شرح زاد المستقنع كتاب الوصايا [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [يسن لمن ترك خيراً].

شرع المصنف رحمه الله في بيان الأحكام والمسائل المتعلقة بالوصية، فابتدأ بمسألة حكم الوصية، فبين رحمه الله أن من السنة واتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يوصي المسلم وتكون وصيته بعد موته، وهذا هو الذي دل عليه كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد عبر المصنف رحمه الله بقوله: (يسن)، ومعنى ذلك: أن الوصية ليست بواجبة، وهذا هو قول جمهور العلماء رحمهم الله، أن الوصية تعتريها عدة أحكام؛ فتارة تكون واجبة لازمة، وتارة تكون مندوبة مستحبة، وتارة تكون محرّمة ممنوعة، وتارة تكون مكروهة يثاب تاركها، ولا يعاقب فاعلها.

فهذه أربعة أحكام تتعلق بالوصية، لكن الأصل العام أنها مسنونة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سن لأمته سنن الهدى، ومن ذلك الوصية التي يكتبها المسلم، فيأمر فيها بما أمر الله، أو ينهى فيها عما نهى الله عز وجل عنه، أو يجمع بين الأمرين.

الوصية الواجبة

أما كونها واجبة: فإن أي شخص تعلّقت به حقوق لله عز وجل أو لعباده، فإنه يجب عليه أن يَكتب وصيته، وأن ينبه على هذه الحقوق، والدليل على ذلك: أن الله فرض علينا أداء هذه الحقوق والواجبات، فقال سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]، فلو كانت عند الإنسان حقوق ومظالم للناس، ولا طريق للوصول إلى أدائها إلى أهلها والتحلل منها إلا بالوصية؛ صارت الوصية واجبة.

ومن أمثلة ذلك: لو استدان شخص مبلغاً من المال وكتب عليه صاحب المبلغ سنداً وأشهد فلا إشكال؛ لأن صاحب الحق محفوظ حقه بوجود البينة.

لكن لو أنه يُحبُّك وتحبه وبينكما مودة، وحصل شيء من الاستحياء أو الثقة، فلم تكتبا، فاطمأن إليك؛ فالواجب عليك أن تكتب في وصيتك أن لفلان علي مبلغاً من المال؛ لأنك لو لم تكتب ذلك لأدى إلى ضياع حقه وحرمانه مما له عليك، والله قد أمرك بأداء هذه الأمانة، وأداء هذا الواجب متوقف على الوصية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

إذاً: كل شخص عليه حق لله أو حق للمخلوق، فينبغي عليه أن يكتب وصيته، وأن ينبه على هذا الحق؛ صيانة لحقوق الناس، وأداءً للأمانات ووفاءً بها.

أما حقوق الله تعالى فتشمل الكفارات، كأن تكون عليه كفارات، أو تكون عليه فدية في حج أو عمرة، كما لو وقع في بعض المحظورات ولزمته الفدية ولم يؤدها؛ فالواجب عليه ألا يبيت إلا وقد كتب في وصيته أن عليه فدية من كذا وكذا، أو عليه كفارة كذا وكذا، أو عليه صيام، على القول بأن الولي يصوم عن وليّه إذا كان صيام نذر أو كان صيام كفارة، فإذا كان صياماً عن قضاء فيكتب هذا وينبِّه عليه؛ لأن الله فرض عليه أن يقوم بحقه، وقد جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: (إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى).

فمن كانت عليه حقوق لله عز وجل؛ من صيام، أو وجب عليه الحج ولكنه قصّر في ذلك مع قدرته واستطاعته؛ فالواجب أن يُخرج من تركته وماله ما يحج به عنه، أو يقوم بعض ورثته بذلك مجزياً من الله بأعظم الجزاء وأحسنه، وهذا بالنسبة لحقوق الله عز وجل.

أما حقوق المخلوقين: فمثل الدين، والودائع والأمانات، كأن تكون استعرت كتاباً من أخيك، فالواجب أن تكتب في وصيتك، وأن تُنبه على هذا الكتاب والحق الذي لأخيك المسلم، حتى لا يضيع؛ لأنك لو لم تكتب ذلك ولم تنبه عليه لربما ضاع هذا الحق، ولربما ضُم الكتاب إلى كتبك، فإذا استعار طالب العلم كتاباً فينبه أو يكتب في وصيته أن الكتاب الفلاني لفلان، وكذلك لو استعار شيئاً من أخيه؛ كالأدوات والآلات ونحو ذلك من الأشياء التي هي حقوق للناس؛ فالواجب أن يكتب ذلك في وصيته، وينبه عليه إذا توقف أداؤه على مثل هذا.

إذاً: فالوصية واجبة إذا كانت بحق لله أو حق للمخلوقين ويدخل في هذا الوصية بالأمر بما أمر الله به والنهي عما نهى الله عنه، فإذا كان يعلم أن ورثته من بعده قد يقعون في بعض المحرمات والأمور التي لا تُرضي الله عز وجل؛ فعليه أن يكتب في وصيته أنني أوصيكم بتحري السنة في تغسيلي وتكفيني وتجهيزي والصلاة علي، وإذا كان يعلم أنهم سيبالغون في البكاء فيوصيهم بأن لا يفعلوا ذلك، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه)، وقال بعض العلماء: إن هذا في حالة علم الميت أنه سيُبكى عليه ويبُالغ في البكاء حتى يوصل إلى الحد المحرم، فسكت على ذلك ولم ينه عنه.

إذاً: لابد أن تشتمل الوصية على إحقاق الحق وإبطال الباطل، فمتى ما توقف إحقاق الحق وإبطال الباطل على ذلك؛ فإنه يجب عليه أن يكتب الوصية بذلك فإنها واجبة، وهكذا إذا علم حقوقاً بين الناس، كأن يعلم أن هناك حقاً لفلان على فلان، فيكتب ذلك وينبه على ذلك.

المهم أن الوصية تكون واجبة إذا توقف عليها أداء الحقوق وردها لأهلها وأصحابها.

الوصية المستحبة

ثانياً: تكون الوصية مستحبة إذا قصد الإنسان منها سُبُل الخير، وطلب بها مرضاة الله سبحانه وتعالى في الأمور غير الواجبة عليه، مثل أن يُوصي بالصدقات، أو يوقف شيئاً من أملاكه، أو يوصي بعمل بر من بعد موته غير واجب عليه، فإذا وصَّى بمثل هذا؛ فإن الوصية تكون أفضل وأعظم استحباباً وأجراً وثواباً عند الله سبحانه وتعالى عندما تكون لأقرباء الإنسان الذين لا يرثون، فيُوصي -مثلاً- لعمه، أو لخاله، أو لأولاد عمه، أو لأولاد خاله، ويوصي لخالته، ولعمته، عندما يعلم أن هناك زيادة في المال، وأن العم والعمة والخال الخالة وجميع آله وقرابته محتاجون للمال لقضاء دين أو تفريج كربة؛ فيكتب في وصيته: أن أخرجوا من مالي مبلغ كذا لعمي، أو اجعلوا المبلغ الفلاني لأعمامي، أو اجعلوه لإخواني الذين لا يرثون؛ لأنه قد يكون عنده أبناء يحجبون الإخوة، فهو يريد أن يصل إخوانه وأخواته، ويعلم أن أخته مديونة، أو أن أخاه مديون، فأراد أن يفرِّج كربته؛ فأوصى أن يُقضى دين أخيه، أو يُقضى دين أخته، أو يوصي وصية عامة ويقول -إذا أحب أن يوصي بالثلث-: ثلث مالي يُتَصدق به على أقربائي في قضاء ديونهم، أو يكون ثلث مالي لأيتام أخي، أو يكون ربع مالي من بعد موتي لأيتام أختي، ونحو ذلك من الوصايا التي يُقصد بها البر وطاعة الله سبحانه وتعالى.

فأفضل الصلة عندما تكون للرحم، وقد اختلف العلماء رحمهم الله: هل الرحم تتساوى مراتبها من حيث العموم فكل ما كان للرحم فله فضله من دون تفصيل أم أن هناك تفصيلاً؟

فاختار بعض الأئمة وبعض المحققين رحمهم الله أن الوصية المستحبة تتفاوت درجاتها ومراتبها بحسب تفاوت القرابة والرحم، فأوّل من تقدم القرابة من جهة النسب، ثم يليهم القرابة من جهة الرضاعة، ثم يليهم القرابة من جهة المصاهرة، ثم الولاء.

