الخسارة الكبرى


الحلقة مفرغة

الحمد لله الذي جعل في الإيمان فرح القلوب، وجعل في الإسلام شرح الصدور، وجعل في الطاعة لذة النفوس، له الحمد سبحانه وتعالى، ذكره طمأنينة للقلوب، وشكره زيادة للنعم، نحمده على ما يحب ويرضى، وعلى آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، فله الحمد والثناء، لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، له الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، له الحمد حمداً كثيراً طيباً كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا محمداً عبد الله ورسوله، علم التقى، ومنار الهدى، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا إلى اتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] .. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

موت القلوب هو الخسارة العظمى

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون!

الخسارة الكبرى موضوع حديثنا، فيا ترى ما هي الخسارة الكبرى، والبلية العظمى، والحسرة الجُلىّ، التي ينبغي أن تبكي قلوبنا عليها دماً، وأن تفيض دموعنا لأجلها دمعاً، هل هي الأموال التي قد تسترق، أو الأرض التي قد تغتصب، أم هي الأحباب والأعزاء الذين يغادرون الحياة الدنيا؟! هل هي في المناصب والجاه الذي قد يضيع منه ذا أو ذاك؟! ما عسى أن تكون هذه الخسارة؟‍

بفقه الإيمان، ومقياس الإسلام، ومعرفة الأكياس، إن المقاييس اليوم قد اختلت، الموازين وقد انتكست، أصبحت مثل هذه المعاني لا يعرفها إلا قلة من الناس، وأما من يستشعرها فأقل من القليل.

أية خسارة هذه التي نصفها بالكبرى، والتي ينبغي أن يطول عليها أسفنا، وأن يعظم عليها ندمنا؟

إنها موت القلوب وفقدان الإحساس، وذهاب الشعور الإيماني الذي يحرك القلوب إذا سمعت الآيات، وإذا أصغت للمواعظ، الذي يعصر القلوب ألماً، والنفوس حزناً، إذا قارفت المعاصي التي تجعل في النفس هماً، وفي الحلق غصة، وفي العين عبرة إذا تخلفت عن الطاعات، الذي يجعل المؤمن مشغولاً بنفسه، مصلحاً لعيبها، خائفاً من ذنبها، مجتهداً في حملها على أمر ربها.

ولعلي أصور هذه الخسارة في واقع لا يكاد يبرأ منه أحد، كبيراً كان أو صغيراً، عالماً أو متعلماً، حتى الأئمة والمصلحون، والدعاة والمذكرون والواعظون، ذلك أن هذا البلاء قد عم وطم.

لعلنا نصور هذه الخسارة ونحن نقول: كم من آيات القرآن تتلى فلا قلب يرق، ولا عين تدمع! كم من منكرات تراها الأعين، وتسمعها الأذان، فلا يضيق صدر، ولا يتمعر وجه!

كم من الطاعات مهدورة متروكة وليس هناك مذكر ولا واعظ، ولا شاحذ للهمم إليها! كم من الواجبات لم ينتبه إليها أحد أو يؤديها والنفوس مع ذلك راضية سعيدة كأن شيئاً لم يحدث!

كم من صلاة ضيعت! كم من فريضة وسنة أميتت! كم من بدع ظهرت ورفعت راياتها! كم وكم من أمور كثيرة!

فتش قلبك وراجع نفسك، هل ثمة تأثر وتغير بحسب هذه الأحوال التي تتغير من حولنا، أم أننا قد ألفنا المعاصي فلم تعد القلوب تنكرها، وركنا إلى الدنيا فلم تعد النفوس تنبعث إلى الطاعات، ونظرنا إلى الملهيات والمغريات فلم يعد في النفس والقلب شيء تتعلق به إلا إياها؟!

فقد الفرقان بين الحق والباطل

أحسب أن هذه الأسئلة وهي تجول بخواطرنا نعرف أن إجاباتها مريرة، وأن حقائقها أليمة، وأن واقعنا في هذه القضية يستحق أن يوصف بأعظم من الخسارة الكبرى؛ لأننا نفقد جوهر حياتنا، نفقد الميزان الذي نعرف به مسيرنا، نفقد النور الذي نبصر به طريقنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29].

إشراق الإيمان في القلب، وحياة القلب بالطاعات، ذلك هو الفرقان، ذلك هو النور الذي نميز به بين الحق والباطل، والذي نعرف به المنكر والباطل وإن كنا نجهل أدلته، وإن كنا لا نعرف أقوال العلماء فيه، فما بالنا اليوم والمنكرات الواضحة الجلية التي قامت عليها الأدلة القطعية بينة ظاهرة.

