خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/38"> الشيخ الدكتور سعد البريك . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/38?sub=65397"> خطب ومحاضرات عامة
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
رسائل إلى الشاردين
الحلقة مفرغة
الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
معاشر المؤمنين! إننا نرى في حياتنا كثيراً من الرجال والنساء، والشباب والشيوخ، والشابات والعجائز يعانون من مرض وألمٍ غريب وعجيب، سريع في الحلول سريع في الزوال، ذلكم هو: الهم، والغم، والقلق، وشرود النفس، والخشية من المستقبل، وصدق الله العظيم حيث قال: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:268].
أيها الأحبة: كم مرة رأينا ورأيتم فيها شاباً، أو كبيراً، أو مراهقاً، أو هرماً، يشكو هموماً وقلقاً، وتجد علامات الكآبة وآثارها بادية على وجهه، والشرود يذهب بأفكاره مشرقاً ومغرباً، وإذا تأملت حقيقة ما يدعوه إلى هذا الشرود، وهذا الهم والغم، لم تجد شيئاً كفؤاً لهذا كله، فلو كان الهم والغم لمسلمة اغتصبت بيد علج من العلوج الكفرة، أو لأجل يتيم قتل بلا ذنب، أو لأجل شعب شرد بلا جريمة، أو لأجل مظلومين أودعوا الزنازين بلا جرم، لربما كان لهذا الهم والغم سببٌ باعث عليه وأمر داعٍ إليه، ولكن العجب العجاب أن تجد هموماً وغموماً وقلقاً وخوفاً دون ما سبب يدعو إلى ذلك، بل إن ما حل بالمسلمين، وإن أثر على النفس فحزنت، وإن أثر على النفس فدمعت له العين وحزن له القلب، فإن ذلك لا يدعو إلى الجزع، ولا يدعو إلى السخط والدعاء بالويل والثبور، وإنما يدعو إلى مزيد من الجد والحزم والعزم لمواجهة الأقدار بالأقدار.
معاشر المؤمنين: فلنعلم -تماماً- أن هذه الهموم والغموم، وشرود النفس وخطراتها، وأفكارها ووساوسها، والقلق الذي يؤثر عليها، والكآبة التي تخيم على وجوه أصحابها ناتجة من أسباب، وقد جعل الله بأمره ورحمته أسباباً تدفعها وتزيلها، فإلى كل مهموم، وإلى كل مغموم، وإلى كل قلق خائف من المستقبل، وإلى كل من شرد فكره، وذهبت أفكاره حيص بيص، أو طارت خواطره مشرقة مغربة، فإليه نسوق هذه الوصفات الشرعية، والأدوية الإيمانية، والوسائل المجربة التي تجعل محل الهموم هماً واحداً نافعاً يسعى العبد في تحصيل ما ينفعه به، وتزيل الغموم، وتجعل محلها انشراحاً، وتزيل الكدر والخوف، وتجعل محلها تفاؤلاً.
أيها الشاكي وما بك داءٌ كن جميلاً ترى الوجود جميلاً |
أيها الشاكي وما بك عيبٌ كيف تغدو إذا غدوت عليلاً |
العمل الصالح سبب للحياة الطيبة
أيها المهموم.. أيها المغموم.. أيها الخائف من المستقبل!
يا شارد الذهن قلق الخواطر متشتت الأفكار! عليك بالعمل الصالح؛ فإنه -بإذن الله- لا محالة مجلبة للحياة الطيبة والجزاء الحسن، والأمن والطمأنينة، إن لكل حسنةٍ ثواباً، ولكل سيئةٍ عقاباً، فاحرص على الحسنات ترى أثرها عاجلاً وآجلاً بإذن الله جل وعلا، أولست مؤمناً؟ بلى. والإيمان يغرس في قلبك، وينسج في سويداء وشغاف فؤادك أن رزقك لو اجتمعت الإنس والجن على زيادته، ما زادوه قطميراً أو قليلاً أو كثيراً، وأن أجلك لو اجتمعت جيوش الأرض، وكان بعضهم لبعض ظهيراً على أن يحولوا بينك وبين آخر يومٍ من حياتك ليسبقوا الأجل بيوم أو ساعة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، أوليس الذي خلقك الله؟
أوليس الذي يرزقك الله؟
أوليس الذي يحييك الله؟ أوليس الذي يميتك الله؟
فعلامَ الهم إذاً؟ وعلامَ الحزن؟ وعلامَ الخوف؟
عجبت ذات يوم من موظف جاء تارة يبكي وتارة تسبقه عبراته، وساعة تتحدر دموعه على وجنته، وتارة في شرود، وتارة يرفع صوته، اشتعلت به هذه الهموم بسبب وظيفته، فجعلته يطلق زوجته، وربما حرم من أبنائه زمناً، وما السبب والباعث والداعي؟ إنه الخوف من رؤسائه، إنه الخوف من مسئوليه فما زال بعض الحاضرين في ذلك المجلس يؤنسه ويقربه ويذكره ويخوفه بأن أجله ورزقه بيد الله حتى اطمأن وعاد ساكن البال.
أيها الأحبة: لا داعي إلى قلق، ولا حاجة إلى خوف، ولا محل لجزع، إذا كان المؤمن راضياً مسلِّماً، إذا كان المؤمن متيقناً معتقداً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يرويه أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يؤمر الملك فينفخ فيه الروح، ثم يؤمر الملك بكتب أربع كلمات: برزقه وعمله وأجله وشقي أم سعيد).
فإذا كانت الأرزاق مقدرة، فوالله لا يزيدها قرب من سلطان، ولا يبعدها بُعدٌ عن سلطان، وإذا كانت الآجال محددة، فلا يدنيها دخولٌ في مهمة المعارك وحمى الوطيس وعند كعاب الأسنة، وعند رءوس السيوف، ولا يؤخر المنية نوم في الأقبية أو الخنادق أو الملاجئ: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34].. أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78].
فالإيمان -أيها الأحبة- والعمل الصالح مما يبعثان على الجرأة والشجاعة والطمأنينة، وعدم الخوف من كبير وصغير، ومسئول وقريب أو بعيد، عدم الخوف على رزق أو أجل، والإيمان يبعث في النفس رضى وقناعة، فلو فتحت للعبد كنوز ما طغى وما تجبر، وما صعر خده للناس، وما مشى في الأرض مرحاً، إذ أنه يعلم أنه لن يخرق الأرض ولن يبلغ الجبال طولاً، إن وصف المؤمنين أن يكونوا راضين مسلِّمين: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد:23] إذا علمت أن ما أصابك من مصيبة، فإنها في كتاب عند الله من قبل أن يبرأ الله الخليقة، فإن في علم الله أزلاً أن هؤلاء الخلق قبل أن يخلقوا معلومٌ ما يفعلون وما يتركون، وما يرزقون وما يصابون.
أيها الأحبة: الإيمان والعمل الصالح يبعثان النفس على السعادة وعلى الطمأنينة، ولا يجعلان في القلب مكاناً للهم والغم أبداً، واعلم -يا شارد الذهن! يا خائفاً من المستقبل! يا متألماً بهمٍ أو غم لأمر لا داعي له- اعلم أن كثيراً من الناس مهموم بلا شيء، مغموم لأجل لا شيء، مكدرٌ بلا قضية، مشغول بلا مهمة، إنما هي وساوس وأفكار وخطرات تذهب به وتغدو وتروح وتجيء، وربما يكون عنده من القدرات ما يستطيع به أن يفعل خيراً، أو يقدم شيئاً كثيراً، ومع ذلك قعدت به همومه ووساوسه على ألا يفعل شيئاً، ولم يكن حظه إلا الهم والغم.
الإحسان إلى الناس
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهمُ فطالما استعبد الإنسان إحسانُ |
الإحسان إلى الناس بالقول والعمل نافعٌ بإذن الله يورث محبة الخلق.
ومن أسباب السعادة: أن يكون الإنسان محبوباً بين أقرانه وأقاربه وجيرانه، ومن حوله، فاشتغل بالإحسان إلى الخلق بكل ما استطعت أن تشتغل به، ليس من شرط الإحسان إليهم أن تمد لهم ريالات ودراهم ودنانير، ولا من شرطه أن يكون الإحسان في حالة معينة، أحسن إلى الخلق بما استطعت، بأي عملٍ تستطيعه, وأسباب الخير كثيرة.
هل تعلم أسرة فقيرة مسكينة سجن عائلها، أو غاب وليها، أو مات عائلها، ألا فاشتغل بمثلها وبغيرها، اجمع ما استطعت من لباسٍ وأوصله إليهم في ليلة ليلاء، اجمع ما شئت من بطانيات، وأدخل بها عليهم في ليلة شاتية، اجمع ما استطعت من طعام، وأسعد وسد بها جوعتهم في يوم من الأيام، فإنك تجد بذلك سعادة تغمر فؤادك ونفسك كسعادة الصائم حين يفطر، وسعادة المتهجد حينما يبزغ الفجر.
أحسن إلى الناس؛ إن تجد كفيفاً فأعنه على قضاء حاجته، يوم تجده يذهب يمنةً ويسرةً في دائرة لا يعرف أين يقبل ويدبر، إن تجد أخرق لا يحسن أن يتصرف خذه معك، إن تجد عاملاً قد تصبب العرق على ثيابه وملابسه، وقد فاحت رائحة بدنه من كد التعب وشقاء العمل، فقف بسيارتك مهما كانت فارهة نظيفة معطرة واحمله معك، ولا بأس- إن لم تكن مرتبطاً على ميعاد- أن تذهب به إلى مكانه، ولو اقتضى ذلك منك مزيد ساعة، أو نصف ساعة، إنه عمل يجلب إلى نفسك السعادة، ويطرد الهموم، وتشعر أنك حققت شيئاً.
وما سبب هذه الهموم إلا أن بعض الناس يشعر أنه صفرٌ على الشمال، كمٌّ لا فائدة منه، جنسٌ لا يستفاد منه، فإذا شعرت أنك أفدت واستفدت، ونفعت وانتفعت، كان ذلك سبباً في سعادتك، ومن ثم لا بقاء للهم والغم في فؤادك، يقول الله تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً [النساء:114] من الذي وعد؟ ملك من الملوك؟ أمير من الأمراء؟ وزير من الوزراء؟ قاضٍ من القضاة؟ لا. بل الله الذي وعد.
فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً [النساء:114] والله لو وعدت بمنحة، أو وعدت بمال، أو بدرهم ودينار، لوجدت السعادة تغمر قلبك إن كنت محتاجاً، أو مرتقباً ذلك الموعود، فما بالك يوم أن يعدك الله بأجر، وليس أجراً فحسب، بل: فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً [النساء:114].
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ [النساء:114] كثيرٌ من الكلام لا فائدة منه، وكثيرٌ من السعي لا جدوى فيه, وكثيرٌ من العمل لا فائدة بعده إلا من أمر بصدقة، أو معروف، أو إصلاحٍ بين الناس: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً [النساء:114].
