آداب التخلي [2]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فالشرع الشريف شرع آداباً عند دخول الخلاء، يقول الإمام ابن النحاس رحمه الله: ذكر علماؤنا رحمة الله تعالى عليهم آداب التصرف في ذلك كله، وهي تزيد على سبعين خصلة، يحتاج من قام إلى قضاء حاجته أن يتأدب بها، وكلها مرتبطة بالاتباع، قال الله عز وجل: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]. وهنا من مظاهر عظمة الإسلام، فالإسلام نظم كل حياة المسلم حتى أخص خصائصه وأدق الأمور في حياته نظمها له، ولله عز وجل حدود في كل شيء ينبغي أن يراعيها العبد وآداب ينبغي له أن يتمسك بها.

ونذكر بعض آداب التخلي مجملة، ثم نفصل ما أجملناه منها:

أن ينوي أداء واجب استفراغ ما في المحل مما يخرج، وكذلك إزالة الاحتقان؛ امتثالاً لهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث يقول: (لا يصلين أحدكم وهو يدافع الأخبثين) وهذا نهي، فينوي أن يجتنب الأمر الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.

وأيضاً قال صلى الله عليه وسلم: (وما نهيتكم عنه فاجتنبوه) فينوي من قضاء الحاجة أنه يفعل ذلك حتى لا يصلي وهو يدافع الأخبثين؛ امتثالاً لما شرعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم يضم إلى ذلك نية امتثال السنن والآداب المشروعة في هذا الموقف.

ومن هذه الآداب أن يستتر عن الناس؛ لأنه ليس في كل الأحوال يتيسر بيت الخلاء في الصحراء مثلاً أو غيرها.

فإذا وجد الإنسان حائطاً أو كثيباً أو شجرة أو بعيراً استتر به، وإن لم يجد شيئاً أبعد حتى لا يراه أحد.

ويستحب له أن يستعد لذلك قبل الدخول، وذلك بأن يهيئ ما يستنجي به من الماء أو الأحجار قبل جلوسه.

وإذا دخل محل قضاء الحاجة قدم رجله اليسرى في الدخول وأخر اليمنى، وإذا خرج قدم اليمين وأخر الشمال.

أيضاً لا يجوز أن يستقبل القبلة ولا أن يستدبرها في الفضاء عند قضاء الحاجة، وأما إذا كان بينه وبين القبلة بنيان أو شيء يستره فلا بأس .

وقد تقدم أنه يجوز الاستنجاء بالحجر وبكل ما يقوم مقامه من كل جامد طاهر مزيل لعين النجاسة، وليس له حرمة ولا هو متصل بحيوان، ولا يجوز الاستنجاء بروث ولا عظم ولا طعام.

ويستجمر وتراً ولا يقل عن ثلاثة أحجار أو ما يقوم مقامها.

وذكرنا أنه يشترط في الاستنجاء شرطين:

الأول: الإنقاء.

الثاني: العدد والإيتار بثلاثة أحجار.

وإذا أراد أن يستنجي فليغسل يده اليسرى قبل أن يباشر النجاسة؛ لئلا تعلق بها الرائحة.

ويبدأ الرجل في الاستنجاء بالقبل والمرأة مخيرة في ذلك.

وإذا استنجى بالماء ثم فرغ استحب له أن يدلك يده بالتراب، وهذا من باب النظافة.

ويستحب أن ينضح الماء على فرجه وسراويله ليزيل الوسواس عنه.

ومن الآداب: ألا يطيل القعود أكثر من قدر الحاجة بل يسارع في الخروج من ذلك المحل.

يقول الإمام أبو عبد الله القرشي رحمه الله تعالى: إذا أراد الله بعبد خيراً يسر عليه الطهارة.

وقال العلماء: من فقه الرجل قلة ولوعه بالماء.

ومن مفاتيح دراسة شخصية الإنسان أن يسأل عن سلوكه في هذا الباب؛ لأن الإنسان إذا ابتلي بالوسوسة فهذا شيء خطير جداً؛ لأنه إذا تمادى في هذا الأمر فقد يصل إلى أمور تشقيه وتكدر عليه حياته، فينبغي للإنسان أن يكون حذراً.

ونشرع الآن في ذكر أهم آداب التخلي بالتفصيل.

الأدب الأول: التسمية والتعوذ عند دخول الخلاء

يقول عند دخوله: باسم الله، أعوذ بالله من الخبُث والخبائث، وقد جاء في بعض الروايات الجمع بين البسملة والاستعاذة بهذه الصيغة، وقيل: لا يصح الجمع بين البسملة والتعوذ في رواية واحدة، وأصح ما يستدل به على سنية التسمية في هذا الموضع هو حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدهم الخلاء أن يقول: باسم الله).

ومعنى ذلك: أن كلمة (باسم الله) تكون حجاباً بين الجن وبين ابن آدم في هذه الحال، بحيث لا يرون عورة الإنسان، مع أن من شأن الجن كما قال عز وجل: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27]، فهم يروننا ونحن لا نراهم إلا إذا قال المسلم: باسم الله، فإنه يحال بين الجن وبين رؤية الإنسان، وهذا فيه تقوية الحياء في نفس المسلم في هذا الموضع حتى عن أعين الجن.

وفي رواية أخرى: (ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا وضع أحدهم ثوبه أن يقول: باسم الله).

وقوله: (إذا وضع أحدهم ثوبه) أعم من حال التخلي.

قال بعض العلماء: في هذا الموضع تقدم البسملة على التعوذ، خلافاً للقاعدة المعروفة في الصلاة وفي القراءة حيث يقدم التعوذ على البسملة، فالتعوذ في قراءة القرآن إنما هو لأجل القراءة، فتقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم؛ لأن البسملة من القرآن، فقدم التعوذ عليها، بخلاف تقدم البسملة على التعوذ هنا، فيقول أولاًً: باسم الله، ثم يقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث.

قوله: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) الخبُث: بضم الباء جمع الخبيث، والخبائث جمع الخبيثة، وكأنه عليه الصلاة والسلام أراد بذلك ذكور الشياطين وإناثهم.

وقد صرح جماعة من أئمة الحديث أنه بإسكان الباء في كلمة (الخبْث) منهم: أبو عبيد القاسم بن سلام ، واختلف الذين رووا سكون الباء في كلمة الخبث في معناه، فقيل: الخبث: الشر، وقيل: الكفر، وقيل: الشيطان، أما الخبائث فقالوا: هي المعاصي؛ لأنها جمع معصية.

والمعروف عند غيرهم من العلماء أنه بضم الباء في كلمة الخبُث، والمعنى ذكران الشياطين وإناثهم.

وقال ابن الأعرابي : الخبث في كلام العرب المكروه، فإن كان من الكلام فهو الشتم، وإن كان من الملل فهو الكفر، وإن كان من الطعام فهو الحرام، وإن كان من الشراب فهو الضار.

الأدب الثاني: الاستغفار عند الخروج من الخلاء

صح عند الخروج أن تقول: (غفرانك) ، وهذا الذي صح في هذا الباب فقط، وما عدا ذلك فلم يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

قوله: (غفرانك) غفران مصدر، ونصب بمضمر تقديره: أسأل غفرانك.

قيل: وجه طلب الغفران في هذا المحل أنه استغفار عن الحالة التي اقتضت عدم ذكر الله مدة لبثه في الخلاء، فهو نظر إلى أن ذلك تقصير في حق الله، وإنما حال دون ذلك هذه الحالة التي لا يليق فيها ذكر الله عز وجل باللسان، فلأجل ذلك استغفر لتوقف لسانه عن ذكر الله في هذه المدة، فقد كان صلى الله عليه وسلم لا يترك ذكر الله بلسانه إلا عند قضاء الحاجة، فكأنه عليه الصلاة والسلام رأى ذلك تقصيراً فتداركه بالاستغفار.

وقيل: وجه طلب الغفران أنه وجد القوة البشرية قاصرة عن الوفاء بشكر النعم التي أنعم الله بها عليه، وكأنه استحضر نعمة الله جل وعلا عليه في الطعام والشراب، وتسويغ هذا الطعام والشراب، وهضمه وامتصاصه، وغير ذلك من النعم الجليلة المتعلقة بالطعام إلى أوان تسهيل مخرجه، ولو شاء الله عز وجل لحبسه عنه فتضرر بذلك ضرراً عظيماً، وربما هلك، فعلم أن شكره قاصر عن بلوغ حق تلك النعم الجليلة والعطايا الجزيلة والمعافاة الجميلة، ففزع إلى الاستغفار من تقصيره في شكر هذه النعم.