انتبه معي إلى هذا الأمر الخطير الذي نفقده: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [الأنفال:29].

ونتذكر معاً حديث وابصة بن معبد الذي نردده كثيراً: (الإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وكرهت أن يطلع عليه الناس، استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك)، ضاع منا القلب الذي يستفتى؛ لأنه فقد النور الذي به يبصر، والميزان الذي به يرجح، وبهذا يكون قد فقد حساسية الإيمان، وفقد الشعور الذي يجعله يهرب من كل ذنب ويقبل على كل طاعة وينبعث إليها.

أي قلب هذا الذي سوف نستفتيه اليوم؟! إننا نستفتيه فيكاد لا ينكر الكبائر المجمع على حرمتها، فكيف به في أمور من الصغائر؟! وكيف به في أمور من المشتبهات؟! وكيف به في سعة وزيادة من المباحات؟! إننا إن استفتيناه اليوم ربما أقر بما نسمعه من أن الفنون جميلة، وأنها في خدمة الأمة، وأنها تصنع كيت وكيت، رغم ما فيها من العري والفجور والخنا والزنا وغير ذلك.

فقد القلوب الواعية للقرآن المتدبرة لمعانيه

أي شيء نفقده؟ إنا نفقد أعظم شيء، وأي شيء سنجده إذا فقدنا ذلك: هل سنجد الطعام والشراب، وصحة في الأبدان نغتر بها، ونظن أنها من نعم الله علينا، وقد تكون في كثير من الأحوال استدراجاً للغافلين وإمهالاً للمسرفين؟ نسأل الله عز وجل السلامة.

يقو تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف:146] ، أليست القلوب اليوم إلا ما رحم الله مصروفة عن آيات الله فلا تكاد تعيها ولا تتدبرها؟

يقول سفيان الثوري رحمه الله في تعليقه على هذه الآية: إنها في المذنبين المسرفين المتكبرين عن الحق يصرفهم الله فلا يتدبرون آياته.

ويقول الله: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24] ، إن لم تشعر بتدبر القرآن، وتأثر القلب به فاعلم أن الأقفال والأغلاق قد أحكمت.

انتبه إلى هذه الآيات العظيمة: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر:21] فإن لم تكن هناك خشية فإن القلوب أشد قسوة من الصخور الصماء في الجبال الشاهقة: وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى [الرعد:31] والتقدير: لكان هذا القرآن، هذا القرآن من قوته وعظمته وشدة معانيه يسير الجبال، ويقطع الأرض، ويحيي الموتى، فما باله لا يلقى آذاناً مصغية، وقلوباً حية، ونفوساً متأثرة؟!

أفليس حقاً علينا أن نبكي على أنفسنا، ونقيم العزاء على قلوبنا، وأن نستشعر أن خسارتنا هذه هي مبدأ كل الخسارات التي توالت في حياة أمتنا؟!

يوم ضيعنا هذه المشاعر الإيمانية، والحساسية الروحانية، والشفافية التعبدية، والروحانية اليقينية، فقدنا من بعد ذلك الطاعات، وأكثرنا من المعاصي، وتوالت فينا الجراحات والنكبات، وكما قال ابن القيم رحمه الله: الذنوب جراحات، ورب جرح يقع في مقتل، فكيف إذا أصاب الجرح قلبك؟! إنه يوشك أن ينزف قليلاً ثم يعلن شهادة الوفاة.

واستمع إلى الإمام سحنون أحد أعيان فقهاء المالكية وقد وقع في ذنب، لكنه كان له قلب حي، فمضى على ضفاف دجلة في بغداد، وأخذ عوداً يضرب به على قدميه، مطأطئاً رأسه، متفكراً في حاله، متدبراً فيما وقع منه، وإذا به يقول:

كان لي قلب أعيش به ضاع مني في تقلبه

رب فاردده علي فقد ضاق صدري في تطلبه

وأغث ما دام بي رمق يا غياث المستغيث به

ذنب واحد أقض مضجعه، وجعله يتفقد نفسه، لأنه شعر أنه قد ضيع فيه قلبه الحي، وإيمانه اليقظ، وروحه الشفافة، وشعوره المرهف، ذلك الذي كان منه تيقظ وتنبه، حتى سأل ربه أن يرد عليه قلبه لتعود إليه حياته، وليحيا معه إيمانه، وذلك ما كان من أولئك النفر من الأجيال الصالحة ومن أسلافنا رضوان الله عليهم.

الاغترار بكرم الله وعماية البصائر عن الحق

يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار:6] أجمع أهل التفسير: أن هاهنا فهماً مغلوطاً يذهب إليه بعض الناس، كما ذكره بعضهم كـالقرطبي وابن كثير وغيرهما: (ما غرك بربك الكريم) فإن بعضهم يقول: غرني كرمك يا رب، قال: وهذا من الخطأ، وإنما ذكر اسم الكريم -كما ذكر الطبري- ليكون الإثم والذنب مستقبحاً إذا كان في مواجهة من أكرم وأنعم، وذكر ابن كثير رحمه الله: أن في الآية تهديداً ووعيداً لمن وقع في المعاصي وهو يعلم عظمة ربه، ويدرك كذلك كرمه فيقبح منه ذلك الذنب.

واستمع إلى الأوصاف القرآنية: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46]، لماذا نختلف اليوم ولنا أعين وقد نستعين بمكبرات ونظارات، ثم يخفى علينا الحق؟! لأنه ضرب على القلوب الران، وانحرفت في النفوس الأهواء، وزاغت لأجل ذلك الآراء، وافترقت الأمة شيعاً وأحزاباً.

واستمع إلى الوصف الذي ضرب صفة لأهل الكفر في أقصى درجاته: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [الجاثية:23] ، أفلا نرى الأهواء المتبعة وهي قد نصبت آلهة جديدة؟! آلهة للسياحات، وآلهة للثقافات التي حقيقتها سخافات، وآلهة.. وآلهة.. وآلهة أخرى، وهي مما يتبعه الناس، ويسيرون وراءه: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ [الجاثية:23].

الآيات والأحاديث معروفة في المواعظ والدروس والمحاضرات والكتب، فكل شيء ظاهر بين معلوم، ومع ذلك نرى ما نرى من هذه الصور.

سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا [الأعراف:146]، أفليس مثل هذا الوصف واقعاً في أحوالنا، ظاهراً في أمتنا؟! أفليس جديراً بنا أن نقف وقفة مع أنفسنا، نعالج بها أدواءنا، ونعوض بها خسارتنا؟!

أي خسارة أعظم من أن يموت قلبك، وأن تموت نفسك، وأن تظلم روحك، إنها مسألة خطيرة، وقضية عظيمة.

من فقه ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (كفى بخشية الله علماً، وكفى بالاغترار بالله جهلاً).

أي: من كان في قلبه خشية لله، وحب لله، وبغض لمعصية الله، وتعلق بطاعة الله، فذلك هو العلم، فإنما العلم الخشية، وإذا كان ثمة غرور بالله عز وجل، وإسراف في المعاصي، ونقول لأنفسنا وهماً وزوراً: إن الله غفور رحيم، وستر الله دليل على رضاه، وصحتنا وعافيتنا ونعمنا تدل على أننا على غير ما قد نخشاه على أنفسنا، فنكون حينئذ كالجاهل الأحمق الذي يسعى إلى حبسه بنفسه.

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون!

الخسارة الكبرى موضوع حديثنا، فيا ترى ما هي الخسارة الكبرى، والبلية العظمى، والحسرة الجُلىّ، التي ينبغي أن تبكي قلوبنا عليها دماً، وأن تفيض دموعنا لأجلها دمعاً، هل هي الأموال التي قد تسترق، أو الأرض التي قد تغتصب، أم هي الأحباب والأعزاء الذين يغادرون الحياة الدنيا؟! هل هي في المناصب والجاه الذي قد يضيع منه ذا أو ذاك؟! ما عسى أن تكون هذه الخسارة؟‍

بفقه الإيمان، ومقياس الإسلام، ومعرفة الأكياس، إن المقاييس اليوم قد اختلت، الموازين وقد انتكست، أصبحت مثل هذه المعاني لا يعرفها إلا قلة من الناس، وأما من يستشعرها فأقل من القليل.