احرص على ما ينفعك تكن سعيداً
إن كثيراً من الخائفين والقلقين إذا أصابته مصيبة، أو حلت بساحته الهموم والغموم، انقطع عن عمله، واحتجب عن أصحابه، واعتزل عن أهله، وخلا بنفسه، ودخل حجرة انفرادية مظلمةً، لا يريد أن يسمع صوتاً، ولا يرى نوراً، وحاله كقول القائل:
عوى الذئب فاستأنست للذئب إذ عوى وصوَّت إنسانٌ فكدت أطيرُ |
قد لذت له الخلوة وأنس بها، وأنس بالعزلة، فبعد ذلك تجده لا يريد أن يرى أحداً، ولا يقابل أحداً، ولا يسمع صوتاً، ولا يأكل من الطعام إلا ما يسد رمقه، ظناً منه أن عزلته تدني فرجه، وظناً منه أن احتجابه يقرب راحته، وما درى أنه بذلك كمن رام تطهير الدم النجس بالدم، كمن أراد إزالة النجاسة بنجاسة أخرى، كمن أراد سداد الدين بدينٍ آخر، كمن أراد علاج المرض بمرض أشد منه.
يا قلق الذهن وشارد الفكر! إذا نزلت بك نازلةٌ أحدثت هماً وغماً، فلا تحتجب ولا تعتزل، وكن مع الناس، وخالط واصبر، وركِّز بدقة على أمر ينفعك من علم أو عمل تميل إليه نفسك بحسب قدرتك ومهارتك وكفاءتك، فإنك بذلك تشتغل بما بين يديك، وما هو أمام ناظريك عما يجيء ويقبل به الشيطان ويدبر من الوساوس والهموم في فؤادك، اشتغل بما تشتاق إليه وتطمئن إليه من عمل نافع أو مباح، فإن الواحد -وهذا مشاهدٌ معلومٌ بالحس والمشاهدة- إذا كان مشغولاً فتراه إذا نزلت به نازلةٌ الصبح فمضى في شغله وعمله، تجده قد نسي أغلبها الصبح، ونسي جلها المساء، فغابت شمسه وقد نسيها كلها، أما من قطع أعماله, واحتجب واعتزل، فإن هذه الهموم تفرخ وتولد أمثالها، وتزيد في مرضه، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
يقول الله جل وعلا: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97] حياةً طيبة لمن؟: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97].
أيها المهموم.. أيها المغموم.. أيها الخائف من المستقبل!
يا شارد الذهن قلق الخواطر متشتت الأفكار! عليك بالعمل الصالح؛ فإنه -بإذن الله- لا محالة مجلبة للحياة الطيبة والجزاء الحسن، والأمن والطمأنينة، إن لكل حسنةٍ ثواباً، ولكل سيئةٍ عقاباً، فاحرص على الحسنات ترى أثرها عاجلاً وآجلاً بإذن الله جل وعلا، أولست مؤمناً؟ بلى. والإيمان يغرس في قلبك، وينسج في سويداء وشغاف فؤادك أن رزقك لو اجتمعت الإنس والجن على زيادته، ما زادوه قطميراً أو قليلاً أو كثيراً، وأن أجلك لو اجتمعت جيوش الأرض، وكان بعضهم لبعض ظهيراً على أن يحولوا بينك وبين آخر يومٍ من حياتك ليسبقوا الأجل بيوم أو ساعة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، أوليس الذي خلقك الله؟
أوليس الذي يرزقك الله؟
أوليس الذي يحييك الله؟ أوليس الذي يميتك الله؟
فعلامَ الهم إذاً؟ وعلامَ الحزن؟ وعلامَ الخوف؟
عجبت ذات يوم من موظف جاء تارة يبكي وتارة تسبقه عبراته، وساعة تتحدر دموعه على وجنته، وتارة في شرود، وتارة يرفع صوته، اشتعلت به هذه الهموم بسبب وظيفته، فجعلته يطلق زوجته، وربما حرم من أبنائه زمناً، وما السبب والباعث والداعي؟ إنه الخوف من رؤسائه، إنه الخوف من مسئوليه فما زال بعض الحاضرين في ذلك المجلس يؤنسه ويقربه ويذكره ويخوفه بأن أجله ورزقه بيد الله حتى اطمأن وعاد ساكن البال.
أيها الأحبة: لا داعي إلى قلق، ولا حاجة إلى خوف، ولا محل لجزع، إذا كان المؤمن راضياً مسلِّماً، إذا كان المؤمن متيقناً معتقداً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يرويه أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يؤمر الملك فينفخ فيه الروح، ثم يؤمر الملك بكتب أربع كلمات: برزقه وعمله وأجله وشقي أم سعيد).
فإذا كانت الأرزاق مقدرة، فوالله لا يزيدها قرب من سلطان، ولا يبعدها بُعدٌ عن سلطان، وإذا كانت الآجال محددة، فلا يدنيها دخولٌ في مهمة المعارك وحمى الوطيس وعند كعاب الأسنة، وعند رءوس السيوف، ولا يؤخر المنية نوم في الأقبية أو الخنادق أو الملاجئ: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34].. أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78].
فالإيمان -أيها الأحبة- والعمل الصالح مما يبعثان على الجرأة والشجاعة والطمأنينة، وعدم الخوف من كبير وصغير، ومسئول وقريب أو بعيد، عدم الخوف على رزق أو أجل، والإيمان يبعث في النفس رضى وقناعة، فلو فتحت للعبد كنوز ما طغى وما تجبر، وما صعر خده للناس، وما مشى في الأرض مرحاً، إذ أنه يعلم أنه لن يخرق الأرض ولن يبلغ الجبال طولاً، إن وصف المؤمنين أن يكونوا راضين مسلِّمين: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد:23] إذا علمت أن ما أصابك من مصيبة، فإنها في كتاب عند الله من قبل أن يبرأ الله الخليقة، فإن في علم الله أزلاً أن هؤلاء الخلق قبل أن يخلقوا معلومٌ ما يفعلون وما يتركون، وما يرزقون وما يصابون.
أيها الأحبة: الإيمان والعمل الصالح يبعثان النفس على السعادة وعلى الطمأنينة، ولا يجعلان في القلب مكاناً للهم والغم أبداً، واعلم -يا شارد الذهن! يا خائفاً من المستقبل! يا متألماً بهمٍ أو غم لأمر لا داعي له- اعلم أن كثيراً من الناس مهموم بلا شيء، مغموم لأجل لا شيء، مكدرٌ بلا قضية، مشغول بلا مهمة، إنما هي وساوس وأفكار وخطرات تذهب به وتغدو وتروح وتجيء، وربما يكون عنده من القدرات ما يستطيع به أن يفعل خيراً، أو يقدم شيئاً كثيراً، ومع ذلك قعدت به همومه ووساوسه على ألا يفعل شيئاً، ولم يكن حظه إلا الهم والغم.
ألا يا شارد الذهن! ألا يا قلق الضمير! ألا يا جزع القلب! ألا يا خائفاً من المستقبل!
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهمُ فطالما استعبد الإنسان إحسانُ |
الإحسان إلى الناس بالقول والعمل نافعٌ بإذن الله يورث محبة الخلق.
ومن أسباب السعادة: أن يكون الإنسان محبوباً بين أقرانه وأقاربه وجيرانه، ومن حوله، فاشتغل بالإحسان إلى الخلق بكل ما استطعت أن تشتغل به، ليس من شرط الإحسان إليهم أن تمد لهم ريالات ودراهم ودنانير، ولا من شرطه أن يكون الإحسان في حالة معينة، أحسن إلى الخلق بما استطعت، بأي عملٍ تستطيعه, وأسباب الخير كثيرة.
هل تعلم أسرة فقيرة مسكينة سجن عائلها، أو غاب وليها، أو مات عائلها، ألا فاشتغل بمثلها وبغيرها، اجمع ما استطعت من لباسٍ وأوصله إليهم في ليلة ليلاء، اجمع ما شئت من بطانيات، وأدخل بها عليهم في ليلة شاتية، اجمع ما استطعت من طعام، وأسعد وسد بها جوعتهم في يوم من الأيام، فإنك تجد بذلك سعادة تغمر فؤادك ونفسك كسعادة الصائم حين يفطر، وسعادة المتهجد حينما يبزغ الفجر.
أحسن إلى الناس؛ إن تجد كفيفاً فأعنه على قضاء حاجته، يوم تجده يذهب يمنةً ويسرةً في دائرة لا يعرف أين يقبل ويدبر، إن تجد أخرق لا يحسن أن يتصرف خذه معك، إن تجد عاملاً قد تصبب العرق على ثيابه وملابسه، وقد فاحت رائحة بدنه من كد التعب وشقاء العمل، فقف بسيارتك مهما كانت فارهة نظيفة معطرة واحمله معك، ولا بأس- إن لم تكن مرتبطاً على ميعاد- أن تذهب به إلى مكانه، ولو اقتضى ذلك منك مزيد ساعة، أو نصف ساعة، إنه عمل يجلب إلى نفسك السعادة، ويطرد الهموم، وتشعر أنك حققت شيئاً.
وما سبب هذه الهموم إلا أن بعض الناس يشعر أنه صفرٌ على الشمال، كمٌّ لا فائدة منه، جنسٌ لا يستفاد منه، فإذا شعرت أنك أفدت واستفدت، ونفعت وانتفعت، كان ذلك سبباً في سعادتك، ومن ثم لا بقاء للهم والغم في فؤادك، يقول الله تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً [النساء:114] من الذي وعد؟ ملك من الملوك؟ أمير من الأمراء؟ وزير من الوزراء؟ قاضٍ من القضاة؟ لا. بل الله الذي وعد.
فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً [النساء:114] والله لو وعدت بمنحة، أو وعدت بمال، أو بدرهم ودينار، لوجدت السعادة تغمر قلبك إن كنت محتاجاً، أو مرتقباً ذلك الموعود، فما بالك يوم أن يعدك الله بأجر، وليس أجراً فحسب، بل: فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً [النساء:114].
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ [النساء:114] كثيرٌ من الكلام لا فائدة منه، وكثيرٌ من السعي لا جدوى فيه, وكثيرٌ من العمل لا فائدة بعده إلا من أمر بصدقة، أو معروف، أو إصلاحٍ بين الناس: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً [النساء:114].
يا شارد الذهن! ويا قلقاً من مستقبله! ويا قلق الفؤاد جزع النفس! اشتغل بما ينفعك من علم أو عمل، واختر أحب الأعمال وأيسرها إلى نفسك، وأقربها إلى مقدورك من أعمال، أو علم نافعٍ، فإنك يوم أن تشتغل بما ينفعك، سرعان ما تزول همومك وغمومك.
