خطب ومحاضرات
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - مقدمة -2
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
المؤلف في ضمن الشروط التي ذكرها في الحج قال: [ والاستطاعة: أن يجد زاداً وراحلة بآلتهما مما يصلح لمثله فاضلاً عما يحتاج إليه لقضاء دينه ومؤنة نفسه وعياله على الدوام ].
وقوله: (على الدوام) ظاهر العبارة: يدل على أنه لا يجب عليه الحج إلا إذا وجد عنده من النفقة والزاد والراحلة زيادة على ما يحتاجه هو وأولاده على طول الوقت، طبعاً إلى آخر عمره، والله تعالى أعلم متى يكون عمره وما مقدار كفايته وكفاية أهله على الدوام، وإنما مقصود الفقهاء بهذه الكلمة: أن يكون عنده -كما يمكن أن نعبر- مصدر رزق، أن يكون عنده بيت أو عقار يؤجره أو مرتب يصرف به عليه أو تجارة أو صناعة أو نحو ذلك مما يقوم بمئونته ومئونة أهله، هذا هو المقصود، وإلا فإن كثيراً من الناس حتى من يعدون من الموسرين قد لا يكون عنده ما يضمن كفايته وكفاية أهله لأزمنة طويلة.
ثم ذكر المرأة وشرط وجوب الحج عليها زيادة على شروط الوجوب على الرجال، وهو: وجود محرمها.
الزوج
فهل الزوج محرم؟ طبعاً هذا مشهور أنه إذا ذكر المحارم فإنه يذكر على رأسهم الزوج، ولا بأس بذلك من جهة أن الزوج يكفي في السفر مع المرأة، لكن الإشكال في تسميته محرماً، مع أن المحرم في السفر يعرف بتعريف أوسع من المحرم في لسان الشرع، ولذلك نقول: زوجها أو محرمها، يمكن أن نقول: وجود زوجها أو وجود محرمها، وإلا فالزوج هو يحل لزوجته وتحل له، ولذلك تسمى المرأة: حليلة الرجل؛ لأنها تحل له.
المحارم على التأبيد
فقوله: (التأبيد) هذا يدفع التحريم المؤقت، ومثّلنا له بأخت الزوجة، فإن أخت الزوجة حرام على زوج أختها حتى يطلق أختها، لقول الله تعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:23] .
وهناك محرمات تحريماً مؤقتاً غير أخت الزوجة، مثل عمة الزوجة، خالة الزوجة، ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها )، وأجمع على هذا أهل السنة، فعمة الزوجة وخالة الزوجة هن من المحرمات تحريماً مؤقتاً. ومن المحرمات على الرجل إذا تزوج بأربع، فما زاد عن الأربع فهو حرام عليه، ولو قلنا بأن هذا يدخل لكان صاحب الأربع محرماً لنساء العالمين.
وكذلك أيضاً يدخل في مسألة الخامسة: قضية المحصنات من النساء وذوات الأزواج، فإن المرأة المتزوجة حرام على غير زوجها، لكن هذا التحريم مؤبد أو مؤقت؟ مؤقت حتى يطلقها زوجها ثم له أن ينكحها، فهذا التحريم المؤقت لا يعتبر في مسألة المحرمية والسفر.
ومثله أيضاً: مطلقته ثلاثاً، لو أن رجلاً طلق امرأته ثلاث طلقات فإنها تحرم عليه حتى تنكح زوجاً غيره، وهذا التحريم مؤبد أو مؤقت؟ مؤقت، ولذلك نقول: إن مثل المطلقة ثلاثاً وأخت امرأته وعمتها وخالتها والخامسة والمحصنة أن تحريم هؤلاء تحريم مؤقت، ولذلك لا يدخلن في هذا السياق.
المحارم بنسب أو سبب مباح
بالنسبة للنسب معروف، وسواء كان سبب النسب نكاحاً صحيحاً، أو نكاحاً فاسداً، أو وطء شبهة، فإن ذلك كله يحرم، فمثلاً: الأخ والعم والخال والأب والابن كل هؤلاء يحرمون، يعني: هم محارم، سواء كانت علاقة المرأة بهم علاقة ناتجة عن نكاح صحيح، أو نكاح فاسد، أو وطء شبهة.
ثم قال: [ أو سبب مباح ].
فالسبب المباح معناه: أن هناك سبباً غير مباح، والسبب غير المباح هو الزنا، ولذلك قالوا: إن الرجل لا يسافر ببنته من الزنا، ولا بأخته من الزنا، وهذا مذهب الأكثرين والجمهور، وهو المعتمد عند عامة أهل العلم: أن السبب غير المباح وهو الزنا لا يحدث محرمية من جهة السفر، وإن كانت تحرم عليه، يعني: هل يجوز له أن ينكحها؟ لا، ولذلك مما شنع به على الإمام الشافعي رضي الله عنه وحاشاه من ذلك: أنه يجيز للرجل أن ينكح ابنته من الزنا. وهذا من التشنيع في غير طائل وفي غير صواب، فلا شك أن الرجل يحرم عليه أن ينكح ابنته من الزنا أو أخته من الزنا، ومع ذلك لا يحرم ولا يجوز له أن يسافر بها، لأنه لا يكون محرماً منها؛ لأن السبب ها هنا غير مباح.
إذاً: السبب المعمول به هو السبب المباح، والسبب المباح شيئان:
الأول: الرضاع، فـعائشة رضي الله عنها تقول: ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) وهذا روي مرفوعاً وموقوفاً، وكأن الأصح الموقوف، ولكن له حكم المرفوع، وفي نص الكتاب الكريم: وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ [النساء:23] .
إذاً: الرضاع يحرم منه ما يحرم من النسب، فيجوز للرجل أن يسافر بأخته من الرضاعة أو أمه من الرضاعة أو عمته أو خالته أو بنته من الرضاعة، هذا سبب مباح.
أيضاً: من الأسباب المباحة: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا [الفرقان:54]، من الأسباب المباحة: المصاهرة.
وخلونا نعد الرجال الذين لهم أن يسافروا، أبو الزوج، والد الزوج له أن يسافر بزوجة ولده، زوج البنت له أن يسافر بأم زوجته، أيضاً ابن الزوج له أن يسافر بزوجة أبيه، وأيضاً زوج الأم له أن يسافر ببنت زوجته، فهذا من الصهر، هؤلاء أربعة يحرمون بالصهر.
قال: [ وهو زوجها ].
فهل الزوج محرم؟ طبعاً هذا مشهور أنه إذا ذكر المحارم فإنه يذكر على رأسهم الزوج، ولا بأس بذلك من جهة أن الزوج يكفي في السفر مع المرأة، لكن الإشكال في تسميته محرماً، مع أن المحرم في السفر يعرف بتعريف أوسع من المحرم في لسان الشرع، ولذلك نقول: زوجها أو محرمها، يمكن أن نقول: وجود زوجها أو وجود محرمها، وإلا فالزوج هو يحل لزوجته وتحل له، ولذلك تسمى المرأة: حليلة الرجل؛ لأنها تحل له.
ثم قال في المحرم: [ ومن تحرم عليه على التأبيد ].
فقوله: (التأبيد) هذا يدفع التحريم المؤقت، ومثّلنا له بأخت الزوجة، فإن أخت الزوجة حرام على زوج أختها حتى يطلق أختها، لقول الله تعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:23] .
وهناك محرمات تحريماً مؤقتاً غير أخت الزوجة، مثل عمة الزوجة، خالة الزوجة، ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها )، وأجمع على هذا أهل السنة، فعمة الزوجة وخالة الزوجة هن من المحرمات تحريماً مؤقتاً. ومن المحرمات على الرجل إذا تزوج بأربع، فما زاد عن الأربع فهو حرام عليه، ولو قلنا بأن هذا يدخل لكان صاحب الأربع محرماً لنساء العالمين.
وكذلك أيضاً يدخل في مسألة الخامسة: قضية المحصنات من النساء وذوات الأزواج، فإن المرأة المتزوجة حرام على غير زوجها، لكن هذا التحريم مؤبد أو مؤقت؟ مؤقت حتى يطلقها زوجها ثم له أن ينكحها، فهذا التحريم المؤقت لا يعتبر في مسألة المحرمية والسفر.
ومثله أيضاً: مطلقته ثلاثاً، لو أن رجلاً طلق امرأته ثلاث طلقات فإنها تحرم عليه حتى تنكح زوجاً غيره، وهذا التحريم مؤبد أو مؤقت؟ مؤقت، ولذلك نقول: إن مثل المطلقة ثلاثاً وأخت امرأته وعمتها وخالتها والخامسة والمحصنة أن تحريم هؤلاء تحريم مؤقت، ولذلك لا يدخلن في هذا السياق.
ثم قوله: [ بنسب أو سبب مباح ].
بالنسبة للنسب معروف، وسواء كان سبب النسب نكاحاً صحيحاً، أو نكاحاً فاسداً، أو وطء شبهة، فإن ذلك كله يحرم، فمثلاً: الأخ والعم والخال والأب والابن كل هؤلاء يحرمون، يعني: هم محارم، سواء كانت علاقة المرأة بهم علاقة ناتجة عن نكاح صحيح، أو نكاح فاسد، أو وطء شبهة.
ثم قال: [ أو سبب مباح ].
فالسبب المباح معناه: أن هناك سبباً غير مباح، والسبب غير المباح هو الزنا، ولذلك قالوا: إن الرجل لا يسافر ببنته من الزنا، ولا بأخته من الزنا، وهذا مذهب الأكثرين والجمهور، وهو المعتمد عند عامة أهل العلم: أن السبب غير المباح وهو الزنا لا يحدث محرمية من جهة السفر، وإن كانت تحرم عليه، يعني: هل يجوز له أن ينكحها؟ لا، ولذلك مما شنع به على الإمام الشافعي رضي الله عنه وحاشاه من ذلك: أنه يجيز للرجل أن ينكح ابنته من الزنا. وهذا من التشنيع في غير طائل وفي غير صواب، فلا شك أن الرجل يحرم عليه أن ينكح ابنته من الزنا أو أخته من الزنا، ومع ذلك لا يحرم ولا يجوز له أن يسافر بها، لأنه لا يكون محرماً منها؛ لأن السبب ها هنا غير مباح.
إذاً: السبب المعمول به هو السبب المباح، والسبب المباح شيئان:
الأول: الرضاع، فـعائشة رضي الله عنها تقول: ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) وهذا روي مرفوعاً وموقوفاً، وكأن الأصح الموقوف، ولكن له حكم المرفوع، وفي نص الكتاب الكريم: وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ [النساء:23] .
إذاً: الرضاع يحرم منه ما يحرم من النسب، فيجوز للرجل أن يسافر بأخته من الرضاعة أو أمه من الرضاعة أو عمته أو خالته أو بنته من الرضاعة، هذا سبب مباح.
أيضاً: من الأسباب المباحة: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا [الفرقان:54]، من الأسباب المباحة: المصاهرة.
وخلونا نعد الرجال الذين لهم أن يسافروا، أبو الزوج، والد الزوج له أن يسافر بزوجة ولده، زوج البنت له أن يسافر بأم زوجته، أيضاً ابن الزوج له أن يسافر بزوجة أبيه، وأيضاً زوج الأم له أن يسافر ببنت زوجته، فهذا من الصهر، هؤلاء أربعة يحرمون بالصهر.
يقول المؤلف: [ فمن فرط حتى مات أخرج عنه من ماله حجة وعمرة ].
المؤلف رحمه الله جعل الأمر هنا مقصوراً على الذي يفرط، معناه أن هناك إنساناً مفرطاً وهناك غير مفرط، فالمفرط: هو من كان واجداً.. ذا سعة.. صحيحاً.. قادراً، وترك الحج حتى مات، فهذا يخرج من ماله بعد موته قدر حجة وعمرة من المكان الذي وجب عليه الحج فيه، يعني: من بلده يخرج عنه حجة وعمرة؛ لأنه مفرط، وقد بقي الحج وبقيت العمرة ديناً في ذمته.
أما غير المفرط -على ظاهر كلام المصنف- مثل: المريض أو المحبوس أو الممنوع من السفر، من الحج، أو من لا يستطيع سبيلاً؛ لأن الطريق مخوف ولا يستطيع الذهاب إليه، بينه وبينه مخاوف، أو من ضاق وقته عن الحج ثم مات ولم يستطع، أو المرأة إذا لم تجد محرماً فهؤلاء غير مفرطين، ولذلك اختلف الأمر بين هذين الصنفين.
فمذهب الإمام أحمد ونص عليه الإمام أحمد في موضع: أن المفرط وغير المفرط إذا لم يحج فإنه يخرج عنه من تركته، المفرط وغيره يخرج عنه من تركته حجة وعمرة، واستدل هؤلاء بأحاديث وأدلة:
منها: حديث بريدة رضي الله عنه في صحيح مسلم في قصة المرأة التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: ( يا رسول الله! إنني أعطيت أمي أمة وإنها ماتت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وقع أجركِ وردها عليك الميراث، قالت: إنه كان عليها صوم شهر، أفأصوم عنها؟ قال: صومي عن أمكِ، قالت: إنها لم تحج قط أفأحج عنها؟ قال: حجي عن أمكِ )، والحديث في مسلم وأبي داود وأحمد وغيرهم. ففيه نص على الحج عن الأم، وهذا الحج حج فريضة، لا شك أن المقصود حجة الإسلام.
وهناك نص آخر عن ابن عباس رضي الله عنه وهو في صحيح البخاري : أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذكرت أن أمها نذرت، وهنا تلاحظ أنه يتعلق بحج النذر وهو واجب، لكنه ليس واجباً لأصل الشرع كما سبق، ( أنها نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: حجي عنها، أرأيتِ لو كان على أمكِ دين أكنتِ قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء )، فهذان الحديثان يدلان على أن الميت سواء كان مفرطاً أو غير مفرط أنه يخرج عنه من تركته، ولذلك قال ابن تيمية رحمه الله في شرح العمدة : وكذلك من وجب عليه ولم يفرط، إذا قلنا بوجوب الحج في ذمته يكون هذا الحج ديناً عليه يخرج من رأس ماله مقدماً على الوصايا والمواريث، وهذا مذهب الإمام أحمد كما ذكرت.
والمساواة بين المفرط وغير المفرط مذهب أحمد وهو أيضاً مذهب الإمام الشافعي للأدلة السابقة.
ومن الأدلة السابقة أخذ هؤلاء العلماء عدة فوائد:
الفائدة الأولى: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر السائل بأن يحج حجة الإسلام عن والده، أو الحجة المنذورة كما في حديث الجهنية، وبين أن هذا يجزئ عنه، وهذا دليل على أن الحجة الواجبة بقيت في ذمته، وأن أداءها ينفعه كما هو ظاهر، وأن الموت لم يسقطها.
الفائدة الثانية: أن الرسول صلى الله عليه وسلم بيّن أن هذا الحج الواجب -ومثله الصوم أيضاً- أنه دين، ومن المعلوم أن الدين يجب أن يقضى عن الميت من تركته إذا كان مالاً، فسماه ديناً، ولذلك قال: ( دين الله أحق بالوفاء )، فكما أنه يجب سداد الدين عن الميت المتوفى، كذلك يجب أداء الحج عن الميت المتوفى، سواءً كان مفرطاً أو غير مفرط.
الفائدة الثالثة في الأحاديث: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء )، ما معنى أن الله أحق بالوفاء؟ هذا يحتمل معنيين، نريد أن نعرفهما ثم نعرف الأقوى منهما، هل معنى الحديث: أن حق الله ودين الله يقدم على دين المخلوقين في الأداء أم لها معنىً آخر؟ في الحديث احتمالات وذكرها أهل العلم:
الاحتمال الأول: أن المعنى كما ذكر: ( اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء )، أن الدين الذي في ذمة الميت لله تعالى من حج أو غيره أو نذر أنه أحق بالوفاء من ديون المخلوقين، وبناءً على هذا الفهم يقدم الدين الذي للناس أو الدين الذي لله وهو الحج مثلاً أو غيره؟
لكن الاحتمال الثاني وهو عندي أقوى وأظهر أن يكون معنى الحديث -والله تعالى أعلم- أنه كما أن ذمة الميت تبرأ إذا سدد الإنسان عنه دينه للمخلوقين، فالله تعالى أحق بقبول هذا السداد إذا جاء عن الميت، يعني: كما أن ذمة الميت تبرأ إذا سدد دينه لفلان أو فلان، كذلك ذمة الميت تبرأ إذا سدد دينه الذي لله من حج أو زكاة أو غيرها.
وبناءً على هذا الفهم الثاني نقول: إنه لسعة رحمة الله تعالى كأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: كما أن المخلوقين يأخذون دينهم وتبرأ ذمم الأموات بذلك، فالله تعالى أولى وأعظم وأوسع رحمة أن يقبل من هؤلاء الحج وإن كانوا أمواتاً ولم ينووا هذا الحج فيقبله منهم وتبرأ به ذممهم، وبناءً عليه لا يكون الدين الذي لله مقدماً على الدين الذي للمخلوق، لماذا؟ لأن العلماء يقولون: حقوق الله مبناها على المسامحة، لكن حقوق المخلوقين مبناها على المشاحة، ولذلك نقول: نعم، الحج يقدم على الوصية ويقدم على الميراث، فهذا لا شك فيه، لكنه لا يقدم على ديون المخلوقين وديون الآدميين. نعم. إذاً: هذا المعنى الثاني، وهو أجود كما ذكرت.
الفائدة الرابعة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر السائل بأن يحج عن من سأل عنه، والأمر عند عامة الأصوليين يقتضي الوجوب ما لم توجد قرينة تصرفه عن الوجوب، ولذلك قالوا بأنه يجب على من وراءه.. على ورثته أن يحجوا عنه.
أما القول الثاني في المسألة وهو قول أبي حنيفة ومالك رحمهما الله تعالى، فقالوا: إن الحج يسقط عنه بالموت ولا يقضى عنه شيء.
إذاً: المسألة فيها قولان:
الأول: قول أحمد والشافعي : أنه يقضى عنه.
والثاني: قول مالك وأبي حنيفة : أنه لا يقضى.
وهناك من العلماء من توسط -كما ألمحت إليه- وقالوا: إن كان فرط قضي عنه من ماله، وإن كان لم يفرط لم يقض عنه؛ لأنه لم يقع منه تقصير، مثلما لو كان محبوساً أو مريضاً ولم يستطع الحج.
هذا طبعاً يقودنا إلى المسألة التي وقفنا عندها أمسِ وهي مسألة الفور ومسألة التراخي، هل يجب الحج على الفور أو يجب على التراخي؟ وقد أسلفت اختصاراً أمس أن في المسألة قولين:
الأول: أن الحج واجب على التراخي. ولعل هذا الذي بدأت به أن الحج واجب على التراخي وليس على الفور، وهو مذهب مالك والشافعي ومحمد بن الحسن وأبي يوسف، وتلاحظون أننا لم نذكر أبا حنيفة ؛ لأنه كما يقول العلماء: لم يكن له نص في هذه المسألة، واستدل القائلون بالتراخي بأدلة لعل من أجودها وأقواها: أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يحج إلا في السنة العاشرة بينما الحج فرض قبل ذلك، قيل: في الخامسة أو السادسة أو السابعة أو التاسعة، ولعل الأجود الذي اختاره جماعة أنه فرض في التاسعة، وبعضهم قال: فرض في الخامسة، واستدل بحديث ضمام بن ثعلبة الذي ذكرته لكم بالأمس، واختلف في سنة قدومه على النبي صلى الله عليه وسلم، قيل: في الخامسة، وقيل: في التاسعة. ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام ما حج إلا في السنة العاشرة، واختلف العلماء في سبب تأخر الحج، لكن الظاهر أن هذا دليل لمن قالوا بأنه لا يجب على الفور.
القول الثاني: وهو أن الحج واجب على الفور، وهذا مذهب الإمام أحمد والظاهرية وجمهور الحنفية، واستدلوا بأن الأوامر الأصل فيها أنها على الفور، كما استدلوا ببعض الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث ابن عباس الذي رواه أهل السنن وغيرهم وأحمد : أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( تعجلوا إلى الحج )، يعني: الفريضة، وهذا الحديث ورد من طرق لا يخلو شيء منها من مقال، ولذلك ضعفه أهل العلم، وإن كان بعضهم حسنه بمجموع طرقه.
والذي كنت أميل إليه أن الحج لا يجب على الفور، وإنما يجب على التراخي ويندب على الفور، فالمبادرة إلى الحج لا شك أنها فضيلة وهي من الحزم، وحتى الحديث الوارد لو فرض صحته: ( تعجلوا )؛ لأن في بعض ألفاظه: ( إذا أراد أحدكم الحج فليعجل )، فقالوا: إنه أراد أنه جعله مرهوناً بإرادته، أنه إذا أراد الحج.
والحقيقة ورد عن عمر، بل ورد مرفوعاً آثار وبعضها لا بأس بسندها: ( لقد هممت أن أنظر في من وجد سعة أو هبة فلم يحج فأضرب عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين )، والأثر سنده جيد رواه سعيد بن منصور وغيره وله طرق كثيرة، ولكن أولاً: ليس فيه دليل على كفر تارك الحج كما ذكرنا؛ لأن هذا التارك أيضاً لا يمكن اعتبار أنه تارك بالكلية، فهو قد نوى أن يحج وهذا حال غالب الناس أنهم ينوون الحج العام القادم أو الذي يليه.
وكذلك مسألة الاستدلال به على الفورية فيها بعض النظر والله تبارك وتعالى أعلم، قصارها أن يكون دليلاً على أن عمر رضي الله عنه ممن يرى وجوب المبادرة في الحج، وهذا نقل عن جماعة من الصحابة، كما نقل القول بالتراخي عن آخرين، وممن نقل عنه القول بالفورية غير عمر عبد الله بن عباس رضي الله عنه وهو راوي حديث: ( تعجلوا إلى الحج ).
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب الفدية | 3985 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – باب الخيار -2 | 3924 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - زكاة السائمة | 3852 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - باب زكاة العروض | 3844 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الطهارة - باب المسح على الخفين | 3670 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب محظورات الإحرام -1 | 3623 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب صلاة المريض | 3611 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – مراجعة ومسائل متفرقة في كتاب البيوع | 3549 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب صفة الحج | 3513 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب أركان الصلاة وواجباتها | 3442 استماع |