الأدب الثالث: كراهة استقبال الشمس والقمر عند قضاء الحاجة

ذكر العلماء في أحكام التخلي ومنهم الإمام ابن قدامة : أنه يكره للمرء أن يستقبل الشمس والقمر بفرجه؛ لما فيهما من نور الله تعالى، فإن استتر عنهما بشيء فلا بأس؛ لأنه لو استتر عن القبلة جاز فهاهنا أولى، ويكره أن يستقبل الريح؛ لئلا ترد عليه رُشاش البول فينجسه. قوله: ويكره أن يستقبل الشمس والقمر بفرجه لما فيهما من نور الله تعالى، أخذوا هذا الحكم من حديث ضعيف، والكلام في استقبال القبلة لا ينبغي ربطه بمسألة استقبال الشمس والقمر، فلا يقال: لا يستقبل الشمس والقمر ولا يستدبر القبلة ولا يستقبلها؛ لأن هذا قد يكون فيه مشقة، ومما يوضح أن هذا الحكم غير صحيح معرفة الفرق بين استقبال القبلة وبين استقبال الشمس والقمر: الفرق الأول: أن دليل النهي عن استقبال القبلة عند التخلي صحيح مشهور، ودليل استقبال الشمس والقمر ضعيف بل باطل، ثم هذا النور مخلوق؛ لأنه انعكاس لضوء الشمس على سطح القمر. والحكم بالاستحباب أو الكراهة يحتاج إلى دليل، ولا دليل في هذه المسألة. الفرق الثاني: أنه يفرق في القبلة بين الصحراء والبنيان كما يأتي إن شاء الله، لكن لا فرق هنا. الفرق الثالث : النهي في استقبال القبلة واستدبارها للتحريم، وهنا يقولون: إنه للتنزيه إذا صح الحديث، وهو لم يصح. الفرق الرابع: أنه في القبلة يستوي الاستقبال والاستدبار، وهنا لا بأس بالاستدبار، وإنما كرهوا أن يستقبل الشمس والقمر.

الأدب الرابع: استحباب الاعتماد على الرجل اليسرى حال الجلوس لقضاء الحاجة

يقول الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى: يعتمد في حال جلوسه على رجله اليسرى؛ لما روى سراقة بن مالك قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتوكأ على اليسرى وأن ننصب اليمنى) رواه الطبراني في المعجم. وهذا الحديث لم يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

الأدب الخامس: استحباب تغطية الرأس ولبس الحذاء حال قضاء الحاجة

يقول ابن قدامة : ويستحب أن يغطي رأسه، ويروى ذلك عن أبي بكر الصديق رضي الله تبارك وتعالى عنه، ولأنه حال كشف العورة.

قال: ويلبس حذاءه؛ لئلا تتنجس رجلاه.

الأدب السادس: كراهة الذكر والقراءة حال قضاء الحاجة

يقول ابن قدامة: ولا يذكر الله تعالى على حاجته إلا بقلبه.

فإذا سمع المؤذن يؤذن فلا يردد الأذان بلسانه لكن بقلبه، وكره ذلك ابن عباس وعطاء وعكرمة.

وقال ابن سيرين والنخعي : لا بأس به؛ لأن الله تعالى ذكره محمود على كل حال.

وروى المهاجر بن قنفذ رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلمت عليه، فلم يرد علي حتى توضأ، ثم اعتذر إلي فقال: إني كرهت أن أذكر الله تعالى إلا على طهر، أو قال: على طهارة) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم بأسانيد صحيحة.

وفي رواية البيهقي : (فسلمت عليه وهو يتوضأ فلم يرد علي) والكراهة المذكورة في هذا الحديث بمعنى ترك الأولى، لا كراهة التنزيه.

يقول ابن المنذر : وترك الذكر أحب إلي ولا أؤثم من ذكر، يعني: لا يحرم الذكر في هذه الحالة باللسان، لكنه مكروه كراهة تنزيه.

يقول الإمام ابن قدامة رحمه الله: ولنا على هذه الكراهة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرد السلام في هذه الحال، فذكر الله أولى من السلام ألا يفعل، فإذا عطس حمد الله بقلبه ولم يتكلم.

وقال ابن عقيل : توجد رواية أخرى عن الإمام أحمد أنه يحمد الله بلسانه إذا عطس. والأول أولى للحديث الآنف الذكر أنه عليه الصلاة والسلام لم يرد السلام، مع أن رد السلام واجب، ففي هذه الحالة يمنع رد السلام مع وجوبه فكيف بما هو دونه مما ليس بواجب؟!

وأيضاً لا يسلِّم الإنسان حال قضاء الحاجة ولا يرد على مسلِّم؛ لما روى ابن عمر : (أن رجلاً مر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلم فلم يرد عليه السلام) قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

وفي رواية البيهقي : (فسلمت عليه وهو يتوضأ).

وقد ذكر الألباني في إرواء الغليل حديث ابن عمر : (مر رجل بالنبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه وهو يبول فلم يرد عليه) فقال: أخرجه مسلم وغيره، وجاء في بعض الروايات: (فلم يرد عليه حتى توضأ، ثم اعتذر إليه فقال: إني كرهت أن أذكر الله عز وجل إلا على طهر، أو قال: على طهارة).

ثم قال الألباني في إرواء الغليل: هذه الزيادة فيها فائدتان:

الأولى: أن ترك الرد لم يكن من أجل أنه كان على البول فقط كما ظن الترمذي حيث قال: وإنما يكره هذا عندنا إذا كان على الغائط والبول، كما فسر بعض أهل العلم ذلك.

ثم يقول: فهذه الزيادة تدل على أن الترك إنما كان من أجل أنه لم يكن على وضوء، فلازم هذا أنه لو سلم عليه بعد الفراغ من حاجته لم يرد عليه حتى يتوضأ، ويؤيده حديث أبي الجهم : (أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار فمسح وجهه ويديه ثم رد عليه السلام) متفق عليه.

ويفيد هذا الحديث استحباب ذكر الله على طهارة، وصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحواله، لكن يستحب ألا تذكر الله عز وجل إلا على طهارة، فهذا من آداب الذكر المستحبة، والدليل أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن متوضئاً حين سُلم عليه ولم يستطع أن يتوضأ في هذه الحال؛ فعمد إلى الجدار وتيمم حتى يرد عليه السلام، وهذه إشارة واضحة إلى استحباب أن يكون الإنسان متطهراً إذا أراد أن يذكر الله تبارك وتعالى، وأولى ثم أولى ثم أولى إذا أراد أن يمس أو يقرأ القرآن.

يقول الألباني : الفائدة الثانية من هذه الزيادة: كراهية قراءة القرآن من المحدث لاسيما المحدث حدثاً أكبر، فإنه كره صلى الله عليه وسلم أن يرد السلام من الحدث الأصغر فبالأحرى أنه يكره قراءة القرآن منه فضلاً عن الجنب.

الأدب السابع: كراهة الكلام حال قضاء الحاجة

يقول ابن قدامة رحمه الله: ولا يتكلم لما روى أبو سعيد رضي الله عنه حيث قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتيهما يتحدثان؛ فإن الله يمقت على ذلك) رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة وغيرهم، وحسنه النووي وصححه الحاكم وضعفه الألباني في تمام المنة.

قوله: (لا يخرج الرجلان يضربان) أي: يأتيان، تقول: ضربت الأرض إذا أتيت الخلاء، وتقول: ضربت في الأرض إذا سافرت، كقوله تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ [النساء:101].

علق الإمام النووي رحمه الله تعالى على ما ذكره الشيرازي في كراهة الكلام عند قضاء الحاجة فقال: هذا الذي ذكره المصنف من كراهة الكلام عند قضاء الحاجة متفق عليه.

قال أصحابنا: ويستوي في الكراهة جميع أنواع الكلام، ويستثنى مواضع الضرورة، بأن رأى ضريراً قد يقع في بئر، أو رأى حية أو غيرها تقصد إنساناً أو غيره من المحترمات، فلا كراهة في الكلام في هذه المواضع، بل يجب في أكثرها، فإن قيل: لا دلالة في الحديث المذكور على ما ادعاه المصنف؛ لأن الذم لمن جمع الأوصاف المذكورة في الحديث كلها، قلنا: ما كان بعض موجبات المقت فلا شك في كراهته.

والمراد حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يخرج الرجلان يضربان الغائط) يعني: يأتيان الغائط: (كاشفين عن عورتيهما يتحدثان؛ فإن الله يمقت على ذلك) فبعض الناس بناء على صحة الحديث يقول: إن المقت من الله إنما هو على كشف العورة والكلام لا على الكلام فقط، فلا ينطبق الحديث إلا على من جمع بين هاتين الخصلتين: كشف العورة، والتحدث، فالجواب: ما كان بعض موجبات المقت فلا شك في كراهته.

الأدب الثامن: الاستتار والابتعاد عن الناس حال قضاء الحاجة

من الآداب التي ذكرها العلماء: أن يستتر عن الناس، فإن وجد حائطاً أو كثيباً أو شجرة أو بعيراً استتر به، وإن لم يجد شيئاً أبعد حتى لا يراه أحد.

والدليل على ذلك حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فقال: يا مغيرة ! خذ الإداوة فأخذتها، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توارى عني فقضى حاجته) رواه البخاري ومسلم.

وعن جابر رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد) وهذا الحديث فيه ضعف يسير.

يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: وهذان الأدبان متفق على استحبابهما، وجاء فيهما أحاديث كثيرة جمعتها في جامع السنة.

قال الرافعي وغيره: ويحصل هذا التستر بأن يكون في بناء مسقف أو محوط يمكن سقفه أو يجلس قريباً من جدار وشبهه، وليكن الساتر قريباً من آخرة الرحل، وليكن بينه وبينه ثلاثة أذرع فأقل، ولو أناخ راحلته وتستر بها أو جلس في وهدة أو نهر أو أرخى ذيله حصل هذا الغرض، والله أعلم.

يعني: لأن المقصود ستر العورة.

وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: (كان أحب ما استتر به النبي صلى الله عليه وسلم هدف أو حائش نخل) يعني: حائط نخل. رواه مسلم في صحيحه.

الأدب التاسع: عدم قضاء الحاجة في طريق الناس وظلهم وغيرهما

هناك أماكن معينة يجتنبها الإنسان عند قضاء الحاجة، يقول الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى: ولا يجوز أن يبول في طريق الناس ولا مورد ماء ولا ظل ينتفع به الناس؛ لما روى معاذ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل) رواه أبو داود وابن ماجة والبيهقي بإسناد جيد.

قوله: (البراز) بالفتح أو الكسر.

قوله: (في الموارد) أي: موارد المياه؛ وبعض العلماء قالوا: المورد: هو الطريق.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا اللاعنين -وفي بعض الروايات: اتقوا اللعانين- قالوا: وما اللعانان -أو وما اللاعنان- يا رسول الله؟! قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم) أخرجه مسلم .

ومن الآداب: ألا يبول تحت شجرة مثمرة؛ لئلا تسقط الثمرة عليه فتتنجس، أما في حال عدم وجود الثمرة فلا بأس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحب ما استتر به لحاجته هدف أو حائش نخل.

ولا يبول في الماء الدائم، قليلاً كان الماء أو كثيراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن البول في الماء الراكد) متفق عليه، ولأن الماء إذا كان قليلاً تنجس به، وإن كان كثيراً فربما تغير بتكرار البول فيه، وأما الجاري فلا يجوز التغوط فيه؛ لأنه يؤذي من يمر به، وإن بال فيه فلا بأس؛ لأنه كثير لا يؤثر فيه البول؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم خصص النهي عن البول بالماء الراكد، فدل على أن الجاري بخلافه، والأولى اجتنابه.

أيضاً: لا يبول على ما نهي عن الاستجمار به كالعظم وسائر المطعومات، فقد نهينا عن الاستجمار بها، فمن باب أولى لا يجوز أن يبول عليها؛ لأن هذا أبلغ من الاستجمار بها، العظام لا يستجمر بها؛لأنها زاد إخواننا من الجن، فمن باب أولى لا يبول عليها.

وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اتقوا الملاعن الثلاث) الملاعن: هي مواضع وأماكن اللعن، وهي جمع ملعنة، مثل مقبرة ومجزرة، فالمقبرة موضع القبر، والمجزرة موضع الجزر، وكذلك الملعنة موضع اللعن.

وفي رواية أخرى: (اتقوا اللعانين) والمقصود بهما صاحبا اللعن، يعني: اللذين يلعنهما الناس كثيراً.

وفي رواية أبي داود : (اللاعنان) أي: الأمران الجالبان للعن؛ لأن من فعلهما لعنه الناس في العادة، فلما صارا سبباً للعن أضيف الفعل إليهما.

قال الخطابي : وقد يكون اللاعن بمعنى الملعون، فالتقدير: العنوا الملعون فاعلهما.

قال الخطابي: وغيره الموارد هي طرق الماء، واحدها مورد.

قال: والمراد بالظل مستظل الناس الذي اتخذوه مقيلاً ومناخاً ينزلونه أو يقعدون تحته، وليس كل ظل يمنع قضاء الحاجة تحته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قضى حاجته تحت حائش النخل كما ثبت ذلك في صحيح مسلم ، وللحائش ظل بلا شك.

قوله: (البراز) قال الخطابي : وهو هنا بفتح الباء البراز، وهو الفضاء الواسع من الأرض، كنوا به عن قضاء الحاجة كما كنوا عنه بالخلاء، وأهل الحديث يروونه البراز بكسر الباء، قال الخطابي : وهو غلط.

ثم ذكر أن البراز بالكسر الغائط نفسه لا الفضاء.

وأما قارعة الطريق فهي أعلى الطريق، وقيل: صدر الطريق أو ما برز منه

، والطريق تؤنث وتذكر تقول: هذا طريق أو هذه طريق.

إذاً: اتقاء الملاعن الثلاث متفق عليه، وقضاء الحاجة في هذه الملاعن مكروه كراهة تنزيه لا تحريم كما قال بعض العلماء، لكن صحح الإمام النووي أنه ينبغي أن يكون محرماً؛ لهذه الأحاديث، ولما فيه من إيذاء المسلمين، وفي كلام الخطابي وغيره إشارة إلى تحريمه.

الأدب العاشر: كراهة البول في الحجر والثقب ومكان الاستحمام

ومن الآداب: أنه يكره أن يبول المرء في شق أو ثقب، والثَقب بالفتح أفصح من أن تقول: ثُقب بالضم.

عن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى أن يبال في الجحر أو نهى عن البول في الجحر رواه أبو داود ، وصححه الإمام النووي رحمه الله، وضعفه الألباني .

ووجه النهي أنه لا يأمن أن يكون في الجحر حيوان يلسعه ويؤذيه، أو أن يكون مسكناً للجن فيتأذى بهم، فقد حكي أن سعد بن عبادة بال في جحر بالشام، ثم استلقى ميتاً، فسُمِعَت الجن تقول:

نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة ورميناه بسهمين فلم نخطئ فؤاده

وهذا لا يصح؛ لأن المعروف أن سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه وجد ميتاً في مستحمه وقد اخضر جسده رضي الله عنه، ولم يصح أنه مات بهذه الحادثة.

أيضاً: لا يبول في مستحمه كما ذكرنا فإن عامة الوسواس منه؛ وذلك لحديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يبولن أحدكم في مستحمه أي: لا يبول في الموضع الذي يستحم فيه.

الأدب الحادي عشر: حرمة البول على القبر

أيضاً من الآداب: ألا يبول على القبر، وهذا حرام أو مكروه؛ لحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا أبالي أوسط القبور قضيت حاجتي أو وسط السوق!!) يعني: كلاهما سواء في عدم الجواز أو هما في القبح سواء، فمن أتى بأحدهما فهو لا يبالي بأيهما بدأ.

الأدب الثالث: كراهة استقبال الشمس والقمر عند قضاء الحاجة والفرق بينهما وبين القبلة

ذكر العلماء في أحكام التخلي ومنهم الإمام ابن قدامة : أنه يكره للمرء أن يستقبل الشمس والقمر بفرجه؛ لما فيهما من نور الله تعالى، فإن استتر عنهما بشيء فلا بأس؛ لأنه لو استتر عن القبلة جاز فهاهنا أولى، ويكره أن يستقبل الريح؛ لئلا ترد عليه رُشاش البول فينجسه.

قوله: ويكره أن يستقبل الشمس والقمر بفرجه لما فيهما من نور الله تعالى، أخذوا هذا الحكم من حديث ضعيف، والكلام في استقبال القبلة لا ينبغي ربطه بمسألة استقبال الشمس والقمر، فلا يقال: لا يستقبل الشمس والقمر ولا يستدبر القبلة ولا يستقبلها؛ لأن هذا قد يكون فيه مشقة، ومما يوضح أن هذا الحكم غير صحيح معرفة الفرق بين استقبال القبلة وبين استقبال الشمس والقمر:

الفرق الأول: أن دليل النهي عن استقبال القبلة عند التخلي صحيح مشهور، ودليل استقبال الشمس والقمر ضعيف بل باطل، ثم هذا النور مخلوق؛ لأنه انعكاس لضوء الشمس على سطح القمر.

والحكم بالاستحباب أو الكراهة يحتاج إلى دليل، ولا دليل في هذه المسألة.

الفرق الثاني: أنه يفرق في القبلة بين الصحراء والبنيان كما يأتي إن شاء الله، لكن لا فرق هنا.

الفرق الثالث : النهي في استقبال القبلة واستدبارها للتحريم، وهنا يقولون: إنه للتنزيه إذا صح الحديث، وهو لم يصح.

الفرق الرابع: أنه في القبلة يستوي الاستقبال والاستدبار، وهنا لا بأس بالاستدبار، وإنما كرهوا أن يستقبل الشمس والقمر.

الأدب الرابع: استحباب الاعتماد حال الجلوس لقضاء الحاجة على الرجل اليسرى

يقول الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى: يعتمد في حال جلوسه على رجله اليسرى؛ لما روى سراقة بن مالك قال: {أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتوكأ على اليسرى وأن ننصب اليمنى} رواه الطبراني في المعجم.

وهذا الحديث لم يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

الأدب الحادي عشر: حرمة أو كراهة البول على القبر

أيضاً من الآداب: ألا يبول على القبر، وهذا حرام أو مكروه؛ لحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ولا أبالي أوسط القبور قضيت حاجتي أو وسط السوق!!} يعني: كلاهما سواء في عدم الجواز أو هما في القبح سواء، فمن أتى بأحدهما فهو لا يبالي بأيهما بدأ.

يقول عند دخوله: باسم الله، أعوذ بالله من الخبُث والخبائث، وقد جاء في بعض الروايات الجمع بين البسملة والاستعاذة بهذه الصيغة، وقيل: لا يصح الجمع بين البسملة والتعوذ في رواية واحدة، وأصح ما يستدل به على سنية التسمية في هذا الموضع هو حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدهم الخلاء أن يقول: باسم الله).

ومعنى ذلك: أن كلمة (باسم الله) تكون حجاباً بين الجن وبين ابن آدم في هذه الحال، بحيث لا يرون عورة الإنسان، مع أن من شأن الجن كما قال عز وجل: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27]، فهم يروننا ونحن لا نراهم إلا إذا قال المسلم: باسم الله، فإنه يحال بين الجن وبين رؤية الإنسان، وهذا فيه تقوية الحياء في نفس المسلم في هذا الموضع حتى عن أعين الجن.

وفي رواية أخرى: (ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا وضع أحدهم ثوبه أن يقول: باسم الله).

وقوله: (إذا وضع أحدهم ثوبه) أعم من حال التخلي.

قال بعض العلماء: في هذا الموضع تقدم البسملة على التعوذ، خلافاً للقاعدة المعروفة في الصلاة وفي القراءة حيث يقدم التعوذ على البسملة، فالتعوذ في قراءة القرآن إنما هو لأجل القراءة، فتقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم؛ لأن البسملة من القرآن، فقدم التعوذ عليها، بخلاف تقدم البسملة على التعوذ هنا، فيقول أولاًً: باسم الله، ثم يقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث.

قوله: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) الخبُث: بضم الباء جمع الخبيث، والخبائث جمع الخبيثة، وكأنه عليه الصلاة والسلام أراد بذلك ذكور الشياطين وإناثهم.

وقد صرح جماعة من أئمة الحديث أنه بإسكان الباء في كلمة (الخبْث) منهم: أبو عبيد القاسم بن سلام ، واختلف الذين رووا سكون الباء في كلمة الخبث في معناه، فقيل: الخبث: الشر، وقيل: الكفر، وقيل: الشيطان، أما الخبائث فقالوا: هي المعاصي؛ لأنها جمع معصية.

والمعروف عند غيرهم من العلماء أنه بضم الباء في كلمة الخبُث، والمعنى ذكران الشياطين وإناثهم.

وقال ابن الأعرابي : الخبث في كلام العرب المكروه، فإن كان من الكلام فهو الشتم، وإن كان من الملل فهو الكفر، وإن كان من الطعام فهو الحرام، وإن كان من الشراب فهو الضار.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
آداب الاستئذان [1] 2546 استماع
آداب طالب العلم 1811 استماع
آداب الدائن والمدين 1705 استماع
أدب التعامل مع الكفار (3) 1592 استماع
أدب التعامل مع الكفار (2) 1588 استماع
آداب التخلي [1] 1420 استماع
آداب التناظر 1343 استماع
أدب التعامل مع الكفار 1048 استماع
آداب الاستئذان [2] 1031 استماع
آداب التخلي [3] 793 استماع