الهجرة وأزمة الأمة


الحلقة مفرغة

الحمد لله جل جلاله، وعز جاهه، وتقدست أسماؤه، وعم نواله، وعظم عطاؤه، له الحمد سبحانه وتعالى جعل العزة في الإيمان، والقوة في الإسلام، والعاقبة للمتقين، والدائرة على الكافرين، له الحمد كما يحب ويرضى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، خاتم الأنبياء والمرسلين، وسيد الأولين والآخرين، وقائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فدروس الهجرة وواقع الأمة موضوع مهم نحتاج إليه، ونحن ما زلنا في أفياء هذه الهجرة وظلالها، ولعلنا نقف وقفات سريعة عابرة فيما قبل الهجرة، وفي أثنائها، وفي أوائل ما بعدها لننظر في هذه الهجرة نظراً اعتبارياً يعيننا على فهم حقائق واقعنا، وعلى أن نبث في نفوسنا وقلوبنا من يقيننا وإيماننا ومن قدرتنا وقوتنا ما يزيل ذلك الوهن وينفي ذلك الضعف، ويمحو تلك الذلة التي تخيم على أمة الإسلام إلا من رحم الله.

صورة من الثبات على الدين، عندما قبل المسلمون الأوائل دعوة سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، ودخلوا في الإسلام، وأيقنوا بالإيمان واجهوا عداء قريش وأذاها وصلفها وعنادها، فأي شيء كان منهم لنرى كيف كان أثر الدين في حياة المؤمنين وما مكانته عند المسلمين؟!

كلنا يعلم تلك الرمضاء المحرقة في بطحاء مكة من وهج الشمس وهي تسطع على بلال تحت الصخر يعذب ويضطهد ويؤذى أشد الإيذاء وهو يهتف: (أحد أحد) لا يقبل أن يعطي الدنية في دينه، ولا أن يغير معتقده، ولا أن يساوم على إيمانه، وصهيب وما أدراك ما صهيب! وخباب وما أدراك ما خباب! بقي أثر السياط على ظهره إلى يوم وفاته بعد عقود من الزمان، كان يجلد حتى يختلط لحمه بجلده بدمه، حتى بلغ به الأمر مبلغاً، فجاء يشكو إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟) فيثبت الإيمان صلى الله عليه وسلم، ويرد الأمر إلى ضرورة القوة في الدين والثبات عليه حيث يقول: (إنه كان فيمن كان قبلكم من يوضع المنشار في مفرق رأسه فينشر حتى يفلق إلى نصفين لا يصده ذلك عن دينه، وإنه كان فيمن كان قبلكم من يمشط بأمشاط من حديد ما بين لحمه وعظمه لا يصده ذلك عن دينه، والله ليسيرن الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون).

فنزل الإيمان راسخاً في القلوب، وسرى الإسلام مع الدماء في العروق، فثبت ذلك الإيمان، حتى جاءت الهجرة من بعد، ليست فراراً من المواجهة، ولا خروجاً من الثبات على الدين، ولكنها تأكيد لأولوية الدين في حياة المسلمين.

جاءت هجرة الحبشة الأولى والثانية، ولسنا بصدد سرد السيرة، ولكننا نشير إلى الومضات التي تبين أنه لا دنية في الدين.

لما جاء عمرو بن العاص -وكان إذ ذاك رسول قريش- ليرد المهاجرين إلى مكة، وجاء إلى النجاشي بما جاءه من الهدايا والتحف، فطلب النجاشي العادل الطرف الآخر ليستمع بعد أن أساء عمرو القول وشوه السمعة وبث الفتنة وأشاع الخلاف، فجاء جعفر بن أبي طالب مع بقية أصحابه المهاجرين، فأي صورة كانوا يمثلون؟ كانوا يمثلون صورة إيمان وإسلام مجتمِعِين متوحِدِين، ليس بينهم افتراق آراء، ولا تباين أهواء، ولا تعارض مصالح، جمعوا كلمتهم، واختاروا محدثهم، وأيقنوا بأنه لابد من أن يكون لهم موقفهم، فماذا قال جعفر رضي الله عنه؟

إنه كان يريد أن يحافظ على مصلحة المسلمين، وأن يبقي على وجودهم، وأن يوفر أمنهم، وأن ييسر رغد عيشهم، لكنه لا يمكن بحال من الأحوال هو ومن معه أن يكون ذلك كله على حساب إيمانهم، أو على حساب إسلامهم. فجعل حديثه إعلاناً بمساوئ الجاهلية وإظهاراً لمحاسن الإسلام، فقال رغم حرصه على أسلوب يحفظ به للمسلمين مصالحهم: أيها الملك -لم ينكر ملكه، ولم يغفل عن أن يعطيه قدره الذي فيه حق من جهة وفيه مراعاة مصلحة من جهة أخرى-! كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منَّا -وأفاض في وصف النبي صلى الله عليه وسلم- نعلم نسبه وشرفه وعلو قدره وحسن خلقه، فأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار..

وعدد من محاسن الإسلام ما عدد، ثم انظر إلى لغة السياسة الإسلامية الإيمانية! قال: فلما قهرونا -أي: كفار قريش- وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك.

فهل في هذا نفاق سياسي؟! وهل في هذا دنية دينية؟!

إنها حنكة مع إظهار الإسلام وإعلان دعوته وإظهار محاسنه، ومع الوقوف على المبدأ الحق دون ذوبان ولا تنصل من حقائقه ومبادئه، وكان في ذلك موقف حكيم، دفع عنهم الأذى ولم يوقعهم في حرج من إيمانهم وإسلامهم، فهل اكتفت الجاهلية ومبعوثها الداهية عمرو بن العاص -رضي الله عنه- الذي كان على شركه إذ ذاك؟ قال: والله لآتينهم الغداة بما يبيد خضراءهم. وغدا على النجاشي ليقول فتنة وتأليباً وتشويقاً واستعداء، فقال: إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً. فهو يعلم عن النصرانية أنها تقول: عيسى هو الله، أو ابن الله، أو الروح القدس. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وجاءت هذه المعضلة والطامة المشكلة والمعجزة المحيرة المربكة لوجودهم وأمنهم وعيشهم ورغدهم ودينهم وعقيدتهم.

فقال النجاشي: ما تقولون في عيسى؟ فأي شيء يقول جعفر ؟ وأي بيان يظهر المسلمون؟ هل يبدلون أو يغيرون؟ هل يحافظون على دينهم أم على حياتهم يحافظون؟ قالها كلمات واضحة: نقول فيه الذي جاء به نبينا: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.

لا دنية في الدين، لا مساومة في العقيدة، لا تغيير في الإيمان والإسلام، أي شيء جرى لهم؟! أي مصيبة حلت بهم؟! أي نكبة نزلت عليهم؟! لم يحصل من ذلك شيء؛ لأن من كان مع الله كان الله معه.

قال النجاشي: والله ما عدا ما قلتم فيه عودي هذا. فنخرت البطارقة، قال: وإن نخرتم. ثم قال لهم: أنتم شيوم بأرضي.

أي: أنتم سالمون لا يعتدي عليكم أحد؛ لأنكم أهل مبدأ وأهل يقين وأهل عزة وأهل وضوح، لا أهل ذوبان وذلة وترخص والتماس عرض من الدنيا بضياع الدين، نسأل الله عز وجل السلامة.

جاءت الهجرة الكبرى، وجاء الإذن الرباني من الله جل وعلا للمصطفى صلى الله عليه وسلم بعد أن تهيأت الأسباب، وبعد أن أدى الجهد منه ومن أصحابه رضوان الله عليهم، فأي شيء كانت الهجرة؟! وأي درس كان أعظم فيها؟ إنه التضحية بكل شيء من أجل الدين، فكلنا يعلم هجرة أبي سلمة ومعه أم سلمة ومعهما ابنهما سلمة، يمضي تاركاً وراءه دنياه، ومخلفاً وراءه حياته الأولى ومراتع صباه وذكريات شبابه، يمضي إلى الله وإلى رسول الله وإلى مرضاة الله وإلى طاعة الله وإلى التزام دين الله وإلى إعلاء راية الله، فيأتي أهل زوجته فيقولون له: هذه نفسك قد غلبتنا عليها، أما ابنتنا فلا تمض معك. فأخذوا زوجته، فجاء بنو أسد أهله بعد أن مضى فقالوا: هذه زوجه ابنتكم أخذتموها، أما ابننا فنأخذه. فأُخذ الابن في جهة والأم في جهة، والأب يرى زوجته تؤسر وابنه يقهر، فهل يصده ذلك عن المضي إلى مرضاة الله؟ وهل يضعف يقينه بالله؟ وهل يستسلم لظروفه وما تجري به في هذه الحياة؟ كلا، بل يمضي إلى الله مهاجراً، ثم تمت له هجرته، وألحق الله به زوجه وابنه من بعد.

وصهيب وما أدراك ما صهيب؟! ترك غنيمة الحياة الدنيا كلها، وثمرة جهده وتجارته وصناعته، يخرج مهاجراً فيحيطون به قائلين: جئتنا صعلوكاً لا مال لك وتخرج من بين أيدينا تاجراً ثرياً؟ فقال لهم: أرأيتم لو أعطيتكم مالي أكنتم تاركي؟! قالوا: نعم. قال: فإنه في مكان كذا وكذا. فتركوه وذهبوا بماله كله، بدنياه كلها، بأيامه ولياليه وجهده وشقاء عمره، فهل حزن لذلك؟ وهل مضى كسيف البال؟ أو رجع مشدوداً إلى المال؟ مضى إلى الله عز وجل، فاستقبله سيد الخلق صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (بخ بخ! ذاك مال رابح)، وتتنزل الآيات: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ [البقرة:207]، بيعة وصفقة رابحة.

و عبد الله بن جحش وزوجه وأخوه عبد بن جحش -وكان أعمى ضريراً لا يرى، وكان شاعراً- وأهله كلهم خرجوا جميعاً، لم يبق منهم أحد، خلفوا وراءهم الديار، وقطعوا العلائق، وانبتوا عن الأرض ليسموا إلى ما هو أعظم وأعلى، وهو شأن الدين والإيمان واليقين.

مر عتبة بن ربيعة والعباس بن عبد المطلب وأبو جهل فرأى عتبة هذه الديار وقد خلت من أهلها، والريح تخفق فيها يباباً، نظر إلى من تركوا الدنيا، إلى من تركوا الديار، نظر متأملاً متعجباً، ونظر كذلك بفطرة إنسانية حزيناً ثم قال:

وكل دار وإن طالت سلامتها يوماً ستدركها النكباء والحوب

فقال أبو جهل للعباس : ذاك ما فعل ابن أخيك، فرق جماعتنا وشتت شملنا.

وذلك هو حال الطغاة المجرمين، يفعلون الجريمة، ثم ينسبون الإجرام والإرهاب إلى المظلومين ويتهمونهم به، كما نرى في واقعنا اليوم.

أما أبو بكر -وما أدراك ما أبو بكر!- فقد جعل وقته وعمره وماله وثروته وأهله وبنيه وداره وأرضه وروحه ونفسه جعلها كلها تضحية في الهجرة، فقد حبس نفسه لصحبة النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أشهر، هيأ ماله، وعلف راحلتيه، وترك زوجه وأبناءه، وترك داره وأخذ كل ماله ومضى مخاطراً بروحه ونفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى جاء الموقف العظيم، ووقف المشركون على فم الغار، وإذا بـأبي بكر شفقة ورحمة يقول: (يا رسول الله! لو نظر أحدهم موضع قدمه لرآنا. فينطق اليقين والثبات والإيمان على لسان سيد الخلق صلى الله عليه وسلم-: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما) وتتنزل الآيات تصف هذه المواقف العظيمة: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40].

فمن يحزن والله معه؟

ومن يضعف والله يعينه؟

ومن يذل والله يعزه؟

ومن يخاف والله يؤمنه؟

ذلك درس التضحية العظمى في هذه الهجرة، تضحية لأجل الدين تقول لنا: إن الأولوية في حياة المسلمين التضحية لأجل الدين.

كان محمد صلى الله عليه وسلم في مكة سيد ساداتها وشريف أشرافها، وذا الذروة العليا في أنسابها، وقد جاءته قريش وقالوا له: إن كنت تريد مالاً جمعنا لك مالاً حتى تكون أكثرنا مالاً.

عرضوا عليه دنياهم كلها فركلها برجله، واستعلى عليها بإيمانه ويقينه وإسلامه عليه الصلاة والسلام، فلم تكن حياة المسلمين رغبة في الدنيا ولا سكوناً إليها ولا طلباً للسلامة، ولو كان ذلك كذلك لعاشوا مسالمين هانئين موادعين، وحسبهم في ذلك أن ينكفئوا إلى دورهم، أو أن يؤدوا شعائرهم، لكنه الإيمان والإسلام أولى الأولويات في حياة المسلمين.

ليست الهجرة انتقال موظف من بلد قريب إلى بلد ناءٍ، ولا ارتحال طالب قوت من أرض مجدبة إلى أرض مخصبة، لكن الهجرة أمر آخر، إنها إكراه رجل آمن في سربه ممتد الجذور في مكانه على إهدار مصالحه وأمواله والنجاة بشخصه فحسب، وإشعار بأنه مستباح منهوب قد يهلك في أوائل الطريق أو في نهايتها، لكنه الإيمان الذي يزن الجبال ولا يطيش.

قال أهل العلم: من دروس الهجرة درسان عظيمان. نذكرهما ولا نقف عندهما طويلاً؛ لأننا نريد من بعد أن نذكر بهذه الدروس كلها في محور واحد نربطه بواقعنا المؤلم المحزن المؤسف في كثير من أحواله.

الدرس الأول: وجوب الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام:

خلاصة هذا الدرس أن الدين وإقامة شعائره وإظهارها ورفع رايته هو الغاية العظمى والأولوية الكبرى التي عليها تدور حياة المسلمين، فلأجلها يتركون الأرض والديار، ولأجلها يقطعون الصلات والعلاقات، ولأجلها يبذلون الأموال والنفقات، ولأجلها يجودون بالأرواح في الساحات، ذلكم هو الدرس العظيم والفقه المستنبط من الهجرة.

الدرس الثاني: وجوب نصرة المسلمين من بعضهم لبعض:

وجوب نصرة المسلمين لبعضهم مهما اختلفت ديارهم وبلادهم ما دام ذلك ممكناً.

قال الإمام أبو بكر بن العربي رحمه الله: إذا كان في المسلمين أسرى أو مستضعفون فإن الولاية معهم قائمة، والنصرة لهم واجبة بالبدن، بأن لا تبقى فينا عين تطرف حتى تخرج إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم حتى لا يبقى لأحد درهم من ذلك.

هذا فقه من هذا الإمام ليس فقه استنباط ودليل، لكنه قبل ذلك فقه إيمان ويقين، فقه استعلاء ومعرفة للحقائق الإيمانية.

وعندما مضى النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هل وضع رحاله ليرتاح؟! هل ترك أذى مكة لينعم برغد العيش في المدينة؟ هل خرج من بين الأعداء ليأنس بالحياة بين الأصحاب؟ أي شيء صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أول لحظة وطئت أقدامه الشريفة مدينته المنورة؟ لقد عمد إلى بناء المسجد لربط المسلمين بالله، وعمد إلى المؤاخاة لربط العلائق بين المسلمين، وعمد إلى المعاهدة مع اليهود لتنظيم العلاقة مع غير المسلمين.

فمن لقي بالمدينة؟ لقي اليهود عليهم لعائن الله.

ولننظر إلى كلام علمائنا وأئمتنا لنعرف فقههم الإيماني والعلمي، فهذا ابن القيم رحمه الله يصف اليهود -عليهم لعائن الله- بقوله: هم الأمة الغضبية، أهل الكذب والبهت والغدر والمكر والحيل، قتلة الأنبياء، وأكلة السحت وهو الربا والرشا، أخبث الأمم طوية، وأردأهم سجية، وأبعدهم من الرحمة، وأقربهم من النقمة، عادتهم البغضاء، وديدنهم العداء والشحناء، بيت السحر والكذب والحيل، لا يرون لمن خالفهم في كفرهم وتكذيبهم الأنبياء حرمة، ولا يرقبون في مؤمن إلّاً ولا ذمة، ولا لمن وافقهم عندهم حق ولا شفقة، ولا لمن شاركهم عندهم عدل ولا نصفة، ولا لمن خالطهم طمأنينة ولا أمنة، ولا لمن استعملهم عنده النصيحة، بل أخبثهم أعقلهم، وأحذقهم أغشهم، أضيق الخلق صدوراً، وأظلمهم بيوتاً، وأنتنهم أفنية، وأوحشهم طوية.

أليس هذا القول اليوم -في زعمهم- هو عين التعصب والعنصرية؟! أليس هذا هو جوهر العنف والإرهاب؟! فماذا يقول اليهود عمّا ليس في أقوال علمائهم، بل في المسطور في كتبهم بما حرفوه، إنهم يقولون: إن أمم الأرض كلها كلاب يجوز لليهود قتلها، وأموالهم حلال يجوز لهم سلبها، ونساؤهم حلال يجوز استمتاعهم بهن.

ولا يجرؤ أحد أن يقول: إن ذلك إرهاب وعنف، فأي شيء جرى لأمة الإسلام؟

عند المواقف الأولى انتصر النبي صلى الله عليه وسلم في بدر فغلا الحقد في قلوبهم، وجاشت البغضاء في نفوسهم، وظهرت أساليب الغدر والكذب والكيد والمكر على ألسنتهم، ثم تفاعل ذلك كله فظهر في تصرفاتهم.

فهذه امرأة مسلمة دخلت إلى سوق بني قينقاع وجلست إلى صائغ، وجاء بعض سفلة اليهود يريدونها أن تكشف وجهها فأبت بإيمانها، فعمدوا إلى طرف ثوبها فعقدوه بأعلاه، فلما قامت انكشفت عورتها، فجعلوا يتضاحكون ويستهزئون ويسخرون، موقف واحد في أمر عارض لامرأة واحدة، فأي شيء جرى؟ صاحت مستنجدة، فانتدب لها مسلم من غير عقد مؤتمر ولا مشاورات سياسية، ولا بحث في القوانين الدولية، بل مضى ينتصر لها، وعمد إلى الصائغ فقتله، فاجتمع عليه اليهود فقتلوه، فأحاط بهم رسول صلى الله عليه وسلم وحاصرهم وأجلاهم من بعد، وأخذ من أموالهم ما أخذ عليه الصلاة والسلام، وخرجوا أذلة صاغرين، يوم كان المؤمنون كذلك عزوا وارتفعت رايتهم وعظمت هيبتهم وقويت شوكتهم، وكانت لهم في دنيا الناس كلمتهم، أفليست هذه دروساً مهمة؟ أفليست هذه صوراً حية؟ أفليست هذه صفحات ينبغي أن ننقشها على قلوبنا، وأن نجريها مع الدماء في عروقنا، وإلا بقينا أذلة صاغرين، وإلا بقينا تافهين مغيبين، وإلا بقينا تحت ذل وقهر الغلبة والظلم الذي يسلط على المسلمين.

نسأل الله عز وجل أن يرفع وأن يكشف البلاء عن الأمة، وأن يعيدها إلى العزة، وأن يخلف عليها في دينها استمساكاً بكتاب الله واعتصاماً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إن الهجرة تأكيد للزوم الثبات على الدين، وإعلان لإظهار أولوية الدين في حياة المسلمين, وبيان أن التضحية تكون بكل شيء لأجل إعلاء الدين، إذا فقهنا ذلك ونحن ننظر إلى واقعنا اليوم فماذا نرى فيه؟! نرى عجزاً عربياً، ووهناً إسلامياً، وخزياً سياسياً، وصورة مشوهة، وحقائق الإسلام غائبة، ومرتكزات العقيدة واهية، ولذلك نرى ما نرى من هذه العجائب والغرائب ونحن نعرف ونسمع أن هذه القوات الباغية الغازية الظالمة العادية قد أعلنت بما ذكرته بألسنتها أنها حرب صليبية، وأيدت وأكدت أنها تريد أن تكون لها الهيمنة العسكرية السياسية، وأظهرت أنها تريد أن تستولي على الموارد الاقتصادية، وبينت أنها تريد أن تهيمن على ما وراء ذلك من الأوضاع الاجتماعية والمناهج التعليمية والنظم السياسية والأوضاع كلها، وبعد ذلك نقول ما نقول، ونسمع ما نسمع من هذه العجائب التي لا شك أن فيها معارضة يقينية ظاهرة واضحة لثوابت الإيمان والإسلام، ولحقائق آيات القرآن، ولمعالم حياة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة.

ولذلك نقول: إن الكفر وأهله أهل بغي وعدوان، فليس لهم في قلب مؤمن محبة ولا موالاة، وليس لهم في عمل مسلم نصرة ولا محاباة، وإلا أنكر ذلك الإيمان في قلبه، أو نقض الإسلام في حقيقته؛ لأن هذا نطقت به الآيات، وظهرت به حقائق الإسلام جلية واضحة.

ثم من بعد ذلك نرى ما نرى من دروس الهجرة في هذا التلاحم الإيماني والتناصر الإسلامي والأخوة التي نصت عليها آيات القرآن، ونرى من وراء ذلك أن يكون الدين هو رائدنا وغايتنا الأولى، فمن كان مستمسكاً به ورافعاً له حقاً لا كذباً، وصدقاً لا ادعاءًَ، وواقعاً لا زوراً كان من أهل الدين مع أهل الدين، وكان من أهل النصر لأهل اليقين بإذن الله عز وجل، ولذلك ينبغي لنا أن نكون على بصيرة من أمرنا، وعلى بينة من حقائق ديننا، وأن نعتصم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنظر في أقوال الأئمة من العلماء الصادقين الذين كانوا أهل إيمان ويقين قبل أن يكونوا أهل فقه في الدين.

ومن بعد ذلك نتواصى بالثبات على ذلك، ونتناصر ونتعاهد على البقاء عليه، وعلى إشاعته فيما بيننا، وأن نلجأ إلى الله ونعتصم به، ونتضرع إليه، ونبتهل ونذل بين يديه، وكذلك نترك المعاصي والمحرمات، ونبتعد عن المنكرات والمخالفات، ولعل ذلك كله في جملته هو من درس الهجرة، فإن الهجرة هي كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح عنه حيث قال: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه) وإنما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم ليقيم شعائر الدين، وليجد الأرض التي يعلي فيها راية الله سبحانه وتعالى، وعندما لم يجد ذلك في مكة التمسه في الطائف فلم يجده، وذهب أصحابه إلى الحبشة فلم يثبت دينهم، حتى يسر الله له هجرته المباركة، فأقام دولة الإسلام، وأنشأ وأقام العزة الإيمانية والوحدة الإسلامية، ثم جاءت هيبة هذا الدين وقوته، وظهرت من بعد ذلك -أيضاً- سماحته ورحمته بالأمم، فإن الإسلام كان أرحم بكل الأمم من أديانها ومن حكامها، وكذبوا وخدعوا عندما يقولون غير ذلك.

نسأل الله أن يردنا إلى ديننا رداً جميلاً، وأن يجعلنا بكتابه مستمسكين، وبهدي نبيه صلى الله عليه وسلم مستعصمين، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا لآثار السلف الصالح مقتفين.

اللهم! لا تغير علينا ديننا, ولا تسلب منا إيماننا، اللهم! لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.

اللهم! إنا نسألك الثبات على الدين، والاستمساك بالحق، والعصمة من الفتنة يا رب العالمين.

اللهم! اجعلنا سلماً لأوليائك، حرباً على أعدائك، اللهم! اجعل في قلوبنا محبة المؤمنين ونصرتهم يا رب العالمين، وازرع في قلوبنا بغض الكافرين والبراءة منهم يا رب العالمين.

اللهم! إنا نسألك أن تجعلنا أوثق بما عندك مما في أيدينا، واجعلنا -اللهم- أفقر الفقراء إليك وأغنى الأغنياء بك، ولا تجعل لنا إلى سواك حاجة برحمتك يا رب العالمين.

اللهم! لا تجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً، ولا تجعل من المؤمنين للكافرين ظهيراً يا رب العالمين.

اللهم! ردنا إلى دينك رداً جميلاً، وخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب، وأعنا -اللهم- على طاعتك ومرضاتك، ووفقنا للصالحات، واصرف عنا الشرور والسيئات، واغفر -اللهم- لنا ما مضى وما هو آت، واجعل آخر كلامنا من الدنيا (لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)، وتوفنا عليها وابعثنا عليها يا رب العالمين.

اللهم! إنا نسألك لأمة الإسلام والمسلمين وحدة من بعد فرقة، وعزة من بعد ذلة، وأمناً من بعد خوف يا رب العالمين.

اللهم! رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والأسرى والمسجونين والمحاصرين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم! امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله -اللهم- فتنة لهم في الدين.

اللهم! انصر عبادك وجندك المجاهدين الذين يجاهدون لإعلاء رايتك في كل مكان يا رب العالمين، اللهم وحد كلمتهم، اللهم! ارفع رايتهم، اللهم! قو شوكتهم، اللهم! سدد رميتهم، اللهم! أفرغ في قلوبهم الصبر واليقين، وثبتهم في مواجهة المعتدين، اللهم! أنزل عليهم نصرك المبين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين.

اللهم! عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم! عليك بالبغاة الطغاة، اللهم! عليك بالمعتدين الغاصبين، اللهم! اقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلل في صفوفهم، ورد كيدهم في نحرهم، واشغلهم بأنفسهم، واجعل بأسهم بينهم، اللهم! رد كيد الكائدين، وادفع شرور المعتدين، وسلم ديار المسلمين، واحقن دماءهم، واحفظ أعراضهم يا رب العالمين، اللهم! اكشف البلاء عن الأمة، وارفع -اللهم- الغمة يا رب العالمين، اللهم! لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ومكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم! اجعل بلدنا آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح -اللهم- أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبعك رضاك يا رب العالمين، اللهم! وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء.

اللهم! ارحمنا برحمتك، وتولنا برعايتك، وأحسن خاتمتنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة يا رب العالمين.

وصل اللهم وسلّم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة اسٌتمع
رمضان ضيفنا المنتظر 2909 استماع
المرأة بين الحرية والعبودية 2732 استماع
فاطمة الزهراء 2699 استماع
الكلمة مسئوليتها وفاعليتها 2630 استماع
المرأة والدعوة [1] 2544 استماع
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم 2535 استماع
غزوة أحد مواقف وصور 2534 استماع
قراءة في دفاتر المذعورين 2488 استماع
خطبة عيد الفطر 2469 استماع
التوبة آثار وآفاق 2453 استماع