تفسير سورة نوح [5]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، البشير النذير، وعلى آله وصحبه أجمعين.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:

فإن نوحاً عليه السلام قد بين بأنه قد استفرغ وسعه في الدعوة إلى الله، والدلالة على الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فاعتذر إلى ربه جل جلاله بأنه دعا قومه بالليل والنهار، سراً وعلانية، مثنى وفرادى ومجتمعين.

الاستمرار في العصيان والتمرد على دعوة نوح

ثم بعد ذلك يعتذر إلى الله عز وجل ثانية فيقول: قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي[نوح:21]، هؤلاء القوم الذين لم آلو جهداً في دلالتهم على الخير ما رأيت منهم إلا الكفر والفسوق والعصيان والتمرد عليك يا رب.

قال تعالى: وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً[نوح:21]، وهذه القراءة -وَوَلَده- هي قراءة ابن عامر و نافع المدني و عاصم ، وقرأ الباقون: (واتبعوا من لم يزده ماله وَوُلْده إلا خساراً)، قيل: الوُلْد: جمع الولد، وقيل: الوَلَد والوُلْد لغتان، كالفَلَك والفُلْك.

يقول نوح عليه السلام: يا رب! إن هؤلاء القوم العاصين المتمردين قد اتبعوا كبراءهم الذين بسطت لهم في الأرزاق ووسعت عليهم في الأولاد، لكن هذه النعمة -نعمة المال ونعمة الولد- بدلاً من أن يشكروك عليها ما زادتهم إلا خساراً، وقد بين ربنا جل جلاله في القرآن بأن المال والأولاد فتنة لكثير من الناس، كما قال جل من قائل: كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى[العلق:6-7]، وقال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ[البقرة:258]، وكما قال: وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ[سبأ:35]، فكثير من الناس إذا بسط الله له الرزق ووهبه الولد، فإن ذلك لا يدفعه إلى الطاعة والإذعان والشكر، وإنما يدفعه إلى المعصية والطغيان والكفر، عياذاً بالله!

المكر بنوح عليه السلام

قال تعالى: وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً[نوح:22]، كبار: العظيم الكبير، يقال: كبير وكبار، مثلما يقال: طويل وطوال وطوال، ومثلما يقال: وضيء ووضاء، وأنشدوا في ذلك:

والمرء يلحقه بفتيان الندى خلق الكريم وليس بالوضاء

يعني يقال: الوَضاء، ويقال: الوضاء، فهما لغتان، فالكبار: الكبير العظيم.

يشكو نوح إلى ربه جل جلاله أن هؤلاء القوم كان مكرهم مكراً عظيماً، كما قال ربنا جل جلاله: وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ[إبراهيم:46]، وما هو المكر الذي مكروه؟

قال بعض المفسرين: مكرهم: تحريشهم سفلتهم على قتل نوح، كانوا يحرضون على قتل نبي الله نوح عليه السلام، مثلما حرضت قريش على قتل محمد صلى الله عليه وسلم، ومثلما حرش اليهود على قتل المسيح عيسى بن مريم، على نبينا وعليه الصلاة والسلام بعدما قتلوا يحيى وأباه زكريا.

وقيل: المكر الكبار هو: ما كان من تغريرهم بضعفتهم حينما رأوا ما عليه السادة من كثرة الأموال والأولاد؛ فقالوا: لولا أنهم على الحق لما رزقوا هذا الرزق الوفير، وبعض الناس من سفهه وقلة عقله يظن أن الدنيا هي ميزان التفاضل، وأن من بسط الله له الرزق فهو المكرم عند الله، ومن ضيق الله عليه الرزق فهو المهان عند الله، كما قال ربنا جل جلاله: فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ[الفجر:15-16]، وهذا حال كثير من الناس؛ ولذلك قال بعض الزنادقة:

كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه وجاهل جاهل تلقاه مرزوقاً

هذا الذي ترك الأوهام حائرة وصير العالم النحرير زنديقاً

هذا الشاعر يستغرب فيقول: كيف أن العاقل محروم والجاهل مرزوق؟! ولكن الآخر الذي نور الله بصيرته قال:

فلو كانت الأرزاق تجري على الحجا هلكن إذاً من جهلهن البهائم

أي: لو كانت الأرزاق بالعقول كانت البهائم ستهلك وتموت، لكن الله عز وجل قسم الرزق وفق حكمته جل جلاله، كما قال: يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ[الرعد:26]، يوسع ويضيق سبحانه وتعالى، وقد علم ( أن من عباده من لا يصلحه إلا الفقر، ومن عباده من لا يصلحه إلا الغنى ).

التواصي فيما بينهم على عدم تصديق نوح عليه السلام في ترك الأصنام

وقيل: المكر الكبار: قولهم: لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً[نوح:23].

فنوح عليه السلام يشكو إلى الله ضعف قوته وقلة حيلته، وعظم مكر هؤلاء الكفار الفجار، وَقَالُوا[نوح:23] - أي: هؤلاء الكفار، يوصي بعضهم بعضاً - لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ[نوح:23]، لا تتركن عبادة آلهتكم؛ بل استمسكوا بها وعضوا عليها، مثل ما قال كفار قريش عن رسولنا صلى الله عليه وسلم: إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا[الفرقان:42]، يعني: يمدحون أنفسهم بأنهم صبروا على عبادة الآلهة الباطلة، عياذاً بالله!

فنوح عليه السلام يحكي مقالتهم فيقول: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً[نوح:23] -وقرئ: وُداً- وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً[نوح:23]، هؤلاء الخمسة كانوا رجالاً صالحين، وكانوا محل محبة وتقدير من أقوامهم؛ فلما هلكوا جزعوا عليهم جزعاً شديداً، فزين لهم الشيطان -لعنه الله- أن ينصبوا في مجالسهم أنصاباً -تماثيل لهؤلاء القوم- فإذا رأوهم ذكروا ما كانوا عليه من الزهد والعبادة فقلدوهم واتبعوهم، فلما هلك هؤلاء الذين يعبدون الله ورأوا هذه الصور، وانتسخ العلم، خلف من بعدهم خلف عبدوا تلك الأصنام من دون الله عز وجل.

وهذه الأصنام كما روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: صارت الأصنام التي كانت في قوم نوح للعرب من بعدهم، فكان ود وهو ذلك الصنم الذي يدعى: وداً - لكلب، وكان سواعاً لهذيل، وكان يغوث لمراد ثم لبني غطيف، وكان يعوق لهمدان، وكان نسر لحمير لآل ذي الكلاع، يعني: أن العرب توارثت هذه الأصنام التي عبدها قوم نوح من دون الله، والعرب عبدت تلك الأصنام من دون الله عز وجل.

ثم قال تعالى: وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً[نوح:24]، أي: أن هؤلاء القوم الضالين، أضلوا كثيراً.

ثم بعد ذلك يعتذر إلى الله عز وجل ثانية فيقول: قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي[نوح:21]، هؤلاء القوم الذين لم آلو جهداً في دلالتهم على الخير ما رأيت منهم إلا الكفر والفسوق والعصيان والتمرد عليك يا رب.

قال تعالى: وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً[نوح:21]، وهذه القراءة -وَوَلَده- هي قراءة ابن عامر و نافع المدني و عاصم ، وقرأ الباقون: (واتبعوا من لم يزده ماله وَوُلْده إلا خساراً)، قيل: الوُلْد: جمع الولد، وقيل: الوَلَد والوُلْد لغتان، كالفَلَك والفُلْك.

يقول نوح عليه السلام: يا رب! إن هؤلاء القوم العاصين المتمردين قد اتبعوا كبراءهم الذين بسطت لهم في الأرزاق ووسعت عليهم في الأولاد، لكن هذه النعمة -نعمة المال ونعمة الولد- بدلاً من أن يشكروك عليها ما زادتهم إلا خساراً، وقد بين ربنا جل جلاله في القرآن بأن المال والأولاد فتنة لكثير من الناس، كما قال جل من قائل: كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى[العلق:6-7]، وقال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ[البقرة:258]، وكما قال: وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ[سبأ:35]، فكثير من الناس إذا بسط الله له الرزق ووهبه الولد، فإن ذلك لا يدفعه إلى الطاعة والإذعان والشكر، وإنما يدفعه إلى المعصية والطغيان والكفر، عياذاً بالله!

قال تعالى: وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً[نوح:22]، كبار: العظيم الكبير، يقال: كبير وكبار، مثلما يقال: طويل وطوال وطوال، ومثلما يقال: وضيء ووضاء، وأنشدوا في ذلك:

والمرء يلحقه بفتيان الندى خلق الكريم وليس بالوضاء

يعني يقال: الوَضاء، ويقال: الوضاء، فهما لغتان، فالكبار: الكبير العظيم.

يشكو نوح إلى ربه جل جلاله أن هؤلاء القوم كان مكرهم مكراً عظيماً، كما قال ربنا جل جلاله: وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ[إبراهيم:46]، وما هو المكر الذي مكروه؟

قال بعض المفسرين: مكرهم: تحريشهم سفلتهم على قتل نوح، كانوا يحرضون على قتل نبي الله نوح عليه السلام، مثلما حرضت قريش على قتل محمد صلى الله عليه وسلم، ومثلما حرش اليهود على قتل المسيح عيسى بن مريم، على نبينا وعليه الصلاة والسلام بعدما قتلوا يحيى وأباه زكريا.

وقيل: المكر الكبار هو: ما كان من تغريرهم بضعفتهم حينما رأوا ما عليه السادة من كثرة الأموال والأولاد؛ فقالوا: لولا أنهم على الحق لما رزقوا هذا الرزق الوفير، وبعض الناس من سفهه وقلة عقله يظن أن الدنيا هي ميزان التفاضل، وأن من بسط الله له الرزق فهو المكرم عند الله، ومن ضيق الله عليه الرزق فهو المهان عند الله، كما قال ربنا جل جلاله: فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ[الفجر:15-16]، وهذا حال كثير من الناس؛ ولذلك قال بعض الزنادقة:

كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه وجاهل جاهل تلقاه مرزوقاً

هذا الذي ترك الأوهام حائرة وصير العالم النحرير زنديقاً

هذا الشاعر يستغرب فيقول: كيف أن العاقل محروم والجاهل مرزوق؟! ولكن الآخر الذي نور الله بصيرته قال:

فلو كانت الأرزاق تجري على الحجا هلكن إذاً من جهلهن البهائم

أي: لو كانت الأرزاق بالعقول كانت البهائم ستهلك وتموت، لكن الله عز وجل قسم الرزق وفق حكمته جل جلاله، كما قال: يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ[الرعد:26]، يوسع ويضيق سبحانه وتعالى، وقد علم ( أن من عباده من لا يصلحه إلا الفقر، ومن عباده من لا يصلحه إلا الغنى ).