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ [الشعراء:55-56] فكان فرعون يظن -أو هكذا يريد أن يصور للناس المخدوعين بخطبه الرنانة- أن موسى ومن معه مجرد حفنة من الناس المشاغبين، وأن أمرهم سوف ينتهي بمجرد نـزول قوات الأمن إلى الشوارع، واستخدام القوة ضدهم؛ بذلك سوف ينتهي أمرهم وينحسم، ولهذا قال: وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ [الشعراء:55] أسخطونا وأزعجونا وآذونا، ونحن سوف نجعل حداً ونضع حداً لهذا الأمر: وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ [الشعراء:56] لا تظنوا أننا غافلون عنهم فعندنا إمكانيات، وعندنا أجهزة وعندنا قوة، وعندنا وسائل كثيرة، فلا تظنوا أن وسائل الأمن، والمباحث، والاستخبارات العالمية، لا تظنوا أنها وليدة الساعة؛ بل هي موجودة منذ العصر الأول، وما قول فرعون: وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ [الشعراء:56] إلا نوعٌ من الإشارة والتهديد والإرهاب بالقوة التي يظن أنها سوف تغني عنه شيئاً أو تنفعه أو تقاوم دعوة الله عز وجل.

ولم يكن فرعون يدري أن المصير الذي ينتظره هو أن يصبح جثة هامدة تلعب بها الأمواج، ثم يلقيه البحر إلى الساحل، هذا إلهكم الذي كنتم تعبدون، وهذا فرعون الذي ملأ الدنيا صراخاً وضجيجاً وتهديداً ووعيداً هاهو جثة هامدة ألقاه الموج في الساحل والله سبحانه وتعالى يقول: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [يونس:92].

هذا مصير المستكبرين، هذا مصير الطغاة، هذا مصير أعداء الرسل، أما موسى ومن معه فإن الله تعالى ما زال ينقلهم من نصر إلى نصر حتى كتب الله تعالى لموسى عليه الصلاة والسلام، ما هو معروفٌ في التاريخ، هذا نموذج من تشكيك الطغاة بمستقبل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

نصر الله تعالى لأنبيائه

ومثله كلام آزر لابنه إبراهيم الذي كان يقول له: قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً [مريم:46] اتركني، دعني وما أنا فيه، ويهدده بالرجم إذا لم يتوقف عن الدعوة، الرجم! أين عواطف الأبوة؟! أين حنان الأبوة؟! كل ذلك ضاع لما صارت القضية قضية الإيمان والكفر، وقضية التوحيد والشرك، فهاهو آزر مع أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان يخاطبه بأرق وألطف العبارات: يا أبت يا أبت: يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ [مريم:45].

فالمسألة لديه مسألة خوف على والده، ومسألة شفقة وحرص على حمايته من عذاب الله، ومع ذلك يواجه هذا كله بقوله:لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً والملأ من خلف آزر ومن أمامه، يقول بعضهم لبعض ويتواصون بإبراهيم عليه الصلاة والسلام: قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ [الأنبياء:68] ولم يعلموا أن الله تعالى قال وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ [الأنبياء:70]: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ [النمل:51] أما إبراهيم عليه الصلاة والسلام فنجى.

وما زال الحنفاء إلى قيام الساعة يعتبرونه إماماً وقدوةً لهم عليهم الصلاة والسلام، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو خاتم الرسل كان دعوة إبراهيم، كما قال صلى الله عليه وسلم: {أنا دعوة أبي إبراهيم} وجعل الله له لسان صدق في الآخرين؛ حتى المسلم في صلاته يقول: {اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم} وتجد المسلم وهو يحج يصلي خلف مقام إبراهيم ركعتين؛ كما أمر الله سبحانه وتعالى وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً [البقرة:125] وكما فعله النبي صلى الله عليه وسلم فجعل له الله لسان صدق في الآخرين، ونجاه الله تعالى من كيدهم ومكرهم، أما في الآخرة فمعلوم أن العاقبة للمتقين والعاقبة للتقوى، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، في حديث سمرة الطويل رؤيته لإبراهيم عليه الصلاة والسلام في الجنة ومن حوله من أطفال المؤمنين.

قال الله تعالى: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ [ص:6] يعني أن قريشاً يوصي بعضهم بعضاً بالصبر على دينهم دين الشرك، لماذا؟ قالوا: لأن هذا شيءٌ يراد أي: أن محمداً يريد أن يكون رئيساً وسيداً وملكاً وحاكماً عليكم، ويريد المقاصد الدنيوية، وليس قصده وجه الله، ولا قصده الدعوة إلى الله، والنجاة في الدار الآخرة، وإنما قصده أن يصل إلى الحكم.

وانظر كيف يغالطون أنفسهم، لأنهم جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن كنت تريد ملكاً ملكناك، وإن كنت تريد مالاً أعطيناك حتى تكون أغنانا، وإن كنت تريد الزواج اخترنا لك أجمل فتاة في مكة وزوجناك، فلما انتهوا قرأ عليهم شيئاً من القرآن، ومع ذلك لما رأوا صبره وإصراره قالوا: إن هذا لشيء يراد.

ومن قبل قال فرعون وقومه عن موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام: قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ [يونس:78] فـفرعون من أجل أن يضمن نفوس الجماهير أن لا تميل مع موسى ولا تتأثر بدعوته، حاول أن يضع حاجزاً، ما هو هذا الحاجز؟ الحاجز أن فرعون كان يقول لموسى ولاحظ كيف التناقض عند فرعون فهو رجل يقول للناس مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24] ويبتز الناس، ويأخذ أموالهم، ويأخذ خيراتهم، ويفرض الضرائب عليهم، ويأخذ من يريد من بناتهم، ويستبد حتى يريدهم أن يعبدوه، ومع ذلك لما دعا موسى ماذا قال؟ -قال: أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ [يونس:78] فيقول للناس: هذان موسى وهارون يريدان أن تكون لهما الكبرياء في الأرض، وأنت ماذا تفعل الآن؟!

لقد مارست ألواناً من فرض الذل على الناس! تقتل أبناءهم وتستحيي نساءهم من أجل الخدمة؛ ومن أجل أن تتمتع بهن متاعاً حيوانياً بهيمياً، ولما قام موسى وهارون يدعوان إلى الله تعالى، ويدعوان الناس إلى الخروج من طغيانك ومن تسلطك ومن بطشك، تقول: وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين!! وليس الغريب أمر فرعون فإن فرعون طاغية أحس بالخطر فأصبح يضرب يمنة ويسرة بلا عقل ولا تفكير، ولكن الغريب أمر تلك الجماهير المضللة التي تصدقه وتطيعه وتتابعه فيما يقول، هؤلاء الجنود الذين قاوموا موسى عليه السلام وحاربوه ومشوا وراءه حتى وصلوا إلى البحر، هؤلاء الجنود أين عقولهم؟! أين تفكيرهم؟! أين إدراكهم؟! أين إنسانيتهم؟! فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ [الزخرف:54].

المهم أن فرعون ومن بعده من أعداء الرسل عليهم الصلاة والسلام كانوا يشككون الناس في نيات الرسل، وفي مقاصدهم، وأنهم لا يقصدون نجاة الناس؛ وإنما يقصدون التسلط على الناس وأن تكون لهم الكبرياء، وأن يصلوا إلى الحكم، هذا الكلام قيل حرفياً عن الرسل عليهم الصلاة والسلام، وذكره الله تعالى في كتابه حتى يعتبر به المعتبرون: مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ [فصلت:43] هذه الكلمات معادة، وهذا شريطٌ مكرر: أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [الذاريات:53].

شككوا الناس في مناهج الرسل، وفي دعوتهم، وهذا كثير: إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأعراف:60] إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ [الأعراف:66] إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ [المطففين:32] قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [الذاريات:52] إلى غير ذلك، حتى قال قوم شعيب لشعيب: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود:87] فهذه سخرية به أن دعوتك ليست مقبولة ولا صادقة، وأنك تتكلم من ضلالة قد وقعت في عقلك، أو من سفاهة تفكيرك، وأن كلامك مردود غير مقبول، فشككوا في دعوتهم وفي مناهجهم وأنهم لا يستطيعون الإصلاح.

الذين جاءوا يدعون الناس إلى التوحيد، ويدعونهم مع التوحيد إلى إصلاح حياتهم على وفق شريعة الله تعالى -كان خصومهم يقولون للناس: إن هؤلاء الرسل لا يستطيعون الإصلاح ولا يملكون الخطة الواضحة للإصلاح، وإنهم ينطلقون من بساطة في التفكير، ومن ضعف في العقل ولذلك لا تتبعوهم ولا تطيعوهم.