من وحي الروضة النبوية
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
من وحي الروضة النبويةطهَّر الله الروضةَ النبويَّةَ من اللغو، فلا تكاد تسمع في رِحابها صوتَ لاغٍ، شدَّت لسانَه فتنُ الدنيا فانصاع لها، وانساب يحدو فيها مواكب الآمال.
ولا تكاد ترى غيرَ السابحين في رياض العبادات، يَنعَمون فيها بما تستطيبُه الأرواح، وكل ما يَصِلُها بالله تستطيبه الأرواح، فحيثما التفتَّ رأيتَ السائحين السابحين الراكعين الساجدين المتبتِّلين الذاكرين القارئين، المشدودة أبصارهم إلى الآيات والأحاديث التي كُتِبت على إحدى رياض الجنة، إنها ليست كرياضِ الدنيا تُجلي نواضرُ أزهارها صدأَ المشاعر، ولكنَّها من رياض الجنة تجلي عن الأرواح وَعْثاءَ الدنيا وهمومَها وآلامَها، وتُنسيها كل ما يُغري به أبالسةُ الفتن من بوارق الأحلام، فها هنا تخفُّ أرواح السائحين، فتسمو فوق الوجود الأرضي سائحةً في ملكوت الله، ترى جلال قدرتِه، وتَلمَس صُنْعَ آياته، وتطوف بين الأفلاك السابحة، تهتفُ كلما رأت أحكام التدبير: سبحان الله القادر، سبحان خالق الآيات، سبحان رب الأرض والسموات، ولا يشدها من طوافها في ملكوت الله غيرُ صوت المؤذن يهز المدينة كلها: الله أكبر، الله أكبر.
وها هنا تحومُ أرواح السابحين فوق خلايا الإيمان، التي جمعت ألوان البشريَّة وأجناسها من كل فجٍّ في هذا الرِّحاب، مشدودة أكف ضراعتِها إلى الرحمن تسأله الرحمة، إلى الغفار تَطلُب منه الغفران، إلى الكريم تسأله عطاء الكريم، إلى المُنعِم ترجوه الآلاء والنِّعم، إلى القوي تسأله العون والقوة، وتنساب في الضراعات والدعاء، تسأل وترجو من لا يَنقُصُ مُلْكَه عطاءٌ، ولا يضيق كرمُه بالرجاء، فلا تتوقَّف الأرواح، ولا تنثني عن مشاهد التسبيح والدعاء، وهي منتشية بما تراه حتى يشدَّها إلى الروضة نداء الحق: الله أكبر، الله أكبر.
وها هنا ترى الأصلاب المشدودة بين يدي الله في ركوعها الخاشع، وكيف لا تخشع الأصلاب لرب الأرباب الذي وهبها الحياة والإيمان والقوةَ، فبذلت في سبيل رضاه شيئًا من عطاياه، هي لحظات تتضامن فيها قواها لله القوي مانح العون والقوة.
وترى الساجدين خشعت أعضاؤهم، وذابَت في خشوعِها أرواحهم حين اقتربت من الله، فانتقضت لجلاله كلُّ مشاعرها، وتاهت في تسابيحها، وطارت بها خواطرها تجوزُ عوالمَ الفضاء، وطِباقَ السماء، معلنةً خضوعها لمن له وحدَه الكبرياء، وتتجاوب مع حملة العرش التسابيح والغفران، وتأخذها نشوة الترتيل: سبحان الدائم القائم، سبحان القائم الدائم، سبحان الحي القيوم، سبحان الملك القدوس، سبحان الله وبحمده، سبحان العلي الأعلى، سبحانه وتعالى.
وفي ساحة الروضة ترى جموع المتبتِّلين الأوَّابين الذين تطوفُ خواطرهم بين صفحات ماضيهم، ثم يَفزَعون إلى الله في ضراعة باكية يَستغفِرونه، ويستمطرون رحماته في إنابة تائبة، تُعلِن الإقلاع عن خطاياها، والنزوع إلى طاعة الله، وفي أسماعهم صوت الرحمن يناديهم: ﴿ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53]، وفي بشرى هذا الوعد الصادق يلتقي دمع الفرح ودمع التوبة في ظلال رحمة الرحمن، ويَشُد أبصارَ الجاثمين في الروضة حديثُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُشرِق من الماضي البعيد بقوله: ((ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة)).
حقًّا إنها روضة من الجنة لأرواح المؤمنين، تَربِطُها في هذا المكان بأرواح السابقين الأوَّلين، الذين تقرَّحت جباههم ورُكَبُهم هنا من طول السجود، والذين عمَّروا هذا المسجد، فما تخلَّفوا عنه في صلاة، إلا حيث يكونون في ظلال السيوف غازين في سبيل الله.
وكل ما في الروضة يربِط أرواحَ زائريها بالمؤمنين الأولين، بل بصاحب الروضة - عليه الصلاة والسلام - وإذا كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانوا يَلتمِسون ماء وضوئه فيَمسحون به وجوههم ورؤوسهم التماسًا للبركة، فلا بِدْعَ أن نرى صفوف المسلمين تتزاحم على محرابه الذي كان يصلي فيه - عليه الصلاة والسلام - وتتلمَّس فيه سجدات؛ علها تنعم بموضع مسَّته جبهة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو كفه، فيَسْرِي من نور النبوة تيار يَمُد المتلمِّسين بطاقات من الإيمان والبركة واليمن.
ولا بِدْعَ في أن نرى تزاحُم المسلمين على سارية عائشة - رضي الله عنها - التي كانت تجلس عندها أم المؤمنين عائشة فيَلْتَهِم سمعها كل ما يحدِّث به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم يرسله إلى حافظتِها الواعية، فعند هذه السارية كان مجلسُ الصدِّيقة التلميذة النابهة؛ حيث كانت تصيخ على فتاوى وعظات وأحكام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكأن المسلمين الآن وهم يتزاحمون إلى الصلاة عند تلك السارية يرون في ذلك تقديرًا للعلم الذي أخذه عنها رواة الأحاديث.
إن الروضة سجلٌّ حافل بأمجاد الذكريات الإسلامية التي عاشت إشراقاتها تهدي الأجيال والتي يعتزُّ بها كل مسلم، فمن الروضة يطالعنا تاريخ عشر سنوات من حياة الرسول - عليه الصلاة والسلام - الدينية، والسياسية، والحربية، والاقتصادية، والقضائية، والاستشارية، بل يطالعنا تاريخُ أهمِّ فترة من رسالة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بكل ما فيها من قرآن وتشريع، ومنه يطالعنا تاريخ أبي بكر الذي يواجه بعد بيعته ثورات وانتكاسات لم يَلِنْ أمامها جانبُه، ولم ينم حتى قهر المتنبِّئين، وأخضع المرتدين، واقتحم الأبواب الفارسية والرومية على المتألِّهين، وتحدَّى بشيخوخته المؤمنة الحازمة مانعي الزكاة، وآلى على نفسه أن يقاتلهم حتى على عقالِ بعير كانوا يؤدُّونها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم.
ومنها تُشرِقُ صفحات التاريخ العُمَرِي مليئةً بجلائل الأعمال، أملاها على الزمن عمر العادل الزاهد الأوَّاب، الخائف من سؤال الله وحسابه، الذي يجد في الجوع راحتَه إذا كان وحده الجائع، ولا يحس الشبع إلا حيث يشعر أن الناس جميعًا شبعوا وقنعوا، عاش في الأمة الإسلامية يرعاها ويسهر على بنائها، ويجني ثمرات الانتصارات غنائم غصَّ بها بيت المال، ولكنه أفقرُ رجلٍ في هذه الأمة التي يرعاها، فلم يكن يملك غير ثوب يُجدِّده كلما مشى فيه البلى، فلم تُطغِه الفتوحات، ولم تُغيِّره الغنائم، فيرى بين ثوبه عمر اللامع الزاهي أو عمر القيصر، لقد عاش حياته في الروضة كصاحب الروضة عمر الفقير، ولقي الله وهو عمر الفقير.
ومن الروضة يطالعنا كتاب عثمان ذي النورين، مجهِّز جيش العُسْرة، وفاتح الشمال الغربي من إفريقيا، ويطالعنا كتاب عليٍّ عدو الدنيا وقاهر شياطينِها.
وما أكثر ما تطالعنا هنا صفحات من سيرة أولئك الذين عاشوا حول الرسول -صلى الله عليه وسلم- طاقات مؤمنة تجاهد، وكانوا جميعًا لبناتٍ صلبة في صرح الإسلام الشامخ، هنا صنعتهم جميعًا حياةُ صاحب الروضة فصنعت منهم الأبطال؛ بل الرجال أعظم ما يكون الرجال، وحسبهم أنهم كانوا صنع الإيمان؛ بل صنع القرآن.
يا روضة رسول الله:
كم فيكِ من ذكريات لم ينعَم بمثلها في الدنيا مكانٌ، فتكاد الخواطر تحسُّ فيك خطى جبريلَ يحمل وحي الله إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويوحي إليه آيَ خيرِ كتاب جعل من الأمِّيين ساسةً وقادة ومصلحين.
وكنتِ يا روضة رسول الله مركزَ القيادة للفتوحات الإسلامية التي لم يشهد مثلها تاريخُ أمة، واستُقبِلتْ فيكِ مواكبُ النصر وهي عائدة من بدرٍ، وخيبر، ومكة، وحُنَين، وتبوك، واليمامة، والمواكب الظافرة العائدة من بلاد فارس والروم وشمالي إفريقية.
وكنتِ مركزَ التعبئة، ومحكمة القضاء العالي، ودار الفتوى، ومعهدَ الهداة والدعاة، الذين هاجروا إليك من البوادي والحواضر، فتزوَّدوا بما تزوَّدوا به من كتاب الله وشريعته وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ثم انسابوا في أرجاء العالَم كما تنساب الشمس فيُبدِّد إشراقها ما يُخيِّم على الوجود من ظلمات.
يا روضة رسول الله:
كم جدَّدتِ من إيمان، وزوَّدتِ من تقوى، وأسديتِ للهائمين فيك من صالحات، وحططتِ عن نفوسهم أحمال السيئات، فهنيًا للسعداء الذين يتخذون منك سبيلاً وزادًا إلى رياض الجنة!