شرح زاد المستقنع باب الحضانة [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [باب الحضانة] الحضانة مصدر مأخوذ من قولهم: حضن الشيء يحضنه حضانة إذا ضمه إليه، والحضن الصدر مما دون الإبط إلى الكشح.

وسميت الحضانة بهذا الاسم لاشتمالها على ضم المحضون، وهو الشخص الذي يعجز عن القيام بأمور نفسه؛ لصغر أو جنون أو عتهٍ أو غير ذلك.

وباب الحضانة يتعلق بالقيام على حقوق الضعفاء من الصبيان والصغار والمجنون والمعتوه.

ومناسبة باب الحضانة لما قبله: أن المصنف رحمه الله بيّن حقوق النفقات، فناسب بعد ذلك أن يبين حقاً خاصاً للصغير والمجنون، وهو حق الحضانة.

وتقديم باب النفقات على باب الحضانة مبني على أن النفقات لا تختص بنوع معين من كل وجه، ولكنها أشمل وأعمّ من الحضانة، ولكن الحضانة يراها بعض العلماء خاصة بالصغير فلا تشمل الكبير كما عند المالكية، وإن كان جمهور العلماء رحمهم الله على أن الحضانة تشمل الصغير، وتشمل الشيخ الكبير والزمن ومن في حكمهم.

ونظراً لأن الحضانة تختص بنوع خاص، فالأنسب أن يبدأ بالحق العام قبل الحق الخاص، من باب التدرج من الأعلى إلى ما هو دونه.

والحضانة: هي القيام بأمور من لا يستقلّ بنفسه، وتربيته ودفع الضرر عنه أو ما يهلكه.

ولذلك تشتمل الحضانة على القيام بمصالح الصغار، ورعاية هذه المصالح بما يكون فيه الخير إذا كان المحضون صغيراً أو مجنوناً، أو للشيخ الكبير الزمن إذا تحمّل وليّه مصالحه وقام على رعايته.

والحضانة القيام بتحصيل المصالح من رعاية المحضون في نومه ويقظته، وبمتابعة أحواله، والإنفاق على تعليمه، وتأديبه وتقويمه، ودلالته على ما يصلح دينه ودنياه وآخرته، فالصبي والصغير سواء كان ذكراً أو أنثى يحتاج إلى من يرعى شئونه ويقوم بأموره، فيرعى شئونه مادياً ومعنوياً.

والحضانة تتكفل بذلك كله، والإسلام جعل هذه الحضانة إلى شخص مخصوص بشروط مخصوصة لابد من توفرها فيه، وجعل لهذه الحضانة أموراً ينبغي على الحاضن أن يقوم بها على وجهها، وجعل لها أمداً وغاية تنتهي عند بلوغها إليه، وكل هذا يبينه العلماء رحمهم الله في باب الحضانة.

يقول المصنف رحمه الله: (باب الحضانة) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بحضانة الصغير ومن في حكمه، ويشمل هذا ثلاثة جوانب:

الجانب الأول: بيان من هو الشخص الحاضن؟ ومن هو الأولى والأحق بالحضانة؟

الجانب الثاني: بيان من الذي يحضن؟ وهو الشخص المحضون.

الجانب الثالث: بيان صفة الحضانة والمسائل والأحكام المتعلقة بها.

أدلة مشروعية حضانة الصغير

قال المصنف رحمه الله تعالى: [تجب لحفظ صغير ومعتوه ومجنون].

(تجب) بمعنى تثبت، فالحضانة ثابتة إما بسبب الصغر أو الجنون أو العته، وبناءً على ذلك لا حضانة لكبير بالغٍ إذا كان عاقلاً، إلا إذا كان شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يقوم بأموره ومصالحه، فأفتى طائفة من أهل العلم بأنه في حكم الشخص المحضون، لكن هذا فيه تفصيل: إذا غاب عنه عقله، فيلحق بالمجنون ولا إشكال، وكذلك إذا كان فيه خرف أو سفه.

فبين المصنف رحمه الله أنها تثبت إذا كان المحضون صغيراً، سواء كان ذكراً أو أنثى، والسبب في هذا: أن الصغير ضعيف العقل لا يحسن رعاية مصالحه والقيام على نفسه، وبناءً على ذلك لابد من شخص يقوم عليه، ولهذا قال الله عز وجل: وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا [آل عمران:37] فجعلها في كفالة من هو أكبر، وهذا يدل على أن الصغير يحتاج إلى من يكفله ويقوم على رعايته.

قال بعض العلماء: الحضانة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع.

فأما دليل الكتاب فقوله تعالى: وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا [آل عمران:37]، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يأت شرعنا بخلافه.

وأما دليل السنة فأحاديث، منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء عنه في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (أن امرأة أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتِ أحق به ما لم تنكحي).

فقوله عليه الصلاة والسلام: (أنتِ أحق به) إثبات للحضانة، وهذا الحديث حسن الإسناد، من رواية الوليد بن مسلم عن عمرو بن شعيب ، والرواية في السنن بالعنعنة، والوليد مدلس، ولكن هناك رواية في البيهقي صرح فيها بالتحديث، وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده يحسنه طائفة من العلماء رحمهم الله، ويختارون أنه من قبيل الحسن.

وأما الحديث الثاني فهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقد صححه غير واحد من العلماء والأئمة، وفيه: (أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن زوجي يريد أن يذهب بابني، وقد نفعني وسقاني من بئر أبي عنبة، فجاء زوجها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا غلام! هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت، فأخذ بيد أمه) وهذا الحديث الثاني يستدل به العلماء على انقطاع الولاية بعد الحضانة في مسألة التخيير بعد سبع سنين وسيأتي الكلام عليها.

وأجمع العلماء رحمهم الله على أن الصغير ذكراً كان أو أنثى تثبت الحضانة في حقه، وذلك على التفصيل الذي سنذكره في قرابة المحضون أو من هو أولى بحضانته.

ثم إن دليل العقل يؤكد ما تقدم، فإن الصغير قاصر في نظره.. قاصر في رعاية مصالحه، وبذلك أمرنا الله بالحجر عليه، قال تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ [النساء:5]، وأمر بالحجر على اليتامى، فهذا يدل على أن الصغير يحتاج إلى من يرعاه، وإذا كان الصغير غير قادر على رعاية مصالحه، فإنه ينبغي أن تسند الرعاية إلى من هو أهل، وأحق من يقوم بذلك قرابته.

حضانة المعتوه والمجنون

قوله: [ومعتوه ومجنون].

العته ضرب من الجنون، والجنون ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: الجنون المستديم.

القسم الثاني: الجنون المتقطع.

فإذا كان الشخص به جنون فإنه يولى عليه من يقوم على شأنه ورعاية مصالحه، وهذا قول الجمهور رحمهم الله، وهو أن الحضانة تثبت للكبير إذا كان بالغاً مجنوناً.

وأما العته فيقولون: إنه ضرب من الخرف، بأن يكون ناقص العقل، ليس مجنوناً ولا عاقلاً من كل وجه، أو أنه يميز الأمور بعض الأحيان ويخلط بعض الأحيان، وهذا نوع من العته، وقد يكون العتة بسبب الحوادث، كأن يضرب على رأسه، فيصبح عنده نوع من الخلط وعدم تمييز الأمور، نسأل الله السلامة والعافية.

فالمقصود أنه إذا كان قاصراً في مصالحه لنفسه، سواء كان سبب القصور صغر السن، أو عدم وجود العقل، أو ضعف العقل والإدراك، فإنه يولى عليه من يقوم عليه.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [تجب لحفظ صغير ومعتوه ومجنون].

(تجب) بمعنى تثبت، فالحضانة ثابتة إما بسبب الصغر أو الجنون أو العته، وبناءً على ذلك لا حضانة لكبير بالغٍ إذا كان عاقلاً، إلا إذا كان شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يقوم بأموره ومصالحه، فأفتى طائفة من أهل العلم بأنه في حكم الشخص المحضون، لكن هذا فيه تفصيل: إذا غاب عنه عقله، فيلحق بالمجنون ولا إشكال، وكذلك إذا كان فيه خرف أو سفه.

فبين المصنف رحمه الله أنها تثبت إذا كان المحضون صغيراً، سواء كان ذكراً أو أنثى، والسبب في هذا: أن الصغير ضعيف العقل لا يحسن رعاية مصالحه والقيام على نفسه، وبناءً على ذلك لابد من شخص يقوم عليه، ولهذا قال الله عز وجل: وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا [آل عمران:37] فجعلها في كفالة من هو أكبر، وهذا يدل على أن الصغير يحتاج إلى من يكفله ويقوم على رعايته.

قال بعض العلماء: الحضانة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع.

فأما دليل الكتاب فقوله تعالى: وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا [آل عمران:37]، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يأت شرعنا بخلافه.

وأما دليل السنة فأحاديث، منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء عنه في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (أن امرأة أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتِ أحق به ما لم تنكحي).

فقوله عليه الصلاة والسلام: (أنتِ أحق به) إثبات للحضانة، وهذا الحديث حسن الإسناد، من رواية الوليد بن مسلم عن عمرو بن شعيب ، والرواية في السنن بالعنعنة، والوليد مدلس، ولكن هناك رواية في البيهقي صرح فيها بالتحديث، وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده يحسنه طائفة من العلماء رحمهم الله، ويختارون أنه من قبيل الحسن.

وأما الحديث الثاني فهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقد صححه غير واحد من العلماء والأئمة، وفيه: (أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن زوجي يريد أن يذهب بابني، وقد نفعني وسقاني من بئر أبي عنبة، فجاء زوجها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا غلام! هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت، فأخذ بيد أمه) وهذا الحديث الثاني يستدل به العلماء على انقطاع الولاية بعد الحضانة في مسألة التخيير بعد سبع سنين وسيأتي الكلام عليها.

وأجمع العلماء رحمهم الله على أن الصغير ذكراً كان أو أنثى تثبت الحضانة في حقه، وذلك على التفصيل الذي سنذكره في قرابة المحضون أو من هو أولى بحضانته.

ثم إن دليل العقل يؤكد ما تقدم، فإن الصغير قاصر في نظره.. قاصر في رعاية مصالحه، وبذلك أمرنا الله بالحجر عليه، قال تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ [النساء:5]، وأمر بالحجر على اليتامى، فهذا يدل على أن الصغير يحتاج إلى من يرعاه، وإذا كان الصغير غير قادر على رعاية مصالحه، فإنه ينبغي أن تسند الرعاية إلى من هو أهل، وأحق من يقوم بذلك قرابته.

قوله: [ومعتوه ومجنون].

العته ضرب من الجنون، والجنون ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: الجنون المستديم.

القسم الثاني: الجنون المتقطع.

فإذا كان الشخص به جنون فإنه يولى عليه من يقوم على شأنه ورعاية مصالحه، وهذا قول الجمهور رحمهم الله، وهو أن الحضانة تثبت للكبير إذا كان بالغاً مجنوناً.

وأما العته فيقولون: إنه ضرب من الخرف، بأن يكون ناقص العقل، ليس مجنوناً ولا عاقلاً من كل وجه، أو أنه يميز الأمور بعض الأحيان ويخلط بعض الأحيان، وهذا نوع من العته، وقد يكون العتة بسبب الحوادث، كأن يضرب على رأسه، فيصبح عنده نوع من الخلط وعدم تمييز الأمور، نسأل الله السلامة والعافية.

فالمقصود أنه إذا كان قاصراً في مصالحه لنفسه، سواء كان سبب القصور صغر السن، أو عدم وجود العقل، أو ضعف العقل والإدراك، فإنه يولى عليه من يقوم عليه.

وقوله: [والأحق بها أم].

هذا ترتيب للأشخاص الذين لهم حق الحضانة، فالحضانة تثبت للأم، ثم أمها وإن علت بمحض الإناث، ثم الأب وأمه وإن علت كأمه وأم أمه، وهي جدة المحضون، وبعد ذلك للجد ثم أمه وإن علت بمحض الإناث، ثم للأخت الشقيقة، ثم للأخت لأم، ثم للأخت لأب، ثم بعد ذلك الخالة الشقيقة، ثم الخالة لأم، ثم الخالة لأب، ثم العمة الشقيقة، ثم العمة لأم، ثم العمة لأب، ثم بعد ذلك تثبت الحضانة لخالة الأم الشقيقة، ثم لخالة الأم لأم، ثم لخالة الأم لأب، ثم عمة الأب الشقيقة، ثم عمة الأب لأم، ثم عمة الأب لأب، ثم بعد ذلك بنت الأخ الشقيق، ثم بنت الأخ لأم، ثم بنت الأخ لأب، ثم بنت الخالة الشقيقة، ثم بعد ذلك لبنات أعمام الأب الأشقاء، ثم بنات العمات الشقيقات على الترتيب الذي تقدم.

فعمات الأب الشقيقات، ثم بعد ذلك بنات العمات الشقيقات، ثم بنات العمات لأم، ثم بنات العمات لأب، ثم بعد ذلك لأقرب عاصب من أولياء المحضون.

هذا بالنسبة للأصل في الترتيب، وروعي فيه تقديم جهة تقديم الأم؛ لأن الحضانة بالإناث ألصق منها بالذكور، ولذلك قدم النبي صلى الله عليه وسلم حضانة الأم على حضانة الأب، وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث المرأة: (أنتِ أحق به ما لم تنكحي)، فالذي اختصم هنا عندنا الأب وهو الزوج، والأم وهي الزوجة، فبين عليه الصلاة والسلام بقوله: (أنتِ) خطاباً للزوجة وهي أم المحضون (أحق به ما لم تكنحي) أي: ما لم تتزوجي.

فهذا أصل عند العلماء رحمهم الله في أن جهة الأمومة مقدمة، ويراعى في الحضانة جهة الأمومة، وهذا لا شك أنه عين الحكمة والصواب، فإن الطفل والصغير يحتاج إلى الرعاية والحنان من الأم، والحنان من الإناث أكثر من الحنان من الذكور والرجال.

والرعاية لمصالح الصغار من الإناث أبلغ من رعاية الذكور، فإن في الرجال من الخشونة والعنف والقوة ما لا يخفى، وفي الإناث من اللين والصبر وتحمل أذية الأطفال والصغار ما لا يخفى، فأعطى الله عز وجل كل ذي حق حقه.

ومن هنا قدمت جهات الأمهات، فمثلاً: إذا وُجدت أخت لأب وأخت لأم قدمت الأخت لأم على الأخت لأب، وإذا وجدت عمة لأم وعمة لأب قدمت العمة لأم على العمة لأب... وهكذا.

فهذا كله راعى العلماء رحمهم الله فيه الأصل الشرعي من تقديم الإناث على الذكور.

إذاً: الأولى والأحق الأم، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أنتِ أحق به ما لم تنكحي) فقوله عليه الصلاة والسلام: (أنتِ أحق) فيه دليل على أن الأم مقدمة في الحضانة، وهذا بإجماع العلماء من حيث الأصل على أن الأم أولى وأحق بالحضانة، ولذلك هي التي تقوم على تربية ولدها ورعاية شئونه، فأولى من حضن الصبي وقام به الأم.

وقوله: [ثم أمهاتها القربى فالقربى] لأن أم الأم كالأم، وهي أم؛ ولذلك تنزل منزلة الأم عند فقد الأم، وهي بعد الأم في الترتيب، ثم أم أم الأم، وهي جدة أم المحضون.

وقوله: [ثم أب] من أهل العلم من قدم الأب على أم الأم، ومنهم من جعل جهة الأم مقدمة على الأصل في رعاية الشرع لها، فقالوا: إن الأب يكون بعد فقد أم الأم، أو وجود مانع في أم الأم، والأب له حق، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام للمرأة: (أنت أحق به) و(أحق) صيغة أفعل في لغة العرب تدل على اشتراك شيئين فأكثر، وأن أحدهما أعظم مزية من الآخر، فإذا قيل: محمد أعلم من علي، فهم أن محمداً وعلياً كل منهما عالم، ولكن منزلة محمد أعلى من منزلة علي في العلم.

فصيغة أفعل، تقتضي التشريك والمزية بالتفضيل، لكن لما قال عليه الصلاة والسلام: (أنتِ أحق به ما لم تنكحي) أثبت عليه الصلاة والسلام للأب حقاً، ولكنه بين أن الأم أولى، وإلا لأبطل دعوى الأب من أصلها، وقال: لا حق له في ذلك، ولكنه لما قال: (أنت أحق) دل على أن للأب حقاً في حضانة ولده.

ولأن في الأب من الشفقة والحنان والرعاية والقيام بالمصالح ما لا يخفى، وفيه من القدرة على رعاية مصالح الصغير ما ليس في الأم، خاصة عند وجود الحاجة لحقوق الصغير عند الناس أو نحو ذلك، أو يحتاج الصغير إلى تعليم أو تأديب أو دلالة على صنعة أو حرفة، فالأب هو الذي يتولى إخراجه لذلك والقيام عليه ومتابعته وأمره بذلك وحثه عليه.

وقوله: [ثم أمهاته].

أي: أمهات الأب، أمه وأم أمه وإن علت بمحض الإناث.

وقوله: [ثم جد] لأن الجد منزل منزلة الأب، والجد أب من وجه، ولذلك قال الله تعالى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ [الحج:78] فالجد بمنزلة الأب، وعلى ذلك أصول الشريعة، فإذا لم يوجد الأب، أو كان في الأب مانع، انتقلت الحضانة إلى الجد.

وقوله: [ثم أمهاته كذلك].

أي: ثم أمهات الجد لهن الحق في الحضانة؛ لأنهن منزلات بمنزلة الأب.

فإذاً: أصبح عندنا في الأصول الجهات التالية: الأم، ثم تليها أمها وإن علت، ثم الأب، وتليه أمه وإن علت، ثم الجد، وتليه أمه وإن علت، فهذه ستة أنواع كلها مرتبة من جهة الأصول: إما من جهة الأب أو من جهة الأم.

وقوله: [ثم أخت لأبوين]. أي: أخت شقيقة.

فإذا لم يوجد أحد من الأصول الستة انتقلت الحضانة إلى فرع الأصل، والأصل عندنا من جهة الأب والأم، وأصل الأصلين من جهة الإناث، ومن جهة الذكر بالنسبة للأب، وبعد ذلك انتقل إلى فرع الأصل وهي الأخت، وقد بينا أن الأخت هي التي شاركتك في أحد أصليك أو فيهما معاً.

فهنا الأخت الشقيقة لها حق الحضانة، وفيها من الشفقة والحنان والعطف لأنها صنو المحضون، ولا شك أنها ترعى مصالح أخيها؛ لأنها أدلت من جهتين.

ثم تليها الأخت لأم؛ إعمالاً لأصل الشريعة بتقديم جهات الأمهات على جهات الآباء، ثم الأخت لأب.

وقوله: [ثم لأم، ثم لأب] كل هؤلاء النسوة الثلاث من جهة الأخوة، فتقدم الشقيقة، ثم بعدها الأخت لأم ثم بعدها الأخت لأب، فإذا لم يوجد شيء من الأصول أو وجد وفيه مانع كأب كافر أو أم كافرة والعياذ بالله، وليس هناك من قرب بعد الأصول إلا الأخت الشقيقة، فانتقلت الحضانة إليها، فإن لم توجد الأخت الشقيقة أو بها مانع انتقلت إلى الأخت لأم، فإن لم توجد أو فيها مانع انتقلت الحضانة إلى الأخت لأب.

وقوله: [ثم خالة لأبوين].

أي: تستحق الحضانة الخالة الشقيقة، وهي كل أنثى شاركت الأم في أصليها، وأما الخالة لأب أو لأم فإنها شاركت في أحد الأصلين، فالخالة تنزل منزلة الأم في الحضانة، والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه لما فتح مكة جاءت بنت حمزة تقول: يا عم يا عم يا عم! فقال علي رضي الله عنه لـفاطمة : دونك بنت عمك خذيها واحتمليها، فحملتها فاطمة ، فاختصم فيها جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة وعلي بن أبي طالب ).

فهذه بنت حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي بنت أخيه من الرضاعة، فالنبي صلى الله عليه وسلم عمها، وبعض مشايخنا رحمة الله عليهم يأخذون ملحظاً بسيطاً وهو أن هذه بنت صغيرة يتيمة عقلت عمها من الرضاع ونادته: يا عم يا عم! وهو عم من الرضاع، فكيف ببنات اليوم تجهل عمها من النسب!

انظر كيف يراعى تربية البنات وكيف كانت الأم تربي، لأن أباها حمزة رضي الله عنه استشهد في أحد، وهذا في فتح مكة، والمسافة بعيدة، ومع هذا عقلت عمها من الرضاع، فما بالك بعمها من النسب، وكذا قرابتها من النسب؟!

لأن البنت كانت تربى في حجر أمها، وكانت الأم لا تفرط في فلذة كبدها، أما اليوم إذا دخل عليها عمها أو خالها أو قريبها من النسب، فربما جهلته والعياذ بالله، كل هذا بسبب قطيعة الرحم أو بسبب إسناد التربية إلى المربيات والعاملات، وترك الأمهات لواجبهن من الرعاية.

الشاهد أن هذه الصغيرة عقلت وصاحت، فاختصم فيها هؤلاء الثلاثة: علي بن أبي طالب يقول: إنها بنت عمي، وكذلك يقول جعفر رضي الله عنه وأرضاه، لكنه قال: وخالتها تحتي، وقال زيد بن حارثة : إنها ابنة أخي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين زيد بن حارثة وحمزة رضي الله عنهما.

فقال عليه الصلاة والسلام: (الخالة بمنزلة الأم) وهذا من أقضيته عليه الصلاة والسلام، قضى في هذه الخصومة وفصل بالحق الذي فصل به ربه سبحانه وتعالى وهو خير الفاصلين.

وهذا في الحقيقة ينبغي أن يلحظ في أن علياً رضي الله عنه وجعفراً كل منهما أدلى بالسبب الذي هو من جهة العصبة، فكل منهما يعتبر ابن عم من جهة العصبة، فالقرابة موجودة، لكنَّ جعفراً رضي الله عنه وأرضاه فضل من جهة وجود الزوجة التي هي خالة، ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام: (الخالة بمنزلة الأم) وفضلت من هذا الوجه.

ومحل الشاهد في قوله عليه الصلاة والسلام: (الخالة بمنزلة الأم) حيث دل هذا الوصف على أن الخالة تنزل منزلة الأم.

ومن هنا أجمع العلماء رحمهم الله أن الخالة لها حق في الحضانة.

وقوله: [ثم عمات كذلك] تقدم الشقيقة منهن لأنها أدلت من جهتين، ثم تقدم العمة لأم، ثم العمة لأب.

وقوله: [ثم خالات أمه] انتقل إلى خالات الأم، والخئولة جاءت من جهة الأم، ويقدم فيها خالة الأم الشقيقة، وهي التي شاركت أم الأم في أصليها، ثم تقدم الخالة لأم على الخالة لأب.

وقوله: [ثم خالات أبيه] أي: أن الخئولة من جهة الأم مقدمة على الخئولة من جهة الأب، يقدم فيها الخالة الشقيقة، ثم الخالة لأم، ثم الخالة لأب، على التفصيل الذي تقدم.

وقوله: [ثم عمات أبيه] عمات الأب يراعى فيهن نفس الترتيب: فالعمة الشقيقة، ثم العمة لأم، ثم العمة لأب، هذا من جهة عمات الأب، ولا حق لعمات الأم، وذلك لأنهن يدلين بأب الأم، وهو من ذوي الأرحام وليس من العصبة.

ومن هنا فلا حق لعمات الأم من جهة الترتيب الذي ذكرناه في الحضانة.

وقوله: [ثم بنات إخوته وأخواته] بنت الأخ الشقيق، ثم بنت الأخ لأم، ثم بنت الأخ لأب، وبعد ذلك بنت الأخت الشقيقة، ثم بنت الأخت لأم، ثم بنت الأخت لأب، هذا بالنسبة للترتيب الذي اختاره المصنف رحمه الله.

ومن أهل العلم رحمهم الله من يقدم جهة الإخوة الأشقاء على جهة عمات وخالات الأصول، وذلك لمكان القرب ومشاركة المحضون في الأصل، كما في مسائل الفرائض، وسيأتينا إن شاء الله تعالى.

وقوله: [ثم بنات أعمامه وعماته] بنات الأعمام الأشقاء، ثم بنات الأعمام لأم، ثم بنات الأعمام لأب، ثم بنات العمات الشقيقات، ثم بنات العمات لأم، ثم بنات العمات لأب، على نفس الترتيب الذي ذكرناه؛ لأن السبب واحد وهو تقديم جهة الأم على جهة الأب.

وقوله: [ثم بنات أعمام أبيه وبنات عمات أبيه] أي فإذا لم يوجد فرع أعمامه وعماته فينظر في فروع أصولهم: فيقدم بنات أعمام أبيه الأشقاء، ثم بنات أعمامه لأم، ثم بنات أعمامه لأب، بنات عمات أبيه الشقيقات، ثم بنات عماته لأم، ثم بنات عماته لأب.

والسبب في هذا أنها تقدم الذكورة في الإخوة، فتقدم بنات الإخوة الأشقاء على البنات الشقيقات؛ لأن العصبة من جهة الأشقاء أقوى منها في الإناث الشقيقات، وكذلك بالنسبة للعمات والأعمام، تقدم فرع الأعمام الذكور على فرع العمات الإناث من جهة العصوبة.

وأما بالنسبة لجهة الأنوثة فالأصل الذي ذكرناه باقٍ كما هو، لأنهن كلهن إناث، لكن يبقى إخوة التعصيب، ومن هنا تقدم بنات الأعمام الشقيقات، ثم يليهن بنات الأعمام لأم، ثم بنات الأعمام لأب، ثم بنات العمات الشقيقات، ثم بنات العمات لأم، ثم بنات العمات لأب.

وقوله: [ثم لباقي العصبة الأقرب فالأقرب] هذا أصل عند العلماء رحمهم الله، وسيأتي إن شاء الله تقريره أكثر في الفرائض، وأن الأصل تقديم الجهة ثم القرب ثم القوة:

فبالجهة التقديم ثم بقربه وبعدهما التقديم بالقوة اجعلا

فلو وجد مثلاً: بنت عم وبنت ابن عم، فإن بنت العم مقدمة على بنت ابن العم بالنسبة لمنزع العصبات بعد انتهاء الأصول، فيقدم الأقرب، ثم الأقوى مثل ما ذكرنا في الشقيق مع الأخ لأب أو لأم، فإنك تقدم جهة الشقيق وهذا في الإخوة والعمومة والخئولة، فيقدم الشقيق على الأخ لأم والأخ لأب؛ لأن الشقيق أدلى من جهة الأب ومن جهة الأم، ولكن الذي لأم أو لأب أدلى بواسطة واحدة، إما من جهة الأم أو من جهة الأب، ولذلك يراعى في تقديم العصبات هذا الأصل.

وقوله: [فإن كان أنثى فمن محارمها] فمثلاً: لو كان لها ابنا عم، أحدهما: بينه وبينها رضاعة، فهو أخوها من الرضاع، فيكون مقدماً على ابن عم ليس بذي محرم، ولذلك يكون القريب محرماً وارثاً، ويكون وارثاً غير محرم، ويكون محرماً غير وارث.

فالمحرمية تراعى في الأنثى، فمثلاً: لو فرضنا أن قرابتها كلهم كفار، انقطعت الحضانة لوجود مانع الكفر، لكن لو كان لها قريب كابن عم، وأراد أن يقوم بحضانتها، وقال: هذه قريبتي وأنا أولى بحضانتها، فننظر إذا كان ليس بذي محرم منها وليس هناك محرمية بينه وبينها فمذهب طائفة من العلماء رحمهم الله أنه لا حضانة له عليها، وتنتقل الحضانة إلى الحاكم.

وقال بعض العلماء: لا تنتقل إلى الحاكم، ولكن يقال له: اختر شخصاً بينه وبينها رضاعة يكون من ذوي الأرحام، فيكون اختياره لهذا الذي من ذوي الأرحام موجباً لتقديمه على بقية القرابة.

فابن العم لو ماتت فإنه يرثها، إذا لم يكن لها وارث من أصحاب الفروض، أو من العصبة الأقربين.

فهو وارث ولكنه ليس بذي محرم، ففي هذه الحالة إذا وجدت علاقة كابني عم أحدهما بينه وبينها رضاعة، أو ابن عم وهو عم من الرضاعة أو خال من الرضاعة قدم ذو الرضاع على الذي لا محرمية بينه وبين المحضون.

والسبب في هذا: أن هذه المرأة إذا حضنها من ليس بمحرم لها لم يؤمن أن تقع في فتنة، وقد تتعرض للحرام، فبناءً على ذلك لا يتولى الذكر الحضانة عن الأنثى إذا لم تكن هناك محرمية.

وقوله: [ثم لذوي أرحامه] أي: مثل الخال بالنسبة للمرأة؛ لأن ذوي الأرحام لهم حق، قال تعالى: وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ [الأنفال:75].

وعلى التفصيل الذي سنبينه إن شاء الله في مراتب ذوي الأرحام في الفرائض يكون ترتيبهم، مثل أب الأم، فإنه محرم وليس له حق الحضانة في الأصل، لأنه يعتبر من ذوي الأرحام، وهو من محارم البنت، لأنه جدها من جهة الأم، فلا يكون له حق حضانة مع وجود هؤلاء الذين تقدموا؛ لأنهم أحق وأولى، ولكن له ذلك إذا لم يوجد منهم أحد.

وقد بينا أن القرابة فيهم من هو محرم وارث، وفيهم من هو وارث غير محرم، وفيهم من هو وارث غير محرم.

وبناءً على ذلك: ينظر في ذوي الأرحام كالخال وابن الأخ لأم، فينظر في ترتيبهم على الأصل الذي ذكرناه، فمثلاً: يقدم أبو الأم على ابن الأخ لأم؛ لتعلق ذلك بالأصل، وجهة الإخوة تبع لجهة الجدودة.

وقوله: [ثم للحاكم] إذاً: عندنا الترتيب الذي ذكرناه أولاً، ثم العصبات، ثم ذوو الأرحام، ثم بعد ذلك الحاكم.

والحاكم الأصل في ولايته على الصغير وقيامه بأمر حضانته قوله عليه الصلاة والسلام: (السلطان ولي من لا ولي له) فإذا انقطعت ولاية الحضانة وما وجد له أقرباء ولا عصبة ولا ذوو أرحام، انتقلت ولايته إلى الحاكم، فهو ولي من لا ولي له.

إذا امتنع من له الحضانة أو كان غير أهل انتقلت

وقوله: [وإن امتنع من له الحضانة].

هل الحضانة حق واجب لا اختيار فيها للحاضن؟ أم أنها حق تخييري بأن يقال له: هذا حقك، إن شئت أن تلي حضانة الصغير فلك ذلك، وإن شئت أن تترك فلك ذلك، فينتقل الحق إلى من بعده؟

فيه وجهان للعلماء رحمهم الله:

فبعض العلماء يقول: الحضانة حق واجب، وأصحاب هذا القول منهم من يفصل ومنهم من يطلق.

فمن يفصل يقول: إذا كان الشخص المحضون لا يقبل غير الأم، أو لا يقبل غير الأب، وثبتت ولايته دون وجود من هو أحق قبله، فإنه يجب على الأب أو الأم الحضانة، وليس لأحدهما حق الترك والتولي، فإذا تركه أحدهما أجبره القاضي أو الإمام الوالي على القيام بحق الحضانة، هذا على القول بوجوبها.

والذين قالوا بعدم الوجوب يقولون: إذا تخلى وقال: لا أستطيع أو لا أريد أن أحضنه، فإنها تنتقل الحضانة إلى من بعده.

فمثلاً: إذا كانت هناك أخت شقيقة وأخت لأم وأخت لأب، وبينا أن الأخت لأم لا تكون حاضنة للصغير مع وجود الشقيقة، فلو أن الشقيقة قالت: لا أريد الحضانة، وقلنا: من حقها ذلك، انتقل حق الحضانة إلى الأخت لأم، وقس على هذا.

فتبين أنه إذا امتنع الأقرب وكان من حقه أن يمتنع، انتقلت الحضانة إلى من بعده.

وقوله: [أو كان غير أهل] الحضانة لها شروط لابد من توفرها للحكم بأهلية الحاضن للحضانة: من إسلام وبلوغ وعقل وحرية وحسن ولاية، وعدم وجود مرضٍ معدٍ... ونحو ذلك من الشروط، فإذا توفرت هذه الشروط حكم بالحق لصاحبه لاستحقاقه للحضانة.

فإذا وجد فيه مانع كأن يكون كافراً، أو ارتد -والعياذ بالله- فكفر، سقط حقه في الحضانة، فتنتقل الحضانة إلى من بعد هذا الشخص الذي فيه المانع.

وقوله: [انتقلت إلى من بعده] أي: بالترتيب الذي ذكره رحمه الله، فمثلاً: لو كان عنده عمة شقيقة وعمة لأم وعمة لأب، وكانت العمة الشقيقة كافرة أو مرتدة، فحينئذٍ تنتقل الحضانة إلى العمة لأم، وهكذا لو وجد مانع في العمة لأم كأن تكون مجنونة فإنها تنتقل الحضانة إلى العمة لأب، وهكذا تنتقل الحضانة لمن هو أقرب.