إن كثيراً من الخائفين والقلقين إذا أصابته مصيبة، أو حلت بساحته الهموم والغموم، انقطع عن عمله، واحتجب عن أصحابه، واعتزل عن أهله، وخلا بنفسه، ودخل حجرة انفرادية مظلمةً، لا يريد أن يسمع صوتاً، ولا يرى نوراً، وحاله كقول القائل:
عوى الذئب فاستأنست للذئب إذ عوى وصوَّت إنسانٌ فكدت أطيرُ |
قد لذت له الخلوة وأنس بها، وأنس بالعزلة، فبعد ذلك تجده لا يريد أن يرى أحداً، ولا يقابل أحداً، ولا يسمع صوتاً، ولا يأكل من الطعام إلا ما يسد رمقه، ظناً منه أن عزلته تدني فرجه، وظناً منه أن احتجابه يقرب راحته، وما درى أنه بذلك كمن رام تطهير الدم النجس بالدم، كمن أراد إزالة النجاسة بنجاسة أخرى، كمن أراد سداد الدين بدينٍ آخر، كمن أراد علاج المرض بمرض أشد منه.
يا قلق الذهن وشارد الفكر! إذا نزلت بك نازلةٌ أحدثت هماً وغماً، فلا تحتجب ولا تعتزل، وكن مع الناس، وخالط واصبر، وركِّز بدقة على أمر ينفعك من علم أو عمل تميل إليه نفسك بحسب قدرتك ومهارتك وكفاءتك، فإنك بذلك تشتغل بما بين يديك، وما هو أمام ناظريك عما يجيء ويقبل به الشيطان ويدبر من الوساوس والهموم في فؤادك، اشتغل بما تشتاق إليه وتطمئن إليه من عمل نافع أو مباح، فإن الواحد -وهذا مشاهدٌ معلومٌ بالحس والمشاهدة- إذا كان مشغولاً فتراه إذا نزلت به نازلةٌ الصبح فمضى في شغله وعمله، تجده قد نسي أغلبها الصبح، ونسي جلها المساء، فغابت شمسه وقد نسيها كلها، أما من قطع أعماله, واحتجب واعتزل، فإن هذه الهموم تفرخ وتولد أمثالها، وتزيد في مرضه، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
ويا خائفاً من المستقبل! ويا شارد الذهن! ويا قلق الفكر! ويا مضطرب المواقف! عليك أن تهتم بعمل اليوم والساعة واللحظة، إن كثيراً من المهمومين والمغمومين إذا حدثته وجلست معه، وجدته لا يحدثك إلا عن أيام خلت وسنين مضت، أو يحدثك عن أهلةٍ لم تبزغ بعد، وعن أقمارٍ لم تكتمل بعد، وما هو في مقدورك، وقد يأتي ذلك الهلال أو ذلك البدر وأنت تحت الدنيا ولست فوقها:
ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها |
اشتغل بساعتك، اشتغل بلحظتك، اشتغل بيومك، اشتغل بقضيتك، أما ما مضى فأمره إلى الله.
فإن كنت بالأمس اقترفت إساءةً فثنِّ بإحسانٍ وأنت حميدُ |
إذا كان ما مضى شهد عليك بمعصية، وزلة وخطيئة، وإثم وجريمة، فإن حاجتك هذا اليوم لعلاج ما مضى بأن تملأ اليوم بالتوبة، وبالذكر والاستغفار حتى يمحو ما مضى، وأقم الصلاة، يقول الله جل وعلا: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114].
هكذا أيها الأخ المسلم: أنت بحاجة أن تتعامل مع الساعة، أن تتعامل مع اللحظة، وكما قال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه لـعمر بن الخطاب: [إن لله عملاً في الليل لا يقبله في النهار، وإن لله عملاً بالنهار لا يقبله بالليل] فحاجتك أن تعطي الليل وظيفته، وأن تعطي النهار وظيفته، فإنك بذلك تحصل خيراً كثيراً، اشتغل بساعتك، ما مضى إياك أن تكون جزعاً قلقاً فيه فقد مضى وانتهى، ولا تستطيع البشرية رد ثانية أو دقيقة أو أقل أو أكثر منه؛ لأنه مضى وانتهى، وأما المستقبل فلا تستطيع البشرية أن تجر شمس غدٍ إلى هذه الساعة، ولا تستطيع البشرية أن تجر ظلام الليلة المقبلة إلى هذه اللحظة التي نعيش فيها، فعليك أن تعيش ساعتك، عش يومك وعش لحظتك بعمل صالح .. بتوبة .. باستغفار .. بعمل نافع .. بوظيفتك .. بما أنت فيه، فإن ذلك مما يجعلك مطمئن البال، مرتاح النفس، مطمئن الضمير، وحينئذٍ لن يكون للهموم والغموم إلى نفسك سبيلاً، اشتغل بساعتك .. اشتغل بيومك .. اشتغل بما ينفعك.
إني وجدت كثيراً من الناس قد أفسد الشيطان عليهم أيامهم، فتجده ربما يفكر في ذنوبه التي سلفت، ولكنه في لحظة التفكير لا يقدم استغفاراً يمحو ذنوبه، ولا يقدم حسنة تمحو سيئاته، ولا يقدم صالحاً يستر زلاته أو يمحوها، مجرد تفكير في ما مضى دون أن يعالج ما مضى بفعل في حالته.
وتجد الشيطان كثيراً ما جعل بعضهم يفكر في المستقبل، بل إن بعضهم بلغت به المخاوف والوساوس حتى أنه لا يكاد يخرج من بيته، أو لا يكاد يبيع أو يشتري أو يغامر أو يعمل عملاً نافعاً في مغامرة نافعة، تجده دائماً جباناً خواراً ضعيفاً متشائماً، الأصل في رؤيته السواد، والأصل في الناس الخيانة، والأصل في المعاملات الفشل، والأصل في التجارات الخسارة، فمثل هذا لا يتحرك قيد أنملة، ويموت في مكانه، ولو أنه تحرك لربح تارات، أو خسر تارة وربح بعدها تارات، لسلم تارات ولو أصيب بشيء لأصاب بعدها خيراً كثيراً، لكن هذا التشاؤم هو الذي جعله يعيش في دائرة الهم والقلق والغم؛ لأنه لم يتعد أفكاره وسعيه في تفكيره فيما مضى، وأما ساعته ولحظته وحالته التي هو فيها، تجده بعيداً عن التفكير فيها.
أيها الحبيب: اعلم أن من واجبك أن تفكر فيما هو مقدور بين يديك.
إن تعجب فعجبٌ حال كثير من الناس أفكاره متعلقة بما ليس في يده! وطموحاته قد بلغت ما يعجز عن الوصول عنه:
من مد طرفاً إلى ما فوق غايته ارتد خسآن منه الطرف قد حسرا |
تعجب من أناس يريدون السطوح بلا درج! ويريدون الشهادة بلا علم! ويريدون الطب بلا تعلم! ويريدون التجارة بلا سعي! ويريدون الولد بلا زواج! ويريدون الثمر بلا غرس ولا زراعة! هذه من الآمال الغبية والطموحات الكاذبة، إن من كان عاقلاً في طموحاته، ستجده عاقلاً في وسائله التي يتخذها للوصول إلى هذه الطموحات.
نعم نحيي شباباً ورجالاً ونساءً، بلغت طموحاتهم عنان السماء.
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسامُ |
طموحاتٌ ربما تجاوزت عند بعضهم حطام الدنيا وترابها ومتاعها الفاني إلى جنة عرضها السماوات والأرض، ولذلك لما قال أحد السلاطين في زمن شيخ الإسلام ابن تيمية ، قال: إنك تريد حكمي وملكي، فقال ابن تيمية: أنا أريد حكمك وملكك! والله إن حكمك لا يساوي فلسين، إني أريد جنة عرضها السماوات والأرض، فمن أراد جنة عرضها السماوات والأرض، كيف يريد حطاماً ومتاعاً زائلاً وفانياً من عرض الدنيا، فالعاقل يشتغل بما يقدر عليه، وعليه أن يبتعد عما لا فائدة منه.
عجبت من أناس وشباب منذ سنين وأنا أعرفهم يضربون ويسعون، ويغدون ويروحون في أسباب التجارة، وما جمعوا شيئاً، ولا شك أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، وقد جعل الله الأقدار بأسبابها، والأرزاق بأقدارها، ولكن لما تأملت أو تأمل عاقل غيري وجده أراد التجارة بالمليار قبل الريال، وبالمليون قبل المائة، يعرض عليه من الرزق أيسره، ومن الحلال أطيبه، ومن المقدور أيسره، فيعرض عن هذا، تأتيه من أرزاق الله أمورٌ كثيرة فلا يقبلها؛ لأنها من فئات المئات والعشرات، ولكنه يطمح في فئات الملايين وما بعدها، اشتغل بما لا يقدر عليه، وأراد قمة بلا سلم يفضي إليه، فتجده مضى معلقاً بجنون العظمة، وكبرياء الثروة، وأوهام الثراء والغنى، ففي ذات يومٍ تجده محطماً كسيراً معتزلاً مستوحشاً قلقاً؛ لأنه فكر وسعى فيما لا سبيل له إليه، وأعرض عما بين يديه، فلأجل ذلك اجتمعت الهموم في رأسه، واجتمعت المصائب بين عينيه.
واعلم أيها المسلم! أن العبد قد يقدر الله عليه المقادير: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157] فالعاقل عليه أن يوطن نفسه على أن الدنيا موقع ابتلاء: لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4] الأصل فيها أن لذاتها مكدرة، وأن أحبابها يتفرقون، وأن أحياءها يموتون، وأن أصحاءها يسقمون ويمرضون، فلا تجزع بما يكون، أو قد يكون ولكن إذا نزل أمر من قدر الله، فلا تفكر فيما مضى، ولا تفكر خائفاً من المستقبل، بل كما قال صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك، ولا تعجز، وإذا أصابك شيءٌ، فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدَّرَ الله وما شاء فعل (أو قدَرُ الله وما شاء فعله) فإن لو تفتح عمل الشيطان).
إن هذا المعنى قد تجده عند بعض العقلاء، وقد تجده أيضاً عند بعض الكفار، إنك تعجب يوم أن ترى كافراً أصيب بمصيبة كشلل في طرفيه السفليين، أو كعمى في عينيه، أو بأمر من الأمور، إن بعض المسلمين حينما تحل به مصيبة كهذه، تظلم الدنيا في عينه، ويسود المستقبل في وجهه، ويتشاءم، ويشعر أن كل شيء فاته، والعجب أن تجد كافراً، أو كفاراً إذا حل بأحدهم شيءٌ من هذا، ذهب إلى معهد تأهيل المعوقين ليجد نفسه حالة سوية طبيعية قادرة على الاختلاط بالناس، يتعلم كيف يستخدم آلةً يركب بها السيارة، وكيف يقود سيارة تناسب أمثاله، وكيف يستخدم المواقف، ويصعد إلى أعلى العمارات، ويباشر أعقد العمليات، وتجد كثيراً من المعوقين أقدر من كثيرين من الذين يسمون أسوياء، وما ذاك إلا أن ذاك المعوق قد حمل قلباً نافعاً، وعقلاً متدبراً فيما يخص أمور حياته، فسبق بذلك ذلك العاجز المتشائم الضعيف، كم من مشلول سبق كثيراً من العدائين بفكره وعلمه وإنتاجه، وكم من كفيف سبق كثيراً من المبصرين، وكم من أصم وأبكم كان أحكم من كثير من الناطقين والسامعين، والسبب أن الواحد منهم تعامل مع علته، تعامل مع قضيته، تعامل مع ما حل به بأمر الله، ففاز بالأجر؛ لأنها مصيبة بقدر الله، فصبر عليها، وإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب، هذا أولاً.
الثاني: ما جلس يبكي: أنا كفيفٌ، أنا معوقٌ، أنا أبكم، أو أصم، بل أخذ يتعلم كيف يتعامل مع الحياة، ومع الناس، ومع هذا الكون حتى ولو كان كفيفاً، أو معوقاً، أو أصم، أو أبكم.
العاقل يتعامل فيما يقدر عليه، ويجتهد فيما ينفعه، ويتعامل مع ما يستطيعه، وأما الاشتغال بالخيال، والاشتغال بالآمال التي لا يعقل إليها سبيل، فذاك من الجهل.
ويا شارد الذهن! ويا قلق الضمير! ويا جزعاً من مستقبله! يا من خلوت وحدك في حجرة ظلماء، أو ليلة ليلاء واحتجبت عن الناس! ماذا تفيدك خلوتك؟ وماذا تتذكر في عزلتك؟ تتذكر علان وفلان، أو تعيد صورة المشهد، أو الحادث، أو تعيد سيرة القضية من جديد، ولو أنك جعلت مكان هذا الخيال، ومكان هذه الوساوس وتلك الألفاظ التي تطلقها بين صوتٍ خفي ومسموع، لو جعلت مكانها ذكر الله جل وعلا، لكنت مطمئن القلب: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].
قال صلى الله عليه وسلم: (من لازم الاستغفار، جعل الله له من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً) نعم. بدلاً من الخلوة والوساوس والكلام الخفي والمسموع، كن مع الناس في المساجد، واسبقهم إلى الرياض، وكن متقدماً في روضة المسجد، كن جاداً في العبادة، مكثراً من ذكر الله؛ فإن الله جل وعلا يقول: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني) إذا كنت تظن أن الله سيفرج عنك، فأبشر بالفرج، أتظن أن الله يتركك ويسلمك، وهذا ظنك بربك، وقد تعلقت بخلق ضعاف، فمن تعلق بشيء وكل إليه وعليه، فتوكل على الله، واستعن بالله، وأحسن ظناً بالله، من ظن أن الله يرزقه رزقه، من ظن أن الله يحميه حماه، من ظن أن الله ينصره نصره، من ظن أن الله ينتصف له ممن ظلمه نال حقه، من ظن أن الله معه فاز بمعية ربه، ومن ظن أنه متعلقٌ بشخص أو أشخاص، أو فرد أو أفراد، أو صغير أو كبير، فمن تعلق بشيء وكل إليه.
فيا أيها المسلم: أكثر من ذكر الله جل وعلا، ثم تأمل -يا شارد الذهن! ويا خائفاً من مستقبله- تأمل كم من الناس فوقك، وكم من الناس دونك في النعم! ربما رفعت بصرك فرأيت مئات من البشر في درجات أعلى منك، ولكن انظر إلى ملايين من البشر دونك أياً كان حاله، فكما قال صلى الله عليه وسلم: (انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم).
ذلك الذي أصابه الجزع والهم والهلع، والقلق والخوف، والشرود وهذا الهم، ربما كان بسبب أراد به يسابق أقواماً كتب الله -لابتلاء الله، أو لنعمة، أو لمحنة- أن يبلغوا درجة من الدرجات، أو مرتبة من المراتب، فحاول أن يبلغها فعجز، فظل محطم النفس، شارد الذهن، خائفاً من مستقبله، فلم ينل من ساعته إلا الخوف والهم، ولو أنه قال الحمد لله كم نعمةٍ أنا فيها، وغيري محرومٌ منها.
هل وراءك صربي يطاردك؟ هل وراءك هندوسي يرتقب خروج أهلك من بيتك، عياذاً بالله؟ هل تترقب قذيفةً تحل من السماء على بيتك؟ هل أنت مريضٌ بمختلف الأمراض وأشدها؟ لئن ابتليت في مرض في جزء يسير من بدنك لا يتجاوز واحد سنتيمتر، أو أربعة سنتيمتر من بدنك، فإنك معافىً في بقية بدنك، ولئن أخذ بصرك، فلا يزال سمعك ورجلك ويدك وقواك، وتنفسك وأجهزتك وكل ما عندك، وإن أخذت أقدامك، فأنت سميعٌ بصيرٌ، فصيحٌ منطيقٌ، جدلٌ خصمٌ مبينٌ، تستطيع أن تتنعم بهذه النعم كلها، فإياك أن تزدري نعمة الله بكثرة النظر، أو بالنظر إلى من فوقك، فإن من فوقك قد يكون أعداداً قليلة، ولكن انظر إلى من هم دونك، فتجدهم يبلغون ملايين، أو مئات الملايين.
ويا أيها الخائف! ويا أيها القلق! ويا أيها الشارد! أكثر من الدعاء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد إلى دعاء جميل، قال صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه من الدعاء: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادةً لي في كل خير، والموت راحةً لي من كل شر) رواه مسلم ، وفي حديث آخر كان صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت).
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ في الدين ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة: لا نزال نسوق هذه الرسائل إلى ذلك الشارد الخائف الجزع القلق الموتور المرعوب من المستقبل، فنقول له: توكل على الله: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً [الطلاق:3] إن من تعلق بغير الله انقطع، ومن سأل غير الله حرم، ومن اعتصم بغير الله خذل، ومن أراد أمراً بغير معونة الله لم يجد إلا نكداً وقد يجد قليلاً، ثم يكون القليل باباً إلى الكثير، اجعل طريقك إلى كل حاجة: سؤال الله، والاستعانة بالله، والتوكل على الله، فإنك محتاج، ومن احتجت إليه هو خلقٌ من خلق الله، وعبدٌ من عبيد الله، اسأل الله الذي خلقك وخلقه، وبيده ناصيتك وناصيته، وروحك وروحه، اسأل الله جل وعلا، فإن الله يسخر لك الكبير والصغير إذا تعلقت بالله.
وإنك لتعجب أن تجد مسلماً أشعث أغبر ذي طمرين مدفوعاً بالأبواب، إن غاب لم يفقد، وإن حضر لم يعرف، تجد ذات يوم أناساً من الكبار أو العظماء يرتادون بيته، ويقضون حاجته، وكيف بلغوا داره؟ وكيف قضوا حاجته ولم تظهر له صورة في صحيفة، ولم يظهر عنه إعلان، ولم تتكلم عنه نشرة، فما الذي جعل هذا الكبير، أو ذلك العظيم، أو ذلك القوي الغني يصل إلى داره؟
إنها دعوت سرت بليل بلغت عنان السماء، فسخر الله بها عبداً من عباده الأقوياء الأغنياء الأثرياء، فجعلهم يخرجون في تلك الليلة، أو في مثل تلك الساعة إلى بيته فيقضون حاجته، وما ظهر أمره إلى أحد أبداً:
من يسأل الناس يحرموه وسائل الله لا يخيبُ |
ويا أيها الشارد! ويا أيها القلق! ويا أيها الخائف من المستقبل! لماذا تنظر إلى الأمور بكل عين متشائمة؟ لماذا تنظر إلى الأمور من زواياها الضيقة، ومن تضاريسها الصعبة؟ لماذا لا تنظر إلى الأمور من أوسع أبوابها، من أطيب زواياها، من أجمل أسمائها، من أبهى صورها؟ انظر إلى كل قضية ستجد أنك ترى لها بابين ووجهين.
تقول هذا مجاج النحل تمدحـه وإن تشأ قلت ذا قيء الزنابير |
في زخرف القول تزيينٌ لباطله والحق قد يعتريه سوء تعبير |
تقول: هذا مجاج النحل يعني: العسل
تجد القضية الواحدة تنظر لها بمنظارين، تنظر إلى كل قضية بأصفى مناظيرها، وبأوسع أبوابها، وبأجمل زواياها، وبأسهل السبل إليها، وكان صلى الله عليه وسلم إذا خير بين أمرين، اختار أيسرهما.
اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد، وكان صلى الله عليه وسلم يعجبه التفاؤل، وإن الذي ينظر إلى أموره بهذه العين، فثق أنه سيبقى سعيداً في حياته .. سعيداً في معاملته .. سعيداً في زواجه، أوليس صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يفرك مؤمنٌ مؤمنة، إن كره منا خلقاً رضي منها آخر)؟ نعم. قد تكره من زوجتك خلقاً معيناً، لكن إن نظرت إلى زوجتك ببوابة ذلك الخلق السيئ، وبمنظار تلك الخصلة السيئة، فلن ترى بعد الظلمة إلا ظلاماً، وإن تنظر إلى زوجتك بمقاييس وبأمور جيدة جميلة، وأخلاق طيبة فيها، فسترى أن تلك الخصلة السيئة هي في آخر مساحات النظر التي تنظر إليها.
ثم اعلم -يا أيها الخائف المتشائم! يا أيها المعتزل القلق البعيد الشارد عن الناس وعن نفسه- أن شرودك هذا ربما كان بسبب تفريطك بواجباتك، فإن من قام بواجبه، يفرح متى يسأله من كلفه بالواجب أن يقدمه، انظر إلى الطالب أياً كان مرتبته إذا كان قد أعد واجبه بأحسن وأبهى طريقة، ينتظر الساعة التي يسأله مدرسه: أين واجباتك؟ بل إذا غفل مدرسه عن الواجب، قال: إن علينا واجباً سألته فهاهو ذا أيها المعلم، تجد الموظف حينما يعد أعماله وأموره، يفرح متى يسأله مديره عن واجبات أسندت إليه.
تجد الشرطي أو رجل الأمن حينما يقوم بواجبه، يلذ حينما يسأله قائده عن مهمته، ولكن حينما تتساهل بواجبك وتضيع ما أسند إليك، وتهمل ما بين يديك، فإنك تكره من يسألك عن أعمالك، ولا تتمنى أن تقابل من تظن أنه سيستوقفك لحظة في عملك أبداً، قم بواجبك واسلم من اللوم، وقم بواجبك واسلم من الكلام قلَّ أو كثر، فإن التهاون والتفريط والتعدي كل ذلك يسبب الجزع والخوف والرغبة في البعد عن الآخرين، ثم يأتيك الشيطان ويقول لك: أنت قلق، عندك مرض نفسي، عندك مشكلة نفسية، عندك.. وعندك.. وعندك، وحقيقة مرضك أنك فرطت في الواجب، ولو قمت بواجبك في وظيفة، أو ميدان، أو أي مهمة كانت، فإنك ستكون سعيداً بإذن الله جل وعلا.