أية خسارة هذه التي نصفها بالكبرى، والتي ينبغي أن يطول عليها أسفنا، وأن يعظم عليها ندمنا؟

إنها موت القلوب وفقدان الإحساس، وذهاب الشعور الإيماني الذي يحرك القلوب إذا سمعت الآيات، وإذا أصغت للمواعظ، الذي يعصر القلوب ألماً، والنفوس حزناً، إذا قارفت المعاصي التي تجعل في النفس هماً، وفي الحلق غصة، وفي العين عبرة إذا تخلفت عن الطاعات، الذي يجعل المؤمن مشغولاً بنفسه، مصلحاً لعيبها، خائفاً من ذنبها، مجتهداً في حملها على أمر ربها.

ولعلي أصور هذه الخسارة في واقع لا يكاد يبرأ منه أحد، كبيراً كان أو صغيراً، عالماً أو متعلماً، حتى الأئمة والمصلحون، والدعاة والمذكرون والواعظون، ذلك أن هذا البلاء قد عم وطم.

لعلنا نصور هذه الخسارة ونحن نقول: كم من آيات القرآن تتلى فلا قلب يرق، ولا عين تدمع! كم من منكرات تراها الأعين، وتسمعها الأذان، فلا يضيق صدر، ولا يتمعر وجه!

كم من الطاعات مهدورة متروكة وليس هناك مذكر ولا واعظ، ولا شاحذ للهمم إليها! كم من الواجبات لم ينتبه إليها أحد أو يؤديها والنفوس مع ذلك راضية سعيدة كأن شيئاً لم يحدث!

كم من صلاة ضيعت! كم من فريضة وسنة أميتت! كم من بدع ظهرت ورفعت راياتها! كم وكم من أمور كثيرة!

فتش قلبك وراجع نفسك، هل ثمة تأثر وتغير بحسب هذه الأحوال التي تتغير من حولنا، أم أننا قد ألفنا المعاصي فلم تعد القلوب تنكرها، وركنا إلى الدنيا فلم تعد النفوس تنبعث إلى الطاعات، ونظرنا إلى الملهيات والمغريات فلم يعد في النفس والقلب شيء تتعلق به إلا إياها؟!

أحسب أن هذه الأسئلة وهي تجول بخواطرنا نعرف أن إجاباتها مريرة، وأن حقائقها أليمة، وأن واقعنا في هذه القضية يستحق أن يوصف بأعظم من الخسارة الكبرى؛ لأننا نفقد جوهر حياتنا، نفقد الميزان الذي نعرف به مسيرنا، نفقد النور الذي نبصر به طريقنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29].

إشراق الإيمان في القلب، وحياة القلب بالطاعات، ذلك هو الفرقان، ذلك هو النور الذي نميز به بين الحق والباطل، والذي نعرف به المنكر والباطل وإن كنا نجهل أدلته، وإن كنا لا نعرف أقوال العلماء فيه، فما بالنا اليوم والمنكرات الواضحة الجلية التي قامت عليها الأدلة القطعية بينة ظاهرة.

انتبه معي إلى هذا الأمر الخطير الذي نفقده: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [الأنفال:29].

ونتذكر معاً حديث وابصة بن معبد الذي نردده كثيراً: (الإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وكرهت أن يطلع عليه الناس، استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك)، ضاع منا القلب الذي يستفتى؛ لأنه فقد النور الذي به يبصر، والميزان الذي به يرجح، وبهذا يكون قد فقد حساسية الإيمان، وفقد الشعور الذي يجعله يهرب من كل ذنب ويقبل على كل طاعة وينبعث إليها.

أي قلب هذا الذي سوف نستفتيه اليوم؟! إننا نستفتيه فيكاد لا ينكر الكبائر المجمع على حرمتها، فكيف به في أمور من الصغائر؟! وكيف به في أمور من المشتبهات؟! وكيف به في سعة وزيادة من المباحات؟! إننا إن استفتيناه اليوم ربما أقر بما نسمعه من أن الفنون جميلة، وأنها في خدمة الأمة، وأنها تصنع كيت وكيت، رغم ما فيها من العري والفجور والخنا والزنا وغير ذلك.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة اسٌتمع
رمضان ضيفنا المنتظر 2907 استماع
المرأة بين الحرية والعبودية 2729 استماع
فاطمة الزهراء 2694 استماع
الكلمة مسئوليتها وفاعليتها 2627 استماع
المرأة والدعوة [1] 2541 استماع
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم 2533 استماع
غزوة أحد مواقف وصور 2533 استماع
قراءة في دفاتر المذعورين 2485 استماع
خطبة عيد الفطر 2467 استماع
التوبة آثار وآفاق 2449 استماع