آداب التخلي [1]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم صل على محمد النبي الأمي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

دين الإسلام هو دين حياتي، يتعامل مع الحياة، وينظم كل شئون المسلم، حتى في الأمور التي هي أصلاً من العادات، فالشرع تعرض لها بأمر أو نهي، وبذلك تنتقل من العادة المحضة إلى العبادة، بحيث يصير هذا المأمور به أو المنهي عنه حداً من حدود الله تبارك وتعالى.

فينبغي أن يتعبد المسلم بطاعة ربه والاقتداء بنبيه صلى الله عليه وآله وسلم فيما شرع من هذه الأشياء، وقد تعجب بعض أهل الكتاب من هذه الطبيعة للإسلام، فقال بعضهم لأحد الصحابة رضي الله عنهم: لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة! يعني: قضاء الحاجة.

ويقول بعض الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم: (ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراً إلا ذكر لنا منه علماً، ولا طائراً يطير بجناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً)، فصلى الله عليه وآله وسلم.

فهذا هو الإسلام وهذا الدين إذا نظرت إليه من أي زاوية من الزوايا قلت: إنه لا يمكن إلا أن يكون من عند الله عز وجل، وإنه الدين الحق، وشريعته الخالدة، وكلمة الله التي لا تبديل لها.

إذا نظرت إلى الإسلام من جانب العقيدة تجد التوحيد الذي فيه تطهير القلب وتنظيفه من نجاسة الشرك، ومن كل الأخلاق الرديئة والعقائد الفاسدة، وفيه تزكية للنفس بالعقائد الصالحة، وهكذا إذا نظرت إليه من جانب العبادات أو المعاملات أو العادات.

ولننظر في باب: الاستنجاء وآداب التخلي، الذي هو من الأمور الشخصية المحضة، فإن الإسلام جعل فيه تشريعاً وأمراً ونهياً وآداباً وحدوداً لله عز وجل حدها، ويجب على كل مسلم أن يتعلمها؛ كي يلتزم بها، وهذه آية من آيات تنظيم الإسلام لأدق شئون الإنسان، فما من الناس إلا وهو يحتاج إلى هذا الآداب حتى يكون متبعاً لكتاب الله ومقتدياً برسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.

والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم لا يكون فقط في الواجبات أو المأمورات، وليس فقط أيضاً في الآداب الشرعية، وإنما أيضاً في العادات المحضة، قال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى في كتابه الأربعين: اعلم أن مفتاح السعادة في اتباع السنة والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع مصادره وموارده وحركاته وسكناته، حتى في هيئة أكله وقيامه ونومه وكلامه، ولست أقول ذلك في آدابه فقط، بل في جميع أمور العادات، فبه يحصل الاتباع المطلق، كما قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31] وقال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].

ثم يقول: فلا ينبغي التساهل في امتثال ذلك، فتقول: هذا مما يتعلق بالعادات فلا معنى للاتباع فيه، فإن ذلك يغلق عليك باباً عظيماً من أبواب السعادة.

وهذا في العادات المحضة فكيف بالآداب؟! بل كيف بالأوامر والنواهي التي فيها حلال وحرام ومستحب ومكروه وواجب؟!

نبدأ بتوفيق الله عز وجل في ذكر بعض مسائل الاستنجاء وآداب التخلي، ونحاول أن نلتزم بالخطة الأصلية التي وضعها صاحب الكتاب الذي نشرحه وهو كتاب (منار السبيل بشرح الدليل).

قال المؤلف رحمه الله: [باب الاستنجاء وآداب التخلي.

الاستنجاء: هو إزالة ما خرج من السبيلين بماء طهور أو حجر طاهر مباح منقٍ، فالإنقاء بالحجر ونحوه أن يبقى أثر لا يزيله إلا الماء، ولا يجزئ أقل من ثلاث مسحات تعم كل مسحة المحل، والإنقاء بالماء عود خشونة المحل كما كان وظنه كافياً.

ويسن الاستنجاء بالحجر ونحوه، ثم بالماء، فإن عكس كره، ويجزئ أحدهما، والماء أفضل.

ويكره استقبال القبلة واستدبارها في الاستنجاء.

ويحرم بروث وعظم وطعام ولو لبهيمة، فإن فعل لم يجزه بعد ذلك إلا الماء، كما لو تعدى الخارج موضع العادة.

ويجب الاستنجاء لكل خارج إلا الطاهر والنجس الذي لم يلوث المحل ].

هذا هو الفصل الأول من هذا الباب، فيبدأ بذكر تعريف الاستنجاء.

الاستطابة والاستنجاء والاستجمار هي كلمات تدل على إزالة الخارج من السبيلين، والاستطابة والاستنجاء يكونان بالماء وبالأحجار، أما الاستجمار فيختص بالأحجار.

فالاستطابة هي: الاستنجاء بالماء أو بالأحجار، يقال: استطاب وأطاب إذا استنجى، سمي استطابة؛ لأنه يطيب جسده بإزالة الخبث عنه.

أما الاستنجاء فهو استفعال من نجوت الشجرة يعني: قطعتها، فكأنه بهذا التطهير قطع الأذى عنه؛ فلذلك سمي استنجاء.

أما ابن قتيبة: الاستنجاء مأخوذ من النجوة، والنجوة: هي ما ارتفع من الأرض؛ لأن من أراد قضاء الحاجة بحث عن شيء مستتر من الأرض فاستتر به فمنه سمي الاستنجاء.

أما الاستجمار فهو استفعال من الجمار، وهي الحجارة الصغيرة؛ وذلك لأنه يستعملها الإنسان في استجماره.

مسألة: ليس على من نام أو خرجت منه ريح استنجاء.

يقول الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى: ولا نعلم في هذا خلافاً، قال الإمام أحمد : ليس في الريح استنجاء في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما عليه الوضوء، يقول: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من استنجى من الريح فليس منا) عزاه في المغني إلى الطبراني في معجمه الصغير، لكن قال الألباني في إرواء الغليل حديث رقم (45): حديث ضعيف جداً، وعزوه للمعجم الصغير وهم. إذاً: الاستنجاء من الريح ليس من الدين، بل هو بدعة.

وعن زيد بن أسلم في قوله تعالى: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6] قال: إذا قمتم من النوم. يعني: إذا قمتم من النوم وأردتم الصلاة فاغسلوا وجوهكم، لم يأمر الشرع بالاستنجاء من الريح والنوم، ولم يأت نص بذلك، وليس هذا في معنى المنصوص عليه حتى يقاس عليه؛ لأن الاستنجاء إنما شرع لإزالة النجاسة ولا نجاسة هنا؛ لأن النوم في حد ذاته لا يوجد به نجاسة حتى يزيلها، وكذلك إخراج الريح لا يستلزم الاستنجاء.

يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى في المجموع: وأجمع العلماء على أنه لا يجب الاستنجاء من الريح.

إذاً: الدليل هنا هو الإجماع وليس الحديث الضعيف، فقد أجمع العلماء على أنه لا يجب الاستنجاء من الريح والنوم ولمس النساء والذكر، وحكي عن الشيعة أنه يجب، والشيعة لا يعتد بخلافهم، وخلافهم لا يقدح في صحة الإجماع.

قال الشيخ نصر في الانتخاب: إن استنجى لشيء من هذا فهو بدعة.

وقال الجرجاني : يكره الاستنجاء من الريح، والله أعلم.

ذكر العلماء شروطاً في الشيء الذي يصلح أن يستنجى به، وقد ذكر المؤلف رحمه الله حداً مختصراً جداً لهذا الأمر فقال: (الاستنجاء هو إزالة ما خرج من السبيلين بماء طهور أو حجر طاهر مباح منقٍ).

أي: فإذا استعمل ماء في إزالة النجاسة فيتعين أن يكون هذا الماء ماءًَ مطلقاً، فلا يصح ولا يجوز إزالة النجاسة بمائع غير الماء المطلق.

قوله: (أو حجر طاهر) فيه احتراز من الحجر النجس، ثم قال: (مباح منق) وسنذكر التفصيل إن شاء الله.

الشرط الأول: الاستنجاء بالأحجار وما في معناها

يقول الشارح رحمه الله: [والاستجمار بالخشب والخرق وما في معناهما مما ينقي جائز في قول الأكثر]. قوله: (وما في معناهما) أي: ما يشبه الحجر؛ وذلك بأن يكون منقياً مطهراً. قال: [ وفي حديث سلمان عند مسلم : (نهانا أن نستنجي برجيع أو عظم) ]. الرجيع هو الروث، ولا يجوز الاستنجاء به لكونه نجساً، وأما العظم فلأنه زاد إخواننا من الجن. قال: [ فتخصيصها بالنهي يدل على أنه أراد الحجارة أو ما قام مقامها ]. أي: لأنه خص من الأجسام الصلبة الرجيع أو العظم. قال المؤلف: (فالإنقاء بالحجر ونحوه أن يبقى أثر لا يزيله إلا الماء) أي: الاستنجاء بالأحجار لا تزيل العين والأثر، إنما تزيل العين فقط وتبقي أثراً معفواً عنه؛ لعموم البلوى به، ولمشقة الاحتراز منه. وإذا استجمر أحد بالأحجار مع وجود الماء فلا بأس، وإن كانت الأحجار تزيل العين ويبقى الأثر، فإذا توضأ بعد ذلك فوضوءه وطهارته صحيحة. قال في الشرح: [ إن الإنقاء بالحجر ونحوه أن يبقى أثر لا يزيله إلا الماء. بأن تزول النجاسة وبلتها، فيخرج آخرها نقياً لا أثر به] يعني: يخرج آخر الأحجار نقياً لا أثر به. أما ما ذكر العلماء في شرط ما يستنجى به فيقول الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى في المغني: والخشب والخرق وكل ما أنقي به فهو كالأحجار، هذا الصحيح من المذهب -الحنبلي-، وهو قول أكثر أهل العلم، وفي الرواية الأخرى: لا يجزئ إلا الأحجار، اختارها أبو بكر، وهو مذهب داود ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالأحجار، وأمره بالأحجار يقتضي الوجوب، فقالوا: لابد من الأحجار، لكن الصحيح من مذهب داود أنه يجزئ الاستنجاء والاستجمار بالأحجار أو ما قام مقامها. إذاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وليستنج بثلاثة أحجار) أخذ منه بعض الأئمة -ومنهم داود بن علي- عدم جواز الاستجمار بغير الأحجار؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالاستنجاء بالأحجار، فحينئذٍ يجب أن يقتصر على الأحجار، والأمر يقتضي الوجوب، ولأن هذا فيه رخصة، والرخصة أتت بصورة مخصوصة، فيجب الاقتصار عليها فقط كما يقتصر على التراب في التيمم. وأجاب العلماء عن ذلك فقالوا: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وليستنج بثلاثة أحجار) وشبهه من الأحاديث، إنما نص على الأحجار؛ لأن الأحجار هي غالب الموجود للمستنجي بالفضاء، ولأن أسهل شيء يستطيع أن يحصل عليه في ذلك المكان هو هذه الأحجار، فإنه لا مشقة فيها ولا كلفة في تحصيلها، فالنص على الأحجار إنما خرج مخرج الغالب، وهذا مثل قول الله تبارك وتعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ [الأنعام:151] فهذا القيد لا مفهوم له، فهل يجوز أن يستدل بهذه الآية على أنه يجوز قتل الأولاد لسبب آخر غير الإملاق الذي هو الفقر؟! لا يجوز، لكن لما كان السبب الغالب الذي كان يدعو بعض العرب في الجاهلية إلى قتل الأولاد هو الفقر نص عليه. كذلك أيضاً قوله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130] فغالب الربا يكون أضعافاً مضاعفة، فلذلك نص عليه، فهل يصح أن يستدل بهذه الآية -كما فعل بعض الذين في قلوبهم مرض- على جواز الربا إذا لم يكن أضعافاً مضاعفة؟! كلا. وكذلك قوله تبارك وتعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101] هل هذا فقط في حالة الخوف أم أن هذه رخصة عامة في أي سفر يقصر الإنسان فيه الصلاة؟ هي رخصة عامة، وقيد الخوف لا مفهوم له؛ لكونه خرج مخرج الغالب، وهكذا نص على الأحجار لهذه العلة. استدل الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى على أن كل ما يشبه الأحجار ويقوم مقامها له حكمها في جواز الاستجمار به بقوله: ولنا ما روى أبو داود عن حذيفة قال: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستطابة؟ فقال: بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع) فلولا أنه أراد الحجر وما في معناه لم يستثن منها الرجيع، ولم يكن تخصيص الرجيع بالذكر له معنى. وفي حديث سلمان رضي الله عنه قال: (نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، وأن نستجمر برجيع أو عظم) رواه مسلم . فتخصيص النهي بالرجيع -وهو الروث- والعظم يدل على أنه أراد الحجارة أو ما قام مقامها. وروى طاوس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أتى أحدكم البراز فلينزه قبلة الله ولا يستقبلها ولا يستدبرها، وليستطب بثلاثة أحجار، أو ثلاثة أعواد، أو ثلاث حثيات من تراب) رواه الدارقطني . وقد روي عن ابن عباس مرفوعاً والصحيح أنه مرسل، ورواه سعيد في سننه موقوفاً على طاوس . يقول الإمام البيهقي : الصحيح أن هذا من كلام طاوس وليس من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأيضاً ذكر البيهقي أن نفس هذا الحديث روي عن سراقة بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه ضعيف أيضاً. قال البيهقي : وأصح ما روي في هذا ما رواه يسار بن نمير قال: (كان عمر رضي الله عنه إذا بال قال: ناولني شيئاً أستنجي به، فأناوله العود والحجر، أو يأتي حائطاً يتمسح به أو يمسه الأرض ولم يكن يغسله) أي: يجزئ الحجر وما في معنى الحجر، لكن التراب الرخو ليس فيه معنى الحجر، ولا يقوم مقام الحجر المأمور به، لكن إذا كان تراباً مستحجراً متماسكاً متضاماً يشبه الحجارة، وأمكن الإزالة به والإنقاء؛ فيكون حكمه حكم الحجر، فإن كان رخواً لا تمكن الإزالة به لم يجزئ؛ لأنه يعلق بالمحل. ثم قال الإمام ابن قدامة مبيناً صحة الاستنجاء بالأحجار أو ما في معناها: ولأنه متى ورد النص بشيء لمعنى معقول وجب تعديته إلى ما وجد فيه المعنى. أي: متى ورد النص بشيء في معنى معقول نستطيع أن ندركه بأنفسنا وجب أن يتعدى هذا الحكم إلى ما وجد فيه نفس هذا المعنى، وهو ما يسمى بالقيد، والمعنى المعقول ها هنا أن تزال عين النجاسة، وهذا يحصل بغير الأحجار، وبهذا يخرج التيمم فلا يصح القياس على التيمم؛ لأن التيمم غير معقول المعنى، فإن التيمم رخصة غير معقولة المعنى.

الشرط الثاني: الاستنجاء بشيء منق قالع للنجاسة

لابد أن يكون ما يستجمر به منقياً؛ لأن الإنقاء مشترط في الاستجمار، أما الزجاج والفحم الرخو وشبههما مما لا ينقي فلا يجزئ ولا يجوز الاستنجاء بهما، ولو كان جسماً صلباً؛ لأنه لا ينقي.

روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (قدم وفد الجن على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد! انه أمتك أن يستنجوا بعظم أو روثة أو حممة -الحممة هي الفحم-؛ فإن الله عز وجل جعل لنا فيها رزقاً، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك) رواه أبو داود والدارقطني والبيهقي وضعفه الدارقطني والبيهقي .

إذاً: فشرط الشيء الذي يستنجى به أن يكون قالعاً لعين النجاسة، ولا يشترط أن يزيل الأثر بالماء فقط.

ربما يقول بعض الناس: كيف نفصل في مثل هذه الأشياء ونحن الآن نعيش في المدن والأمور ميسرة إلى حد بعيد ولسنا بحاجة إلى ذلك؟!

نقول: قال بعض السلف: تعلم العلم فإنك لا تدري متى تحتاج إليه.

إذاً: فشرط الشيء المستنجى به أن يكون قالعاً لعين النجاسة، فالزجاج أو القصب الأملس أو ما يشبههما لا يجزئ كما قال الإمام النووي .

أما الفحم إن كان صلباً لا يتفتت أجزأ الاستنجاء به، وإن كان رخواً يتفتت لم يجزئ؛ لأن حديث النهي عن الاستنجاء بالحممة ضعيف، فبالتالي لا يصح الاستدلال به.

ومن استنجى بزجاج ونحوه لزمه الاستنجاء ثانياً؛ لأن الزجاج لا يقلع عين النجاسة، إنما يستنجي بالحجر أو ما في معناه.

فإن استنجى بالزجاج ونحوه، فتعدت النجاسة محلها؛ فحينئذٍ يتعين عليه استعمال الماء، أما إذا لم تتعد النجاسة المحل فتكفيه الأحجار.

الشرط الثالث: الاستنجاء بالطاهر لا النجس

يشترط العلماء فيما يستنجى به: أن يكون طاهراً، فإن كان نجساً لم يجزئ الاستنجاء به، فإن أزال النجاسة بشيء نجس لم يجزئ، وبهذا قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : يجزئه؛ لأنه يجفف كالطاهر.

يقول ابن قدامة : ولنا: (أن ابن مسعود رضي الله عنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بحجرين وروثة يستجمر بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: هذه ركس) رواه البخاري ، وفي لفظ الترمذي : (قال: إنها ركس) يعني: نجسة.

فهذا تعليم من النبي صلى الله عليه وسلم يجب المصير إليه، فعلل رفضه لاستعمال هذه الروثة بأنها نجسة، فيفهم من ذلك أن ما كان نجساً لا يجوز الاستجمار به.

أيضاً: عملية الاستجمار أو الاستنجاء أو الاستطابة هي عبارة لإزالة النجاسة، فكيف تحصل إزالة النجاسة بالنجاسة؟! وهذا مثل أن يغسل إنسان ثوباً متنجساً بالبول!

فإن استنجى بنجس لم يجزئه الاستجمار بعده؛ لأن المحل تنجس بنجاسة من غير المخرج، فلم يجزئ فيها غير الماء كما لو تنجس ابتداءً، ويحتمل أن يجزئه؛ لأن هذه النجاسة تابعة لنجاسة المحل فزالت بزوالها، وهذه المسألة فيها خلاف كما ذكر الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى.

وهذه المسألة ذكرها الإمام النووي رحمه الله فقال: ذكرنا أنه لا يجوز الاستنجاء بنجس، هذا مذهبنا ومذهب جمهور العلماء، وجوزه أبو حنيفة وغيره.

أي: جوز أبو حنيفة إزالة النجاسة بالروث.

ثم يقول النووي : ودليلنا حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (اتبعت النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج لحاجته فقال: أبغني أحجاراً أستنفض بها، ولا تأتني بعظم ولا روث) رواه البخاري .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (وليستنج بثلاثة أحجار، ونهى عن الروث والرمة) والرِّمة: هي العظم البالي، والرُّمة هي الحبل، وبه سمي الشاعر ذو الرمة.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم: (فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: إنها ركس).

وعن سلمان قال : (نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروث والعظام) رواه مسلم .

وعن جابر رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله وسلم أن يتمسح بعظم أو بعر) رواه مسلم .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستنجى بعظم أو روث وقال: إنهما لا يطهران) رواه الدارقطني وقال: إسناده صحيح.

وحديث رويفع بن ثابت من الأحاديث الصريحة جداً في هذه المسألة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رويفع ! لعل الحياة ستطول بك بعدي فأخبر الناس أن من عقد لحيته أو تقلد وتراً أو استنجى برجيع دابة أو عظم؛ فإن محمداً منه بريء) رواه أبو داود والنسائي ، وقال الإمام النووي : هذا حديث إسناده جيد.

وهنا مسألة ذكرها الماوردي قال: لو أحُرق عظم طاهر بالنار حتى تفحم وتغير حاله فهل يجوز الاستنجاء به؟

الجواب: عند الشافعية في هذه المسألة وجهان: أحدهما: يجوز الاستنجاء به؛ لأن النار أحالته وحولت طبيعته.

الثاني: لا يجوز لعموم حديث النهي عن الرِّمة، والرِّمة هي العظم البالي، ولا فرق بين البالي بنار أو بمرور الزمان، وهذا الوجه الثاني صححه الإمام النووي رحمه الله تعالى.

الشرط الرابع: عدم جواز الاستنجاء بما له حرمة أو متصل بحيوان

يشترط فيما يستنجى به: ألا تكون له حرمة، وهذه من المصائب والبلايا التي لا يلتفت لها كثير من الناس.

يقول الإمام ابن قدامة رحمه الله تبارك وتعالى: ولا يجوز الاستنجاء بما له حرمة، كشيء كتب فيه فقه أو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لما فيه من هتك الشريعة والاستخفاف بحرمتها، فهو في الحرمة أعظم من الروث والرمة، ولا يجوز بمتصل بحيوان كَيَدِهِ وعقبه وذنب بهيمة وصوفها المتصل بها.

قال بعض أصحابنا: يجمع المستجمر به ست خصال: أن يكون طاهراً جامداً منقياً غير مطعوم ولا حرمة له ولا متصل بحيوان.

يقول ابن قدامة رحمه الله: أما الطعام فتحريمه من طريق التنبيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الروث والرمة في حديث ابن مسعود ، لكونه زاد إخواننا من الجن، فزادنا مع عظم حرمته أولى.

وهذا تنبيه إلى أنه لا يستنجي الإنسان بما هو زاد إخوانه الآدميين من الفواكه أو الخبز أو أي شيء مما يؤكل، لأنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الاستنجاء بالعظام؛ لأنها زاد إخواننا من الجن، فزادنا مع عظم حرمته أولى ألا يستنجى به.

يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى في المجموع: فرع: قال أصحابنا: ومن الأشياء المحترمة التي يحرم الاستنجاء بها: الكتب التي فيها شيء من علوم الشرع، فإن استنجى بشيء منها عالماً أثم، وفي سقوط الفرض الوجهان، والصحيح لا يجزئه، فعلى هذا تجزئه الأحجار بعده، ولو استنجى بشيء من أوراق المصحف -والعياذ بالله- عالماً صار كافراً مرتداً، نقله القاضي حسين والروياني وغيرهما والله أعلم.

مسألة: يقول النووي : إذا استنجى بمائع غير الماء لم يصح.

يعني: كأن يستنجي بخل أو بأي سائل غير الماء لم يصح.

ثم يقول: ويجب عليه أن يستنجي بعده بالماء، ولا يجزئه الأحجار بلا خلاف في هذه الحالة.

وذلك لأن المائع من خل أو ماء ورد أو أي شيء من السوائل غير الماء إذا لاقى النجاسة فإنه ينجس بذلك، فتزيد النجاسة على النجاسة، ولا ينقي ذلك إلا الماء.

هذا ما يتعلق بشروط ما يستنجى به.

الشرط الأول: الاستنجاء بالأحجار وما في معناها على الصحيح

يقول الشارح رحمه الله: [والاستجمار بالخشب والخرق وما في معناهما مما ينقي جائز في قول الأكثر].

قوله: (وما في معناهما) أي: ما يشبه الحجر؛ وذلك بأن يكون منقياً مطهراً.

قال: [ وفي حديث سلمان عند مسلم : {نهانا أن نستنجي برجيع أو عظم} ].

الرجيع هو الروث، ولا يجوز الاستنجاء به لكونه نجساً، وأما العظم فلأنه زاد إخواننا من الجن.

قال: [ فتخصيصها بالنهي يدل على أنه أراد الحجارة أو ما قام مقامها ].

أي: لأنه خص من الأجسام الصلبة الرجيع أو العظم.

قال المؤلف: (فالإنقاء بالحجر ونحوه أن يبقى أثر لا يزيله إلا الماء) أي: الاستنجاء بالأحجار لا تزيل العين والأثر، إنما تزيل العين فقط وتبقي أثراً معفواً عنه؛ لعموم البلوى به، ولمشقة الاحتراز منه.

وإذا استجمر أحد بالأحجار مع وجود الماء فلا بأس، وإن كانت الأحجار تزيل العين ويبقى الأثر، فإذا توضأ بعد ذلك فوضوءه وطهارته صحيحة.

قال في الشرح: [ إن الإنقاء بالحجر ونحوه أن يبقى أثر لا يزيله إلا الماء. بأن تزول النجاسة وبلتها، فيخرج آخرها نقياً لا أثر به] يعني: يخرج آخر الأحجار نقياً لا أثر به.

أما ما ذكر العلماء في شرط ما يستنجى به فيقول الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى في المغني: والخشب والخرق وكل ما أنقي به فهو كالأحجار، هذا الصحيح من المذهب -الحنبلي-، وهو قول أكثر أهل العلم، وفي الرواية الأخرى: لا يجزئ إلا الأحجار، اختارها أبو بكر، وهو مذهب داود ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالأحجار، وأمره بالأحجار يقتضي الوجوب، فقالوا: لابد من الأحجار، لكن الصحيح من مذهب داود أنه يجزئ الاستنجاء والاستجمار بالأحجار أو ما قام مقامها.

إذاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: {وليستنج بثلاثة أحجار} أخذ منه بعض الأئمة -ومنهم داود بن علي- عدم جواز الاستجمار بغير الأحجار؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالاستنجاء بالأحجار، فحينئذٍ يجب أن يقتصر على الأحجار، والأمر يقتضي الوجوب، ولأن هذا فيه رخصة، والرخصة أتت بصورة مخصوصة، فيجب الاقتصار عليها فقط كما يقتصر على التراب في التيمم.

وأجاب العلماء عن ذلك فقالوا: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: {وليستنج بثلاثة أحجار} وشبهه من الأحاديث، إنما نص على الأحجار؛ لأن الأحجار هي غالب الموجود للمستنجي بالفضاء، ولأن أسهل شيء يستطيع أن يحصل عليه في ذلك المكان هو هذه الأحجار، فإنه لا مشقة فيها ولا كلفة في تحصيلها، فالنص على الأحجار إنما خرج مخرج الغالب، وهذا مثل قول الله تبارك وتعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ [الأنعام:151] فهذا القيد لا مفهوم له، فهل يجوز أن يستدل بهذه الآية على أنه يجوز قتل الأولاد لسبب آخر غير الإملاق الذي هو الفقر؟!

لا يجوز، لكن لما كان السبب الغالب الذي كان يدعو بعض العرب في الجاهلية إلى قتل الأولاد هو الفقر نص عليه.

كذلك أيضاً قوله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130] فغالب الربا يكون أضعافاً مضاعفة، فلذلك نص عليه، فهل يصح أن يستدل بهذه الآية -كما فعل بعض الذين في قلوبهم مرض- على جواز الربا إذا لم يكن أضعافاً مضاعفة؟! كلا.

وكذلك قوله تبارك وتعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101] هل هذا فقط في حالة الخوف أم أن هذه رخصة عامة في أي سفر يقصر الإنسان فيه الصلاة؟

هي رخصة عامة، وقيد الخوف لا مفهوم له؛ لكونه خرج مخرج الغالب، وهكذا نص على الأحجار لهذه العلة.

استدل الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى على أن كل ما يشبه الأحجار ويقوم مقامها له حكمها في جواز الاستجمار به بقوله: ولنا ما روى أبو داود عن حذيفة قال: {سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستطابة؟ فقال: بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع} فلولا أنه أراد الحجر وما في معناه لم يستثن منها الرجيع، ولم يكن تخصيص الرجيع بالذكر له معنى. وفي حديث سلمان رضي الله عنه قال: {نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، وأن نستجمر برجيع أو عظم} رواه مسلم .

فتخصيص النهي بالرجيع -وهو الروث- والعظم يدل على أنه أراد الحجارة أو ما قام مقامها.

وروى طاوس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا أتى أحدكم البراز فلينزه قبلة الله ولا يستقبلها ولا يستدبرها، وليستطب بثلاثة أحجار، أو ثلاثة أعواد، أو ثلاث حثيات من تراب} رواه الدارقطني .

وقد روي عن ابن عباس مرفوعاً والصحيح أنه مرسل، ورواه سعيد في سننه موقوفاً على طاوس .

يقول الإمام البيهقي : الصحيح أن هذا من كلام طاوس وليس من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وأيضاً ذكر البيهقي أن نفس هذا الحديث روي عن سراقة بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه ضعيف أيضاً.

قال البيهقي : وأصح ما روي في هذا ما رواه يسار بن نمير قال: (كان عمر رضي الله عنه إذا بال قال: ناولني شيئاً أستنجي به، فأناوله العود والحجر، أو يأتي حائطاً يتمسح به أو يمسه الأرض ولم يكن يغسله) أي: يجزئ الحجر وما في معنى الحجر، لكن التراب الرخو ليس فيه معنى الحجر، ولا يقوم مقام الحجر المأمور به، لكن إذا كان تراباً مستحجراً متماسكاً متضاماً يشبه الحجارة، وأمكن الإزالة به والإنقاء؛ فيكون حكمه حكم الحجر، فإن كان رخواً لا تمكن الإزالة به لم يجزئ؛ لأنه يعلق بالمحل.

ثم قال الإمام ابن قدامة مبيناً صحة الاستنجاء بالأحجار أو ما في معناها: ولأنه متى ورد النص بشيء لمعنى معقول وجب تعديته إلى ما وجد فيه المعنى.

أي: متى ورد النص بشيء في معنى معقول نستطيع أن ندركه بأنفسنا وجب أن يتعدى هذا الحكم إلى ما وجد فيه نفس هذا المعنى، وهو ما يسمى بالقيد، والمعنى المعقول ها هنا أن تزال عين النجاسة، وهذا يحصل بغير الأحجار، وبهذا يخرج التيمم فلا يصح القياس على التيمم؛ لأن التيمم غير معقول المعنى، فإن التيمم رخصة غير معقولة المعنى.

يقول الشارح رحمه الله: [والاستجمار بالخشب والخرق وما في معناهما مما ينقي جائز في قول الأكثر]. قوله: (وما في معناهما) أي: ما يشبه الحجر؛ وذلك بأن يكون منقياً مطهراً. قال: [ وفي حديث سلمان عند مسلم : (نهانا أن نستنجي برجيع أو عظم) ]. الرجيع هو الروث، ولا يجوز الاستنجاء به لكونه نجساً، وأما العظم فلأنه زاد إخواننا من الجن. قال: [ فتخصيصها بالنهي يدل على أنه أراد الحجارة أو ما قام مقامها ]. أي: لأنه خص من الأجسام الصلبة الرجيع أو العظم. قال المؤلف: (فالإنقاء بالحجر ونحوه أن يبقى أثر لا يزيله إلا الماء) أي: الاستنجاء بالأحجار لا تزيل العين والأثر، إنما تزيل العين فقط وتبقي أثراً معفواً عنه؛ لعموم البلوى به، ولمشقة الاحتراز منه. وإذا استجمر أحد بالأحجار مع وجود الماء فلا بأس، وإن كانت الأحجار تزيل العين ويبقى الأثر، فإذا توضأ بعد ذلك فوضوءه وطهارته صحيحة. قال في الشرح: [ إن الإنقاء بالحجر ونحوه أن يبقى أثر لا يزيله إلا الماء. بأن تزول النجاسة وبلتها، فيخرج آخرها نقياً لا أثر به] يعني: يخرج آخر الأحجار نقياً لا أثر به. أما ما ذكر العلماء في شرط ما يستنجى به فيقول الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى في المغني: والخشب والخرق وكل ما أنقي به فهو كالأحجار، هذا الصحيح من المذهب -الحنبلي-، وهو قول أكثر أهل العلم، وفي الرواية الأخرى: لا يجزئ إلا الأحجار، اختارها أبو بكر، وهو مذهب داود ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالأحجار، وأمره بالأحجار يقتضي الوجوب، فقالوا: لابد من الأحجار، لكن الصحيح من مذهب داود أنه يجزئ الاستنجاء والاستجمار بالأحجار أو ما قام مقامها. إذاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وليستنج بثلاثة أحجار) أخذ منه بعض الأئمة -ومنهم داود بن علي- عدم جواز الاستجمار بغير الأحجار؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالاستنجاء بالأحجار، فحينئذٍ يجب أن يقتصر على الأحجار، والأمر يقتضي الوجوب، ولأن هذا فيه رخصة، والرخصة أتت بصورة مخصوصة، فيجب الاقتصار عليها فقط كما يقتصر على التراب في التيمم. وأجاب العلماء عن ذلك فقالوا: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وليستنج بثلاثة أحجار) وشبهه من الأحاديث، إنما نص على الأحجار؛ لأن الأحجار هي غالب الموجود للمستنجي بالفضاء، ولأن أسهل شيء يستطيع أن يحصل عليه في ذلك المكان هو هذه الأحجار، فإنه لا مشقة فيها ولا كلفة في تحصيلها، فالنص على الأحجار إنما خرج مخرج الغالب، وهذا مثل قول الله تبارك وتعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ [الأنعام:151] فهذا القيد لا مفهوم له، فهل يجوز أن يستدل بهذه الآية على أنه يجوز قتل الأولاد لسبب آخر غير الإملاق الذي هو الفقر؟! لا يجوز، لكن لما كان السبب الغالب الذي كان يدعو بعض العرب في الجاهلية إلى قتل الأولاد هو الفقر نص عليه. كذلك أيضاً قوله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130] فغالب الربا يكون أضعافاً مضاعفة، فلذلك نص عليه، فهل يصح أن يستدل بهذه الآية -كما فعل بعض الذين في قلوبهم مرض- على جواز الربا إذا لم يكن أضعافاً مضاعفة؟! كلا. وكذلك قوله تبارك وتعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101] هل هذا فقط في حالة الخوف أم أن هذه رخصة عامة في أي سفر يقصر الإنسان فيه الصلاة؟ هي رخصة عامة، وقيد الخوف لا مفهوم له؛ لكونه خرج مخرج الغالب، وهكذا نص على الأحجار لهذه العلة. استدل الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى على أن كل ما يشبه الأحجار ويقوم مقامها له حكمها في جواز الاستجمار به بقوله: ولنا ما روى أبو داود عن حذيفة قال: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستطابة؟ فقال: بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع) فلولا أنه أراد الحجر وما في معناه لم يستثن منها الرجيع، ولم يكن تخصيص الرجيع بالذكر له معنى. وفي حديث سلمان رضي الله عنه قال: (نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، وأن نستجمر برجيع أو عظم) رواه مسلم . فتخصيص النهي بالرجيع -وهو الروث- والعظم يدل على أنه أراد الحجارة أو ما قام مقامها. وروى طاوس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أتى أحدكم البراز فلينزه قبلة الله ولا يستقبلها ولا يستدبرها، وليستطب بثلاثة أحجار، أو ثلاثة أعواد، أو ثلاث حثيات من تراب) رواه الدارقطني . وقد روي عن ابن عباس مرفوعاً والصحيح أنه مرسل، ورواه سعيد في سننه موقوفاً على طاوس . يقول الإمام البيهقي : الصحيح أن هذا من كلام طاوس وليس من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأيضاً ذكر البيهقي أن نفس هذا الحديث روي عن سراقة بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه ضعيف أيضاً. قال البيهقي : وأصح ما روي في هذا ما رواه يسار بن نمير قال: (كان عمر رضي الله عنه إذا بال قال: ناولني شيئاً أستنجي به، فأناوله العود والحجر، أو يأتي حائطاً يتمسح به أو يمسه الأرض ولم يكن يغسله) أي: يجزئ الحجر وما في معنى الحجر، لكن التراب الرخو ليس فيه معنى الحجر، ولا يقوم مقام الحجر المأمور به، لكن إذا كان تراباً مستحجراً متماسكاً متضاماً يشبه الحجارة، وأمكن الإزالة به والإنقاء؛ فيكون حكمه حكم الحجر، فإن كان رخواً لا تمكن الإزالة به لم يجزئ؛ لأنه يعلق بالمحل. ثم قال الإمام ابن قدامة مبيناً صحة الاستنجاء بالأحجار أو ما في معناها: ولأنه متى ورد النص بشيء لمعنى معقول وجب تعديته إلى ما وجد فيه المعنى. أي: متى ورد النص بشيء في معنى معقول نستطيع أن ندركه بأنفسنا وجب أن يتعدى هذا الحكم إلى ما وجد فيه نفس هذا المعنى، وهو ما يسمى بالقيد، والمعنى المعقول ها هنا أن تزال عين النجاسة، وهذا يحصل بغير الأحجار، وبهذا يخرج التيمم فلا يصح القياس على التيمم؛ لأن التيمم غير معقول المعنى، فإن التيمم رخصة غير معقولة المعنى.

لابد أن يكون ما يستجمر به منقياً؛ لأن الإنقاء مشترط في الاستجمار، أما الزجاج والفحم الرخو وشبههما مما لا ينقي فلا يجزئ ولا يجوز الاستنجاء بهما، ولو كان جسماً صلباً؛ لأنه لا ينقي.

روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (قدم وفد الجن على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد! انه أمتك أن يستنجوا بعظم أو روثة أو حممة -الحممة هي الفحم-؛ فإن الله عز وجل جعل لنا فيها رزقاً، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك) رواه أبو داود والدارقطني والبيهقي وضعفه الدارقطني والبيهقي .

إذاً: فشرط الشيء الذي يستنجى به أن يكون قالعاً لعين النجاسة، ولا يشترط أن يزيل الأثر بالماء فقط.

ربما يقول بعض الناس: كيف نفصل في مثل هذه الأشياء ونحن الآن نعيش في المدن والأمور ميسرة إلى حد بعيد ولسنا بحاجة إلى ذلك؟!

نقول: قال بعض السلف: تعلم العلم فإنك لا تدري متى تحتاج إليه.

إذاً: فشرط الشيء المستنجى به أن يكون قالعاً لعين النجاسة، فالزجاج أو القصب الأملس أو ما يشبههما لا يجزئ كما قال الإمام النووي .

أما الفحم إن كان صلباً لا يتفتت أجزأ الاستنجاء به، وإن كان رخواً يتفتت لم يجزئ؛ لأن حديث النهي عن الاستنجاء بالحممة ضعيف، فبالتالي لا يصح الاستدلال به.

ومن استنجى بزجاج ونحوه لزمه الاستنجاء ثانياً؛ لأن الزجاج لا يقلع عين النجاسة، إنما يستنجي بالحجر أو ما في معناه.

فإن استنجى بالزجاج ونحوه، فتعدت النجاسة محلها؛ فحينئذٍ يتعين عليه استعمال الماء، أما إذا لم تتعد النجاسة المحل فتكفيه الأحجار.

يشترط العلماء فيما يستنجى به: أن يكون طاهراً، فإن كان نجساً لم يجزئ الاستنجاء به، فإن أزال النجاسة بشيء نجس لم يجزئ، وبهذا قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : يجزئه؛ لأنه يجفف كالطاهر.

يقول ابن قدامة : ولنا: (أن ابن مسعود رضي الله عنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بحجرين وروثة يستجمر بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: هذه ركس) رواه البخاري ، وفي لفظ الترمذي : (قال: إنها ركس) يعني: نجسة.

فهذا تعليم من النبي صلى الله عليه وسلم يجب المصير إليه، فعلل رفضه لاستعمال هذه الروثة بأنها نجسة، فيفهم من ذلك أن ما كان نجساً لا يجوز الاستجمار به.

أيضاً: عملية الاستجمار أو الاستنجاء أو الاستطابة هي عبارة لإزالة النجاسة، فكيف تحصل إزالة النجاسة بالنجاسة؟! وهذا مثل أن يغسل إنسان ثوباً متنجساً بالبول!

فإن استنجى بنجس لم يجزئه الاستجمار بعده؛ لأن المحل تنجس بنجاسة من غير المخرج، فلم يجزئ فيها غير الماء كما لو تنجس ابتداءً، ويحتمل أن يجزئه؛ لأن هذه النجاسة تابعة لنجاسة المحل فزالت بزوالها، وهذه المسألة فيها خلاف كما ذكر الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى.

وهذه المسألة ذكرها الإمام النووي رحمه الله فقال: ذكرنا أنه لا يجوز الاستنجاء بنجس، هذا مذهبنا ومذهب جمهور العلماء، وجوزه أبو حنيفة وغيره.

أي: جوز أبو حنيفة إزالة النجاسة بالروث.

ثم يقول النووي : ودليلنا حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (اتبعت النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج لحاجته فقال: أبغني أحجاراً أستنفض بها، ولا تأتني بعظم ولا روث) رواه البخاري .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (وليستنج بثلاثة أحجار، ونهى عن الروث والرمة) والرِّمة: هي العظم البالي، والرُّمة هي الحبل، وبه سمي الشاعر ذو الرمة.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم: (فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: إنها ركس).

وعن سلمان قال : (نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروث والعظام) رواه مسلم .

وعن جابر رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله وسلم أن يتمسح بعظم أو بعر) رواه مسلم .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستنجى بعظم أو روث وقال: إنهما لا يطهران) رواه الدارقطني وقال: إسناده صحيح.

وحديث رويفع بن ثابت من الأحاديث الصريحة جداً في هذه المسألة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رويفع ! لعل الحياة ستطول بك بعدي فأخبر الناس أن من عقد لحيته أو تقلد وتراً أو استنجى برجيع دابة أو عظم؛ فإن محمداً منه بريء) رواه أبو داود والنسائي ، وقال الإمام النووي : هذا حديث إسناده جيد.

وهنا مسألة ذكرها الماوردي قال: لو أحُرق عظم طاهر بالنار حتى تفحم وتغير حاله فهل يجوز الاستنجاء به؟

الجواب: عند الشافعية في هذه المسألة وجهان: أحدهما: يجوز الاستنجاء به؛ لأن النار أحالته وحولت طبيعته.

الثاني: لا يجوز لعموم حديث النهي عن الرِّمة، والرِّمة هي العظم البالي، ولا فرق بين البالي بنار أو بمرور الزمان، وهذا الوجه الثاني صححه الإمام النووي رحمه الله تعالى.

يشترط فيما يستنجى به: ألا تكون له حرمة، وهذه من المصائب والبلايا التي لا يلتفت لها كثير من الناس.

يقول الإمام ابن قدامة رحمه الله تبارك وتعالى: ولا يجوز الاستنجاء بما له حرمة، كشيء كتب فيه فقه أو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لما فيه من هتك الشريعة والاستخفاف بحرمتها، فهو في الحرمة أعظم من الروث والرمة، ولا يجوز بمتصل بحيوان كَيَدِهِ وعقبه وذنب بهيمة وصوفها المتصل بها.

قال بعض أصحابنا: يجمع المستجمر به ست خصال: أن يكون طاهراً جامداً منقياً غير مطعوم ولا حرمة له ولا متصل بحيوان.

يقول ابن قدامة رحمه الله: أما الطعام فتحريمه من طريق التنبيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الروث والرمة في حديث ابن مسعود ، لكونه زاد إخواننا من الجن، فزادنا مع عظم حرمته أولى.

وهذا تنبيه إلى أنه لا يستنجي الإنسان بما هو زاد إخوانه الآدميين من الفواكه أو الخبز أو أي شيء مما يؤكل، لأنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الاستنجاء بالعظام؛ لأنها زاد إخواننا من الجن، فزادنا مع عظم حرمته أولى ألا يستنجى به.

يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى في المجموع: فرع: قال أصحابنا: ومن الأشياء المحترمة التي يحرم الاستنجاء بها: الكتب التي فيها شيء من علوم الشرع، فإن استنجى بشيء منها عالماً أثم، وفي سقوط الفرض الوجهان، والصحيح لا يجزئه، فعلى هذا تجزئه الأحجار بعده، ولو استنجى بشيء من أوراق المصحف -والعياذ بالله- عالماً صار كافراً مرتداً، نقله القاضي حسين والروياني وغيرهما والله أعلم.

مسألة: يقول النووي : إذا استنجى بمائع غير الماء لم يصح.

يعني: كأن يستنجي بخل أو بأي سائل غير الماء لم يصح.

ثم يقول: ويجب عليه أن يستنجي بعده بالماء، ولا يجزئه الأحجار بلا خلاف في هذه الحالة.

وذلك لأن المائع من خل أو ماء ورد أو أي شيء من السوائل غير الماء إذا لاقى النجاسة فإنه ينجس بذلك، فتزيد النجاسة على النجاسة، ولا ينقي ذلك إلا الماء.

هذا ما يتعلق بشروط ما يستنجى به.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
آداب الاستئذان [1] 2544 استماع
آداب طالب العلم 1809 استماع
آداب الدائن والمدين 1704 استماع
أدب التعامل مع الكفار (3) 1589 استماع
أدب التعامل مع الكفار (2) 1586 استماع
آداب التخلي [2] 1525 استماع
آداب التناظر 1341 استماع
أدب التعامل مع الكفار 1046 استماع
آداب الاستئذان [2] 1028 استماع
آداب التخلي [3] 790 استماع