فأما بالنسبة للقرابة من جهة النسب فقالوا: تقدم المحارم على غير المحارم، فمثلاً: وصيته لعمه وعمته أفضل من وصيته لابن عمه وابن عمته؛ لأن المحرَمية في العم والعمة، فإذا وصت لعمها أو وصى لعمته؛ فإن العم والعمة من المحارم، فالوصية لهم أفضل وأعظم أجراً عند الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله جعل مرتبتهم مقدمة على مرتبة غيرهم.

كذلك أيضاً لو كان له أبناء عم، وبعضهم أقرب من بعض، فمثلاً: ابن العم الشقيق الوصية له أفضل من ابن العم لأب، وابن العم الشقيق الوصية له أفضل من ابن العم لأم ونحو ذلك، فالقرابة من جهة النسب تتفاوت مراتبهم.

والذي اختاره جمع من العلماء: أن الوصية للأرحام الذين يكونون من الذكور والإناث أفضل وأعظم ثواباً عند الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك جعل الشرع لهم من الحق ما لم يجعله لغيرهم، وقال: وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ [الأنفال:75]، فقدَّمُوا الرحم - أي: المحرمية- من هذا الوجه.

ثم يأتي بعد القرابة الوصية للأقرباء من جهة الرضاعة، كأمه التي أرضعته -سواء كانت محتاجة أو غير محتاجة- ويوصي لأقربائه من جهة الرضاعة؛ كأمه وأخته وعمته من الرضاعة، ونحو ذلك من القرابات من جهة الرضاعة، ويُقدم محارمه على غيرهم، وتكون صلةً وبراً يعظُم من الله عز وجل أجرها وثوابها.

وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم عِظم أمر الرضاعة، وأن لها حقاً على المسلم، ولما خرج عليه الصلاة والسلام إلى الطائف، وقاتل هوازن، وغنم الغنائم، اتقى الله فيهم ورعى الرحم، فلم يقسم غنائم حنين مباشرة، وكان صلى الله عليه وسلم ينتظر أن يكلموه حتى لا تُسبى ذراريهم، ولا تُقسم أموالهم شفقة عليهم منه صلوات الله وسلامه عليه، وحفظاً للرضاعة من حليمة السعدية التي أرضعته صلوات الله وسلامه عليه.

فلما ذهب إلى الطائف وفتحها وبعد رجوعه ونزوله بالجعرانة قسم صلى الله عليه وسلم الغنائم، فلما قسمها تألمت هوازن، وجاءه عليه الصلاة والسلام وفدها، وقام خطيبهم وقال له: يا رسول الله! إن اللاتي بالحظائر ما هن إلا عماتك وخالاتك من الرضاعة، فتأثر عليه الصلاة والسلام أثراً بليغاً، وقال له عباس بن مرداس السلمي في أبياته المشهورة والتي منها:

امنن على نسوة قد كنت ترضعها إذ فوك تملؤه من محضها الدرر

إلى غير ذلك مما كان من الأبيات التي ذكرته حق الرضاعة، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما كان لي ولبني هاشم فهو لكم)، وقالت الأنصار مثل ذلك، وهذا كله يدل على حفظه صلى الله عليه وسلم لحق الرضاعة.

فالمرضعة والأقرباء من جهة الرضاعة يوصَلون بالوصية، وتكون الوصية مستحبة في حقهم؛ لأنهم لا يرثون.

ثم بعد الرضاعة القرابة من جهة المصاهرة، فلو لم يكن له أقرباء لا من جهة النسب، ولا من جهة الرضاعة؛ فحينئذٍ ينظر إلى أصهاره، وهم أقرباؤه من جهة زوجته أو زوجة والده أو زوجة ولده؛ فهؤلاء يصلهم لتكون رحماً وصلة يرجو ثوابها من الله سبحانه وتعالى.

هذا بالنسبة للوصية المستحبة التي تكون لغير الوارث، وتكون صلة وبراً للأقرباء، وهي أفضل وأعظم ما تكون أجراً وثواباً من الله سبحانه وتعالى، وقد قرر العلماء أن الوصية للأقرباء أعظم أجراً من الوصية لغير الأقرباء؛ لثبوت النصوص بذلك، ولذلك لما دخل عليه الصلاة والسلام على أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنه وقالت: (يا رسول الله! هل شعرت أني أعتقت فلانة -أي: أعتقتها لوجه الله- فقال صلى الله عليه وسلم: أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك).

مع أن العتق أمره عظيم، وإذا أعتق الإنسان فإنه يُعتق بكل عضوٍ من المعتَق عضو منه من النار، ومع هذا يقول لها (لو أنك أعطيتها أخوالك) أي: لو أبقيتِها على العتق ووصلت بها القرابة لكان أعظم لأجرك عند الله سبحانه وتعالى.

الوصية المحرمة

ثالثاً: وقد تكون الوصية محرمة، وهذا هو النوع الثالث من الأحكام المتعلقة بالوصية، وتكون الوصية محرمة إذا اشتملت على حرام، وقد مثّل العلماء لذلك بأن يوصي لكنيسة، أو يوصي بنسخ التوراة أو الإنجيل أو الكتب المحرفة، أو الكتب التي تشتمل على الضلالات والبدع والأهواء التي تُضل الناس وتخالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، فمثل هذه لا تُرضي الله ولا ترضي رسوله عليه الصلاة والسلام.

وكذلك إذا وصَّى بحرام؛ كأن يغضب الأخ على أخيه فيقول: لا يشهد فلان جنازتي، ولا يحضر تغسيلي ولا تكفيني، ولا يفعل كذا ولا كذا.. فهذه قطيعة للرحم، وأمر بمعصية، وأمر بما لا يحبه الله ولا يرضاه، فإن الله يحب من القريب أن يشهد قريبه، ويترحم عليه، ويدعو له، والأقرباء أبلغ شفقة من غيرهم، فإذا وصى أنه لا يدخل بيته ولا يشهد تغسيله ولا يحضُر جنازته، فهذه من القطيعة، وقد يكون هذا بين الوالد وولده والعياذ بالله! فهذه -نسأل الله السلامة والعافية- من الوصايا المحرمة.

حتى ذكر العلماء رحمهم الله أن الوصية المحرمة من علامات سوء الخاتمة -والعياذ بالله- للإنسان؛ لأنه يختم ديوانه وعمله -والعياذ بالله- بالقطيعة وبعقوق الوالدين وبالمظلمة، وإذا خُتم له بعقوق الوالدين أو عقوق الأولاد أو قطيعة الرحم؛ فإن هذه كبائر توجب دخول النار ما لم يغفر الله الذنب، فيُختم له بخاتمة سيئة تكون سبباً في دخوله النار تعذيباً إذا كان من الموحدين، ثم يخرج منها بفضل الله وهو أرحم الراحمين، وهذا ممن يعمل بعمل أهل الجنة فيسبق عليه الكتاب في بعض العمل إذا لم يكن مخلداً في النار فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها مطهّراً من ذنب كبير.

وهذا هو أحد الأوجه عند العلماء رحمهم الله في قوله عليه الصلاة والسلام : (وإن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة)، فيكون عبداً صالحاً ثم يغضب على ولده أو على قريبه، ثم يكتب هذه الوصية الجائرة الظالمة التي تشتمل على عقوق أو تشتمل على قطيعة، فيختم له -والعياذ بالله- بهذه الخاتمة السيئة، نسأل الله السلامة والعافية.

فلا يجوز أن يوصي بالمحرمات، فإذا وصى بمثل هذه الوصايا فهي وصية باطلة، ولا يجوز للورثة أن يطيعوا، ولا يجوز حتى للقريب أن يطيع قريبه في قطيعة الرحم، ولو قالت الأم: لا تزر خالك، أو لا تزر عمك، أو لا تزر قريبك؛ فلا تطاع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الطاعة في المعروف)، وهذا ليس بمعروف، ولأن الله أمرك بصلة الرحم، وغيرك نهاك عنها؛ فتُقدم أمر الله على سائر الأوامر، وطاعة الله على سائر الطاعات، فلذلك لا تنفذ مثل هذه الوصايا، ولا يجوز العمل بها.

الوصية المكروهة

رابعاً: وقد تكون الوصية مكروهة، مثل أن يكون الشخص قليل المال وورثته محتاجون لهذا المال فيُوصي بصدقة، فإن هذه الصدقة تُضيق على ورثته في الإرث، فمثلاً: لو كان الورثة محتاجين لهذا المال، أو كان عنده ولد، والولد مديون مكروب، وترك ألفاً أو ألفين قد لا تفي بسداد دينه، فجاء ووصى بثلثها، فهذا يضيق على ولده ويضيق على وارثه إلى درجة أنه قد لا ينتفع النفع المرجو من التركة، فحينئذٍ كره العلماء رحمهم الله مثل هذه الوصية، وبيّنوا أن الوصية في حق الفقير أو قليل المال مكروهة إذا كانت تضيق على الورثة وتوجب لهم ما ذكرنا من الحرج.

هذا بالنسبة لأحوال الوصية الواجبة، والمندوبة المستحبة، والمحرمة، والمكروهة، فما عدا ذلك من حيث الأصل العام فالوصية سنة، أي: سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله شرع لهذه الأمة سنن الهدى، وذلك بأقواله وأفعاله بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، التي جعلها الله أسوة للمؤمنين، وقدوة للأخيار والصالحين، فلا أكمل من هديه بأمي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه.

أما كونها واجبة: فإن أي شخص تعلّقت به حقوق لله عز وجل أو لعباده، فإنه يجب عليه أن يَكتب وصيته، وأن ينبه على هذه الحقوق، والدليل على ذلك: أن الله فرض علينا أداء هذه الحقوق والواجبات، فقال سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]، فلو كانت عند الإنسان حقوق ومظالم للناس، ولا طريق للوصول إلى أدائها إلى أهلها والتحلل منها إلا بالوصية؛ صارت الوصية واجبة.

ومن أمثلة ذلك: لو استدان شخص مبلغاً من المال وكتب عليه صاحب المبلغ سنداً وأشهد فلا إشكال؛ لأن صاحب الحق محفوظ حقه بوجود البينة.

لكن لو أنه يُحبُّك وتحبه وبينكما مودة، وحصل شيء من الاستحياء أو الثقة، فلم تكتبا، فاطمأن إليك؛ فالواجب عليك أن تكتب في وصيتك أن لفلان علي مبلغاً من المال؛ لأنك لو لم تكتب ذلك لأدى إلى ضياع حقه وحرمانه مما له عليك، والله قد أمرك بأداء هذه الأمانة، وأداء هذا الواجب متوقف على الوصية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

إذاً: كل شخص عليه حق لله أو حق للمخلوق، فينبغي عليه أن يكتب وصيته، وأن ينبه على هذا الحق؛ صيانة لحقوق الناس، وأداءً للأمانات ووفاءً بها.

أما حقوق الله تعالى فتشمل الكفارات، كأن تكون عليه كفارات، أو تكون عليه فدية في حج أو عمرة، كما لو وقع في بعض المحظورات ولزمته الفدية ولم يؤدها؛ فالواجب عليه ألا يبيت إلا وقد كتب في وصيته أن عليه فدية من كذا وكذا، أو عليه كفارة كذا وكذا، أو عليه صيام، على القول بأن الولي يصوم عن وليّه إذا كان صيام نذر أو كان صيام كفارة، فإذا كان صياماً عن قضاء فيكتب هذا وينبِّه عليه؛ لأن الله فرض عليه أن يقوم بحقه، وقد جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: (إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى).

فمن كانت عليه حقوق لله عز وجل؛ من صيام، أو وجب عليه الحج ولكنه قصّر في ذلك مع قدرته واستطاعته؛ فالواجب أن يُخرج من تركته وماله ما يحج به عنه، أو يقوم بعض ورثته بذلك مجزياً من الله بأعظم الجزاء وأحسنه، وهذا بالنسبة لحقوق الله عز وجل.

أما حقوق المخلوقين: فمثل الدين، والودائع والأمانات، كأن تكون استعرت كتاباً من أخيك، فالواجب أن تكتب في وصيتك، وأن تُنبه على هذا الكتاب والحق الذي لأخيك المسلم، حتى لا يضيع؛ لأنك لو لم تكتب ذلك ولم تنبه عليه لربما ضاع هذا الحق، ولربما ضُم الكتاب إلى كتبك، فإذا استعار طالب العلم كتاباً فينبه أو يكتب في وصيته أن الكتاب الفلاني لفلان، وكذلك لو استعار شيئاً من أخيه؛ كالأدوات والآلات ونحو ذلك من الأشياء التي هي حقوق للناس؛ فالواجب أن يكتب ذلك في وصيته، وينبه عليه إذا توقف أداؤه على مثل هذا.

إذاً: فالوصية واجبة إذا كانت بحق لله أو حق للمخلوقين ويدخل في هذا الوصية بالأمر بما أمر الله به والنهي عما نهى الله عنه، فإذا كان يعلم أن ورثته من بعده قد يقعون في بعض المحرمات والأمور التي لا تُرضي الله عز وجل؛ فعليه أن يكتب في وصيته أنني أوصيكم بتحري السنة في تغسيلي وتكفيني وتجهيزي والصلاة علي، وإذا كان يعلم أنهم سيبالغون في البكاء فيوصيهم بأن لا يفعلوا ذلك، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه)، وقال بعض العلماء: إن هذا في حالة علم الميت أنه سيُبكى عليه ويبُالغ في البكاء حتى يوصل إلى الحد المحرم، فسكت على ذلك ولم ينه عنه.

إذاً: لابد أن تشتمل الوصية على إحقاق الحق وإبطال الباطل، فمتى ما توقف إحقاق الحق وإبطال الباطل على ذلك؛ فإنه يجب عليه أن يكتب الوصية بذلك فإنها واجبة، وهكذا إذا علم حقوقاً بين الناس، كأن يعلم أن هناك حقاً لفلان على فلان، فيكتب ذلك وينبه على ذلك.

المهم أن الوصية تكون واجبة إذا توقف عليها أداء الحقوق وردها لأهلها وأصحابها.

ثانياً: تكون الوصية مستحبة إذا قصد الإنسان منها سُبُل الخير، وطلب بها مرضاة الله سبحانه وتعالى في الأمور غير الواجبة عليه، مثل أن يُوصي بالصدقات، أو يوقف شيئاً من أملاكه، أو يوصي بعمل بر من بعد موته غير واجب عليه، فإذا وصَّى بمثل هذا؛ فإن الوصية تكون أفضل وأعظم استحباباً وأجراً وثواباً عند الله سبحانه وتعالى عندما تكون لأقرباء الإنسان الذين لا يرثون، فيُوصي -مثلاً- لعمه، أو لخاله، أو لأولاد عمه، أو لأولاد خاله، ويوصي لخالته، ولعمته، عندما يعلم أن هناك زيادة في المال، وأن العم والعمة والخال الخالة وجميع آله وقرابته محتاجون للمال لقضاء دين أو تفريج كربة؛ فيكتب في وصيته: أن أخرجوا من مالي مبلغ كذا لعمي، أو اجعلوا المبلغ الفلاني لأعمامي، أو اجعلوه لإخواني الذين لا يرثون؛ لأنه قد يكون عنده أبناء يحجبون الإخوة، فهو يريد أن يصل إخوانه وأخواته، ويعلم أن أخته مديونة، أو أن أخاه مديون، فأراد أن يفرِّج كربته؛ فأوصى أن يُقضى دين أخيه، أو يُقضى دين أخته، أو يوصي وصية عامة ويقول -إذا أحب أن يوصي بالثلث-: ثلث مالي يُتَصدق به على أقربائي في قضاء ديونهم، أو يكون ثلث مالي لأيتام أخي، أو يكون ربع مالي من بعد موتي لأيتام أختي، ونحو ذلك من الوصايا التي يُقصد بها البر وطاعة الله سبحانه وتعالى.

فأفضل الصلة عندما تكون للرحم، وقد اختلف العلماء رحمهم الله: هل الرحم تتساوى مراتبها من حيث العموم فكل ما كان للرحم فله فضله من دون تفصيل أم أن هناك تفصيلاً؟

فاختار بعض الأئمة وبعض المحققين رحمهم الله أن الوصية المستحبة تتفاوت درجاتها ومراتبها بحسب تفاوت القرابة والرحم، فأوّل من تقدم القرابة من جهة النسب، ثم يليهم القرابة من جهة الرضاعة، ثم يليهم القرابة من جهة المصاهرة، ثم الولاء.

فأما بالنسبة للقرابة من جهة النسب فقالوا: تقدم المحارم على غير المحارم، فمثلاً: وصيته لعمه وعمته أفضل من وصيته لابن عمه وابن عمته؛ لأن المحرَمية في العم والعمة، فإذا وصت لعمها أو وصى لعمته؛ فإن العم والعمة من المحارم، فالوصية لهم أفضل وأعظم أجراً عند الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله جعل مرتبتهم مقدمة على مرتبة غيرهم.

كذلك أيضاً لو كان له أبناء عم، وبعضهم أقرب من بعض، فمثلاً: ابن العم الشقيق الوصية له أفضل من ابن العم لأب، وابن العم الشقيق الوصية له أفضل من ابن العم لأم ونحو ذلك، فالقرابة من جهة النسب تتفاوت مراتبهم.

والذي اختاره جمع من العلماء: أن الوصية للأرحام الذين يكونون من الذكور والإناث أفضل وأعظم ثواباً عند الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك جعل الشرع لهم من الحق ما لم يجعله لغيرهم، وقال: وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ [الأنفال:75]، فقدَّمُوا الرحم - أي: المحرمية- من هذا الوجه.

ثم يأتي بعد القرابة الوصية للأقرباء من جهة الرضاعة، كأمه التي أرضعته -سواء كانت محتاجة أو غير محتاجة- ويوصي لأقربائه من جهة الرضاعة؛ كأمه وأخته وعمته من الرضاعة، ونحو ذلك من القرابات من جهة الرضاعة، ويُقدم محارمه على غيرهم، وتكون صلةً وبراً يعظُم من الله عز وجل أجرها وثوابها.

وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم عِظم أمر الرضاعة، وأن لها حقاً على المسلم، ولما خرج عليه الصلاة والسلام إلى الطائف، وقاتل هوازن، وغنم الغنائم، اتقى الله فيهم ورعى الرحم، فلم يقسم غنائم حنين مباشرة، وكان صلى الله عليه وسلم ينتظر أن يكلموه حتى لا تُسبى ذراريهم، ولا تُقسم أموالهم شفقة عليهم منه صلوات الله وسلامه عليه، وحفظاً للرضاعة من حليمة السعدية التي أرضعته صلوات الله وسلامه عليه.

فلما ذهب إلى الطائف وفتحها وبعد رجوعه ونزوله بالجعرانة قسم صلى الله عليه وسلم الغنائم، فلما قسمها تألمت هوازن، وجاءه عليه الصلاة والسلام وفدها، وقام خطيبهم وقال له: يا رسول الله! إن اللاتي بالحظائر ما هن إلا عماتك وخالاتك من الرضاعة، فتأثر عليه الصلاة والسلام أثراً بليغاً، وقال له عباس بن مرداس السلمي في أبياته المشهورة والتي منها:

امنن على نسوة قد كنت ترضعها إذ فوك تملؤه من محضها الدرر

إلى غير ذلك مما كان من الأبيات التي ذكرته حق الرضاعة، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما كان لي ولبني هاشم فهو لكم)، وقالت الأنصار مثل ذلك، وهذا كله يدل على حفظه صلى الله عليه وسلم لحق الرضاعة.

فالمرضعة والأقرباء من جهة الرضاعة يوصَلون بالوصية، وتكون الوصية مستحبة في حقهم؛ لأنهم لا يرثون.

ثم بعد الرضاعة القرابة من جهة المصاهرة، فلو لم يكن له أقرباء لا من جهة النسب، ولا من جهة الرضاعة؛ فحينئذٍ ينظر إلى أصهاره، وهم أقرباؤه من جهة زوجته أو زوجة والده أو زوجة ولده؛ فهؤلاء يصلهم لتكون رحماً وصلة يرجو ثوابها من الله سبحانه وتعالى.

هذا بالنسبة للوصية المستحبة التي تكون لغير الوارث، وتكون صلة وبراً للأقرباء، وهي أفضل وأعظم ما تكون أجراً وثواباً من الله سبحانه وتعالى، وقد قرر العلماء أن الوصية للأقرباء أعظم أجراً من الوصية لغير الأقرباء؛ لثبوت النصوص بذلك، ولذلك لما دخل عليه الصلاة والسلام على أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنه وقالت: (يا رسول الله! هل شعرت أني أعتقت فلانة -أي: أعتقتها لوجه الله- فقال صلى الله عليه وسلم: أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك).

مع أن العتق أمره عظيم، وإذا أعتق الإنسان فإنه يُعتق بكل عضوٍ من المعتَق عضو منه من النار، ومع هذا يقول لها (لو أنك أعطيتها أخوالك) أي: لو أبقيتِها على العتق ووصلت بها القرابة لكان أعظم لأجرك عند الله سبحانه وتعالى.

ثالثاً: وقد تكون الوصية محرمة، وهذا هو النوع الثالث من الأحكام المتعلقة بالوصية، وتكون الوصية محرمة إذا اشتملت على حرام، وقد مثّل العلماء لذلك بأن يوصي لكنيسة، أو يوصي بنسخ التوراة أو الإنجيل أو الكتب المحرفة، أو الكتب التي تشتمل على الضلالات والبدع والأهواء التي تُضل الناس وتخالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، فمثل هذه لا تُرضي الله ولا ترضي رسوله عليه الصلاة والسلام.

وكذلك إذا وصَّى بحرام؛ كأن يغضب الأخ على أخيه فيقول: لا يشهد فلان جنازتي، ولا يحضر تغسيلي ولا تكفيني، ولا يفعل كذا ولا كذا.. فهذه قطيعة للرحم، وأمر بمعصية، وأمر بما لا يحبه الله ولا يرضاه، فإن الله يحب من القريب أن يشهد قريبه، ويترحم عليه، ويدعو له، والأقرباء أبلغ شفقة من غيرهم، فإذا وصى أنه لا يدخل بيته ولا يشهد تغسيله ولا يحضُر جنازته، فهذه من القطيعة، وقد يكون هذا بين الوالد وولده والعياذ بالله! فهذه -نسأل الله السلامة والعافية- من الوصايا المحرمة.

حتى ذكر العلماء رحمهم الله أن الوصية المحرمة من علامات سوء الخاتمة -والعياذ بالله- للإنسان؛ لأنه يختم ديوانه وعمله -والعياذ بالله- بالقطيعة وبعقوق الوالدين وبالمظلمة، وإذا خُتم له بعقوق الوالدين أو عقوق الأولاد أو قطيعة الرحم؛ فإن هذه كبائر توجب دخول النار ما لم يغفر الله الذنب، فيُختم له بخاتمة سيئة تكون سبباً في دخوله النار تعذيباً إذا كان من الموحدين، ثم يخرج منها بفضل الله وهو أرحم الراحمين، وهذا ممن يعمل بعمل أهل الجنة فيسبق عليه الكتاب في بعض العمل إذا لم يكن مخلداً في النار فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها مطهّراً من ذنب كبير.

وهذا هو أحد الأوجه عند العلماء رحمهم الله في قوله عليه الصلاة والسلام : (وإن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة)، فيكون عبداً صالحاً ثم يغضب على ولده أو على قريبه، ثم يكتب هذه الوصية الجائرة الظالمة التي تشتمل على عقوق أو تشتمل على قطيعة، فيختم له -والعياذ بالله- بهذه الخاتمة السيئة، نسأل الله السلامة والعافية.

فلا يجوز أن يوصي بالمحرمات، فإذا وصى بمثل هذه الوصايا فهي وصية باطلة، ولا يجوز للورثة أن يطيعوا، ولا يجوز حتى للقريب أن يطيع قريبه في قطيعة الرحم، ولو قالت الأم: لا تزر خالك، أو لا تزر عمك، أو لا تزر قريبك؛ فلا تطاع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الطاعة في المعروف)، وهذا ليس بمعروف، ولأن الله أمرك بصلة الرحم، وغيرك نهاك عنها؛ فتُقدم أمر الله على سائر الأوامر، وطاعة الله على سائر الطاعات، فلذلك لا تنفذ مثل هذه الوصايا، ولا يجوز العمل بها.

رابعاً: وقد تكون الوصية مكروهة، مثل أن يكون الشخص قليل المال وورثته محتاجون لهذا المال فيُوصي بصدقة، فإن هذه الصدقة تُضيق على ورثته في الإرث، فمثلاً: لو كان الورثة محتاجين لهذا المال، أو كان عنده ولد، والولد مديون مكروب، وترك ألفاً أو ألفين قد لا تفي بسداد دينه، فجاء ووصى بثلثها، فهذا يضيق على ولده ويضيق على وارثه إلى درجة أنه قد لا ينتفع النفع المرجو من التركة، فحينئذٍ كره العلماء رحمهم الله مثل هذه الوصية، وبيّنوا أن الوصية في حق الفقير أو قليل المال مكروهة إذا كانت تضيق على الورثة وتوجب لهم ما ذكرنا من الحرج.

هذا بالنسبة لأحوال الوصية الواجبة، والمندوبة المستحبة، والمحرمة، والمكروهة، فما عدا ذلك من حيث الأصل العام فالوصية سنة، أي: سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله شرع لهذه الأمة سنن الهدى، وذلك بأقواله وأفعاله بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، التي جعلها الله أسوة للمؤمنين، وقدوة للأخيار والصالحين، فلا أكمل من هديه بأمي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه.