آداب التخلي [3]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فمن آداب التخلي ألا يبول الإنسان قائماً، بل يبول قاعداً؛ لئلا يترشش البول عليه، وصح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: من الجفاء أن تبول وأنت قائم.

وكان سعد بن إبراهيم لا يجيز شهادة من بال قائماً.

وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: من حدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبول قائماً فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعداً قال الإمام الترمذي رحمه الله: وهذا أصح شيء في الباب.

وقد رويت الرخصة في البول قائماً عن عمر وعلي وابن عمر وزيد بن ثابت وسهل بن سعد وأنس وأبي هريرة وعروة رضي الله عنهم أجمعين.

ودليلهم هو ما رواه حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائماً والسباطة هي المكان الذي تلقى فيه الفضلات من التراب والكناسة.

فهذا هو الحديث الذي يستدل به من رخص في البول قائماً؛ فلذلك نحن قلنا: يستحب أن يبول الإنسان قاعداً، ومعنى ذلك أنه لا يأثم من بال قائماً، وسبب قول ابن مسعود : هذا من الجفاء، أنه لم يعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم بال قائماً، وكذلك قول عائشة رضي الله عنها: (من حدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبول قائماً فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعداً) لا شك أنها أخبرت عن علمها، لكن من علم حجة على من لا يعلم، فقد صح عن بعض الصحابة أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يبول قائماً مرة أو مرتين، وهذا لا ينافي حديث عائشة، فهي أخبرت عما تعلمه.

ونقول: كان غالب حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم البول قاعداً، أما ما ثبت من تبوله عليه الصلاة والسلام قائماً فيأتي الجواب عنه إن شاء الله تعالى.

فأول دليل على الرخصة في جواز البول قائماً حديث حذيفة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائماً رواه البخاري وغيره، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ليبين الجواز، ولم يفعله إلا مرة واحدة، وبعض العلماء قال: إن ذلك كان لعلة بمأبضيه، وبعضهم قال: لأنه لم يكن هناك مكان يتمكن من الجلوس فيه.

وقد تأتي أغلب الأدلة في مسألة من المسائل بالمنع، ثم يثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه فعل هذا الشيء الذي نهانا عنه، فيحمل العلماء هذا على أنه فعله ليبين الجواز، وليبين أن النهي ليس للتحريم، وإنما هو نهي كراهة تنزيهية مثل الشرب قائماً، وكذلك الشرب من فم القربة أي: السقاء، يقول بعض العلماء:

وقد يفعل للمكروه مبيناً أنه للتنزيه

فيكون في حقه من القرب كالشرب من فم القرب

ومعنى البيتين: أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد يفعل الشيء المكروه مبيناً أنه للتنزيه؛ لأن المكروه قد يطلق على الحرام، كما قال عز وجل بعدما ذكر قتل النفس والزنا وأكل مال اليتيم: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء:38] فهناك كراهة تحريم وكراهة تنزيه، فإذا نهى عليه الصلاة والسلام أمته عن فعل معين ثم فعله فهو يريد بذلك التوسعة عليهم، وليبين أن هذا النهي ليس للتحريم وإنما هو للتنزيه.

فقد يسأل سائل ويقول: إن الله عز وجل لا يختار لنبيه صلى الله عليه وسلم إلا ما هو أفضل، فإذا كان النهي عن هذا الشيء أفضل فكيف يفعل النبي عليه الصلاة والسلام المفضول الذي نهى عنه؟ فالجواب: أن هذا يكون في حقه عليه الصلاة والسلام قربة فاضلة وليست مفضولة؛ لأنها في مقام التشريع والتوسيع على أمته ورفع الحرج عنها، فكما نهى عن الشرب من في السقاء وفعل ذلك مرة؛ ليدل على أن الكراهة تنزيهية، وكذلك كان أغلب أحواله عليه الصلاة والسلام أنه لا يبول قائماً، وفعل ذلك مرة؛ حتى يرفع الحرج عن الأمة، ويبين أن البول حال الجلوس هو على الاستحباب وليس على الوجوب.

يقول ابن قدامة : ولعل النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لتبيين الجواز، ولم يفعله إلا مرة واحدة، ويحتمل أنه كان في موضع لا يتمكن من الجلوس فيه، وقيل: فعل ذلك لعلة كانت بمأبضيه، والمأبض: هو باطن الركبة من كل حيوان.

ويقول الإمام النووي رحمه الله تعالى في المجموع: روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (ما بلت قائماً منذ أسلمت) رواه الترمذي في كتابه تعليقاً لا مسنداً.

وروى ابن ماجة والبيهقي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: أتى رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبول قائماً فقال: يا عمر ! لا تبل قائماً، فما بلت بعد قائماً لكن إسناده ضعيف.

وروي عن جابر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبول الرجل قائماً رواه ابن ماجة والبيهقي وضعفه البيهقي وغيره.

وهذه أحاديث ضعيفة يغني عنها حديث عائشة رضي الله عنها قالت: من حدثكم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول قائماً فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعداً رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي وغيرهم، يقول النووي : وإسناده جيد وهو حديث حسن.

وأما الحديث الآخر: أن النبي صلى الله صلى الله عليه وآله وسلم أتى سباطة قوم فبال قائماً فهذا حديث صحيح رواه البخاري ومسلم من رواية حذيفة بن اليمان رضي الله عنه.

قوله: لعلة بمأبضيه هذه الزيادة رواها البيهقي من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، لكن قال البيهقي : لا تثبت هذه الزيادة.

سبب بوله صلى الله عليه وسلم قائماً

ذكر الخطابي والبيهقي في سبب بوله صلى الله عليه وآله وسلم قائماً أوجهاً:

الوجه الأول -وهو المروي عن الإمام الشافعي رحمه الله-: أن العرب كانت تستشفي بالبول قائماً لوجع الصلب، فكان به صلى الله عليه وسلم إذ ذاك وجع الصلب.

قال القاضي حسين في تعليقته: وصار هذا عادة لأهل هراة، يبولون قياماً في كل سنة مرة إحياءً لتلك السنة.

وهذا كلام لا ينسب إلى الشريعة، وإنما ينسب إلى تصور أهل الدنيا في علوم الدنيا من الناحية الطبية، وربما يكون فيها شيء من الصحة، فهذا يرجع إلى العلوم التي كانت قاصرة فيما مضى، أو ربما كانت أساساً تقوم على التجريب، ولأجل ذلك نحن قد لا نقبل هذا التأويل في هذا الزمان.

الوجه الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم بال قائماً لعلة كانت بمأبضيه، وذكرنا أن هذه الزيادة رواها البيهقي ، ولكنه ضعفها وقال: لا تثبت هذه الزيادة.

والمأبض يجوز فيه تخفيف الهمزة فتقول: مابض أو مأبض كما تقول: الراس أو الرأس، لما مات العباس رضي الله عنه استحيا الناس أن يعزوا ابنه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فتشجع رجل وأقبل عليه وقال:

اصبر نكن بك صابرين وإنما صبر الرعية عند صبر الراس

خير من العباس صبرك بعده والله خير منك للعباس

والشاهد أنه قال: (الراس)، فهذه الكلمة يصح فيها تخفيف الهمزة.

الوجه الثالث: أنه لم يجد مكاناً يصلح للقعود، فاحتاج إلى القيام إذا كان الطرف الذي يليه عالياً مرتفعاً.

الوجه الرابع: أنه لبيان الجواز كما ذكرنا.

الوجه الخامس ما قاله الخطابي : لكون ذلك -أي: البول حال القيام في السباطة- في الغالب سهلاً ليناً ليس صلباً بحيث يتردد إليه الرشاش، وإنما يتسرب فيه البول ولا يرجع على البائل.

جواب استشكال كونه عليه الصلاة والسلام بال في سباطة قوم خاصة بهم

قد يستشكل هنا كيف بال النبي صلى الله عليه وسلم في سباطة قوم وهي مكان خاص بهم؟!

أجاب العلماء عن هذا الاستشكال بعدة إجابات أظهرها: أنه علم أن أهلها يرضون بذلك ولا يكرهونه، ومن كان هذا حاله جاز البول في أرضه.

الجواب الثاني: أن سباطة القوم لم تكن خاصة بهم فقط، بل كانت بفناء دور الناس كلهم، فأضيفت إليهم لقربهم منها.

الجواب الثالث: أنهم أذنوا لمن أراد قضاء الحاجة فيها بصريح الإذن أو معناه والله تعالى أعلم.

البول حال القيام بين الكراهة والإباحة

قال النووي رحمه الله: أما حكم المسألة فقال أصحابنا: يكره البول قائماً بلا عذر كراهة تنزيه، ولا يكره للعذر، يقول: وهذا مذهبنا.

وقال الإمام ابن المنذر رحمه الله: واختلفوا في البول قائماً، فثبت عن عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت وابن عمر وسهل بن سعد رضي الله عنهم أنهم بالوا قياماً، وروي ذلك عن علي وأنس وأبي هريرة وفعله ابن سيرين وعروة، وكرهه ابن مسعود ، وصح عنه موقوفاً أنه قال: (من الجفاء أن يبول الرجل قائماً) رواه البيهقي .

كذلك كرهه الشعبي وإبراهيم بن سعد، وكان لا يقبل شهادة من بال قائماً.

وقال مالك إن كان في مكان يتطاير إليه من البول شيء فمكروه، وإن كان لا يتطاير فلا كراهة.

قال ابن المنذر : البول جالساً أحب إلي وقائماً مباح، وكل ذلك ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ذكر الخطابي والبيهقي في سبب بوله صلى الله عليه وآله وسلم قائماً أوجهاً:

الوجه الأول -وهو المروي عن الإمام الشافعي رحمه الله-: أن العرب كانت تستشفي بالبول قائماً لوجع الصلب، فكان به صلى الله عليه وسلم إذ ذاك وجع الصلب.

قال القاضي حسين في تعليقته: وصار هذا عادة لأهل هراة، يبولون قياماً في كل سنة مرة إحياءً لتلك السنة.

وهذا كلام لا ينسب إلى الشريعة، وإنما ينسب إلى تصور أهل الدنيا في علوم الدنيا من الناحية الطبية، وربما يكون فيها شيء من الصحة، فهذا يرجع إلى العلوم التي كانت قاصرة فيما مضى، أو ربما كانت أساساً تقوم على التجريب، ولأجل ذلك نحن قد لا نقبل هذا التأويل في هذا الزمان.

الوجه الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم بال قائماً لعلة كانت بمأبضيه، وذكرنا أن هذه الزيادة رواها البيهقي ، ولكنه ضعفها وقال: لا تثبت هذه الزيادة.

والمأبض يجوز فيه تخفيف الهمزة فتقول: مابض أو مأبض كما تقول: الراس أو الرأس، لما مات العباس رضي الله عنه استحيا الناس أن يعزوا ابنه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فتشجع رجل وأقبل عليه وقال:

اصبر نكن بك صابرين وإنما صبر الرعية عند صبر الراس

خير من العباس صبرك بعده والله خير منك للعباس

والشاهد أنه قال: (الراس)، فهذه الكلمة يصح فيها تخفيف الهمزة.

الوجه الثالث: أنه لم يجد مكاناً يصلح للقعود، فاحتاج إلى القيام إذا كان الطرف الذي يليه عالياً مرتفعاً.

الوجه الرابع: أنه لبيان الجواز كما ذكرنا.

الوجه الخامس ما قاله الخطابي : لكون ذلك -أي: البول حال القيام في السباطة- في الغالب سهلاً ليناً ليس صلباً بحيث يتردد إليه الرشاش، وإنما يتسرب فيه البول ولا يرجع على البائل.

قد يستشكل هنا كيف بال النبي صلى الله عليه وسلم في سباطة قوم وهي مكان خاص بهم؟!

أجاب العلماء عن هذا الاستشكال بعدة إجابات أظهرها: أنه علم أن أهلها يرضون بذلك ولا يكرهونه، ومن كان هذا حاله جاز البول في أرضه.

الجواب الثاني: أن سباطة القوم لم تكن خاصة بهم فقط، بل كانت بفناء دور الناس كلهم، فأضيفت إليهم لقربهم منها.

الجواب الثالث: أنهم أذنوا لمن أراد قضاء الحاجة فيها بصريح الإذن أو معناه والله تعالى أعلم.

قال النووي رحمه الله: أما حكم المسألة فقال أصحابنا: يكره البول قائماً بلا عذر كراهة تنزيه، ولا يكره للعذر، يقول: وهذا مذهبنا.

وقال الإمام ابن المنذر رحمه الله: واختلفوا في البول قائماً، فثبت عن عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت وابن عمر وسهل بن سعد رضي الله عنهم أنهم بالوا قياماً، وروي ذلك عن علي وأنس وأبي هريرة وفعله ابن سيرين وعروة، وكرهه ابن مسعود ، وصح عنه موقوفاً أنه قال: (من الجفاء أن يبول الرجل قائماً) رواه البيهقي .

كذلك كرهه الشعبي وإبراهيم بن سعد، وكان لا يقبل شهادة من بال قائماً.

وقال مالك إن كان في مكان يتطاير إليه من البول شيء فمكروه، وإن كان لا يتطاير فلا كراهة.

قال ابن المنذر : البول جالساً أحب إلي وقائماً مباح، وكل ذلك ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

يقول الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى: لا يجوز استقبال القبلة في الفضاء لقضاء الحاجة

-الفضاء أي: الصحراء أو الخلاء- وهذا في قول أكثر أهل العلم، وهو مذهب الشافعي وقول العباس بن عبد المطلب وعبد الله بن عمر والشعبي ومالك وإسحاق ورواية عن الإمام أحمد .

واستدلوا بما رواه أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره، ولكن شرقوا أو غربوا، قال أبو أيوب : فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة، فننحرف عنها ونستغفر الله عز وجل) متفق عليه.

قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا أتى أحدكم الغائط) الظاهر هنا أن الغائط المقصود به هنا الموضع الذي يتغوط فيه، قال أهل اللغة: أصل الغائط المكان المطمئن، كانوا يأتونه للحاجة، فكنوا به عن نفس الحدث كراهة لاسمه.

ومن عادة العرب التعفف في ألفاظها، واستعمال الكنايات في كلامها، وصون الألسن مما تصان الأبصار والأسماع عنه، وهذا في القرآن وغيره كثير جداً.

ولـمسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جلس أحدكم لحاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها).

من قال بجواز استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة

قال عروة بن ربيعة وربيعة وداود : يجوز استقبالها واستدبارها في البناء والصحراء؛ لما روى جابر رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة ببول، فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها) قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب، وحسنه النووي رحمه الله.

قال هؤلاء الأئمة الثلاثة: إن هذا دليل على وقوع النسخ؛ لأن الصحابي رآه يفعل ذلك قبل أن يقبض بعام، فدل على نسخ وإلغاء الحكم السابق الذي تضمنه حديث أبي أيوب رضي الله تعالى عنه.

رد الجمهور على من جوز استقبال القبلة عند قضاء الحاجة في الفضاء

يقول الإمام ابن قدامة : ولنا أحاديث النهي وهي صحيحة.

يعني: على صحة مذهبنا الذي عليه جمهور علماء الأمة.

قال: وحديث جابر يحتمل أنه رآه في البنيان أو مستتراً بشيء.

وسيأتي حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النهي إنما هو في الفضاء، أما إذا كان في البنيان فيجوز.

ثم قال: ولا يثبت النسخ بالاحتمال.

أي: احتمال أنه كان مستتراً بشيء أو كان في البنيان.

قال: ويتعين حمله على ما ذكرنا؛ ليكون موافقاً للأحاديث الصحيحة في النهي عن ذلك.

أقوال العلماء في استقبال القبلة واستدبارها في البنيان

قال ابن قدامة: أما في البنيان أو إذا كان بينه وبين القبلة شيء يستره ففيه روايتان عن الإمام أحمد :

إحداهما: لا يجوز حتى في البنيان.

يعني: لا يستدبر ولا يستقبل القبلة عند قضاء الحاجة، سواء في الفضاء أو البنيان، وهذه الرواية للإمام أحمد، وهو قول الثوري وأبي حنيفة ؛ لعموم الأحاديث في النهي؛ لأن أحاديث النهي لم تخصص البنيان من الفضاء.

أما الرواية الثانية: فهي أنه يجوز استقبالها واستدبارها في البنيان، وروي ذلك عن العباس وابن عمر رضي الله عنهم وبه قال مالك والشافعي وابن المنذر .

يقول ابن قدامة: والصحيح أنه يجوز استقبالها واستدبارها في البنيان؛ لحديث جابر رضي الله عنه.

وقد روت عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر له أن قوماً يكرهون استقبال القبلة بفروجهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوقد فعلوها؟! استقبلوا بمقعدتي القبلة) رواه الإمام أحمد وابن ماجة وحسنه النووي ، لكن أشار البخاري رحمه الله تعالى في تاريخه في ترجمة خالد بن أبي الصلت إلى أن في هذا الحديث علة.

يقول ابن قدامة: رواه أصحاب السنن وأكثر أصحاب المسانيد منهم: أبو داود الطيالسي رواه عن خالد بن أبي الصلت عن عراك بن مالك عن عائشة ، قال أحمد : أحسن ما روي في الرخصة حديث عائشة وإن كان مرسلاً فإن مخرجه حسن.

وقال أحمد : وعراك لم يسمع من عائشة فلذلك سموه مرسلاً.

فقوله صلى الله عليه وسلم: (أوقد فعلوها؟) استفهام لأن هذا النوع من الاستفهام يقتضي الإقرار به فضيحة، كما يقتضي الاستفهام الإخبار عن المستفهم عنه.

قوله: (استقبلوا بمقعدتي القبلة) المقعدة: بفتح الميم هي الموضع الذي يقعد عليه الإنسان لقضاء الحاجة، يعني: حولوا هذا الموضع إلى اتجاه القبلة، والحديث فيه علتان.

يقول ابن قدامة : وهذا كله في البنيان، وهو خاص يقدم على العام.

والعام هو حديث أبي أيوب : (إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره)، والخاص هو حديث عائشة إذا صح، فهو يدل على أن ذلك إنما يكون في البنيان، فالخاص يقدم على العام.

وعن مروان الأصفر قال: (رأيت ابن عمر رضي الله عنهما أناخ راحلته مستقبل القبلة، ثم جلس يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن ! أليس قد نهي عن هذا؟ قال:، بلى، إنما نهي عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس) رواه أبو داود والدارقطني والحاكم وصححه على شرط البخاري .

يقول ابن قدامة : وهذا الفعل من ابن عمر تفسير لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم العام في حديث أبي أيوب : (إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره، ولكن شرقوا أو غربوا) ففعله يفسر أن ذلك إنما يكون في البنيان، فإن كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس.

يقول: وفيه جمع بين الأحاديث فيتعين المصير إليه. لأن النسخ لا يصار إليه إلا عند العجز عن الجمع بين النصوص، ولأن النسخ فيه إبطال لأحد الدليلين في المسألة، وإعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، فهذا هو الذي ينبغي أن يسلك عند التعارض، فالجمع متى ما أمكن أولى.

وعن الإمام أحمد أنه قال: يجوز استدبار الكعبة في البنيان والفضاء جميعاً؛ لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: (رقيت يوماً على بيت حفصة رضي الله عنها فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم على حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة) متفق عليه.

لذلك صدر المسألة ابن قدامة بالقدر المتفق عليه بين أكثر أهل العلم فقال: لا يجوز استقبال القبلة في الفضاء لقضاء الحاجة في قول أكثر أهل العلم، ثم تعرض بعد ذلك للاستدبار على التفصيل الذي ذكرناه.

مذهب أبي أيوب في استقبال القبلة عند قضاء الحاجة في البنيان

قال أبي أيوب رضي الله تبارك وتعالى عنه في الحديث الذي ذكرناه: (فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة، فننحرف عنها ونستغفر الله عز وجل).

أجاب بعض العلماء على ذلك من وجهين:

أحدهما: أنه شك في عموم النهي للبنيان والفضاء، فلما شك احتاط بالاستغفار، فلا يحمل ذلك على أنه جزم بتحريم هذا حتى داخل البنيان، وإنما هو كنوع من الاحتياط والتورع منه رضي الله عنه.

الوجه الثاني: أن هذا مذهب أبي أيوب رضي الله عنه، فهو لم ينقله عن النبي صلى الله عليه وسلم صريحاً، وقد خالفه غيره من الصحابة.

إذاً: أحاديث النهي جاءت عامة بدون التفريق بين البناء والصحراء، كما في حديث أبي أيوب رضي الله عنه، لكن الشرع قد جاء بالتفريق بين كونه في البينان أو كان يستره شيء كما جاء عن ابن عمر وبين كونه في الفضاء، فإذا ورد الشرع بالفرق فلا يلتفت إلى قياس ولا إلى من يخالف هذه الأدلة، ومع ذلك فالفرق ظاهر بين الحالتين، فإن المشقة تلحق الإنسان في البناء دون الصحراء.

حكم استقبال القبلة حال الاستنجاء والجماع

قال بعض العلماء: لحرمة الكعبة يكره استقبال القبلة حال الاستنجاء، قال الشافعية: لا يكره ذلك، بل يجوز استقبال القبلة حال الاستنجاء؛ لأن النهي ورد في استقبالها ببول أو غائط.

وقال الشافعية أيضاً: ولا كراهة في إخراج الريح إلى القبلة أيضاً لما ذكرنا.

وقال الشافعية أيضاً: يجوز الجماع مستقبل القبلة ومستدبرها في البناء والصحراء؛ لأن الشرع ورد في البول والغائط.

حكم استقبال بيت المقدس حال قضاء الحاجة في الفضاء والبنيان

قال العلماء: لا يحرم استقبال بيت المقدس ببول ولا غائط ولا استدباره لا في البناء ولا في الصحراء، لكن يكره؛ لكونه كان قبلة، واستدل بعض العلماء بحديث معقل بن أبي معقل الأسدي رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستقبل القبلتين ببول أو غائط) رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة ، وقال النووي : إسناده جيد ولم يضعفه أبو داود .

وهناك عدة أجوبة عن هذا:

الأول: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن استقبال بيت المقدس حيث كان قبلة، يعني: كأن النهي حصل مرتين، لما كانت القبلة أولاً إلى بيت المقدس نهى عليه الصلاة والسلام في ذلك الزمان عن استقبال القبلة التي كانت في بيت المقدس، ثم نهى عن استقبال الكعبة حين صارت هي القبلة، فجمعهما الراوي في حديث واحد فقال: (نهى أن يستقبل القبلتين ببول أو غائط)، وهذا جواب ضعيف.

الجواب الثاني: أن المراد بالنهي أهل المدينة خاصة؛ لأن من استقبل بيت المقدس وهو في المدينة استدبر الكعبة، وإن استدبر بيت المقدس استقبل الكعبة، وهذا التأويل ضعيف أيضاً.

أما المختار الظاهر عند الإمام النووي رحمه الله، فقد قال: إن النهي وقع في وقت واحد، وأنه عام لكلتيهما في كل مكان، ولكنه في الكعبة نهي تحريم إذا كان في الفضاء، وفي بيت المقدس نهي تنزيه، ولا يمتنع أن يجتمع نهي واحد يكون فيه تحريم وتنزيه وإن اختلف معناه، وسبب النهي عن بيت المقدس كونه كان قبلة فبقيت له حرمة الكعبة، وقد اختار الخطابي هذا التأويل.

فإن قيل: لم حملتموه في بيت المقدس على التنزيه؟ قلنا: للإجماع فلا يعلم من يعتد به حرمه، فالصارف للنهي عن التحريم إلى التنزيه هو الإجماع.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
آداب الاستئذان [1] 2547 استماع
آداب طالب العلم 1811 استماع
آداب الدائن والمدين 1705 استماع
أدب التعامل مع الكفار (3) 1592 استماع
أدب التعامل مع الكفار (2) 1589 استماع
آداب التخلي [2] 1528 استماع
آداب التخلي [1] 1421 استماع
آداب التناظر 1344 استماع
أدب التعامل مع الكفار 1048 استماع
آداب الاستئذان [2] 1032 استماع