آداب الاستئذان [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

ثم أما بعد:

لا شك أننا لا نستطيع أن ننفصل عن الواقع الذي يمسنا في أخص خصائصنا وهو عقيدتنا وديننا، فما حصل في الفترات الأخيرة من عدوان اليهود -لعنهم الله- على إخواننا المسلمين في فلسطين، لاشك أنه يحزن كل مؤمن، ومن لم يعتصر قلبه مرارة وغيظاً على أعداء الله فليراجع إيمانه، وليشك في إسلامه، فإن المسلمين كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.

إرادة اليهود تخدير المسلمين وإضعافهم معنوياً

وهذه المشكلة ليست في الحقيقة لب المشكلة؛ بل لب المشكلة هو أن موضوع غزة وأريحا والأشياء التي فعلوها قبل ذلك كانت عملية البدء بالأسهل فالأصعب، أو الترقي من الأسهل فما فوقه، على أساس أن تكون هناك فترة يحصل فيها ترويض لمشاعر المسلمين، ومحاولة لإعدام الحساسية عندهم، خاصة الحساسية العقدية، وذلك عن طريق إضعاف المناعة في الأمة كما هو معلوم.

واليهود في كل أحوالهم ينطلقون من عقيدة راسخة، فاسم دولتهم اسم ديني وهو: (إسرائيل)، ودستور الدولة اليهودية هو التوراة، وليس لهم دستور كأي دولة في العالم، وكل منطلقاتهم تنطلق من عقيدة، هذه العقيدة هي: أنه لا حظ للمسلمين في القدس، وقد قال بن غوريون وهو يصيغ هذه العقيدة في كلمة مركزة له، قال: إنه لا معنى لإسرائيل بدون القدس، ولا معنى للقدس بدون الهيكل. فنحن نتكلم وبعض الناس يتعامل مع المشكلة وكأنهم في حالة تخدير، أو مغيبون تماماً عن الوعي، مع أن هذه حقائق صارخة، فاليهود أعدوا الخطط لهدم المسجد الأقصى، نموذج الهيكل الذي ينوون إعادة بنائه موجود، وما حصل من السفاح المجرم شارون في صبرى وشاتيلا وغيرها هو في الحقيقة عملية مقصودة؛ لأنها نوع من اختبار الحساسية، مثلما يفعل مع من يستحق البنسلين مثلاً، فإنه يعمل له أولاً اختبار حساسية ليرى رد فعل الجسم كيف سيكون، ونفس الشيء هنا؛ لأنهم يظنون أن الوقت قد اقترب لإعادة بناء الهيكل، وذلك لن يكون إلا بعد هدم المسجد الأقصى، نسأل الله سبحانه وتعالى ألا يمكنهم من ذلك، فهذا اختبار حساسية ليروا نتائج ما تمخض عنه ترويض المسلمين في خلال تلك السنوات الماضية، فشاء الله سبحانه وتعالى أن يعرف العالم كله أن هذه الأمة ولو هزمت، أو تخاذلت جيوشها، فإنها لا تهزم روحها، ولا يهزم إيمانها على الإطلاق.

وهذه الأحداث وما فيها من مآسٍ ومرارة وإجرام يهودي لا تستغرب من أمثال اليهود، فقد حصل بالأمس أو صباح اليوم أن خطف جنود اليهود واحداً من إحدى المدن الفلسطينية، وأخذوا يعذبونه ويحرقون السجائر في جسده بعد الضرب والركل، وأحرقوا عينيه وأجزاء أخرى من بدنه إلى أن استشهد رحمه الله تعالى، ثم رموه بعد ذلك، وهذه وحشية ليس لها مثال، وهذا شيء لا يستنكر من اليهود أعداء البشرية كلها، وقد قال فيهم هتلر : أنا أبدت نصف اليهود، وتركت النصف الباقي حتى تعرف البشرية لماذا قتلت النصف الأول. أي: حتى يذوق الناس أخلاق اليهود، وطبائع اليهود، ولؤم اليهود ومكرهم.

ولكن جميع محاولات إضعاف المناعة في الأمة المسلمة باءت بالفشل، وكل المحاولات التي جرت في هذه الفترات الأخيرة تبخرت وتلاشت كالفقاقيع، وهذا أسلوب معروف، فإن الأطباء عندما يريدون أن يزرعوا جسماً أجنبياً في داخل جسم المريض، فلابد قبل الزراعة أن يعطوا المريض أدوية تضعف المناعة، بحيث يكون الجسم مهيأ لقبول ذلك الجسم الغريب إذا زرع فيه ولا يرفضه، وكذلك أيضاً عملية الغزو الفكري للمسلمين، وترويض المسلمين، وتخدير المسلمين، وتزييف التاريخ، والحملات الإعلامية، وتسليط الشهوات والشبهات على الشباب المسلم، وتخويف الناس من التدين، والصد عن سبيل الله، وكل هذه الصور تصب في مجرى واحد وهو: إضعاف المناعة عندهم؛ حتى يسهل لليهود بعد ذلك أن يركبونا كالحمير، كما ينصون على ذلك في تلمودهم: إن البشر لم يخلقوا إلا ليركبهم اليهود كالحمير، وهذا في التلمود أحد كتبهم التي يقدسونها، والتي ينطلقون منها، فذهاب هذا الخبيث السفاح المجرم النجس حتى يدنس المسجد الأقصى، إنما هو محاولة لاختبار ما سيفعله المسلمون، وهنا تنبيه وهو: أن المسجد الأقصى ليس هو قبة الصخرة، ولا الجزء الصغير المبني، بل كل هذه الساحة هي المسجد الأقصى.

التعاون النصراني الصليبي مع اليهود

هناك نوع من التوحد النصراني الصليبي في مسألة مساندة اليهود، وبيان ذلك: أن كل الملل الثلاث ينتظرون قادمين سوف يأتي بهم الله تعالى، وهذا من سنن الله الكونية القدرية، فاليهود ينتظرون مجيء المسيح كما يزعمون، وفي الحقيقة هم ينتظرون المسيح، ولكن المسيح الدجال الذي سيؤمن به اليهود ويتبعونه.

وأيضاً النصارى ينتظرون المجيء الثاني للمسيح، وذلك بصفته إلهاً، فالمسيح الذي جاء أولاً ثم رفع إلى السماء هم يعتقدون بمجيئه مرة ثانية، وهم مجتمعون على أنه لا يمكن أن يعود أو يحصل هذا الأمر إلا إذا حكمت إسرائيل واستولت على القدس، فهذه قضية عقدية، وبعض رؤساء أمريكا كانوا يتبنون هذه القضية بمنتهى الحماس، ومنهم ريجن وغيره، فهذه أرضية مشتركة بين اليهود والنصارى، وهذا سر توحدهم في هذا الباب.

والمسلمون أيضاً ينتظرون مجيء المهدي، وينتظرون أيضاً نزول المسيح عليه السلام، وهو يحكم بالقرآن عند نزوله، وينتظرون أيضاً المسيح الدجال، الذي سيقاتلونه، وسينضم إليه اليهود كما هو معلوم، فالعقيدة متداخلة، ولا مناص من أن تكون الحرب في النهاية حرباً دينية كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، وكما يخبرنا أيضاً الواقع.

فشل الأعداء في محاولة إضعاف معنويات المسلمين

إن كل ما حصل من محاولة ترويض المسلمين، وتقليم أظافرهم قد تلاشى، وظهر أنه ليس له أي أثر، وأظهر أن الأمة ما زالت حية، وما زالت تنبض، وما زالت تحس، رغم كل ما دبر تجاه عقيدتها وإسلامها، فالمسلمون لن ييأسوا، فقد حرر المسلمون القدس بعد مائة سنة تقريباً من احتلال الصليبيين له، والسنوات هي لحظات في عمر الدعوات.

والدرس الذي نستخلصه من الأحداث التي نعيشها هو: أن تكلفة الكرامة أرخص بكثير جداً من تكلفة الذل؛ بل إن الذي يذل مرة لا يحصد شيئاً بعد ذلك، فهي مكاسب وقتية سرعان ما تزول، لكن تكلفة الكرامة والعزة والإباء أرخص بكثير، وما الأفغان عنا ببعيد، وما الشيشان عنا ببعيد، وما هؤلاء المساكين المدنيون العزّل الذين لا سلاح لهم عنا ببعيد، والناس يتكلمون على أن إسرائيل لم تعلن حرباً الآن! فنقول: وما الذي يفعله اليهود أعداء الله الآن؟ أليست حرباً؟! إنها حرب، وفوق ذلك هي حرب ليس فيها أي قدر من التكافؤ، وهذه دناءة وخسة ونذالة، وكما قال بعض الصحفيين: إن طفلاً فلسطينياً خاطب جندياً يهودياً مدججاً بالسلاح قائلاً له: لو كنت رجلاً فاترك السلاح وتعال صارعني، يقول: ففزع اليهودي من هذا الكلام، وهم في حالة معاناة نفسية شديدة جداً من هذا الاستبسال وهذه التضحية، مع عدم وجود أي قدر من التكافؤ على الإطلاق، فهذا جيش مدجج بالسلاح وبأحدث الأسلحة، ويضربونهم بالطيران والقاذفات والصواريخ، وهؤلاء ما يملكون سوى أن يفتحوا صدورهم للموت!

إن الأغبياء من أعداء الإسلام لم يفقهوا حتى الآن حقيقة نفسية المؤمن، وحقيقة نفسية المسلم، وقد أخبرنا الرسول عليه الصلاة والسلام بدائنا، فأخبرنا بدوائنا، ثم أخبرنا بالداء حينما قال عليه الصلاة والسلام: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قلنا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير) فنحن الآن زيادة على المليار (بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من صدور عدوكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قلنا: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا.. وكراهية الموت)، وهذا هو لب القضية: (حب الدنيا وكراهية الموت).

إنَّ المؤمن يشتغل بعمارة الآخرة وإن خرب الدنيا، فحينما يأتيه خبر الصادق المصدوق في القرآن وفي السنة بأنه إذا استشهد في سبيل الله يدخل الجنة، ويغفر له عند أول دفعة من دمه، ويجار من عذاب القبر، ويأمن الفزع الأكبر، ويحلى حلية الإيمان، ويزوج بسبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه.. إلى آخر هذه الميزات العظيمة التي يجنيها الشهيد، وهو موقن أنها انتقال من حياة إلى حياة، فهو يرتفع شهيداً ولا يسقط شهيداً، إنما يرتفع إلى السماء وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا [آل عمران:169]، فهذا هو مفتاح شخصية المجاهد المسلم المؤمن الذي لا يكره الموت، وهذا هو الفرق بيننا وبينهم.

وتفسير كل ما يحصل هو: أن اليهود أعداء الله، وهم الأمة الغضبية التي غضب الله سبحانه وتعالى عليها، وكتب عليها الشقاء، فهم لا يتمنون الموت كما أخبر الله عنهم: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنْ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ [البقرة:96]، وهذا التفسير ليس صعباً لمن فقه عقيدة المسلمين، وقال الله تبارك وتعالى أيضاً عنهم: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [البقرة:95]، وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا [الجمعة:7]، فهم لا يمكن أن يتمنوا الموت، وهذه هي عقيدة اليهود، ولا شك أنهم أقوى من المسلمين بكثير وبمراحل في السلاح وفي القوة المادية، أما من حيث العقيدة فهم قوم كتب الله عليهم الشقاء والذل والصغار، فأما المؤمنون فقد شخص لهم الرسول عليه الصلاة والسلام الداء بقوله: (حب الدنيا وكراهية الموت)، وقد شخص الدواء بعض الخلفاء حينما قال لبعض المجاهدين: احرص على الموت توهب لك الحياة. وكما قال خالد رضي الله عنه وهو يقاتل أعداء الله: (جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة).

فمن أجل هذا الفارق يحصل ما ترونه الآن من أطفال وشباب عُزَّل أمام هذا الجيش المدجج بالسلاح، هذا التحدي يثير استغراب العالم كله: أناس مستضعفون مقابل هذه القوة الغاشمة المجرمة الظالمة، ومع التخاذل المخزي من المسلمين الذين هم في أوضاع أحسن بكثير من أوضاع هؤلاء، ومع ذلك يثبت هؤلاء هذا الثبات.

الجهاد هو الحل

إن المشكلة لا يمكن أن تحل سلمياً كما يقولون، ولن يحظى المسلمون أبداً بما يسمونه بالسلام العادل والدائم.. إلخ، فهذا لا يمكن، وليس هذا رجماً بالغيب، وإنما هو انطلاق من قول الله تبارك وتعالى: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا [الإسراء:8] أي: وإن عدتم إلى الإفساد عدنا إلى تسليط عباد لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً، فهذا وعد الله سبحانه وتعالى، وهو سنة ماضية، فكلما عاد اليهود للإفساد سلط الله عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة كما أخبر الله عز وجل، وهذا هو الواقع مهما كانوا في قوة ومنعة وأسلحة، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى إن اليهودي ليختبئ وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي ورائي تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود)، والغريب أن اليهود يعرفون هذا الحديث، ومن ثم فإنهم يستكثرون من زراعة شجر الغرقد.

فانظر إلى هذه الموالاة، حتى الحجر والشجر يوالي المسلم، ويوالي من يرفع راية التوحيد.

إن اليهود يريدون أن يهدموا المسجد الأقصى؛ ليقيموا هيكل سليمان على أنقاضه، وسليمان عليه السلام لو كان موجوداً الآن لقاتل اليهود الذين ينتسبون إليه مع المسلمين، فإن هذه الشرائع التي كان عليها سليمان وموسى وعيسى وجميع الأنبياء قد نسخت، ولم تعد توصل إلى الجنة، وسُدّت هذه الأبواب ببعثة النبي عليه الصلاة والسلام، ونسخت جميع الشرائع السابقة.

فلب القضية وجوهرها عقيدة، فالمفروض على المسلمين أن ينطلقوا من هذا المنطلق، فهؤلاء كفار يريدون أن يهدموا المسجد الأقصى ويقيموا الهيكل، وهذا دين قد نسخ، وما هم عليه أيضاً دين باطل؛ لأنهم لم يؤمنوا بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، فمهما طال الليل فلا بد أن يحصل فرج وتنفيس بإذن الله تبارك وتعالى، وما يظن أبداً بهذه الأمة أنها تموت، ولا يمكن ذلك، فقد تهزم ولكن لا تفنى، وإذا كان ديجول الرجل الكافر يقول لأمته بعد الحرب العالمية: لقد خسرت فرنسا معركة ولم تخسر حرباً. يعني: أن الأمر سجال، فيوم لك ويوم عليك، وأما العاقبة فإنها للتقوى، كما قال الله تعالى: وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132]، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128]، فالنهاية لا بد أن تكون للتقوى وللمتقين.

وأقل شيء أن نجتهد في الدعاء لإخواننا، وأن ننحاز دائماً، وننصح كل من يختار الحزب الآخر أن يعود من جديد إلى حزب الله عز وجل، كما قال الله تعالى: إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ [المائدة:55-56]، وقوله: كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21]، فهذه سنة لن تتبدل ولن تتغير، ولكن المنافقين لا يفقهون ولا يعلمون، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن ينصر إخواننا، وأن يذل اليهود وينكس راياتهم، وأن يعلي كلمة التوحيد في ربوع الأرض كلها.

وهذه المشكلة ليست في الحقيقة لب المشكلة؛ بل لب المشكلة هو أن موضوع غزة وأريحا والأشياء التي فعلوها قبل ذلك كانت عملية البدء بالأسهل فالأصعب، أو الترقي من الأسهل فما فوقه، على أساس أن تكون هناك فترة يحصل فيها ترويض لمشاعر المسلمين، ومحاولة لإعدام الحساسية عندهم، خاصة الحساسية العقدية، وذلك عن طريق إضعاف المناعة في الأمة كما هو معلوم.

واليهود في كل أحوالهم ينطلقون من عقيدة راسخة، فاسم دولتهم اسم ديني وهو: (إسرائيل)، ودستور الدولة اليهودية هو التوراة، وليس لهم دستور كأي دولة في العالم، وكل منطلقاتهم تنطلق من عقيدة، هذه العقيدة هي: أنه لا حظ للمسلمين في القدس، وقد قال بن غوريون وهو يصيغ هذه العقيدة في كلمة مركزة له، قال: إنه لا معنى لإسرائيل بدون القدس، ولا معنى للقدس بدون الهيكل. فنحن نتكلم وبعض الناس يتعامل مع المشكلة وكأنهم في حالة تخدير، أو مغيبون تماماً عن الوعي، مع أن هذه حقائق صارخة، فاليهود أعدوا الخطط لهدم المسجد الأقصى، نموذج الهيكل الذي ينوون إعادة بنائه موجود، وما حصل من السفاح المجرم شارون في صبرى وشاتيلا وغيرها هو في الحقيقة عملية مقصودة؛ لأنها نوع من اختبار الحساسية، مثلما يفعل مع من يستحق البنسلين مثلاً، فإنه يعمل له أولاً اختبار حساسية ليرى رد فعل الجسم كيف سيكون، ونفس الشيء هنا؛ لأنهم يظنون أن الوقت قد اقترب لإعادة بناء الهيكل، وذلك لن يكون إلا بعد هدم المسجد الأقصى، نسأل الله سبحانه وتعالى ألا يمكنهم من ذلك، فهذا اختبار حساسية ليروا نتائج ما تمخض عنه ترويض المسلمين في خلال تلك السنوات الماضية، فشاء الله سبحانه وتعالى أن يعرف العالم كله أن هذه الأمة ولو هزمت، أو تخاذلت جيوشها، فإنها لا تهزم روحها، ولا يهزم إيمانها على الإطلاق.

وهذه الأحداث وما فيها من مآسٍ ومرارة وإجرام يهودي لا تستغرب من أمثال اليهود، فقد حصل بالأمس أو صباح اليوم أن خطف جنود اليهود واحداً من إحدى المدن الفلسطينية، وأخذوا يعذبونه ويحرقون السجائر في جسده بعد الضرب والركل، وأحرقوا عينيه وأجزاء أخرى من بدنه إلى أن استشهد رحمه الله تعالى، ثم رموه بعد ذلك، وهذه وحشية ليس لها مثال، وهذا شيء لا يستنكر من اليهود أعداء البشرية كلها، وقد قال فيهم هتلر : أنا أبدت نصف اليهود، وتركت النصف الباقي حتى تعرف البشرية لماذا قتلت النصف الأول. أي: حتى يذوق الناس أخلاق اليهود، وطبائع اليهود، ولؤم اليهود ومكرهم.

ولكن جميع محاولات إضعاف المناعة في الأمة المسلمة باءت بالفشل، وكل المحاولات التي جرت في هذه الفترات الأخيرة تبخرت وتلاشت كالفقاقيع، وهذا أسلوب معروف، فإن الأطباء عندما يريدون أن يزرعوا جسماً أجنبياً في داخل جسم المريض، فلابد قبل الزراعة أن يعطوا المريض أدوية تضعف المناعة، بحيث يكون الجسم مهيأ لقبول ذلك الجسم الغريب إذا زرع فيه ولا يرفضه، وكذلك أيضاً عملية الغزو الفكري للمسلمين، وترويض المسلمين، وتخدير المسلمين، وتزييف التاريخ، والحملات الإعلامية، وتسليط الشهوات والشبهات على الشباب المسلم، وتخويف الناس من التدين، والصد عن سبيل الله، وكل هذه الصور تصب في مجرى واحد وهو: إضعاف المناعة عندهم؛ حتى يسهل لليهود بعد ذلك أن يركبونا كالحمير، كما ينصون على ذلك في تلمودهم: إن البشر لم يخلقوا إلا ليركبهم اليهود كالحمير، وهذا في التلمود أحد كتبهم التي يقدسونها، والتي ينطلقون منها، فذهاب هذا الخبيث السفاح المجرم النجس حتى يدنس المسجد الأقصى، إنما هو محاولة لاختبار ما سيفعله المسلمون، وهنا تنبيه وهو: أن المسجد الأقصى ليس هو قبة الصخرة، ولا الجزء الصغير المبني، بل كل هذه الساحة هي المسجد الأقصى.

هناك نوع من التوحد النصراني الصليبي في مسألة مساندة اليهود، وبيان ذلك: أن كل الملل الثلاث ينتظرون قادمين سوف يأتي بهم الله تعالى، وهذا من سنن الله الكونية القدرية، فاليهود ينتظرون مجيء المسيح كما يزعمون، وفي الحقيقة هم ينتظرون المسيح، ولكن المسيح الدجال الذي سيؤمن به اليهود ويتبعونه.

وأيضاً النصارى ينتظرون المجيء الثاني للمسيح، وذلك بصفته إلهاً، فالمسيح الذي جاء أولاً ثم رفع إلى السماء هم يعتقدون بمجيئه مرة ثانية، وهم مجتمعون على أنه لا يمكن أن يعود أو يحصل هذا الأمر إلا إذا حكمت إسرائيل واستولت على القدس، فهذه قضية عقدية، وبعض رؤساء أمريكا كانوا يتبنون هذه القضية بمنتهى الحماس، ومنهم ريجن وغيره، فهذه أرضية مشتركة بين اليهود والنصارى، وهذا سر توحدهم في هذا الباب.

والمسلمون أيضاً ينتظرون مجيء المهدي، وينتظرون أيضاً نزول المسيح عليه السلام، وهو يحكم بالقرآن عند نزوله، وينتظرون أيضاً المسيح الدجال، الذي سيقاتلونه، وسينضم إليه اليهود كما هو معلوم، فالعقيدة متداخلة، ولا مناص من أن تكون الحرب في النهاية حرباً دينية كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، وكما يخبرنا أيضاً الواقع.

إن كل ما حصل من محاولة ترويض المسلمين، وتقليم أظافرهم قد تلاشى، وظهر أنه ليس له أي أثر، وأظهر أن الأمة ما زالت حية، وما زالت تنبض، وما زالت تحس، رغم كل ما دبر تجاه عقيدتها وإسلامها، فالمسلمون لن ييأسوا، فقد حرر المسلمون القدس بعد مائة سنة تقريباً من احتلال الصليبيين له، والسنوات هي لحظات في عمر الدعوات.

والدرس الذي نستخلصه من الأحداث التي نعيشها هو: أن تكلفة الكرامة أرخص بكثير جداً من تكلفة الذل؛ بل إن الذي يذل مرة لا يحصد شيئاً بعد ذلك، فهي مكاسب وقتية سرعان ما تزول، لكن تكلفة الكرامة والعزة والإباء أرخص بكثير، وما الأفغان عنا ببعيد، وما الشيشان عنا ببعيد، وما هؤلاء المساكين المدنيون العزّل الذين لا سلاح لهم عنا ببعيد، والناس يتكلمون على أن إسرائيل لم تعلن حرباً الآن! فنقول: وما الذي يفعله اليهود أعداء الله الآن؟ أليست حرباً؟! إنها حرب، وفوق ذلك هي حرب ليس فيها أي قدر من التكافؤ، وهذه دناءة وخسة ونذالة، وكما قال بعض الصحفيين: إن طفلاً فلسطينياً خاطب جندياً يهودياً مدججاً بالسلاح قائلاً له: لو كنت رجلاً فاترك السلاح وتعال صارعني، يقول: ففزع اليهودي من هذا الكلام، وهم في حالة معاناة نفسية شديدة جداً من هذا الاستبسال وهذه التضحية، مع عدم وجود أي قدر من التكافؤ على الإطلاق، فهذا جيش مدجج بالسلاح وبأحدث الأسلحة، ويضربونهم بالطيران والقاذفات والصواريخ، وهؤلاء ما يملكون سوى أن يفتحوا صدورهم للموت!

إن الأغبياء من أعداء الإسلام لم يفقهوا حتى الآن حقيقة نفسية المؤمن، وحقيقة نفسية المسلم، وقد أخبرنا الرسول عليه الصلاة والسلام بدائنا، فأخبرنا بدوائنا، ثم أخبرنا بالداء حينما قال عليه الصلاة والسلام: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قلنا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير) فنحن الآن زيادة على المليار (بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من صدور عدوكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قلنا: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا.. وكراهية الموت)، وهذا هو لب القضية: (حب الدنيا وكراهية الموت).

إنَّ المؤمن يشتغل بعمارة الآخرة وإن خرب الدنيا، فحينما يأتيه خبر الصادق المصدوق في القرآن وفي السنة بأنه إذا استشهد في سبيل الله يدخل الجنة، ويغفر له عند أول دفعة من دمه، ويجار من عذاب القبر، ويأمن الفزع الأكبر، ويحلى حلية الإيمان، ويزوج بسبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه.. إلى آخر هذه الميزات العظيمة التي يجنيها الشهيد، وهو موقن أنها انتقال من حياة إلى حياة، فهو يرتفع شهيداً ولا يسقط شهيداً، إنما يرتفع إلى السماء وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا [آل عمران:169]، فهذا هو مفتاح شخصية المجاهد المسلم المؤمن الذي لا يكره الموت، وهذا هو الفرق بيننا وبينهم.

وتفسير كل ما يحصل هو: أن اليهود أعداء الله، وهم الأمة الغضبية التي غضب الله سبحانه وتعالى عليها، وكتب عليها الشقاء، فهم لا يتمنون الموت كما أخبر الله عنهم: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنْ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ [البقرة:96]، وهذا التفسير ليس صعباً لمن فقه عقيدة المسلمين، وقال الله تبارك وتعالى أيضاً عنهم: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [البقرة:95]، وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا [الجمعة:7]، فهم لا يمكن أن يتمنوا الموت، وهذه هي عقيدة اليهود، ولا شك أنهم أقوى من المسلمين بكثير وبمراحل في السلاح وفي القوة المادية، أما من حيث العقيدة فهم قوم كتب الله عليهم الشقاء والذل والصغار، فأما المؤمنون فقد شخص لهم الرسول عليه الصلاة والسلام الداء بقوله: (حب الدنيا وكراهية الموت)، وقد شخص الدواء بعض الخلفاء حينما قال لبعض المجاهدين: احرص على الموت توهب لك الحياة. وكما قال خالد رضي الله عنه وهو يقاتل أعداء الله: (جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة).

فمن أجل هذا الفارق يحصل ما ترونه الآن من أطفال وشباب عُزَّل أمام هذا الجيش المدجج بالسلاح، هذا التحدي يثير استغراب العالم كله: أناس مستضعفون مقابل هذه القوة الغاشمة المجرمة الظالمة، ومع التخاذل المخزي من المسلمين الذين هم في أوضاع أحسن بكثير من أوضاع هؤلاء، ومع ذلك يثبت هؤلاء هذا الثبات.

إن المشكلة لا يمكن أن تحل سلمياً كما يقولون، ولن يحظى المسلمون أبداً بما يسمونه بالسلام العادل والدائم.. إلخ، فهذا لا يمكن، وليس هذا رجماً بالغيب، وإنما هو انطلاق من قول الله تبارك وتعالى: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا [الإسراء:8] أي: وإن عدتم إلى الإفساد عدنا إلى تسليط عباد لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً، فهذا وعد الله سبحانه وتعالى، وهو سنة ماضية، فكلما عاد اليهود للإفساد سلط الله عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة كما أخبر الله عز وجل، وهذا هو الواقع مهما كانوا في قوة ومنعة وأسلحة، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى إن اليهودي ليختبئ وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي ورائي تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود)، والغريب أن اليهود يعرفون هذا الحديث، ومن ثم فإنهم يستكثرون من زراعة شجر الغرقد.

فانظر إلى هذه الموالاة، حتى الحجر والشجر يوالي المسلم، ويوالي من يرفع راية التوحيد.

إن اليهود يريدون أن يهدموا المسجد الأقصى؛ ليقيموا هيكل سليمان على أنقاضه، وسليمان عليه السلام لو كان موجوداً الآن لقاتل اليهود الذين ينتسبون إليه مع المسلمين، فإن هذه الشرائع التي كان عليها سليمان وموسى وعيسى وجميع الأنبياء قد نسخت، ولم تعد توصل إلى الجنة، وسُدّت هذه الأبواب ببعثة النبي عليه الصلاة والسلام، ونسخت جميع الشرائع السابقة.

فلب القضية وجوهرها عقيدة، فالمفروض على المسلمين أن ينطلقوا من هذا المنطلق، فهؤلاء كفار يريدون أن يهدموا المسجد الأقصى ويقيموا الهيكل، وهذا دين قد نسخ، وما هم عليه أيضاً دين باطل؛ لأنهم لم يؤمنوا بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، فمهما طال الليل فلا بد أن يحصل فرج وتنفيس بإذن الله تبارك وتعالى، وما يظن أبداً بهذه الأمة أنها تموت، ولا يمكن ذلك، فقد تهزم ولكن لا تفنى، وإذا كان ديجول الرجل الكافر يقول لأمته بعد الحرب العالمية: لقد خسرت فرنسا معركة ولم تخسر حرباً. يعني: أن الأمر سجال، فيوم لك ويوم عليك، وأما العاقبة فإنها للتقوى، كما قال الله تعالى: وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132]، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128]، فالنهاية لا بد أن تكون للتقوى وللمتقين.

وأقل شيء أن نجتهد في الدعاء لإخواننا، وأن ننحاز دائماً، وننصح كل من يختار الحزب الآخر أن يعود من جديد إلى حزب الله عز وجل، كما قال الله تعالى: إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ [المائدة:55-56]، وقوله: كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21]، فهذه سنة لن تتبدل ولن تتغير، ولكن المنافقين لا يفقهون ولا يعلمون، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن ينصر إخواننا، وأن يذل اليهود وينكس راياتهم، وأن يعلي كلمة التوحيد في ربوع الأرض كلها.

دلت الأحاديث الصحيحة على أنه يحرم على المستأذن أن ينظر في بيوت الغير على حين غفلة منهم، ومن دون أن يتنبهوا لوجوده، فيحتاطوا لذلك، وحينما نقول: يحرم أن ينظر الإنسان في بيوت الغير بدون إذن منهم، نعني بذلك النظر من خلال باب مفتوح أو غيره؛ لأننا قلنا: إن كان الباب مفتوحاً فإن الشرع قد أغلقه بتحريم النظر فيه، حتى يفتحه الإذن من صاحبه، فالنظر سواء كان من باب، أو جدار، أو شق في الباب، أو ثقب في الحائط، أو نافذة، أو كوة، أو فروج في بيت شعر أو خيمة فيها فتحات، فلا يجوز لإنسان أن ينظر في بيوت الغير على حين غفلة منهم دون أن يتنبهوا لوجوده فيحتاطوا لذلك، فمن ذلك حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: اطلع رجل من حجرة في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، ومع النبي صلى الله عليه وسلم مدرى -مشط- يحك به رأسه، فقال عليه الصلاة والسلام: لو علمت أنك تنظر لطعنت به في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر.

وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقئوا عينه، وفي رواية: من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم ففقئوا عينه فلا دية ولا قصاص؛ لأنها عين خائنة، فهي هدر.

وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لو أن رجلاً اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك جناح.

وعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يحل لامرئ أن ينظر إلى جوف بيت حتى يستأذن، فإن فعل فقد دخل.

وعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: من ملأ عينه من قاعة بيت قبل أن يؤذن له فقد فسق.

وعن أبي سويد العبدي قال: أتينا ابن عمر رضي الله عنهما فجلسنا ببابه ليؤذن لنا، فأبطأ علينا الإذن، فقمت إلى جحر في الباب فجعلت أطلع فيه، ففطن بي، فلما أذن لنا جلسنا، فقال: أيكم اطلع آنفاً في داري؟ قلت: أبطأت علينا فنظرت، فلم أتعمد ذلك. أي: أنه اعتذر له عن ذلك.

وعن مسلم بن نذير قال: استأذن رجل على حذيفة رضي الله عنه فاطلع -يعني: أنه وهو يستأذن اطلع على داخل البيت- وقال: أدخل؟ فقال حذيفة رضي الله عنه: أما عينك فقد دخلت، وأما استك فلم تدخل. وعن القعقاع بن عمرو قال: صعد الأحنف بن قيس فوق بيته فأشرف على جاره فقال: سوءة سوءة، -أي: أنه لم يتعمد النظر- دخلت على جاري بغير إذن، لا صعدت فوق هذا البيت أبداً. وذلك تكفيراً عن هذا الشيء الذي لم يقصده.

فلا يحل لإنسان أبداً أن يطلع من مكان عال على جيرانه الذين هم دونه، وهذا خلق من صميم أخلاق الإسلام، وقد كان من أخلاق الجاهلية، حتى إنّ عنترة الشاعر الجاهلي المعروف يفتخر قائلاً:

وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها

ويقول مسكين الدارمي :

ما ضر جاري إذ أجاوره ألا يكون لبيته ستر

أعمى إذا ما جارتي خرجت حتى يواري جارتي الخدر

فرعاية حرمة الجار، وغض البصر عن عورات الجيران كان موجوداً في الجاهلية، فزادت حرمة الجار في ظل الإسلام، ونحن الآن في زمان كما قال بعض العلماء صرنا في زمان ليس فيه آداب الإسلام، ولا أخلاق الجاهلية، ولا أحلام ذوي المروءة. إلا من رحم الله.

حكم من جنى على عين من يطلع إلى داره

مسألة: إذا نظر المستأذن إلى داخل البيت قبل أن يؤذن له، فجنى صاحب البيت على عينه فهل يضمن؟ وهل عليه دية؟ وهل هناك قصاص؟

يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: اعلم أن أقوى الأقوال دليلاً وأرجحها فيمن نظر من كوة إلى داخل منزل قوم ففقئوا عينه التي نظر إليهم بها ليطلع على عوراتهم: أنه لا حرج عليهم في ذلك: من إثم، ولا غرم دية العين، ولا قصاص، وهذا لا ينبغي العدول عنه؛ لثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم ثبوتاً لا مطعن فيه؛ ولذا لم نذكر هنا أقوال من خالف في ذلك من أهل العلم؛ لسقوطها عندنا؛ لمعارضتها النص الثابت عنه صلى الله عليه وآله وسلم، ومن هذه الأحاديث: (لو أن امرأً اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح) أي: ليس عليك إثم، وهذه نكرة في سياق النفي، فهي تعم رفع كل حرج أو إثم أو دية أو قصاص، وقوله عليه الصلاة والسلام: (من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقئوا عينه)، فما دام حلالاً فهو لا يستلزم أي إثم أو دية أو قصاص؛ لأن كل ما أحله الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم لا مؤاخذة على فعله البتة بنوع من أنواع المؤاخذة.

فهذه العين خائنة يجوز أخذها؛ لأنها هدر لا عقل فيها ولا قود ولا إثم، ومما يؤكد ذلك: أن الرسول عليه الصلاة والسلام هم أن يفعل ذلك، فالأحاديث الماضية أحاديث قولية، وأما من ناحية السنة الفعلية فقد هم النبي عليه الصلاة والسلام أن يعاقب هذا الخائن الذي يتلصص ويتجسس على عورات الناس بهذه العقوبة.

فعن أنس رضي الله عنه: (أن رجلاً اطلع في بعض حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فقام إليه بمشقص أو مشاقص وجعل يختله ليطعنه) .

وعن سهل بن سعد : (أن رجلاً اطلع من جحر في باب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم مدرى يحك به رأسه، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لو أعلم أنك تنظرني لطعنت به في عينيك، وإنما جعل الإذن من قبل البصر) رواه البخاري .

والمشقص نصل السهم إذا كان طويلاً غير عريض، وقوله: (من جحر) الجحر: هو كل ثقب مستدير في أرض أو حائط، والحجر: جمع حجرة من حجر البيت.

يقول الشنقيطي : وهذه النصوص الصحيحة التي ذكرنا لا ينبغي العدول عنها، ولا تأويلها بغير مستند صحيح من كتاب أو سنة؛ ولذلك اخترنا ما جاء فيها من أن تلك العين الخائنة يحل أخذها وتكون هدراً، ولم نلتفت إلى قول من أقوال من خالف ذلك، ولا لتأويله النصوص بغير مستند يجب الرجوع إليه.

فلو أنَّ أحدنا اليوم رأى رجلاً يتلصص عليه من النافذة، أو من ثقب في الباب فأخذ سيخاً -مثلاً- وفقأ به عينه الخائنة، فماذا سيفعلون به يا ترى؟

لابد أن يكون عندنا فقه بالواقع، ومعرفة بالمواءمة بين أحكام الشرع وبين الواقع، وكونك تفقأ عينه هذا مباح في ظل الشريعة الإسلامية بما أن هذا هو الراجح من حيث الدليل، أما الآن فنحن في ظل القوانين الوضعية، وأنا لا أدري بماذا تحكم المحاكم في مثل هذا، ولكن ما أظنها تصل إلى حد إباحة أخذ هذه العين الخائنة بلا مؤاخذة، فلابد أن تضع في اعتبارك أنك لو فقأت عينه فستعاقب بمقتضى القوانين الوضعية، وإن كنت لا تأثم عند الله، ولا تستحق العقوبة، لكن من حيث الواقع لا بد أن تنظر قبل أن تخطو حتى تدرك عواقب الأمور؛ حتى لا تبقى مظلوماً من الجهتين: من جهة أن هذا الخائن نظر في بيتك بدون إذنك، وهذا ظلم وانتهاك لحرمتك، ومن جهة أنك ربما ستعاقب بصورة أو بأخرى في مقابل شيء أحله الله سبحانه وتعالى، فلا بد من أن نفقه مثل هذه الأشياء، ونضعها في اعتبارنا.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
آداب الاستئذان [1] 2544 استماع
آداب طالب العلم 1809 استماع
آداب الدائن والمدين 1704 استماع
أدب التعامل مع الكفار (3) 1589 استماع
أدب التعامل مع الكفار (2) 1586 استماع
آداب التخلي [2] 1525 استماع
آداب التخلي [1] 1419 استماع
آداب التناظر 1341 استماع
أدب التعامل مع الكفار 1046 استماع
آداب التخلي [3] 790 استماع