أرشيف المقالات

يا أتباع الحبيب أين الحب؟

مدة قراءة المادة : 22 دقائق .

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي رفع السماء بلا عمد، الحمد لله الذي خلق الخلق وأحصاهم عددا، الحمد لله الذي رزق الخلق ولم ينس منهم أحدا، أحمده سبحانه وأشكره حمداً وشكراً كثيراً بلا عددا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله وسلم عليك يا رسول الله: ...

 
يا خير من دفنت في القاع أعظمه *** فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه *** فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الحبيب الذي ترجى شفاعته *** عند الصراط إذا ما زلت القدم
أما بعد؛ عباد الله:

كم هي بحاجة حضارة الإنسان اليوم إلى الحب ّ، هذه الحضارة الماديّة المليئة بالحقد والانتقام والعدوان المروِّع بين بني الإنسان.
فالعنف والاعتداء والجرائم بأنواعها أصبحت اليوم تمارس على مستوى الأفراد والأسر والمجتمعات والدول، فكم هو البؤس الذي يسيطر على بني الإنسان بعدما غاب الحبّ عن القلوب ، وتحوّلت العلاقة بينهم إلى جفوة وحقد وكراهيّة، وكم هي البشريّة بحاجة إلى حبّ الإسلام، ذلك الحبّ المجرّد من الرِّبح والحساب المادِّي، الحبّ الرّوحي والعاطفي الصّادق، الحب الذي به يعمّر الكون ويعبد الله وتعرف به الحقوق والواجبات وتقوى به الروابط بين البشر.

حبٌ ليس فيه أنانية ولا مصلحة مادية ولا مفسدة خلقية تدعوا إلى الرذيلة وتحارب الفضيلة وتفسد به القيم والأخلاق.
ولذلك فقد اعتبر الإسلام الحبّ الصادق قيمة عُليا في رسالته، وهدفاً سامياً من أهدافه، يسعى بشتّى الوسائل لتحقيقه وتكوينه في النفس البشرية، وإشاعته في المجتمع، بل جعله مظهراً من مظاهر قوة الإيمان ، وسبباً للسعادة في الحياة الدنيا وفي الآخرة، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «والّذي نفسي بيده لا تدخلوا الجن ّة حتّى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتّى تحابّوا، أوَلا أدلّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السّلام بينكم» (رواه أبو هريرة).
ومن حبّ الله يبدأ الحبّ في الإسلام فهو أعظم حبٍ في الوجود، وضّح القرآن هذه الحقيقة الجوهريّة في عمق الإسلام بقوله: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 31] .

وحبّ الله في الإسلام يعني حبّه سبحانه وتعالى وحب رسله وحب دينه وحب المؤمنين، وحبّ الخير للبشريّة جميعاً وحب القيم السامية والأخلاق النبيلة ولقد وقف القرآن مع الّذين لا يعرفون قيمة الحبّ الإلهي يؤنِّبهم ويهدِّدهم بأنّهم إن أعرضوا عنه فسوف يأتي بآخرين يحبّهم ويحبّونه.

فهو سبحانه يريد أن يبني الحياة على أساس الحبّ بينه وبين خلقه، وفيما بين الخلق أنفسهم؛ لذلك نجده يستنكر على الإنسان أن يحبّ غير الله كحبّه لله.
جاء هذا البيان بقوله: {وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّه} [البقرة: من الآية 165].
لقد كان ابن عمر يدعو على الصفا والمروة وفي مناسكه: "اللهم اجعلني ممن يحبك، ويحب ملائكتك، ويحب رسلك، ويحب عبادك الصالحين.
اللهم حببني إليك وإلى ملائكتك وإلى رسلك وإلى عبادك الصالحين".

وهذا حكيم بن حزام شعاره الحب.
كان رضي الله عنه يطوف بالبيت ويقول: "لا إله إلا الله، نعم الربّ ونعم الإله، أحبه وأخشاه.".
وجعل الإسلام الحب عقيدة راسخة في النفوس بها يقبل الدين ويصح العمل، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [ التوبة : 24].

قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: "أي إن كانت هذه الأشياء {{C}{C} أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ{C}{C}} -أي انتظروا ماذا يحل بكم من عقابه-"، فهل بعد هذا العقاب الذي تعيشه الأمة اليوم من عقاب، حروب وصراعات، دماء تسفك وأرض تغتصب ومقدسات تدنس وقلوب قد امتلأت قسوة، وضعف سياسي واقتصادي وعسكري وتنكر للقيم والمبادئ والأخلاق وعصبية أوغرت الصدور وظهر حب الدنيا والمنصب والجاه والقبيلة والطائفة وطغى على حب الله ورسوله، ورد في السير عند ابن هشام وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف قبل معركة أحد يعلن الحرب، ويتحدث للناس ويشاورهم: «أنقاتل في المدينة أم نخرج خارج المدينة؟» فقال كبار الناس: يا رسول الله! دعنا نقاتل هنا، فقام شاب من بني سالم، فقال: يا رسول الله! لا تحرمني دخول الجنة ، فو الله الذي لا إله إلا هو لأدخلن الجنة، فقال عليه الصلاة والسلام وهو يتبسم: «بم تدخل الجنة؟ هل يحلف على الله أحد؟! هل يقسم على الله فرد من الناس؟!» قال: بخصلتين، قال: «ما هما؟» قال: إني أحب الله ورسوله ولا أفرّ يوم الزحف، قال عليه الصلاة والسلام: «إن تصدق الله يصدقك»، وبدأت المعركة ودارت رحاها وأتى الصادق فصدق الله فقُتِل، ومرّ عليه الصلاة والسلام على البواسل من الجنود فوجد هذا فأخذ يمسح التراب عن جبينه وتدمع عيناه صلى الله عليه وسلم ويقول: «صدقت الله فصدقك الله».
هكذا كان أصحابه صلى الله عليه وسلم يحبونه ويقدمون لأجل هذا الحب الوقت والجهد والمال والنفس.

لذلك أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحبهم وعدم التعرض لهم بالسب والشتم وعدم القدح في إيمانهم وعدالتهم وهم بشر يخطئون ويصيبون، ولكن حسناتهم لكثرتها وفضلهم وسبقهم للإسلام وتضحيتهم وجهادهم مع رسول الله وغيرها من الأعمال قد شفع لهم ما ظهر منهم من الهفوات والزلات.
قال الإمام الطحاوي: "ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفرط في حب أحد منهم ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم ولا نذكرهم إلا بخير وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان".

إن سب الصحابة والقدح فيهم والانتقاص من مكانتهم الهدف منه التشكيك في الدين ككل لأنهم هم من حمل هذا الدين إلى العالمين، وإذا لم يكون عدول وثقات فكيف يمكن أن نقبل منهم هذا الدين.

والأمر الآخر..
الانتقاص من الصحابة والقدح فيهم فيه قدح للرسول صلى الله عليه وسلم إذا كيف بنبي زكاه ربه وختم به الرسالات وفضله على الأنبياء والرسل..
كيف يختار أصحاب وأتباع ليسوا على قدر من الإيمان والتقوى والأخلاق ومعنى ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن قادراً على تربيتهم وحاشا لله أن يكون سيد الأولين والآخرين بهذه الكيفية، ولكنها وساوس الجاهلين وسهام الحاقدين على الدين وأتباعهم من المنافقين المتلبسين بالدين وهذا الأمر ليس بالجديد فلكل عصر زنادقه ومتربصين وجهلة وراء كل ناعق، بل لم تسلم زوجته عائشة رضي الله عنها من كيدهم فوصفوها بأبشع الصفات، وإذا كانت كما قالوا لماذا أختارها رسول الله وكانت أحب النساء إليه؟ وإذا كانت كما قالوا لماذا يرضى سبحانه وتعالى لنبيه أن تكون عائشة زوجة له، ومع ذلك قد نزل القرآن ببراءتها ومن قال ذلك فهو كافر لأنه كذب صريح القرآن.

ومع ذلك فإن الله يأبى إلا أن يتم نوره ويعز دينه وينصر أولياء ويرفع قدر نبيه وأزواجه وأصحابه في العالمين إلى يوم الدين، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ» (أخرجه البخاري (3397)).
لأنهم خير النَّاس وأفضلهم بعد الأنبياء عليهم السلام هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأخيار الَّذين اصطفاهم الله لصحبة نبيِّه، ونقل دينه، وحفظ شريعته، فكانوا أعمق النَّاس علمًا، وأبرَّهم قلوبًا، وأقلَّهم تكلُّفًا، وأزكاهم نفوسًا، وأصدقهم لهجةً، بذلوا النَّفس والنَّفيس في نصرة النَّبيِّ الكريم صلى الله عليه وسلم، وإقامة الدِّين، ورفع راية التَّوحيد، وتعبيد النَّاس لربِّ العالمين، فضلُهم عظيم، وخيرهم كبير، وهم كما قال صلى الله عليه وسلم: «خَيرُ النَّاسِ ق?رْني»..
قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رضي الله عنهم وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100].

أيها المؤمنون؛ عباد الله:

إن طريق الوصول لهذا الحب هو التطبيق العملي والالتزام بأوامر الدين وحسن الإتباع والاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم والشوق لرؤيته، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتى المقبرة فقال: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أنا قد رأينا إخواننا»، قالوا: أو لسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: «أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد»، فقالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أُمَّتك يا رسول الله فقال: «أرأيت لو أن رجلاً له خيل غر محجلة، بين ظهري خيل دهم بهم ألا يعرف خيله؟» قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: «فإنهم يأتون غراً محجلين من الوضوء ، وأنا فرطهم على الحوض، ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم ألا هلم، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول سحقاً سحقا» (أخرجه مسلم (249)).
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى ثم طوبي ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرآني»....
(السلسلة الصحيحة رقم (1241))...
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من أشد أمتي لي حباً، ناس يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني بأهله وماله» (رواه مسلم).

إن أصحاب هذا الحب يحزنهم حال المسلمين ويغضبهم كثرة المنكرات ويدفعهم ذلك إلى العمل والبذل والعطاء وخدمة الدين وحب المسلمين مهما كانت الفتن والمغريات والشبهات والشهوات مهما كانت قوة الباطل وكثرة عدده وعدته فأملهم بالله عظيم وثقتهم بدينهم ليس لها حد ومستقبلهم ومآلهم بإذن الله إلى النصر والتمكين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن من ورائكم أيام الصبر ، الصبر فيهن كقبض على الجمر، للعامل فيها أجر خمسين»، قالوا: يا رسول الله أجر خمسين منهم أو خمسين منا؟ قال: «خمسين منكم» (صحيح الجامع الصغير (2234)).

ومن الحب الذي دعا إليه الإسلام الحب بين أفراد المجتمع المسلم، فبه تكون النجاة يوم القيامة يوم الحسرة والندامة، عن أبي مالك الأشعري قال: "كنتُ عند النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت عليه هذه الآية: {{C}{C}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ{C}{C}} [المائدة: من الآية 101].
قال: فنحن نسأله إذ قال: «{C}{C}إنّ لله عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم النبيون والشهداء بقربهم ومقعدهم من الله يوم القيامة {C}{C}»، قال: وفي ناحية القوم أعرابي فجثا على ركبتيه ورمى بيديه، ثم قال: حدثنا يا رسول الله عنهم من هم؟ قال: فرأيتُ في وجه النبي صلى الله عليه وسلم البِشر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «{C}{C}هم عباد من عباد الله من بلدان شتى، وقبائل شتى من شعوب القبائل لم تكن بينهم أرحام يتواصلون بها، ولا دنيا يتباذلون بها، يتحابون بروح الله، يجعل الله وجوههم نوراً ويجعل لهم منابر من لؤلؤ قدام الناس، ولا يفزعون، ويخاف الناس ولا يخافون{C}{C}» (رواه أحمد والحاكم وصحّحه الذهبي).

وعمل الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم جاهداً على أن يشيد المجتمع على أساس الحبّ والولاء في الله، فوضح للناس هذه الحقيقة بقوله كما في حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «{C}{C}ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما، وأن يحبّ المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يلقى في النار {C}{C}» (متفق عليه)..

ويأتي بيان نبويّ آخر ليعمِّق الحبّ في النفوس، ويقيم لغة التخاطب على أساس الحبّ، فيعلّم المسلم كيف يفصح عن حبِّه لأخيه، ليشيع في نفسه الحبّ، ويشعره أنّه في مجتمع يكتنفه الحبّ، ولا مكان فيه للحقد والكراهية، فعن المقداد بن معدي كرب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «{C}{C}إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه{C}{C}» (رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن)، بل دعا القرآن الإنسان المسلم إلى تطهير النّفس من الحقد والغلّ والكراهية لتصفو للحبّ وحده، ففي الدّعاء القرآنيّ: {{C}{C}وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوْبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيم{C}{C}} [الحشر: 10].
بل كم هو جميل تعبير الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن مشاعر الحبّ في نفسه الكريمة تجاه الأرض والأشياء، ليصنع من الإنسان روحاً وعواطف تفيض بالحبّ والارتباط مع عالَم الطبيعة والأرض.

روى أهل السِّيَر ورواة الحديث أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يسير في أصحابه فطلع لهم جبل اُحُد، فحين رآه قال: «{C}{C}هذا جبل نحبُّه ويحبُّنا{C}{C}»، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أشرف على قرية أو مدينة أو أراد دخولهما يطلب الحب ويدعو بالحب فقد روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: كُنَّا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا رأى قرية يريد أن يدخلها قال: «{C}{C}اللهم بارك لنا فيها{C}{C}» -ثلاث مرات- «{C}{C}اللهم ارزقنا جناها، وحببنا إلى أهلها وحبب صالحي أهلها إلينا{C}{C}» (رواه الطبراني في الأوسط) .

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

قلتُ ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه..

الخطبة الثانية:

عباد الله:

وعلى أساس الحبّ أسس الإسلام الأسرة، وبنى العلاقة بين الزّوجين، وبين الآباء والأبناء.
قال تعالى: {{C}{C}وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِنْ أَنْفُسِكُم أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَوَدَّةً وَرَحْمَة{C}{C}} [الرّوم: من الآية 21]، وفطر الله الوالدين على محبة الولد، وجعله ثمرة الفؤاد وقرة العين وبهجة الروح، بل إن المولى عز وجل مدح أولياءه في كتابه العزيز بأنهم يدعون الله ويتضرعون إليه أن يقرّ أعينهم بالولد الصالح: {{C}{C}وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا{C}{C}} [الفرقان: 74] بل مهما قصر الولد في حق والديه يظل الحب في قلوبهما ولذلك لا يمكن أن نجزيهما أو أن نقوم بحقوقهما.

يقول رجل يروي هذه القصة في دولة عربية: إنه خرج مع أسرته إلى شاطئ البحر، فلما وصلوا يقول: رأينا عجوزاً على بساط على الشاطئ لوحدها، فجلسنا على الشاطئ إلى بعد العشاء تسامرنا، وأخذنا نلهو ونتحدث حتى حلَّ منتصف الليل، وهي جالسة بجوارنا فلما أردنا الرجوع قلت في نفسي: سبحان الله! ما بال هذه العجوز جالسة لوحدها؟! لم يأتها أحد.

فقلت لها: يا أماه! أنت لوحدك وليس معك أنيس ولا جليس.

فقالت هذه العجوز: إن ابني أتى بي إلى هنا، وقال لي: أن عنده عملاً سوف يذهب إليه ثم يرجع.

فقال لها: يا أماه! الوقت متأخر فهلا رجعت معنا؟

قالت: لا...
سوف أنتظر ابني ولو تأخر فقد أخبرني أنه: سوف يعود.

قال: يا أماه! لكن الوقت متأخر جداً ولا أحد في هذا المكان.

قالت: لن أرجع حتى يرجع ابني، وعدني أنه سوف يرجع، وأعطاني هذه الورقة.

قال: وما هذه الورقة؟

فقالت: اقرأها تعرف ما فيها.

فقرأتها فإذا في هذه الورقة: يرجى ممن يقرأ هذه الورقة أن يأخذ هذه العجوز إلى دار الرعاية.

لا تستغربوا فهناك من ضرب والديه وهناك من حبسهما وهجرهما وهناك من قتل والديه وسفك دمهما وذلك عندما يذهب الإيمان من القلوب وتسوء الأخلاق وتختفي القيم ويتلاشى الحب.

قال الرجل: أخذتها إلى دار الرعاية حتى أجد أبنها العاق وهي مع ذلك مازال قلبها يخفق بحبه واسمعوا لهذه الأم، والشاعر يتكلم بلسانها.

وكأنها تقول: لا تسبوه مهما فعل.

  لا تسبوا ولدي ما كنت *** رغم الغدر خصمه

إن لي في قلبه حباً *** وليس الحب تهمه
هو طفلي وأنا *** أضمنه مذ كان لحمه

هو في الليل سميري *** وأنيسي في الملمة
فإذا خاف سكبت الأمن *** كي أذهب همه

وإذا عاد تداعيت له *** صوتاً ونغمه
فأناغيه بلحن *** وأناجيه بكلمه

ولدي ما عقني بل *** فعله بر ورحمه
جاء بي للبحر كي *** أنعم في رمل ونسمه

فدعوه ولا تسيئوا *** الظن فيه بالمذمة
واذهبوا للدار بي *** ما الدار للأبناء وصمه

غاب عني لم يغب *** إلا لأمر قد أهمه
هو مشغول وللمشغول *** أعذار وحرمه

وسيأتي ولدي للدار *** إن أنهى المهمة
ولدي أعرفه *** من ذا الذي ينكر أمه
عباد الله:

لنجعل حب الله ورسوله وأصحابه وحب القرآن وحب الدين وحب المسلمين وحب الحق وأهله أعظم حب في حياتنا ولنسعى إلى المحافظة عليه ولنجعل منه وسيلة للتأليف بين القلوب وتقوية روابط الأخوة وطريقاً لسعادة الفرد والمجتمع.
وعلينا تربية أبنائنا وأهلينا على حب الله ورسوله وصحابته وذلك بحسن الاتباع والقيام بالعبادات والتزود من الطاعات والقربات ونبذ الفرقة والخلاف وإقامة الحق والدعوة لدينه سبحانه وتعالى والالتزام بسنته صلى الله عليه وسلم والشوق إلى لقائه.
عن جُبَير بن نفير عن أبيه قال: "جلسنا إلى المِقْدَاد بن الأسود يومًا فمرَّ به رجلٌ فقال: طوبَى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لوَدِدْنا أنَّا رأينا ما رأيتَ وشَهِدنا ما شهدت.".

فاللهم اجعلنا من صالحي أمته، واحشُرْنا يوم القيامة في زُمْرَته، اللهُمَّ إنَّا نسألُك إيمانًا يُباشرُ قُلوبنا ويقينًا صادقًا وتوبةً قبلَ ?لموتِ وراحةً بعد هذا، وصلوا وسلِّموا على من أُمرتم بالصلاة عليه، إمام المتقين وقائد الغُرِّ المُحجلين، وعلى آلهِ وصحابته أجمعين، وارض اللهُمَّ عن الخلفاءِ الراشدين أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعلي وعن الصحابة أجمعين وعنا معهم بمن وكرمك يا أرحم الراحمين.

والحمد لله ربّ العالمين.


حسان أحمد العماري
 

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير