شرح العقيدة الطحاوية [18]


الحلقة مفرغة

مسمى الكلام عند الفرق

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وللناس في مسمى الكلام والقول عند الإطلاق أربعة أقوال:

أحدها: أنه يتناول اللفظ والمعنى جميعاً، كما يتناول لفظ الإنسان الروح والبدن معاً. وهذا قول السلف.

الثاني: اسم اللفظ فقط، والمعنى ليس جزء مسماه، بل هو مدلول مسماه. وهذا قول جماعة من المعتزلة وغيرهم.

الثالث: أنه اسم للمعنى فقط، وإطلاقه على اللفظ مجاز؛ لأنه دالٌ عليه. وهذا قول ابن كلاب ومن اتبعه.

الرابع: أنه مشترك بين اللفظ والمعنى. وهذا قول بعض المتأخرين من الكلابية.

ولهم قول يروى عن أبي الحسن أنه مجاز في كلام الله حقيقة في كلام الآدميين؛ لأن حروف الآدميين تقوم بهم، فلا يكون الكلام قائماً بغير المتكلم، بخلاف كلام الله فإنه لا يقوم عنده بالله، فيمتنع أن يكون كلامه، وهذا مبسوط في موضعه.

وأما من قال إنه معنى واحد واستدل عليه بقول الأخطل :

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا

فاستدلال فاسد، ولو استدل مستدل بحديث في الصحيحين لقالوا: هذا خبر واحد. ويكون مما اتفق العلماء على تصديقه وتلقيه بالقبول والعمل به، فكيف وهذا البيت قد قيل إنه موضوع منسوب إلى الأخطل وليس هو في ديوانه؟! وقيل: إنما قال: (إن البيان لفي الفؤاد) وهذا أقرب إلى الصحة.

وعلى تقدير صحته عنه فلا يجوز الاستدلال به، فإن النصارى قد ضلوا في معنى الكلام، وزعموا أن عيسى عليه الصلاة السلام نفس كلمة الله، واتحد اللاهوت بالناسوت، أي: شيء من الإله بشيء من الناس، أفيستدل بقول نصراني قد ضل في معنى الكلام على معنى الكلام ويترك ما يعلم من معنى الكلام في لغة العرب؟

وأيضاً فمعناه غير صحيح؛ إذ لازمه أن الأخرس يسمى متكلماً لقيام الكلام بقلبه وإن لم ينطق به ولم يسمع منه، والكلام على ذلك مبسوط في موضعه، وإنما أشير إليه إشارة] .

ذكر الشارح أن الفرق لها في مسمى الكلام عدة تعريفات:

فمنهم من يقول: إن الكلام اسم للفظ وللمعنى جميعاً، اللفظ الذي هو الحروف، والمعنى الذي اشتملت عليه تلك الحروف وتلك الكلمات.

والنحويون عندهم تعريف الكلام يقولون: إنه ما أفاد وصيغ بالألفاظ العربية وتركب من كلمتين فأكثر، فأما إذا كان من كلمة واحدة فلا يسمى كلاماً، وهكذا إذا لم يفد فلا يسمى كلاماً، وهكذا إذا كان مركباً ولكن ليس بالألفاظ العربية فلا يسمى كلاماً.

وهناك من يقول: إن الكلام هو الحروف والكلمات التي ينطق بها، وأما المعاني التي اشتمل عليها فلا تدخل في مسمى الكلام. وهذا قول المعتزلة.

وهناك قول ثالث بعكسه، وهو أن الكلام هو المعنى، وأما الحروف فإنما هي دالة عليه.

وهناك قول رابع أنه مشترك بينهما.

وعلى كل حال فهذه الأقوال كلها خطأ إلا القول الأول، وهو أن الكلام اسم للفظ وللمعنى جميعاً، لا يسمى كلاماً إلا إذا كان له معنى مفيد، وكان بالحروف التي يسمعها المتكلم، ولو كان الكلام مصوغاً بغير العربية سميناه كلاماً بلغة أهله، فهناك الأعاجم لهم عدة لغات، ونسمي لغاتهم كلاماً، فنقول: تكلم بلغته، ولا نفهم كلامه، ونقول له: فسر لنا كلامك، فنسميه كلاماً إذا فسره بلغة نفهمها.

فعلى هذا يكون الكلام العربي اسماً لموصوف بالحروف وبالكلمات التي استعملتها العرب إذا كانت ذات معان مفهومة عند الذين وضعوا اللغة وعند الذين تكلموا عليها.

فإذاً: القرآن كلمات وحروف، وجمل وآيات وسور، وكل جملة لها معنى مستقل، وقد تكون الآية فيها عدة جمل، كآية الكرسي، فقد اشتملت على عشر جمل:

الجملة الأولى: قوله: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ [البقرة:255] فيها إثبات الإلهية.

الجملة الثانية: قوله: الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] مشتملة على اسمين من أسماء الله مؤكدين لوصفه.

الجملة الثالثة: قوله: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255] نفي لهذين النقصين، والسنة النعاس، والنوم معروف .. إلى آخر ما في الآية.

ففيها عشر جمل كل جملة ذات معنى، فتسمى الجملة كلاماً، فيقال: هذه الجملة من كلام الله، ويقال كذلك في بقية القرآن: إنه مشتمل على كلمات وجمل ذات معانٍ، كل جملة دالة على معنى يفهمه من تعلمه وعرفه، ويترجم إلى لغة أخرى لمن لا يفهمه، وهذا القول هو الصحيح؛ فالكلام اسم للفظ والمعنى، وكلام الله اسم للحروف والكلمات مع المعاني التي دلت عليها تلك الكلمات.

الرد على الأشاعرة في استدلالهم بشعر الأخطل

وذهبت الأشاعرة إلى أن الكلام هو المعنى، وأنه معنى قائم بنفس الله تعالى، وأنه فهمه الملك مما أشير له إشارة، وجعلوا ما يقوم بالنفس هو الكلام، واستدلوا بهذا البيت الذي نسبوه إلى الأخطل ، وهو قوله:

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا

وقد جعلوه عمدتهم، فتراهم دائماً يستدلون به في كتبهم، وهو استدلال فاسد.

ويحتج عليهم بالأحاديث التي في الصحيحين، فيردونها ويقولون: هذا خبر واحد، وخبر الواحد لا يفيد إلا الظن. فيردونه، ويردون أحاديث النزول مع أنه رواها نحو عشرة من الصحابة، ويقولون: أخبار آحاد لا نقبلها ولو كانت في الصحيحين، ويردون أحاديث الاستواء والكتابة، كقوله: (إن الله كتب كتاباً فهو موضوع عنده على العرش: أن رحمتي سبقت غضبي)، فيردون أحاديث الرحمة، ويردون أحاديث المحبة ونحو ذلك، ويقولون: إنها آحاد إنما تفيد الظن.

فيقال لهم: عجباً لكم! تردون أحاديث الصحيحين وتحتجون بهذا البيت؟! وهذا البيت هل هو متواتر أو هو خبر واحد؟ لم يخرج عن كونه خبر واحد، بل ربما لا أصل له، وما نقل هذا البيت بإسناد صحيح ولا بإسناد ضعيف، وإنما تتناقلونه وتنسبونه إلى الأخطل ، وقد قال ابن القيم في نونيته:

ودليله في ذاك بيت قاله فيما يقال الأخطل النصراني

هذا دليلهم فيما يقال، ويقول شيخ الإسلام في قصيدته اللامية:

قبحٌ لمن نبذ الكتاب وراءه وإذا استدل يقول قال الأخطل

إنما دليلهم هذا البيت الذي نسب إلى الأخطل ، ثم بحث عنه المحققون في ديوان الأخطل فلم يجدوه، فدل على أنه مصنوع مكذوب، قاله من نسبه إلى الأخطل , ورواه بعضهم بلفظ:

(إن البيان لفي الفؤاد)

بمعنى أن القلب هو الذي يملك صاحبه أن يقدر على البيان، وهذا هو الأليق على تقدير ثبوت هذا البيت.

ولو قدرنا أنه من كلام الأخطل فهل يكون كلام الأخطل حجة؟ فـالأخطل نصراني ولو كان عربياً، وهو من نصارى العرب أصر على نصرانيته، وقد دعوه إلى الإسلام فامتنع أن يقبل الإسلام وبقي على نصرانيته، وقد وفد على عمر بن عبد العزيز وطلب أن يدخل عليه ليجيزه جائزة، فقال: أليس هو الذي يقول:

ولست بقائد عيسي بكوراً إلى بطحاء مكة للنجاح

ولست بقائم كالعير يدعو قبيل الصبح حي على الفلاح

ولست بصائم رمضان طوعاً ولست بآكل لحم الأضاحي

ولكني سأشربها شمولاً وأسجد عند منبلج الصباح

هذه عقيدته، يتمدح بأنه سيشرب الخمر، ويسجد إذا طلعت الشمس أو غربت الشمس للشمس، ويتمدح بأنه لا يحج البيت، ويتمدح بأنه لا يأكل لحم الأضاحي، ويشبه المؤذن الذي يؤذن حي على الفلاح بأنه كالعير فيقول:

ولست بقائم كالعير يدعو قبيل الصبح حي على الفلاح

فهل يقبل مثل هذا؟ وهل يكون كلامه حجة؟

صلة شعر الأخطل بعقيدة النصارى

ثم يحتج عليهم الشارح بأنه تكلم على عقيدة النصارى؛ وذلك لأن النصارى ضلوا في مسمى الكلام الذي نحن في تعريفه، فعندهم أن عيسى نفس كلمة الله، فيقولون: إنه نفس الكلمة، وإنه هو الكلمة. والصحيح أنه خلق بها لا أنه هي.

يقولون: إن قوله:(كن) هو نفس الكلمة، فعيسى هو الكلمة، وهو(كن) في قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59]، فهو خلقه وقال له: (كن)، كما خلق آدم وقال له: ( كن)، وسمي كلمة الله في قوله تعالى: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ منه [النساء:171] والكلمة التي ألقاها هي قوله: (كن)، فـ(كن) كلام الله، خلق بها كما خلقت سائر المخلوقات بقول: (كن) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].

فالنصارى ضلوا في هذا الباب، واعتقدوا أن عيسى نفس الكلمة، وإذا كان هذا شاعراً نصرانياً، فإنه تكلم بالبيت على عقيدة النصارى، فكيف نقلد النصارى فيما اعتقدوا؟ وهذا كله على تقدير أن البيت ثابت.

ثم لسنا بحاجة إلى الاستدلال بأقوال النصارى، وكتاب الله وسنة نبيه وكلام العرب واضح في أنه يسمى المتكلم متكلماً، والذي لا يتكلم يسمى أخرس، ومعلوم أنه قد يقوم بقلب الأخرس كلام، وقد يشير إليه، وإذا أشار إليه فهم منه، فمعناه أن الأخرس الذي لا ينطق- وهو الأبكم- يسمى متكلماً على قول هؤلاء الأشاعرة، فعرف بذلك أنه لا دلالة لهم في ذلك، وأن القول الثابت والصحيح أن الكلام هو اللفظ والمعنى جميعاً، ليس هو المعنى الذي يستشهد له بهذا البيت.

قال رحمه الله تعالى: [وهنا معنى عجيب، وهو أن هذا القول له شبه قوي بقول النصارى القائلين باللاهوت والناسوت؛ فإنهم يقولون: كلام الله هو المعنى القائم بذات الله الذي لا يمكن سماعه، وأما النظم المسموع فمخلوق. فإفهام المعنى (القديم) بالنظم المخلوق يشبه امتزاج اللاهوت بالناسوت الذي قالته النصارى في عيسى عليه الصلاة السلام، فانظر إلى هذا الشبه ما أعجبه].

اللاهوت عندهم الإله، والناسوت: الناس، والنصارى يدعون أن اللاهوت اتصل بالناسوت، فتكون منهما هذا الإنسان، وتبعهم على هذا الاعتقاد أيضاً ملاحدة يقال لهم: أهل الاتحاد وأهل الوحدة. فعندهم أن اللاهوت متصل بالناسوت ومتحد معه، وفي ذلك يقول حلاجهم :

سبحان من أظهر ناسوته سر سنا لاهوته الثاقب

حتى بدا في خلقه ظاهراً في صورة الآكل والشارب

هذا معناه لعنه الله، ولا شك أن هذا أكفر الكفر، ولا شك أن الله تعالى هو الخالق وما سواه المخلوق، وأنه ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته، فكلام النصارى في قولهم: إن عيسى هو عين الكلمة، وإن الكلمة جزء من ذات الرب سبحانه وتعالى شبيه بقول الاتحادية الذين يزعمون كزعم النصارى أن اللاهوت اتحد بالناسوت، وأصبح شيئاً واحداً، وأن من جملة ذلك عيسى، فإنه وجد من أنثى، ولكن بعد اتصال اللاهوت بالناسوت.

وجلود المؤمنين تقشعر من أن يتصور هذا التصور، ولكن قلوب أولئك صدت عن معرفة الحق وزين لهم هذا الباطل والعياذ بالله.

عدم بطلان الصلاة بحديث يرد قول الأشاعرة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويرد قول من قال بأن الكلام هو المعنى القائم بالنفس قوله صلى الله عليه وسلم: (إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس)، وقال: (إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث ألا تكلموا في الصلاة)، واتفق العلماء على أن المصلي إذا تكلم في الصلاة عامداً لغير مصلحتها بطلت صلاته، واتفقوا كلهم على أن ما يقوم بالقلب من تصديق بأمور دنيوية وطلب لا يبطل الصلاة، وإنما يبطلها التكلم بذلك، فعلم اتفاق المسلمين على أن هذا ليس بكلام].

معلوم أن الكلام هو ما يسمع، فالساكت لا يقال إنه تكلم. فإذا جلست إلى إنسان وهو يحدث نفسه، هل تقول: إنه تكلم بكذا وكذا؟ فما دام أنه صامت ما نطق بكلمة فإنك لا تقول: إنه تكلم، ولو أنه منذ جلست يحدث نفسه.

ثم مثل الشارح بقوله عليه السلام: (إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس)، وهذا حديث معاوية بن الحكم رضي الله تعالى عنه: (أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فعطس رجل في الصلاة، قال: فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت وأنا في الصلاة: واثكل أمياه، ما لكم تنظرون إلي؟! فجعلوا يضربون أفخاذهم، ففهمت أنهم يسكتونني، فسكت، فلما خرجت دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو الذكر والدعاء وقراءة القرآن)، فجعل هذا كلاماً يبطل الصلاة، ولكنه عذره بكونه جاهلاً لم يشعر بأن ما يقوله مبطل.

والحديث الثاني: (إن مما أحدث الله ألا تتكلموا في الصلاة) يعني: مما تجدد به الوحي أن لا تتكلم في الصلاة، وكانوا أول ما فرضت يكلم أحدهم أخاه بحاجته، فلما نزل قوله تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238] أمروا بالسكوت ونهوا عن الكلام، فالكلام الذي يبطل الصلاة هو اللفظ الذي يسمع، والكلمات التي ينطق بها الإنسان وتخرج من بين شفتيه، ويسمعها من حوله.

فلو أن إنساناً قال لآخر عمداً: أنصت، أو قم، أو تعال، أو نحو ذلك متعمداً وهو عالم أنه في صلاة بطلت صلاته، وإنما رخصوا في الكلام الذي من مصلحة الصلاة أو نحوها، أو من مكملاتها كأركان الصلاة، وكالتسبيح عندما ينوب الإمام شيء، أو ما أشبه ذلك.

فالكلام الذي يسمع وهو من غير أركان الصلاة يبطل الصلاة، وهل تبطل بحديث النفس؟ الجواب: لا تبطل.

فمعلوم أنا لا نسلم غالباً -نستغفر الله- من حديث النفس، وأينا لا يحدث نفسه؟! كما روي أن ابن سعد قال لأبيه: يا أبت! أرأيت قول الله تعالى: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:5] أينا لا يسهو؟ أينا لا يحدث نفسه؟ فقال: ليس بذاك، إنما سهوا عن وقتها. يعني: يؤخرونها حتى يخرج وقتها؛ لأنه قال:( عن صلاتهم)، ولم يقل: في صلاتهم، فالسهو في الصلاة وإن كان ينقص لكنه لا يبطلها، ولأجل ذلك يقع السهو كثيراً من المصلي، ولأجل ذلك شرع سجود السهو، علم الله أنه يحصل السهو فيزيد المرء في الصلاة بسبب اشتغال قلبه وبسبب حديث نفسه، وينقص منها، ويقدم أو يؤخر أو نحو ذلك؛ وذلك لأن قلبه قد يشتغل بشيء من حديثه أو من أموره الدنيوية، فيغفل عما هو مقبل عليه فيسهو، فحديث النفس لا يسمى كلاماً، ولو كان يسمى كلاماً لبطلت به الصلاة؛ لأنه عليه السلام قال: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس)، فعلم أن حديث النفس لا يسمى كلاماً.

ولأجل ذلك يرد على هؤلاء الذين يقولون: إن الكلام هو ما يقوم بالنفس. بل نقول: ليس كذلك، إنما الكلام هو ما يسمع وما ينطق به المتكلم، هذا هو حقيقة الكلام، وأما غير ذلك فإنه يسمى وسوسة، أو حديث نفس، أو سهواً، أو ما أشبه ذلك.

صحة اعتقاد أهل السنة في كلام الله

فمن عقيدة أهل السنة أن القرآن كلام الله، وأن الكتب المنزلة على الأنبياء كلها كلام الله، وأن الله تعالى أقام بها الحجة على العباد، وأنه ضمنها شرائعه، وأنه أنزلها معجزة لأنبيائه، وأنها كلامه حقاً حروفاً ومعاني، هذه العقيدة الراسخة التي يعتقدها أهل السنة.

ولا عبرة بمن أنكر كلام الله، أو أنكر صفة من صفاته الثابتة، سواءٌ أكانت صفة فعلية أم صفة ذاتية، وذلك لما قام عندهم من الشبهات التي شككوا بها على من انتحل تلك النحل واعتقد تلك العقائد الزائغة؛ حيث إن عقيدة أهل السنة مبنية على الأصل الذي هو النقل الصحيح والفطرة السليمة، وقد أيدوا ذلك بأن هذا القرآن أنزله الله معجزة لأنبيائه، وأنه ضمنه شرائعه، وأنه بعث به رسله وأمرهم بأن يبلغوا ما نزل إليهم، وجعل وظيفتهم البلاغ، فقال: إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ [الشورى:48]، وقال تعالى: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ [المائدة:99]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [المائدة:67] ولأجل ذلك سموا رسلاً؛ لأنهم بعثوا من ربهم، أرسلهم وجعل شرائعهم رسائل، فالشرائع التي جاءوا بها سماها رسائل حيث إنهم حملوها من ربهم.

فالرسل هم الأنبياء، والرسائل هي الشرائع، والمرسل هو الله تعالى، والمتضمن لذلك هو القرآن الذي ضمن هذه الشريعة، فمن صدق به عرف أنه كلام الله الذي أرسل به رسله وقبله وعمل بما فيه، ومن شك فيه أو توقف فيه ولم يقبله حق القبول ويعمل به حق العمل فهو زائغ.

وقد أثبت أهل السنة أن صفة الكلام صفة كمال، وأن نفيها نقص، وردوا على المعتزلة الذين قالوا: إن الله لا يتكلم أصلاً، وإن هذا القرآن مخلوق. وردوا أيضاً على من يقول: إن كلام الله هو المعنى دون اللفظ، وإن كلام الله نفسي. أي: من يجعلون القرآن حروفاً مخلوقة أو عبارة عن كلام الله، وأن الكلام هو المعنى دون اللفظ، وهذا يقوله الأشاعرة، وتقدم أنهم يستدلون ببيت الأخطل الذي يقول فيه:

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا

ورد عليهم الشارح بأن هذا بيت مختلق لا يصلح أن يكون دليلاً، لم يقله الأخطل وليس في ديوانه، وقيل إنه إنما قال: (إن البيان)، ويتعجب الشارح من استدلالهم بهذا البيت الذي ليس له سند، ولا يروى بإسناد صحيح، مع أنهم يردون أحاديث الصحيحين، ويقولون: إنها أخبار آحاد، وهذا البيت أقل مرتبة من أخبار الآحاد.

ويرد عليهم أيضاً أنه على تقدير ثبوته فإنه بيت لرجل نصراني، والنصارى لا يقبل كلامهم في هذا الباب؛ وذلك لأنهم ضلوا في مسمى الكلمة، فادعوا أن عيسى هو نفس الكلمة تعالى الله عن قولهم، فعلى تقدير ثبوته عن الأخطل فقد قاله على معتقده، فلا يصير دليلاً لأهل السنة.

حديث التجاوز عن حديث النفس يرد قول الأشاعرة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأيضاً: ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به)، فقد أخبر أن الله عفا عن حديث النفس إلا أن تتكلم، ففرق بين حديث النفس وبين الكلام، وأخبر أنه لا يؤاخذ به حتى يتكلم به، والمراد: حتى ينطق به اللسان باتفاق العلماء، فعلم أن هذا هو الكلام في اللغة؛ لأن الشارع إنما خاطبنا بلغة العرب] .

هذا رد على الأشاعرة الذين يقولون: إن الكلام هو المعنى، أو: إن كلام الله هو ما يقوم بنفسه، وأما اللفظ فهو عبارة، وهم الذين استدلوا بالبيت السابق، حيث جعلوا الكلام هو ما يقوم بالقلب، وجعلوا اللسان دليلاً عليه.

يقول: من الرد عليهم هذا الحديث؛ إذ يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل) .

وحديث النفس: هو الوساوس التي تخطر على القلب، فهذه مما عفا الله عنه، بل قد يكتبها حسنات، ففي الحديث: (إذا هم العبد بالحسنة ولم يعملها، كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإذا هم بسيئة ولم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة قال الله تعالى: إنما تركها من جرائي) أي: من أجلي.

فالهم الذي هو حديث النفس معفو عنه، فالعبد لا يؤاخذ على ما يهم به ولا على ما يحدث به نفسه، إنما يؤاخذ على ما يتكلم به، فإذا تكلم وسمع كلامه ترتب عليه الثواب والعقاب، وهذا يصدق حتى على الأمور الحكمية، فلو أن إنساناً حدث نفسه أن يطلق امرأته وعزم على ذلك بقلبه، ولكنه لم يتكلم بكلمة فيما يتعلق بذلك، وإنما كان ذلك حديث نفس، ثم بعد ذلك رجع لم تطلق زوجته بمجرد عزمه بقلبه، فلا تطلق إلا إذا تكلم بذلك أو كتب أو أشهد.

فكذلك إذا حدث نفسه -مثلاً- بأنه سوف يزني، أو سوف يسرق، أو سوف يقتل فلاناً، أو سوف يشرب خمراً، أو يترك صلاة أو زكاة أو نحو ذلك، فحديث نفس طرأ عليه ولكنه ما فعله، فإن ذلك مما يعفى عنه، ولو كان حديث النفس يسمى كلاماً لما عفي عنه؛ فإن الله تعالى يؤاخذ على الكلام، وذلك لأنه عمل.

فإذاً حديث القلب ووسواس النفس وما يجري فيها من الخطرات ليس كلاماً، ولا يؤاخذ به العبد.

حديث دخول الناس النار بسبب حصائد ألسنتهم يرد قول الأشاعرة

قال المؤلف رحمه الله: [وأيضاً في السنن أن معاذاً رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم)، فبين أن الكلام إنما هو باللسان، فلفظ القول والكلام وما تصرف منهما من فعل ماض ومضارع وأمر واسم فاعل إنما يعرف في القرآن والسنة وسائر كلام العرب إذا كان لفظاً ومعنى.

ولم يكن في مسمى الكلام نزاع بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وإنما حصل النزاع بين المتأخرين من علماء أهل البدع ثم انتشر، ولا ريب أن مسمى الكلام والقول ونحوهما ليس هو مما يحتاج فيه إلى قول شاعر؛ فإن هذا مما تكلم به الأولون والآخرون من أهل اللغة، وعرفوا معناه كما عرفوا مسمى الرأس واليد والرجل ونحو ذلك].

يعني أن لفظة الكلام معروفة لا تحتاج إلى أن يستشهد عليها، ولا أن يقال: إنها تؤخذ من قول الشاعر الأخطل أو نحوه، فإنها لفظة معروفة، ومعلوم أنه إذا قيل: تكلم فلان أنه نطق وقال وحرك لسانه وشفتيه، وظهر له صوت يفهمه من يعرف لغته، وكتب عليه ذلك الكلام إما في سجل حسناته أو في سجل سيئاته، قال تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18] أي: ما يتكلم من كلمة يتلفظ بها إلا وهناك ملكان يكتبانها: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ [ق:17] ، ولم يذكر أنه يكتب ما خطر بالقلب، إنما يكتب ما تكلم به اللسان خيراً أو شراً.

وهكذا أيضاً هذا الحديث الذي ذكر، لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـمعاذ : (ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قال: بلى. فقال: كف عليك هذا، وأشار إلى لسانه، قال معاذ : يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! قال: ثكلتك أمك يا معاذ ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم)، فأخبر بأنهم إنما يعاقبون على ما تلفظوا به، لا على ما وسوست به النفس، ولا على ما تكلم به القلب.

فإذاً الكلام والقول إذا قيل: قال، يقول، قل، تكلم، يتكلم، تكلم، كلاماً، متكلم، فالعرب تعرف أن المراد أنه يختص بالنطق الذي هو صياغة الكلام بالحروف العربية، كما أنهم يعرفون أن الرأس هو مجمع الحواس الذي هو أعلى الجسد، وأن اليد اسم للكف والذراع والعضد التي يحصل بها القبض والبطش، والرجل اسم للقدم والساق والركبة والفخذ التي يحصل عليها القيام والمسير ونحو ذلك، فلا يحتاج إلى أن يقال: ما هي اليد؟ فإذا قيل: ما هي اليد -والذي يسأل عربي- نقول: أما تعرف يدك؟ أما تعرف رأسك؟ أتحتاج كلمة الرأس إلى تفسير؟ فكذلك كلمة (الكلام) و(القول) لا تحتاج إلى تفسير، ولا تحتاج إلى أن يستشهد عليها بقول الأخطل أو بغيره، بل هو معنى يعرفه كل عربي نشأ في بلاد العرب، ويترجم إلى اللغات الأخرى بالكلام الذي يفهمه أهل تلك اللغة.

وقوع الأشاعرة في القول بخلق القرآن

قال المؤلف رحمه الله: [ولا شك أن من قال: إن كلام الله معنى واحد قائم بنفسه تعالى، وإن المتلو المحفوظ المكتوب المسموع من القارئ حكاية كلام الله وهو مخلوق؛ فقد قال بخلق القرآن وهو لا يشعر؛ فإن الله تعالى يقول: قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [الإسراء:88].

أفتراه سبحانه وتعالى يشير إلى ما في نفسه، أو إلى المتلو المسموع؟ ولا شك أن الإشارة إنما هي إلى هذا المتلو المسموع؛ إذ ما في ذات الله غير مشار إليه ولا منزل ولا متلو ولا مسموع، وقوله: لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [الإسراء:88] أفتراه سبحانه يقول: (لا يأتون بمثل ما في نفسي مما لم يسمعوه ولم يعرفوه)؟ وما في نفس الله عز وجل لا حيلة إلى الوصول إليه ولا إلى الوقوف عليه].

قول الله تعالى: قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء:88]، وقوله تعالى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ [الطور:34]، وقوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23] وقوله تعالى: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ [هود:13] الإشارة هل هي إلى المعنى أو إلى اللفظ؟

لا شك أن الإشارة إلى هذه الكلمات والآيات الموجودة في المصاحف، فهو الذي يسمى سوراً وآيات وكلمات وحروفاً، ومجموعه هو القرآن، أشار الله إليه بقوله: بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ [الإسراء:88].

هل الإعجاز بالنسبة إلى المعنى الذي في نفس الرب تعالى الذي قام به؟ إنه يستحيل أن يعلم أحد ما يقوم في نفس الرب سبحانه، وقد حكى الله عن نبيه عيسى أنه قال: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة:116] .

فإذاً: الذين يقولون إن كلام الله هو ما يقوم بنفسه، وإن هذا القرآن عبارة أو حكاية عنه، وليس هو عين كلام الله؛ لا شك أنهم قد جعلوا هذا القرآن مفترى ومخلوقاً، وجعلوا الإنسان قادراً على أن يأتي بمثله، فجعلوه إما من صياغة الملك، وإما من صياغة محمد صلى الله عليه وسلم، وحاشاه أن يكون منه ذلك، وحكى الله عنه أنه يقول: قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ [يونس:16] لبث فيهم قبله أربعين سنة، فكيف مع ذلك جاء به بعد هذه المدة وافتراه وقاله من قبل نفسه، ولو أنه أوحي إليه المعنى وقيل له وعليك صياغة اللفظ، وعليك صياغة الكلمات لكان ذلك من إنشائه لا من إنشاء الله سبحانه، فعلم بهذا أنه لما نزه نفسه عن أن يقول إنه كلامه، صدق عليه أن اللفظ والمعنى كله من كلام الله. وهذا هو الصحيح، والإشارة بقوله: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ [الطور:34] أي: على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، والإشارة إلى الحروف والمعاني، لا على ما يقوم بذات الرب أو بنفسه سبحانه وتعالى؛ فإن ذلك غير ممكن الاطلاع عليه ولا معرفته.

إلزام الأشاعرة بأشد مما لزم المعتزلة

قال المؤلف رحمه الله: [فإن قالوا: إنما أشار إلى حكاية ما في نفسه وعبارته، وهو المتلو المكتوب المسموع فأما أن يشير إلى ذاته فلا، فهذا صريح القول بأن القرآن مخلوق، بل هم في ذلك أكفر من المعتزلة، فإن حكاية الشيء مثله وشبهه، وهذا تصريح بأن صفات الله تعالى محكية، ولو كانت هذه التلاوة حكاية لكان الناس قد أتوا بمثل كلام الله، فأين عجزهم؟!

ويكون التالي -في زعمهم- قد حكى بصوت وحرف ما ليس بصوت وحرف، وليس القرآن إلا سوراً مسورة، وآيات مسطرة، في صحف مطهرة، قال تعالى: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ [هود:13]، وقال: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ [العنكبوت:49]، وقال: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ [عبس:13-14]، ويكتب لمن قرأ بكل حرف عشر حسنات، قال صلى الله عليه وسلم: (أما إني لا أقول (الم) حرف ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)، وهو المحفوظ في صدور الحافظين المسموع من ألسن التالين.

قال الشيخ حافظ الدين النسفي رحمه الله -في المنار-: إن القرآن اسم للنظم والمعنى.

وكذا قال غيره من أهل الأصول، وما ينسب إلى أبي حنيفة رحمه الله أن من قرأ في الصلاة بالفارسية أجزأه فقد رجع عنه وقال: لا تجوز القراءة مع القدرة بغير العربية. وقالوا: لو قرأ بغير العربية فإما أن يكون مجنوناً فيداوى، أو زنديقاً فيقتل؛ لأن الله تكلم به بهذه اللغة، والإعجاز حصل بنظمه ومعناه].

كل هذا رد على هؤلاء الذين يزعمون أن كلام الله هو المعنى دون الحروف، فيقول لهم: إذا كان كذلك؛ فإذاً ليس هو كلام الله، وإنما هو كلام من أنشأه ومن نظمه هذا النظم، وهذا الذي نظمه إما أنه في زعمكم الملك الذي أنزله، أي: أنه أخذ المعنى ونظمه بهذا النظم، وإما أنه الرسول، بمعنى أنه ألقي في قلبه وفي روعه المعاني فصاغ لها عبارات باللغة التي يحسنها، فعلى هذا لا يكون هذا القرآن كلام الله، وعلى هذا يجوز أن يقرأ بأي لغة، ويجوز أن يقرأ بالمعنى، ويترك اللفظ، ويكون الأجر على المعنى لا على الحروف، وهذا خلاف ما ورد، وذلك يتبين من وجوه.

أولاً: الإعجاز الذي أعجز هذا البشر أن يأتوا بمثله ليس هو بالمعنى؛ فإن المعاني يقدرون على أن يصوغوها، فإذا فهمت -مثلاً- معاني آية الكرسي استطعت أن تصوغ لها معاني مثلها وأن تعبر عنها، كما حصل في التفاسير، فإن أهل التفاسير صاغوا معانيها بعباراتهم، فلو كان الإعجاز هو الإتيان بالمعنى لم يكن هناك إعجاز، أي أن التلاوة التي فيها أجر إنما هي تلاوة هذه الحروف، لقوله عليه الصلاة والسلام: (من قرأ حرفاً من القرآن فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)، فقد جعل هذه الحروف عين المتلو وعين كلام الله، وهي التي يكون عليها الأجر والحسنات، فلو كان المعنى هو المطلوب لأباح لنا أن نقرأ بالمعنى ونحصل على الأجر وعلى الحسنات.

ثانياً: القرآن نزل بلغة العرب، فلا يجوز أن يتعبد به بغير لغتهم، وقد روي عن أبي حنيفة أنه أجاز الصلاة باللغة الفارسية، يعني: أن تترجم الفاتحة إلى اللغة الفارسية، ثم يقرأ بها في الصلاة، ولكن أبا حنيفة قال ذلك أولاً ثم رجع عنه، ولم يوافقه على مقالته أحد من الأئمة، بل كلهم قالوا: لا تجزئ الصلاة إلا بالحروف العربية. حتى قالوا: وكذلك في الخطب وفي الأذان وما أشبههما، لا تجوز إلا باللغة العربية، فمن صرفها إلى لغة أخرى لم يأت بالواجب، فإذا خطب بلغة أعجمية لم تجزئه خطبته، أو قرأ الفاتحة بلغة أعجمية لم تجزئه قراءته ولم تصح صلاته، أو قرأ التشهد بلغته التي ليست عربية لم يصح تشهده، أو أذن بغير اللغة العربية لم يصح أذانه، وهكذا سائر شرائع الإسلام.

فلما كان ذلك دل على أن هذه الألفاظ العربية الموجودة في المصاحف مطلوبة منا، وعلى هذا يكون لها مزية، ولماذا حصلت لها هذه المزية؟ لأنها عين كلام الله، ولو كانت عبارة أو حكاية عنه لما كان لها ميزة عن عبارة سائر الناس، فإذا كان عبارة محمد، أو عبارة جبرائيل، أو عبارة صحابي آخر لم يكن له ميزة عما نعبر به نحن، أو عما يعبر به فلان؛ لأن الجميع كله من إنشاء الإنسان لا من كلام الله، لا أنه عين كلام الله، تعالى الله عن ذلك.

فإذاً عرف بذلك أن هذا الكلام نفسه هو عين كلام الله حروفه ومعانيه.

من قال: إن القرآن عبارة عن كلام الله فقد قال إنه قول البشر

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (ومن سمعه وقال: إنه كلام البشر فقد كفر)، لا شك في تكفير من أنكر أن القرآن كلام الله، بل قال: إنه كلام محمد أو غيره من الخلق، ملكاً كان أو بشراً.

وأما إذا أقر أنه كلام الله ثم أوَّل وحَرَّف فقد وافق قول من قال: إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر:25] في بعض ما به كفر، وأولئك الذين استزلهم الشيطان، وسيأتي الكلام عليه عند قول الشيخ: ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله إن شاء الله تعالى].

صاحب المتن -وهو الطحاوي - عبارته هنا تقتضي تكفير من يقول إن هذا القرآن قول البشر. وما ذاك إلا أن الله كفر من قال ذلك، فقد حكى الله عن بعض المشركين قوله تعالى: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر:18-25]، فالشاهد قوله: إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر:25]، فجعله أولاً سحراً يؤثر، ثم صرح بأنه قول البشر.

فهؤلاء الذين يقولون: إنه إنشاء محمد قد أشبهوا هذا الكافر الذي قال: إنه سحر يؤثر، إنه قول البشر، وتوعده الله فقال: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [المدثر:26]، وهذا وعيد شديد، وهو عام لكل من زعم أن هذا القرآن قول البشر لا أنه قول رب البشر، والذين يعتقدون أنه كلام الله يعرفون أن الله تعالى هو الذي تكلم بما شاء، وأنزله وحياً على نبيه، وأمر نبيه أن يبلغه إلى أمته باللفظ والمعنى، فعلى هذا يكون البشر جميعاً كلهم يقرءونه على أنه كلام الله، لا على أنه كلام لأحدهم.

فالحاصل أن من ادعى أنه ليس هو عين كلام الله، وأن كلام الله هو المعاني دون الألفاظ ودون الحروف، فقد أبطل هذه النصوص وادعى أن كلام الله إنما هو المعنى.

وهذه الطائفة هي طائفة الأشاعرة، وهم من أكثر الطوائف انتشاراً في القرون الوسطى؛ إما لأنهم تمكنوا وكثروا وصار الخلفاء يقربونهم، فصاروا يؤلفون وينصرون بذلك معتقدهم، واشتهر هذا القول وكثرت الكتابة فيه، وتستر الذين يقولون بقول الحق؛ لكونهم قلة وأذلاء فاستخفوا، ولم يستطيعوا أن يصرحوا بما يعتقدونه طوال أكثر القرون؛ في القرن الرابع والخامس والسادس وأغلب السابع، وفي آخر القرن الثامن ظهر من يقول بالحق ويصدع به، فقيض الله للأمة من انتصر انتصاراً شديداً لقول الحق، وهو شيخ الإسلام ابن تيمية ، ومن قرأ عليه، ومن انتفع به من تلاميذه وأهل زمانه إلى أن وصل الأمر إلى مؤلف هذا الشرح.

فهؤلاء الذين في هذه القرون الكثيرة وكذلك من بعدهم لا شك أنهم ذوو منزلة، فلأجل ذلك توقف العلماء في الحكم عليهم، قالوا: هل نحكم على هؤلاء كلهم أنهم كفار؛ حيث إنهم يقولون: إن كلام الله هو المعنى، وليس كلام الله هو الحروف، ويقولون: إن كلام الله معنى قائم بنفسه.

ففي زعمهم أن الكلام إنما يخطر ممن تقوم به الحوادث كما يدعون ذلك، فعند ذلك توقفوا وقالوا: نعذرهم باجتهادهم ونكل أمرهم إلى الله تعالى ولا نكفرهم، ولكن من قامت عليه الحجة وانقطع عذره، ومات مصراً على ذلك، نتبرأ منه وأمره إلى الله تعالى، ولا نصرح بكفره.

إعجاز القرآن في اللفظ والمعنى دليل على أنه كلام الله

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (ولا يشبه قول البشر)، يعني: أنه أشرف وأفصح وأصدق، قال تعالى: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثاً [النساء:87]، وقال تعالى: