الدين في حياة المسلمين [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله له الفضل والمنة، ومنه الرزق والنعمة، وعليه التوكل والاعتماد، وبه الهدى والرشاد، نحمده سبحانه وتعالى هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وأسمع به آذاناً صماً، وفتح به قلوباً غلفاً، وكثرنا به من بعد قلة، وأعزنا من بعد ذلة.

وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته صلى الله وسلم وبارك على آله وصحابته أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون! الدين في حياة المسلمين موضوع مهم، عندما كان الحديث عنه في الجمعة الماضية وجدت له عند كثير من الإخوة أصداء حسنة، وتعليقات كثيرة، ومطالبات عديدة، ذلك أن مثل هذا الموضوع يخصنا في أعظم الأمور التي تهمنا، وهو في واقع الأمر قطب رحى حياتنا، ومحور انطلاقنا إلى مرضات ربنا، ولقد وقفنا في الجمعة الماضية مع ذلك في حياة الأفراد، ولكن اكتمال الموضوع يحتاج إلى أن نرى الدين في حياة المسلمين على مستوى الأمة والدولة والمجتمع؛ لأن لذلك صلة وطيدة، وعلاقة قوية بما يؤثر على الأفراد، ويغير في أفكارهم، ويوجه من مشاعرهم، ويحول من سلوكهم، ولسنا بصدد استعراض ذلك كله، فإن المقام يضيق عنه، لكنها الأمور الكبرى، والمعالم العظمى التي تهم المجتمعات من خلال هذه المجالات.

علاقة الإعلام وتأثره بالدين

أولاً: الإعلام وما أدراك ما الإعلام! ما صلته بالدين؟ ما ارتباطه به؟ أهو ملتزم بأحكامه أم هو متحل بآدابه؟ هل هو موصل إلى مقاصده؟ هل هو محذر من مخالفته؟

إننا نكاد جميعاً نعرف الإجابة، ونملك عليها الأدلة الكثيرة، وإن مثل هذا الأمر ينبغي أن لا يتم تجاوزه لعظيم أثره، فإنه يخترق السدود والحواجز، ويدخل إلى الناس في عقر بيوتهم، ويخاطبهم وهم متكئون أو مضطجعون على سررهم.

إننا نجد صورة واضحة، وهو أنه قد تفتتح كثيراً من القنوات بالقرآن الكريم وتختم به، وما بين الافتتاح والاختتام مخالفة للقرآن، ودعوة إلى عدم التزام أحكامه، وإغراء بالانسلاخ من أخلاقه وآدابه، وقد جاءتنا من بعض القنوات الرسمية في البلاد العربية والإسلامية ما يندى له الجبين، ولا يحتاج إلى علم وبصيرة ليعرف أنه مخالف مخالفة واضحة صريحة لما هو في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

حتى جاءت القنوات الفضائية والتخصصية ومجموعة من القنوات الغنائية، وأخرى سينمائية، وثالثة أجنبية عالمية، ورابعة إباحية جنسية وغير ذلك، بعضها بهذا التخصص منذ انشقاق الفجر إلى انشقاقه في اليوم الذي يليه والموسيقى تعزف، والغناء يصدح، والعورات تتكشف، والأجساد تتمايل، والكلمات في منتهى التفاهة، والإغراءات في منتهى الرذالة، ثم من بعد ذلك نسأل عن أثر الدين في حياة المسلمين؟

إنه مسخ للفطرة، وإذكاء وإسعار للشهوة، ودعوة للبقاء مع مثل هذه المعاني الهابطة، بل إن محور ذلك كله يجعل مسار الأمة في غير الطريق المحمود، فإذا تحدثنا عن المواهب الشابة، أو إذا تحدثنا عن المستقبل الواعد، فإنما نتحدث عن مغن يكشف عن موهبة عظيمة، أو فتاة راقصة سيكون لها مستقبل باهر، وتمتلئ بذلك الشاشات، وتتوالى المقابلات، وتتابع المسابقات، التي بلغت في قوتها وأهميتها من خلال إبراز الإعلام لها، أنها مثل الأحداث الكبرى، والمصائب العظمى التي تحل بالمسلمين في بقاع شتى، بدءاً من جرحنا النازف في قلب أمتنا في أرض فلسطين، ومروراً بالعراق، وانتهاء بأفغانستان وغير ذلك.

على الصفحات الأولى في الأسابيع الماضية كانت هناك متابعة دائمة لمسابقة فنية، كان من آثارها كما تصف وتبالغ بعض الصحف أنها كانت الشغل الشاغل للشارع العربي في دول كثيرة؛ لأجل التصويت لمن يكون النجم الأكبر في الغناء وما يلحق به.

وإذا أردنا أن نرى الإنفاق المالي فإننا واجدون أن هذا يستأثر بكثير من أقوات شعوب في بلاد فقيرة، فتبنى من المدن ومن الاستوديوهات ما لا تحتاج الشعوب إلى عشر معشاره، وهي في حاجة أعظم إلى غيره من الأمور المهمة في مجال العلم والعمل والتطور والتقدم.

وأين هو الدين وأين مساحته؟! ضيقة محدودة في أوقات محدودة غير مشاهدة في غالب الأحوال ولا منظورة، ثم كذلك في صور وفي أنماط تثير من البلبلة والحيرة أكثر مما تقدم من النفع والفائدة.

ثم نعيد الكرة لنقارن ونقول: ما هو مذكور في الإحصاءات من أن هناك نحو أربعة آلاف وستمائة قناة تلفزيونية وإذاعية متخصصة في التنصير والتبشير، فكم قناة متخصصة في بيان محاسن الإسلام، ورد الشبهات عنه، وتعريف المسلمين قبل غيرهم بحقائقه؟!

وكيف نواجه هذا السيل الإجرامي الإعلامي من الشبه، والتهم الإرهابية والإقصائية وغيرها التي يدبجها أعداؤنا، ويروجها أبناؤنا وتتناقلها وسائل إعلامنا.

أمر يحتاج إلى بيان، وإلى حقيقة ينبغي أن نعرفها، وإلا فإن نداءات القرآن الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24] لا تسمع أو لا تلقى في الإعلام آذاناً مصغية، وذلك أمر له آثاره العظيمة.

التعليم وبيان صلته بالدين

الجانب الآخر: جانب التعليم، وما أدارك ما التعليم!

كل طفل وطفلة، كل فتى وفتاة يمر عبر هذه القنوات ويدرج في تلك المناهج السنوات والسنوات، فبأي شيء يخرج لدينه ولإسلامه، ولمعرفة فرائض الله وشرائعه، ولمعرفة سنن النبي صلى الله عليه وسلم وشمائله؟! كم هي الحصة الوافرة في ذلك ونحن نتحدث على مستوى عام للبلاد العربية الإسلامية في جملتها، ونحن نعرف كثيراً من أحوالها.

إن بلاداً عربية وإسلامية كانت ولا زالت تفاخر بأنها أنجح من طبق سياسة تجفيف المنابع، وذلك في وأد الآيات، وتقليص الأحاديث، ومنع المعاني الإيمانية، والدراسات الإسلامية، وأكثر الدول إلا ما رحم الله تجمع مناهج الدين كلها في مقرر واحد، يكاد من هزاله ألا يرى بين كتب كثيرة ضخمة تعلم اللغات الأجنبية، والعلوم التقنية الأخرى، بل تعلم من الحضارات والثقافات الكفريه والجاهلية ما هو جدير بأن يكون بديلاً عنه حقيقة التاريخ الإسلامي في تلك البلاد، حتى إنه من المعلوم أن بلداً عربياً مسلماً كبيراً اختزل منهج التاريخ فيه في المراحل المتقدمة إلى الثانوية، حتى كان نصيب تاريخ عمر بن الخطاب وفترة خلافته وفتوحاته وإنجازاته لا يتجاوز نصف صفحة، وأما سيرة عثمان وخلافته فكانت بالعد والحصر سبعة أسطر لا غير.

وإذا مضينا نجد كثيراً من الأمور الأخرى، كالتشويه والتبديل والتحريف لمفاهيم الإسلام واجتزائها، بل وتحريف وتغيير وتبديل الأحكام الشرعية، بل وأحياناً عرضها في صورة الانتقاص والازدراء.

ثم هناك جزئية واضحة: إنه مجرد تعليم لوضوء وصلاة لا يذكر فيه كثير من جوانب الحياة الأخرى التي يتناولها الإسلام في شموليته العظيمة: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38]، وكما روى أبو هريرة : (علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة)، هذه الشمولية لا يكاد يكون لها أثر في كثير من مناهج البلاد العربية والإسلامية، وحينئذ يمكن أن نرى كيف تكون النتائج.

النظم الداخلية وصلتها بالدين

ثم ننتقل إلى النظم الداخلية في كثير من بلادنا الإسلامية، ما الذي تقره وتبيحه؟ ما الذي تمنعه ولا تجيزه؟

إنها في كثير من هذه البلاد تبيح شرب الخمور وبيعها، بل إن بعض البلاد العربية والإسلامية اشتهرت بصناعة الخمور الجيدة التي هي من أعظم صادراتها.

ثم تنظر فتجد في بلاد أخرى ترسيماً للبغاء والزنا والخنا برخص رسمية، وضرائب تدفع إلى خزائن الدولة، وذلك أيضاً ليس خافياً ولا مجهولاً.

ثم هناك عدم اعتبار ولا احترام لمعنى الدين وفرائضه، فهل ترون الأسواق تغلق كما هي عندنا إذا أذن المؤذن للصلاة؟! وهل ترون أحداً يكترث لأمر يتعلق بالدين في واقع الحياة من حيث النظم والتقريرات؟!

كنت مرة في بلد مسلم عربي، ودخلت للمسجد في صلاة الجمعة، وبجواره الأسواق مفتوحة، والناس يرتادونها، والمطاعم مفتوحة، والناس يأكلون فيها، وعند الأبواب ليس بعيداً من هنا من يتناول الشيشة، ويدخن السيجارة، وكثيرون لا يدخلون المسجد ألبتة، وهم عرب أقحاح ومسلمون بالهوية، وذلك من أثر هذه النظم.

أما إذا أراد مسلم أو مسلمون أن يقيموا مركزاً إسلامياً أو يؤسسوا جمعية دعوية، فدون ذلك خرط القتاد إلا ما شاء الله، وأما إذا فعل أحد شيئاً من ذلك فإنه قد تجاوز الحدود، واخترق الخطوط الحمراء، أما إذا أراد أن يقيم حفلاً غنائياً، أو أن يؤسس نادياً ليلياً، فذلك أمر ميسور ومباح ومشجع عليه، ولذلك لوائح ونظم، وله أسس يحاكم بموجبها الناس في تلك الديار.

العلاقات الخارجية وصلتها بالدين

وأخيراً: العلاقات الخارجية والصلات الدولية، هل ترونها قائمة على أسس إسلامية ومنطلقة من المبادئ القرآنية ومهتدية بالسياسة النبوية؟! هل ترون فيها تجديداً للسفارة الإسلامية الأولى التي بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير إلى المدينة يدعو ويبشر ويظهر محاسن الإسلام، ويذكر مآثر المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويكشف في حكمة وحنكة معايب الجاهلية ومساوئها؟

وهل ترونها كذلك فيما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن وقال له: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم في اليوم والليلة خمس صلوات، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، وإياك وكرائم أموالهم! واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب).

ويوم بعثه النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (بم تحكم؟ قال: أحكم بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: أحكم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم على صدره وقال: الحمد الله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله).

كيف بعث النبي علياً وسلمه الراية في يوم خيبر لمهمة قتالية وقال له: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم).

أين سياسة أمتنا وبلادنا ودولنا العربية والإسلامية من هذه المنطلقات الإيمانية والإسلامية؟ إننا نجد صوراً مغايرة، إما ارتهان وركون وارتماء في أحضان غير المسلمين خوفاً منهم ورهبة أو مصانعة لهم، ومجاملة أو مسايسة يظن كثيرون منهم أنها هي التي تعطي أسباب البقاء والرقي والتحضر أو القوة والتمدن، ولا نقول بأن هناك دعوة لقطع علاقات أو لمنع هذه الصلات، لكن منطلقاتنا الإسلامية تدعونا إلى أن نعرف من نحن وإلى أن نحافظ على هوية الأمة ديناً وتاريخاً ولغة، وأن نحافظ على مكونات قوة الأمة ثروة وأرضاً وخلقاً، وأن نحافظ على كل ما يحفظ لهذه الأمة خصوصيتها من مناهج تعليمية، وسبل اجتماعية، ونظم أخلاقية.

ونحن في عصر العولمة كما يقولون، وهم يريدون أن لا يبقى أمة تتميز بدين عن غيرها، ولا بلغة عن غيرها، ولا بثقافة عن غيرها، ولكنهم يريدون لما لهم من قوة مادية في الإعلام وغيره أن يقولوا لكم: دعوا هذه الخصوصيات وسنملؤها بما لدينا من الكثير والكثير الذي كله في معظمه لا يكون فيه الخير، ثم نجد في هذا كثيراً وكثيراً من الصور.

أولاً: الإعلام وما أدراك ما الإعلام! ما صلته بالدين؟ ما ارتباطه به؟ أهو ملتزم بأحكامه أم هو متحل بآدابه؟ هل هو موصل إلى مقاصده؟ هل هو محذر من مخالفته؟

إننا نكاد جميعاً نعرف الإجابة، ونملك عليها الأدلة الكثيرة، وإن مثل هذا الأمر ينبغي أن لا يتم تجاوزه لعظيم أثره، فإنه يخترق السدود والحواجز، ويدخل إلى الناس في عقر بيوتهم، ويخاطبهم وهم متكئون أو مضطجعون على سررهم.

إننا نجد صورة واضحة، وهو أنه قد تفتتح كثيراً من القنوات بالقرآن الكريم وتختم به، وما بين الافتتاح والاختتام مخالفة للقرآن، ودعوة إلى عدم التزام أحكامه، وإغراء بالانسلاخ من أخلاقه وآدابه، وقد جاءتنا من بعض القنوات الرسمية في البلاد العربية والإسلامية ما يندى له الجبين، ولا يحتاج إلى علم وبصيرة ليعرف أنه مخالف مخالفة واضحة صريحة لما هو في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

حتى جاءت القنوات الفضائية والتخصصية ومجموعة من القنوات الغنائية، وأخرى سينمائية، وثالثة أجنبية عالمية، ورابعة إباحية جنسية وغير ذلك، بعضها بهذا التخصص منذ انشقاق الفجر إلى انشقاقه في اليوم الذي يليه والموسيقى تعزف، والغناء يصدح، والعورات تتكشف، والأجساد تتمايل، والكلمات في منتهى التفاهة، والإغراءات في منتهى الرذالة، ثم من بعد ذلك نسأل عن أثر الدين في حياة المسلمين؟

إنه مسخ للفطرة، وإذكاء وإسعار للشهوة، ودعوة للبقاء مع مثل هذه المعاني الهابطة، بل إن محور ذلك كله يجعل مسار الأمة في غير الطريق المحمود، فإذا تحدثنا عن المواهب الشابة، أو إذا تحدثنا عن المستقبل الواعد، فإنما نتحدث عن مغن يكشف عن موهبة عظيمة، أو فتاة راقصة سيكون لها مستقبل باهر، وتمتلئ بذلك الشاشات، وتتوالى المقابلات، وتتابع المسابقات، التي بلغت في قوتها وأهميتها من خلال إبراز الإعلام لها، أنها مثل الأحداث الكبرى، والمصائب العظمى التي تحل بالمسلمين في بقاع شتى، بدءاً من جرحنا النازف في قلب أمتنا في أرض فلسطين، ومروراً بالعراق، وانتهاء بأفغانستان وغير ذلك.

على الصفحات الأولى في الأسابيع الماضية كانت هناك متابعة دائمة لمسابقة فنية، كان من آثارها كما تصف وتبالغ بعض الصحف أنها كانت الشغل الشاغل للشارع العربي في دول كثيرة؛ لأجل التصويت لمن يكون النجم الأكبر في الغناء وما يلحق به.

وإذا أردنا أن نرى الإنفاق المالي فإننا واجدون أن هذا يستأثر بكثير من أقوات شعوب في بلاد فقيرة، فتبنى من المدن ومن الاستوديوهات ما لا تحتاج الشعوب إلى عشر معشاره، وهي في حاجة أعظم إلى غيره من الأمور المهمة في مجال العلم والعمل والتطور والتقدم.

وأين هو الدين وأين مساحته؟! ضيقة محدودة في أوقات محدودة غير مشاهدة في غالب الأحوال ولا منظورة، ثم كذلك في صور وفي أنماط تثير من البلبلة والحيرة أكثر مما تقدم من النفع والفائدة.

ثم نعيد الكرة لنقارن ونقول: ما هو مذكور في الإحصاءات من أن هناك نحو أربعة آلاف وستمائة قناة تلفزيونية وإذاعية متخصصة في التنصير والتبشير، فكم قناة متخصصة في بيان محاسن الإسلام، ورد الشبهات عنه، وتعريف المسلمين قبل غيرهم بحقائقه؟!

وكيف نواجه هذا السيل الإجرامي الإعلامي من الشبه، والتهم الإرهابية والإقصائية وغيرها التي يدبجها أعداؤنا، ويروجها أبناؤنا وتتناقلها وسائل إعلامنا.

أمر يحتاج إلى بيان، وإلى حقيقة ينبغي أن نعرفها، وإلا فإن نداءات القرآن الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24] لا تسمع أو لا تلقى في الإعلام آذاناً مصغية، وذلك أمر له آثاره العظيمة.

الجانب الآخر: جانب التعليم، وما أدارك ما التعليم!

كل طفل وطفلة، كل فتى وفتاة يمر عبر هذه القنوات ويدرج في تلك المناهج السنوات والسنوات، فبأي شيء يخرج لدينه ولإسلامه، ولمعرفة فرائض الله وشرائعه، ولمعرفة سنن النبي صلى الله عليه وسلم وشمائله؟! كم هي الحصة الوافرة في ذلك ونحن نتحدث على مستوى عام للبلاد العربية الإسلامية في جملتها، ونحن نعرف كثيراً من أحوالها.

إن بلاداً عربية وإسلامية كانت ولا زالت تفاخر بأنها أنجح من طبق سياسة تجفيف المنابع، وذلك في وأد الآيات، وتقليص الأحاديث، ومنع المعاني الإيمانية، والدراسات الإسلامية، وأكثر الدول إلا ما رحم الله تجمع مناهج الدين كلها في مقرر واحد، يكاد من هزاله ألا يرى بين كتب كثيرة ضخمة تعلم اللغات الأجنبية، والعلوم التقنية الأخرى، بل تعلم من الحضارات والثقافات الكفريه والجاهلية ما هو جدير بأن يكون بديلاً عنه حقيقة التاريخ الإسلامي في تلك البلاد، حتى إنه من المعلوم أن بلداً عربياً مسلماً كبيراً اختزل منهج التاريخ فيه في المراحل المتقدمة إلى الثانوية، حتى كان نصيب تاريخ عمر بن الخطاب وفترة خلافته وفتوحاته وإنجازاته لا يتجاوز نصف صفحة، وأما سيرة عثمان وخلافته فكانت بالعد والحصر سبعة أسطر لا غير.

وإذا مضينا نجد كثيراً من الأمور الأخرى، كالتشويه والتبديل والتحريف لمفاهيم الإسلام واجتزائها، بل وتحريف وتغيير وتبديل الأحكام الشرعية، بل وأحياناً عرضها في صورة الانتقاص والازدراء.

ثم هناك جزئية واضحة: إنه مجرد تعليم لوضوء وصلاة لا يذكر فيه كثير من جوانب الحياة الأخرى التي يتناولها الإسلام في شموليته العظيمة: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38]، وكما روى أبو هريرة : (علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة)، هذه الشمولية لا يكاد يكون لها أثر في كثير من مناهج البلاد العربية والإسلامية، وحينئذ يمكن أن نرى كيف تكون النتائج.

ثم ننتقل إلى النظم الداخلية في كثير من بلادنا الإسلامية، ما الذي تقره وتبيحه؟ ما الذي تمنعه ولا تجيزه؟

إنها في كثير من هذه البلاد تبيح شرب الخمور وبيعها، بل إن بعض البلاد العربية والإسلامية اشتهرت بصناعة الخمور الجيدة التي هي من أعظم صادراتها.

ثم تنظر فتجد في بلاد أخرى ترسيماً للبغاء والزنا والخنا برخص رسمية، وضرائب تدفع إلى خزائن الدولة، وذلك أيضاً ليس خافياً ولا مجهولاً.

ثم هناك عدم اعتبار ولا احترام لمعنى الدين وفرائضه، فهل ترون الأسواق تغلق كما هي عندنا إذا أذن المؤذن للصلاة؟! وهل ترون أحداً يكترث لأمر يتعلق بالدين في واقع الحياة من حيث النظم والتقريرات؟!

كنت مرة في بلد مسلم عربي، ودخلت للمسجد في صلاة الجمعة، وبجواره الأسواق مفتوحة، والناس يرتادونها، والمطاعم مفتوحة، والناس يأكلون فيها، وعند الأبواب ليس بعيداً من هنا من يتناول الشيشة، ويدخن السيجارة، وكثيرون لا يدخلون المسجد ألبتة، وهم عرب أقحاح ومسلمون بالهوية، وذلك من أثر هذه النظم.

أما إذا أراد مسلم أو مسلمون أن يقيموا مركزاً إسلامياً أو يؤسسوا جمعية دعوية، فدون ذلك خرط القتاد إلا ما شاء الله، وأما إذا فعل أحد شيئاً من ذلك فإنه قد تجاوز الحدود، واخترق الخطوط الحمراء، أما إذا أراد أن يقيم حفلاً غنائياً، أو أن يؤسس نادياً ليلياً، فذلك أمر ميسور ومباح ومشجع عليه، ولذلك لوائح ونظم، وله أسس يحاكم بموجبها الناس في تلك الديار.