لمحة عن الامتحانات


الحلقة مفرغة

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى، نحمده سبحانه وتعالى حمد الشاكرين الذاكرين، ونسأله مسألة الضعفاء والمساكين، ونصلي ونسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد صادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين.

أما بعد:

أيها الإخوة الكرام! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وفي بداية هذه الكلمة القصيرة -التي أرجو ألا أطيل بها عليكم- أقدم الشكر لفضيلة الإمام جزاه الله خيراً على حسن ظنه، وعظيم إكرامه، ولمن سعى في هذا اللقاء ليجعل لنا به -إن شاء الله تعالى- عند الله أجراً.

هذه هي أيام الاختبارات التي تشغل كل الناس حتى من ليس عنده اختبار، ومن لم ينشغل بها شخصياً فإنه يضطر إلى أن يتعامل في أيام الاختبارات بتعاملات وبأوقات وبطريقة مختلفة عما تعود عليه، والله سبحانه وتعالى قال: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:1-2]، فالحياة كلها اختبار منذ أن يتنفس الإنسان أول نفس فيها، وحتى يلفظ آخر نفس كتب له في هذه الدنيا، فإذا كانت الحياة كلها اختباراً، فينبغي أن نعرف هذا الاختبار، وأن نعرف علاقته بهذه الاختبارات الدنيوية الكثيرة، ولكن أكثرها تكراراً وأهميةً عند الناس: اختبارات الطلاب والطالبات، حيث ينشغل بها الطلاب والطالبات، والآباء والأمهات، وتزدحم لأجلها الطرقات، وتتغير من أجلها العادات، فتختلف فيها كثير من الأحوال.

وحتى نستفيد -إن شاء الله تعالى في الوقت المتاح- نحب أن نجعل الحديث منصباً على نوعي الاختبارات في الدنيا والآخرة معاً، حتى نرى كيف اعتنى الناس وانشغلوا وفكروا وخططوا واجتهدوا في اختبارات الدنيا العارضة، وغفلوا وقصروا وتكاسلوا وانشغلوا عن الاختبار الأهم والأعظم، وهو اختبار الحياة الدنيا الذي سؤاله وجوابه عند الله سبحانه وتعالى يوم القيامة.

الاختبارات تحمل طابع التنافس والحماس

طبيعة هذه الاختبارات هي أول أمر نعرض له:

معلوم عند الطلاب أن الاختبارات فيها طابع التنافس والحماس؛ كيما يتفوق الواحد على بقية زملائه، أو يحصل على درجة أعلى، أو يحظى بتقدير أرفع، وبالجملة فإننا نجد الناس في اختبارات الدنيا يتنافسون تنافساً شديداً، سواء في هذه الاختبارات أو حتى اختبارات الوظائف، إذا كان هناك وظيفة يتقدم لها جمع من الناس، فإنهم يتنافسون تنافساً شديداً في التحضير والإعداد لها حتى لو كان الأمر يحتاج إلى أن يحسن من هيئته، أو أن يعد من يتوسط له، ويأخذ بكل الأسباب في سبيل التنافس.

والله سبحانه وتعالى جعل التنافس الحقيقي في ميدان الآخرة، وقال جل وعلا: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]، وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم تربوا في مدرسة النبوة، فعلمونا بأفعالهم ما يكون فيه التنافس، وفي أي شيء يكون التسابق؛ لأن الله سبحانه وتعالى دعاهم فقال: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:133]، الأمر لا يحتاج إلى تباطؤ، بل يحتاج كما قال الله سبحانه وتعالى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148]، وكما قال رسولنا صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال سبعاً، هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنىً مطغياً، أو هرماً مفنداً، أو مرضاً مقعداً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر)، والله سبحانه وتعالى يقول: وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النحل:77].

وهذه أمثلة من واقع أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام وما كانوا فيه يتنافسون:

جاء أبو ذر رضي الله عنه -كما في الصحيح- ومعه نفر من فقراء أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام يقولون: (ذهب أهل الدثور بالأجور)، أصحاب الأموال سبقونا ونافسونا، فأخذوا أكثر منا، وحازوا على درجات أعلى، وأصبحت تقديراتهم أرفع، ولم؟

قالوا: (يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم)، فماذا قال لهم الرسول؟ قال: (أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به، بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وحملك للرجل متاعه على دابته صدقة)، ماذا عمل الأغنياء الأثرياء؟ فكروا وتنافسوا فأخذوا بهذا، فتساووا مرة أخرى، وعاد التنافس، فجاء الفقراء وقالوا: (يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور؛ يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، ويسبحون كما نسبح، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)، كان تنافسهم شديداً في هذا الباب.

وأبو بكر وعمر كانت لهما قصة في التنافس عجيبة:

كان أبو بكر يسبق عمر دائماً، فلما جاءت غزوة تبوك ودعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه للتبرع والإنفاق، عقد عمر في نفسه عزماً ونيةً خالصةً لله سبحانه وتعالى أن يسبق أبا بكر ، فقال: اليوم أسبق أبا بكر ، فماذا فعل؟ جاء بشطر ماله.

الآن إذا أخرج الإنسان الزكاة وزاد عليها يسيراً حسبها، أما هذا فقد جاء بنصف رأس المال والميزانية كلها، فلما وافى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (ما أبقيت لأهلك يا عمر ، قال: أبقيت لهما الله ورسوله وشطر مالي، فوافى أبو بكر بعده بقليل، وأتى بما عنده، فقال له الرسول: ما أبقيت لأهلك يا أبا بكر ، قال: أبقيت لهما الله ورسوله، فقال عمر رضي الله عنه: والله لا أزرؤك يا أبا بكر بعدها) أي:أنت السابق الذي لا تنافس أبداً.

والناس -كما أشرنا- يتنافسون في أمر الدنيا، وفي اختبار الدنيا، ونحن نرى هذا التنافس ظاهراً جلياً بين الطلاب، فينبغي أن نلتفت إلى التنافس في أمر الآخرة؛ لأن طبيعة الآخرة أيضاً تنافس، فالرسول عليه الصلاة والسلام علم أصحابه التنافس في أمر الآخرة أيضاً، فكانوا لا يتقاعسون عن فضل، ولا يقدم أحدهم غيره في أجر وثواب أبداً، بل كانوا يبتدرون ويستبقون، لما رفع الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أحد سيفه، قال: (من يأخذ هذا بحقه)، ابتدره أبو دجانة رضي الله عنه، وهكذا.

الاختبارات محددة المنهج واضحة المعالم

الاختبارات اليوم محددة المنهج، لا نجد في اختبارات الطلاب أن مادة الجغرافيا تختبر بدون منهج، بل هناك منهج محدد وواضح، عنده نصف الكتاب أو ربعه، فهذا الوضوح هو الذي يعين على تجاوز الاختبار، وإلا لو ترك الاختبار هكذا، فإن بعض المدرسين يأتي أحياناً في أثناء الدراسة ويقول للطلاب: كل واحد يخرج ورقته ويسألهم سؤالاً مباغتاً، أو يسألهم في أمر لم يتهيئوا له، فلا يحسنون الإجابة.

أما هنا فالاختبارات في غالبها واضحة ومحددة المنهج، وهذا الذي يجعل الطالب يستطيع أن يجيب ويحسن الإجابة، والله سبحانه وتعالى جعل أمر الآخرة وطبيعة الاختبار الأعظم أنه واضح ومحدد، وما تركه هكذا مجهولاً.

إن الله سبحانه وتعالى بين الإيمان، والعبادة والأخلاق، وقال الله سبحانه وتعالى في أخبار الكفار يوم القيامة: سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ [الملك:8-9]، حدد الله سبحانه وتعالى لهم المنهج من عنده عن طريق الرسل، وحدد لهم طبيعة الاختبار وطريقة الاختبار، ولكن الناس عن ذلك غافلون، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك)، منهج واضح، كما أن اختبارات الدنيا مناهجها واضحة، والمطلوب فيها محدد.

جاء الأعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن الإيمان، ثم يسأل بعد ذلك عن فرائضه، فقال له: الصلوات الخمس. صيام شهر رمضان. حج البيت. الزكاة، قال هل عليَّ شيء بعدها؟ قال: لا ، فخرج وولى، وقال: والله لا أزيد عليها ولا أنقص منها، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفلح إن صدق)، هذا المنهج محدد، مطلوب منك الإيمان بالله وببقية أركان الإيمان، وفرائضه محدودة ليس فيها مشقة ولا عسر.

الاختبارات تحتاج إلى جد ونشاط

ثم اختبارات الطلاب الدنيوية تحتاج إلى جد ونشاط؛ فلا نرى أحداً في وقت الاختبارات ينام ويفرط ويهمل، بل يستعد ويجد ويشمر، ولا يترك فرصةً تضيع، وإن سئل عن سبب هذا قال: لأن الأمر جد، والوقت قد ضاع، وأحتاج إلى أن أصل إلى شاطئ الأمان وبر النجاة، وهو تجاوز الاختبار وحصول النجاح.

فإذاً: لما أراد الهدف والغاية أخذ لها طريقها وهو الجد والاجتهاد، أما إذا لم يأخذ بالجد فإنه لا يحصل النتيجة، ويكون عند الناس أحمق ومفرطاً ومقصراً.

تبغي النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تمشي على اليبس

ولذلك بين الله سبحانه وتعالى لنا أن الأمر بالنسبة للآخرة لا ينال إلا بالجد.

أما المنافقون فقد وصفهم الله سبحانه وتعالى فقال: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:142]، هذا الكسول المتثاقل لا ينجح النجاح المطلوب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ [التوبة:38] تكاسل، قعد، أخلد إلى الأرض واتبع هواه، هذا الذي لا يأخذ بالجد والمعالي من الأمور لا يستطيع أن يكون ناجحاً متفوقاً؛ لأن الله سبحانه وتعالى وصف أهل الجد فقال: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17-18]، يجدون حتى يحصلون النجاح، ويسعون إلى الوصول إلى بر الأمان.

بعض الناس إذا قيل له في الجد في أمر الدين لم يستجب، وإن كان يجد في أمر الدنيا غالباً، ولا تحتاج أن توصيه في أمر الدنيا، فالطلاب في غالب الأمر لا يحتاجون في أيام الاختبارات أن يوصيهم أحد بالجد، كل يجد بقدر طاقته، وبأقصى حد عنده، لكن إن جئت للناس وقلت لهم: جدوا في أمر الدين وخذوا بمعالي الأمور، قالوا: إن الدين يسر، وقرءوا: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، وقال: (إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق) ويأتي أحدهم بأحاديث وآيات يضعها في غير موضعها، وهو مفرط في جنب الله سبحانه وتعالى، ومقصر عن التشمير والجد، كما ذكر أبي بن كعب رضي الله عنه لـعمر بن الخطاب لما سأله عن التقوى؟ قال: أرأيت لو كنت تسير في أرض ذات شوك، ماذا كنت تصنع يا أمير المؤمنين؟ قال: أشمر وأجتهد، قال: فتلك التقوى.

من أراد أن ينجح في اختبار الآخرة فلا بد أن يحقق ما يحققه في الدنيا من الجد والاجتهاد وبذل النشاط، إلى أقصى غاية كما علمنا المصطفى صلى الله عليه وسلم في موقفه العظيم الذي لا يقوى عليه أحد بعده، ولا يصل أحد فيه إلى تلك المرتبة: (كان يقوم حتى تتفطر قدماه، فتقول له عائشة : لم تفعل ذلك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً)، صلى الله عليه وسلم، فجد كما تجد في أمر الدنيا، ولابد من الجد في أمر الآخرة.

أيام خوف وفزع واضطراب

تجد الطالب أيام الاختبارات في هلع وقلق، إذا نام فهو خفيف النوم، وإذا أكل فهو سريع الطعام، ولا يطمئن له جنب، ولا تغمض له عين، ولا يسكن له قلب، لأن عنده ما يشغله.

ولماذا ينشغل عقله ويتعلق قلبه؟ لأنه مرتبط بأمر يرى فيه مصلحة، ويرى من ورائه خيراً، فكيف وأنت تفكر في أمر الآخرة واختبار الآخرة، إن تفكرت ينبغي أن تكون على جزع وخوف واضطراب؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بين هذا النهج القويم بياناً انخلعت له قلوب الصحابة، وذرفت له عيونهم، واقشعرت منه جلودهم، وكانوا منه على خوف عظيم؛ لما قال صلى الله عليه وسلم: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله)، تخويفاً من الاطمئنان إلى نتيجة الاختبار، ما الذي يخوف الطالب؟ هو يستعد ويأخذ، لكنه لا يطمئن ولا يركن.

وكذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه قال: (كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم قرنه، وحنى جبهته ينتظر الأمر بالنفخ في الصور).

هذه معالم لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقصد بها مبالغةً في اللفظ، وإنما قصد بها غزواً للقلوب؛ حتى يرسخ فيها الخوف من عذاب الله الذي يدفعها إلى طلب رحمة الله سبحانه وتعالى بالعمل الصالح، وبالتقرب إلى الله جل وعلا.

وحينما يكون الإنسان على هذا الخوف والاضطراب في أمر الدنيا واختبارها وهو أمر ميسور، وعاقبته قاصرة على الدنيا، فينبغي أن يكون على هذا النهج وأعظم أيضاً في اختبار الآخرة، فإن عائشة رضي الله عنها في حديثها الصحيح ترسم منهجاً عجيباً ينبغي أن يتفطن له المؤمن، وذلك أنها لما سمعت قول الله سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60]، قالت عائشة رضي الله عنها: هؤلاء يعملون أعمالاً ويخافون؛ لأنهم سيرجعون إلى الله، فتوقعت وتصورت أن تكون هذه الأعمال أعمالاً سيئة قبيحة، فقالت لرسولنا صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! هو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر ثم يخاف؟..) تعني: يعمل السيئات ويخاف لأنه عمل أموراً منكرة يستوجب عليها العقوبة والعذاب، فقال لها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يا ابنة الصديق ! ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخشى ألا يقبل منه)، هكذا رسم الرسول عليه الصلاة والسلام المنهج، أن تعمل وأنت على خوف ألا يقبل منك.

أما الحسن البصري رحمة الله عليه ورضي الله عنه فيخط في مقالته منهجاً عظيماً عجيباً، فيقول رحمة الله عليه: لقد لقيت أقواماً هم أخوف على حسناتهم ألا تقبل منهم أكثر من خوفكم من سيئاتكم أن تحاسبوا عليها.

يعني: أنتم تعملون سيئات، وخوفكم قليل، وأولئكم يعملون الصالحات وخوفهم عظيم ألا تقبل منهم.

وكان الحسن رضي الله عنه ورحمه يبكي، فيقال له: لم تبكي؟ قال: أخشى أن يطلع الله علي وأنا في بعض ذنبي، أو قد عملت ذنباً، فيقول: يا حسن اعمل فلا أقبل منك أبدًا.

من كان يخاف، ويضطرب، ويقلق، ويجزع، ولا يطمئن له جنب، ولا تغمض له عين، كل ذلكم تخوف من هذا الاختبار الدنيوي، فالأولى أن يعرف طبيعة اختبار الآخرة، وأن يتدبر ويتأمل، ويكون على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخرج في ظلمة الليل، وينسل من بيت عائشة رضي الله عنها، فإذا هو يخرج إلى البقيع يتفقد الموتى، ويدعو كالمودع للأموات صلى الله عليه وسلم.

طبيعة هذه الاختبارات هي أول أمر نعرض له:

معلوم عند الطلاب أن الاختبارات فيها طابع التنافس والحماس؛ كيما يتفوق الواحد على بقية زملائه، أو يحصل على درجة أعلى، أو يحظى بتقدير أرفع، وبالجملة فإننا نجد الناس في اختبارات الدنيا يتنافسون تنافساً شديداً، سواء في هذه الاختبارات أو حتى اختبارات الوظائف، إذا كان هناك وظيفة يتقدم لها جمع من الناس، فإنهم يتنافسون تنافساً شديداً في التحضير والإعداد لها حتى لو كان الأمر يحتاج إلى أن يحسن من هيئته، أو أن يعد من يتوسط له، ويأخذ بكل الأسباب في سبيل التنافس.

والله سبحانه وتعالى جعل التنافس الحقيقي في ميدان الآخرة، وقال جل وعلا: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]، وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم تربوا في مدرسة النبوة، فعلمونا بأفعالهم ما يكون فيه التنافس، وفي أي شيء يكون التسابق؛ لأن الله سبحانه وتعالى دعاهم فقال: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:133]، الأمر لا يحتاج إلى تباطؤ، بل يحتاج كما قال الله سبحانه وتعالى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148]، وكما قال رسولنا صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال سبعاً، هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنىً مطغياً، أو هرماً مفنداً، أو مرضاً مقعداً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر)، والله سبحانه وتعالى يقول: وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النحل:77].

وهذه أمثلة من واقع أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام وما كانوا فيه يتنافسون:

جاء أبو ذر رضي الله عنه -كما في الصحيح- ومعه نفر من فقراء أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام يقولون: (ذهب أهل الدثور بالأجور)، أصحاب الأموال سبقونا ونافسونا، فأخذوا أكثر منا، وحازوا على درجات أعلى، وأصبحت تقديراتهم أرفع، ولم؟

قالوا: (يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم)، فماذا قال لهم الرسول؟ قال: (أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به، بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وحملك للرجل متاعه على دابته صدقة)، ماذا عمل الأغنياء الأثرياء؟ فكروا وتنافسوا فأخذوا بهذا، فتساووا مرة أخرى، وعاد التنافس، فجاء الفقراء وقالوا: (يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور؛ يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، ويسبحون كما نسبح، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)، كان تنافسهم شديداً في هذا الباب.

وأبو بكر وعمر كانت لهما قصة في التنافس عجيبة:

كان أبو بكر يسبق عمر دائماً، فلما جاءت غزوة تبوك ودعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه للتبرع والإنفاق، عقد عمر في نفسه عزماً ونيةً خالصةً لله سبحانه وتعالى أن يسبق أبا بكر ، فقال: اليوم أسبق أبا بكر ، فماذا فعل؟ جاء بشطر ماله.

الآن إذا أخرج الإنسان الزكاة وزاد عليها يسيراً حسبها، أما هذا فقد جاء بنصف رأس المال والميزانية كلها، فلما وافى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (ما أبقيت لأهلك يا عمر ، قال: أبقيت لهما الله ورسوله وشطر مالي، فوافى أبو بكر بعده بقليل، وأتى بما عنده، فقال له الرسول: ما أبقيت لأهلك يا أبا بكر ، قال: أبقيت لهما الله ورسوله، فقال عمر رضي الله عنه: والله لا أزرؤك يا أبا بكر بعدها) أي:أنت السابق الذي لا تنافس أبداً.

والناس -كما أشرنا- يتنافسون في أمر الدنيا، وفي اختبار الدنيا، ونحن نرى هذا التنافس ظاهراً جلياً بين الطلاب، فينبغي أن نلتفت إلى التنافس في أمر الآخرة؛ لأن طبيعة الآخرة أيضاً تنافس، فالرسول عليه الصلاة والسلام علم أصحابه التنافس في أمر الآخرة أيضاً، فكانوا لا يتقاعسون عن فضل، ولا يقدم أحدهم غيره في أجر وثواب أبداً، بل كانوا يبتدرون ويستبقون، لما رفع الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أحد سيفه، قال: (من يأخذ هذا بحقه)، ابتدره أبو دجانة رضي الله عنه، وهكذا.

الاختبارات اليوم محددة المنهج، لا نجد في اختبارات الطلاب أن مادة الجغرافيا تختبر بدون منهج، بل هناك منهج محدد وواضح، عنده نصف الكتاب أو ربعه، فهذا الوضوح هو الذي يعين على تجاوز الاختبار، وإلا لو ترك الاختبار هكذا، فإن بعض المدرسين يأتي أحياناً في أثناء الدراسة ويقول للطلاب: كل واحد يخرج ورقته ويسألهم سؤالاً مباغتاً، أو يسألهم في أمر لم يتهيئوا له، فلا يحسنون الإجابة.

أما هنا فالاختبارات في غالبها واضحة ومحددة المنهج، وهذا الذي يجعل الطالب يستطيع أن يجيب ويحسن الإجابة، والله سبحانه وتعالى جعل أمر الآخرة وطبيعة الاختبار الأعظم أنه واضح ومحدد، وما تركه هكذا مجهولاً.

إن الله سبحانه وتعالى بين الإيمان، والعبادة والأخلاق، وقال الله سبحانه وتعالى في أخبار الكفار يوم القيامة: سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ [الملك:8-9]، حدد الله سبحانه وتعالى لهم المنهج من عنده عن طريق الرسل، وحدد لهم طبيعة الاختبار وطريقة الاختبار، ولكن الناس عن ذلك غافلون، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك)، منهج واضح، كما أن اختبارات الدنيا مناهجها واضحة، والمطلوب فيها محدد.

جاء الأعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن الإيمان، ثم يسأل بعد ذلك عن فرائضه، فقال له: الصلوات الخمس. صيام شهر رمضان. حج البيت. الزكاة، قال هل عليَّ شيء بعدها؟ قال: لا ، فخرج وولى، وقال: والله لا أزيد عليها ولا أنقص منها، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفلح إن صدق)، هذا المنهج محدد، مطلوب منك الإيمان بالله وببقية أركان الإيمان، وفرائضه محدودة ليس فيها مشقة ولا عسر.

ثم اختبارات الطلاب الدنيوية تحتاج إلى جد ونشاط؛ فلا نرى أحداً في وقت الاختبارات ينام ويفرط ويهمل، بل يستعد ويجد ويشمر، ولا يترك فرصةً تضيع، وإن سئل عن سبب هذا قال: لأن الأمر جد، والوقت قد ضاع، وأحتاج إلى أن أصل إلى شاطئ الأمان وبر النجاة، وهو تجاوز الاختبار وحصول النجاح.

فإذاً: لما أراد الهدف والغاية أخذ لها طريقها وهو الجد والاجتهاد، أما إذا لم يأخذ بالجد فإنه لا يحصل النتيجة، ويكون عند الناس أحمق ومفرطاً ومقصراً.

تبغي النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تمشي على اليبس

ولذلك بين الله سبحانه وتعالى لنا أن الأمر بالنسبة للآخرة لا ينال إلا بالجد.

أما المنافقون فقد وصفهم الله سبحانه وتعالى فقال: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:142]، هذا الكسول المتثاقل لا ينجح النجاح المطلوب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ [التوبة:38] تكاسل، قعد، أخلد إلى الأرض واتبع هواه، هذا الذي لا يأخذ بالجد والمعالي من الأمور لا يستطيع أن يكون ناجحاً متفوقاً؛ لأن الله سبحانه وتعالى وصف أهل الجد فقال: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17-18]، يجدون حتى يحصلون النجاح، ويسعون إلى الوصول إلى بر الأمان.

بعض الناس إذا قيل له في الجد في أمر الدين لم يستجب، وإن كان يجد في أمر الدنيا غالباً، ولا تحتاج أن توصيه في أمر الدنيا، فالطلاب في غالب الأمر لا يحتاجون في أيام الاختبارات أن يوصيهم أحد بالجد، كل يجد بقدر طاقته، وبأقصى حد عنده، لكن إن جئت للناس وقلت لهم: جدوا في أمر الدين وخذوا بمعالي الأمور، قالوا: إن الدين يسر، وقرءوا: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، وقال: (إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق) ويأتي أحدهم بأحاديث وآيات يضعها في غير موضعها، وهو مفرط في جنب الله سبحانه وتعالى، ومقصر عن التشمير والجد، كما ذكر أبي بن كعب رضي الله عنه لـعمر بن الخطاب لما سأله عن التقوى؟ قال: أرأيت لو كنت تسير في أرض ذات شوك، ماذا كنت تصنع يا أمير المؤمنين؟ قال: أشمر وأجتهد، قال: فتلك التقوى.

من أراد أن ينجح في اختبار الآخرة فلا بد أن يحقق ما يحققه في الدنيا من الجد والاجتهاد وبذل النشاط، إلى أقصى غاية كما علمنا المصطفى صلى الله عليه وسلم في موقفه العظيم الذي لا يقوى عليه أحد بعده، ولا يصل أحد فيه إلى تلك المرتبة: (كان يقوم حتى تتفطر قدماه، فتقول له عائشة : لم تفعل ذلك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً)، صلى الله عليه وسلم، فجد كما تجد في أمر الدنيا، ولابد من الجد في أمر الآخرة.

تجد الطالب أيام الاختبارات في هلع وقلق، إذا نام فهو خفيف النوم، وإذا أكل فهو سريع الطعام، ولا يطمئن له جنب، ولا تغمض له عين، ولا يسكن له قلب، لأن عنده ما يشغله.

ولماذا ينشغل عقله ويتعلق قلبه؟ لأنه مرتبط بأمر يرى فيه مصلحة، ويرى من ورائه خيراً، فكيف وأنت تفكر في أمر الآخرة واختبار الآخرة، إن تفكرت ينبغي أن تكون على جزع وخوف واضطراب؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بين هذا النهج القويم بياناً انخلعت له قلوب الصحابة، وذرفت له عيونهم، واقشعرت منه جلودهم، وكانوا منه على خوف عظيم؛ لما قال صلى الله عليه وسلم: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله)، تخويفاً من الاطمئنان إلى نتيجة الاختبار، ما الذي يخوف الطالب؟ هو يستعد ويأخذ، لكنه لا يطمئن ولا يركن.

وكذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه قال: (كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم قرنه، وحنى جبهته ينتظر الأمر بالنفخ في الصور).

هذه معالم لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقصد بها مبالغةً في اللفظ، وإنما قصد بها غزواً للقلوب؛ حتى يرسخ فيها الخوف من عذاب الله الذي يدفعها إلى طلب رحمة الله سبحانه وتعالى بالعمل الصالح، وبالتقرب إلى الله جل وعلا.

وحينما يكون الإنسان على هذا الخوف والاضطراب في أمر الدنيا واختبارها وهو أمر ميسور، وعاقبته قاصرة على الدنيا، فينبغي أن يكون على هذا النهج وأعظم أيضاً في اختبار الآخرة، فإن عائشة رضي الله عنها في حديثها الصحيح ترسم منهجاً عجيباً ينبغي أن يتفطن له المؤمن، وذلك أنها لما سمعت قول الله سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60]، قالت عائشة رضي الله عنها: هؤلاء يعملون أعمالاً ويخافون؛ لأنهم سيرجعون إلى الله، فتوقعت وتصورت أن تكون هذه الأعمال أعمالاً سيئة قبيحة، فقالت لرسولنا صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! هو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر ثم يخاف؟..) تعني: يعمل السيئات ويخاف لأنه عمل أموراً منكرة يستوجب عليها العقوبة والعذاب، فقال لها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يا ابنة الصديق ! ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخشى ألا يقبل منه)، هكذا رسم الرسول عليه الصلاة والسلام المنهج، أن تعمل وأنت على خوف ألا يقبل منك.

أما الحسن البصري رحمة الله عليه ورضي الله عنه فيخط في مقالته منهجاً عظيماً عجيباً، فيقول رحمة الله عليه: لقد لقيت أقواماً هم أخوف على حسناتهم ألا تقبل منهم أكثر من خوفكم من سيئاتكم أن تحاسبوا عليها.

يعني: أنتم تعملون سيئات، وخوفكم قليل، وأولئكم يعملون الصالحات وخوفهم عظيم ألا تقبل منهم.

وكان الحسن رضي الله عنه ورحمه يبكي، فيقال له: لم تبكي؟ قال: أخشى أن يطلع الله علي وأنا في بعض ذنبي، أو قد عملت ذنباً، فيقول: يا حسن اعمل فلا أقبل منك أبدًا.

من كان يخاف، ويضطرب، ويقلق، ويجزع، ولا يطمئن له جنب، ولا تغمض له عين، كل ذلكم تخوف من هذا الاختبار الدنيوي، فالأولى أن يعرف طبيعة اختبار الآخرة، وأن يتدبر ويتأمل، ويكون على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخرج في ظلمة الليل، وينسل من بيت عائشة رضي الله عنها، فإذا هو يخرج إلى البقيع يتفقد الموتى، ويدعو كالمودع للأموات صلى الله عليه وسلم.