عائشة الحميراء


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله هو لكل خير يرتجى، وإليه من كل شر الملتجأ، والصلاة والسلام على النبي المصطفى، وعلى آله وصحبه ومن بهم اقتدى، وإن هدى الله هو الهدى، من تمسك به اهتدى، ومن حاد عنه ضل وغوى.

أما بعد:

فهذا الدرس الخامس والخمسين، وهو بعنوان: ( عائشة الحميراء قدوة النساء) وقد سلف لنا أحاديث عديدة حول ما يتعلق بالمرأة المسلمة وبعض الموضوعات المتعلقة بها، وحديثنا عن عائشة رضي الله عنها يخدم هذا الجانب على وجه الخصوص، وإن كان في موضوع سيرتها ما هو نافع ومفيد للمجتمع المسلم كله رجالاً ونساءً؛ لأن في مواقفها وتعاملها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيما مر بها من الأحداث والوقائع مع الصحابة رضوان الله عليهم ما فيه كثير من الدروس والعبر.

والحديث الذي يجري في هذا الصدد أيضاً له سبب آخر؛ لأن ما يتعلق بتراجم النساء وقدوات المؤمنات يعتبر قليلاً في جانب ما هو منصوب من القدوات في صفوف الرجال، فنحن نعلم أن الحديث يكثر عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الأئمة العلماء، وعن سلف هذه الأمة، ونذكر الإمام أحمد والشافعي وأبا حنيفة والإمام مالكاً وغيرهم من هؤلاء، ويقل ذكر قدوات النساء، فلعل ذكر عائشة رضي الله عنها يعتبر مثالاً يحتذى؛ لما لها من عظيم الفضائل وكثير الخصائص رضي الله عنها وأرضاها.

فـعائشة رضي الله عنها -كما قال الذهبي - بنت الإمام الصديق الأكبر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر عبد الله بن قحافة عثمان بن عامر القرشي القرشية التيمية المكية النبوية أم المؤمنين رضي الله عنها، فقد حازت الفضل من كل جوانبه، ونالت الشرف من سائر أوجهه، وهي التي ولدت في ظلال الإسلام، كما قالت: (لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين).

فقد ولدت في الإسلام وفي بيئة إسلامية، وحتى ندرك بإيجاز أول ما يتعلق بسيرة عائشة رضي الله عنها نقول:

إن النبي صلى الله عليه وسلم عقد عليها وهي ابنة ست سنين، ودخل عليها وهي ابنة تسع سنوات، وتوفي عنها صلى الله عليه وسلم وهي ابنة ثماني عشرة سنة).

فتأمل هذه السيرة التي أهلتها بعد ذلك إلى أن تكون قدوة من القدوات، وعلماً من أعلام الأمة الإسلامية كلها مع هذه الفترة الوجيزة، لكنها كانت فترة عظيمة لالتصاقها برسول الله صلى الله عليه وسلم.

وذكر أهل السير في وصفها أموراً وأوصافاً كثيرة، كما أفاض في ذلك ابن كثير في البداية والنهاية عندما ترجم لها في سنة وفاتها، قال: أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق ، وزوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحب أزواجه إليه، المبرأة من فوق سبع سماوات رضي الله عنها وعن أبيها.

وأمها هي أم رومان بنت عامر بن عويمر الكنانية ، وكانت عائشة رضي الله عنها تكنى بـأم عبد الله ، ولم يكن لها ولد؛ لأنها لم تلد مطلقاً، لكنها ربت ابن أختها أسماء وهو عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، فكانت تكنى به رضي الله عنها.

وقد أوجز ابن كثير في هذه الترجمة ما سأذكره بإيجازه ثم يأتي تفصيل بعضه.

ذكر ابن كثير جملة وافرة من خصائص عائشة رضي الله عنها فقال: لم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بكراً سواها، ولم ينزل عليه الوحي في لحاف امرأة غيرها، ولم يكن في أزواجه أحب إليه منها، فهذه كلها أمور لم يشاركها فيها غيرها.

قال: وقد أتاه الملك بها في المنام في سرقة من حرير مرتين أو ثلاثاً يقول له: هذه زوجتك. فتزوج بها بأمر الله ووحي الله سبحانه وتعالى.

قال: ومن خصائصها أنه كان لها في القسم يومان: يومها ويوم سودة حين وهبتها ذلك تقرباً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن خصائصها أنه مات في يومها وفي بيتها وبين سحرها ونحرها صلى الله عليه وسلم، وجمع الله بين ريقه وريقها في آخر ساعة من ساعات الدنيا وأول ساعة من ساعات الآخرة له عليه الصلاة والسلام، ثم دفن في بيتها.

ومن خصائصها أنها أعلم نساء النبي صلى الله عليه وسلم، بل هي أعلم نساء الأمة على الإطلاق بلا نزاع في ذلك بين أهل العلم. وقد قال أهل العلم في وصف علمها شيئاً كثيراً يأتي ذكره لاحقاً.

فهذه عائشة رضي الله عنها بما ذكر في وصفها على سبيل الإجمال، وفضائلها كثيرة مشهورة في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل قد جاء ونزل في حقها آيات تتلى من كتاب الله عز وجل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ففي الحديث عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أريتك في المنام ثلاث ليال جاء بك الملك في سرقة من حرير -يعني: مغطاة بقطعة من حرير- يقول: هذه امرأتك. فأكشف عن وجهك فإذا أنت، فأقول: إن يكن هذا من عند الله يمضه) وقد أمضاه الله سبحانه وتعالى.

وفي فضيلة قربها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعظيم محبته عليه الصلاة والسلام لها ما ورد في الحديث الصحيح عن عمرو بن العاص -وهو ممن أسلم في السنة الثامنة للهجرة- أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: (أي الناس أحب إليك يا رسول الله؟ قال: عائشة قال: فمن الرجال؟ قال: أبوها) فكانت هي حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال الذهبي بعد إيراده هذا الحديث تعليقاً عليه قال: وهذا حديث ثابت صحيح رغم أنوف الروافض، وما كان عليه الصلاة والسلام ليحب إلا طيباً، وقد قال: (لو كنت متخذاً خليلاً من هذه الأمة لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام أفضل) يقول الذهبي : فأحب عليه الصلاة والسلام أفضل رجل وأفضل امرأة من أمته، فمن أبغض حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حري أن يكون بغيضاً إلى الله ورسوله.

وأقوال الرافضة في عائشة رضي الله عنها مرفوضة مردودة قبيحة، حتى إن بعضهم قد غالى في ذلك وقال قولاً يكفر به صاحبه إن اعتقده، قال بعض الغلاة ممن كانوا على هذه النحلة والملة في تفسير قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] قال: هي عائشة. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

عن هشام بن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة) لمعرفة الصحابة محبة النبي عليه الصلاة والسلام لـعائشة، فقد كانوا يهدون إليه في اليوم الذي يكون عندها، حتى يكون ذلك اليوم أكثر سعداً وفرحاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، تقول عائشة : (فاجتمعن صواحبي إلى أم سلمة) وكانت أم سلمة من كبار أزواج النبي صلى الله عليه وسلم سناً، وسيأتي تفصيل الحزبين اللذين كانا في أزواج النبي عليه الصلاة والسلام بحكم طبيعة المرأة وغيرتها.

قالت: (فجئن إلى أم سلمة فقلن لها: إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة ، وإنا نريد الخير كما تريده عائشة ، فقولي لرسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر الناس أن يهدوا له أينما كان. فذكرت أم سلمة ذلك له فسكت فلم يرد عليها، فعادت الثانية فلم يرد عليها، فلما كان الثالثة قال: يا أم سلمة ! لا تؤذيني في عائشة ؛ فإنه والله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها) وهذه فضيلة لها عن باقي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.

وتحكي عائشة حال أزواجه صلى الله عليه وسلم، وهذا بيان طبيعة فطرة المرأة مع العصمة في الشرع والبعد عن المخالفة لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.

تقول عائشة : (إن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كن حزبين: فحزب فيه عائشة وحفصة وصفية وسودة ، والحزب الآخر فيه أم سلمة وسائر أزواجه، وكان المسلمون قد علموا حب رسول الله عليه الصلاة والسلام عائشة ، فإذا كانت عند أحدهم هدية يريد أن يهديها إلى رسول الله أخرها حتى إذا كان في بيت عائشة بعث بها إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام.

فتكلم حزب أم سلمة مع أم سلمة لتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها ذلك القول، فقالت في هذه الرواية أم سلمة : أتوب إلى الله من ذلك يا رسول الله.

ثم إنهن دعون فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلنها إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام تقول له: إن نساءك ينشدنك العدل في بنت أبي بكر. فكلمته فقال: يا بنية! ألا تحبين ما أحب؟ قالت: بلى. فرجعت إليهن وأخبرتهن، فقيل لها: ارجعي إليه. فأبت أن ترجع، فأرسلوا بعد ذلك زينب بنت جحش رضي الله عنهن جميعاً، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأغلظت له في القول وقالت: إن نساءك ينشدنك العدل في ابنة أبي قحافة ، فرفعت صوتها حتى تناولت عائشة -أي: ببعض القول- وعائشة قاعدة، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لينظر إلى عائشة هل تتكلم؟ قال: فتكلمت عائشة ترد على زينب حتى أسككتها -أي: ذكرت لها من القول ما ألجمها وأسكتها- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إنها ابنة أبي بكر) فشهد لها هذا الموقف بفضلها على أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالجملة فهناك خلاف بين أهل العلم في التفضيل بينها وبين خديجة رضي الله عنهن أجمعين، وقد مال الذهبي إلى تفضيل عائشة رضي الله عنها.

ولذلك ورد عن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) وهذا تفضيل لها على سائر نساء أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لما كان لها من علم وسبق وفضل كما سيأتي ذكره.

وفي مستدرك الحاكم عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن عائشة قالت: (قلت: يا رسول الله! مَنْ مِنْ أزواجك في الجنة؟ قال: إما إنك منهن، قالت: فخيل إلي أن ذلك لأنه لم يتزوج بكراً غيري) وهذا السؤال في حد ذاته ليس مجرد سؤال عابر، بل هو دليل على فطنة عائشة رضي الله عنها وحرصها على الفضل والخير، فإنها كانت ترى أزواج النبي عليه الصلاة والسلام وشأنه معهن في هذه الحياة الدنيا، وأنه كان يقسم لهن فأرادت أن ترى ما يكون في الآخرة، وما تستشرف له نفسها من أن تكون في الجنة، وأن تكون رفيقة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن حسن أدب المصطفى عليه الصلاة والسلام وكمال هديه ولطفه وبره أنه أخبر عائشة أنها منهن ولم يفردها بذلك ولم يعرض بغيرها من النساء، بل بشرها بذلك، وهذا يقتضى ويدل على أن أزواجه عليه الصلاة والسلام معه في الجنة بإذن الله عز وجل، ولكن في هذا الحديث بشارة واضحة لـعائشة رضي الله عنها على وجه الخصوص.

ومن الفضائل التي كانت لها أيضاً أنها -كما ورد عنها- قالت: (توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وفي يومي وليلتي وبين سحري ونحري، ودخل عبد الرحمن بن أبي بكر ومعه سواك رطب فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننت أنه يريده، فأخذته فمضغته ونفضته وطيبته ثم دفعته إليه فاستن به كأحسن ما رأيته مستناً قط، ثم ذهب يرفعه إلي فسقطت يده صلى الله عليه وسلم، فأخذت أدعو له بدعاء كان يدعو به له جبريل عليه السلام، وكان هو يدعو به إذا مرض فلم يدع به في مرضه ذاك، فرفع بصره صلى الله عليه وسلم إلى السماء وقال: الرفيق الأعلى. وفاضت نفسه، فالحمد الذي جمع بين ريقي وريقه في آخر يوم من أيام الدنيا).

ومن فطنة وحكمة وعدالة زوجات النبي عليه الصلاة والسلام أنهن رأين تعلق المصطفى صلى الله عليه وسلم بـعائشة في وقت مرضه، وكان يسأل وهو يمرض عند نسائه عن يوم عائشة ، فلما رأين ذلك أجمعن أمرهن وجعلن تمريض النبي صلى الله عليه وسلم وقت مرضه إلى عائشة في بيتها في كل الأيام والليالي، وهذا يدل على أن طبيعة الغيرة موجودة، ولكن الحكمة والعصمة بالشرع تكون أسمى وأرفع من ذلك، ولذلك وردت كثير من الأحاديث في فضلها رضي الله عنها.

أنتقل إلى جانب مهم من جوانب سيرة عائشة رضي الله عنها، ذلك هو علمها؛ لأن هذا الجانب يكاد يكون في غاية الضعف عند نسائنا في هذه الأيام، فإننا إذا تحدثنا عن طلب العلم والحرص على دروس العلم ونحو ذلك فكأن الغالب في أذهاننا أن ذلك الحديث مخصوص بالشباب دون الشابات، وبالرجال دون النساء، وكذلك نجد أن البيئة التي نعيش فيها تظهر فيها نماذج من طلبة العلم والحريصين عليه حفظاً لكتاب الله عز وجل، وحفظاً لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واطلاعاً على أقوال أهل العلم وكتب الفقهاء وغير ذلك، نجد ذلك في صفوف الرجال والشباب أكثر منه في صفوف النساء، حتى توهم الناس أنه لا يكون للمرأة قدرة على أن يكون حظها من العلم مثل حظ غيرها من الرجال، بل قد سرى وهم إلى بعض الرجال أن المرأة زوجة كانت له أو بنتاً أو أختاً أنها دون أن تكون لها صلة بالعلم والاستنباط والفهم والفقه، مع أن هذا غير صحيح، ونشأ عن هذا فقر مهم، وفي نفس الوقت خطير؛ لأن النساء لهن حاجات ومسائل قد يمنعهن الحياء أن يسألن عنها الرجال، وخاصة في أمور المعاشرة مع الأزواج، وفي أمور الطهارة الخاصة بالنساء، فلما قل الفقه في النساء أصبح وقوع الخلل منهن لعدم سؤالهن للرجال حياءً أو تحرجاً أو غير ذلك أصبح هذا ظاهراً بشكل كبير، وهذا أيضاً مدخل خطير؛ لأن عدم تهيؤ المرأة واستعدادها وميلها وعلمها بإمكانية طلبها للعلم ونبوغها فيه ونفعها لبنات جنسها جعلها أكثر عرضة وتهيئةً لأن يصطادها أعداء الله عز وجل، وأن يشغلوها بأفكار ومطالعات وقراءات بعيدة عما ينفعها في دينها ودنياها وفي آخرتها.

ولذلك في الحقيقة أرى أن جانب العلم -سيما في الأمور التي تخص المرأة- من المهم جداً أن تنتدب له النساء الصالحات القانتات العابدات، وأن يحث الرجل من له عليه ولاية من النساء على أن تأخذ حظها من العلم لتنفع نفسها وتنفع بنات جنسها، وإن حديث الرجال إلى النساء قاصر في تأثيره وفي لمسه لحاجتهن ومعرفته بأحوالهن، ولذا يكون لسان المرأة إلى المرأة أبلغ، وتعليم المرأة للمرأة أقوى، ولأن الحواجز والموانع الشرعية من الحجاب وغير ذلك تمنع من أن يكون التواصل العلمي والتربوي كاملاً، فإنه لا يغني ذلك من جانب الرجال الغناء الكامل، بل لا بد أن يكون في صفوف النساء المسلمات عالمات ومربيات وداعيات؛ لأن علمهن بأحوال النساء وقربهن منهن وقدرتهن على معاشرتهن ومواجهتهن ومكاشفتهن ومصارحتهن تؤدي دوراً أكبر، ولذلك أسوق هذه القدوة في العلم للنساء وللرجال، فإن عائشة رضي الله عنها قد كان الرجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أشكل عليهم الأمر وأعجزتهم المسألة رجعوا إليها رضي الله عنها، فأخبرتهم حكم وخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها.

فلذلك قال الذهبي رحمة الله عليه: إن عائشة أفقه نساء الأمة على الإطلاق.

وذكر أن مسند عائشة من الأحاديث يبلغ ألفين ومائتين وعشرة أحاديث، اتفق البخاري ومسلم منها على مائة وأربعة وسبعين حديثاً، وانفرد البخاري بأربعة وخمسين حديثاً، وانفرد مسلم بتسعة وستين حديثاً، ولا يوجد في النساء من هي أكثر رواية لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من عائشة ، ولم يكن زواج النبي صلى الله عليه وسلم بالعدد الكثير من النساء عبثاً، وإنما كان ليطلعن على ما لا يطلع عليه إلا المرأة من زوجها في شأن الأمور الدقيقة، فينقلن هذا العلم والأحكام الشرعية المتعلقة بأخص خصائص ما بين الرجل وزوجته لنساء الأمة ورجالها على حد سواء، ولذلك قال الذهبي : لا أعلم في أمة محمد صلى الله عليه وسلم بل ولا في النساء مطلقاً امرأة أعلم منها.

وقال الزهري : لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أزوجه وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل.

وقال عطاء بن أبي رباح : كانت عائشة رضي الله عنها أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس رأياً في العامة.

وتأمل هذه الجملة الأخيرة، بل تأمل هذا النص كله: (كانت أفقه الناس وأعلم الناس) فالفقه غير العلم، العلم حفظ، والفقه استنباط، فقد جمعت بين الأمرين معاً (وأحسن الناس رأياً في العامة) أي أنها تعرف أمور الناس ومجريات الحياة، وما ينبغي أن يكون من التوجيه، وكيف تكون هذا الأساليب.

وقد ورد في مسند الإمام أحمد بسند صحيح أن عائشة رضي الله عنها استدعت قاص أهل المدينة الذي كان يقص لهم القصص ويعظهم بالمواعظ وقالت له: لَتعاهِدَنيِّ أو لأقاطعنك. قال: علام يا أم المؤمنين -أو: زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم؟- قالت: (أن لا تمل الناس وأن لا تقنطهم، وإذا حدثتهم فحدثهم يوماً ويوماً) تعني: لا تملهم في الحديث. وقالت له: لا تملهم بطول حديثك وتكراره، ولا تقنطهم بتأييسهم من رحمه الله عز وجل وإكثار الخوف عليهم دون أن تفتح لهم باب الرجاء. وتلك العبارة تدلنا على أنها كانت أحسن الناس رأياً في العامة.

وقال عروة : ما رأيت أحداً أعلم بفقه ولا طب ولا شعر من عائشة رضي الله عنها. وهذه الرواية عن عروة تروى بوجه آخر مفصل يبين لنا أن عائشة كانت على ذكاء وافر وفطنة عجيبة، يقول عروة -وهو ابن أختها-: صحبت عائشة رضي الله عنها فما رأيت أحداً قط كان أعلم بآية أنزلت، ولا بفريضة، ولا بسنة، ولا بشعر ولا أروى له، ولا بيوم من أيام العرب، ولا بنسب، ولا بقضاء ولا طب منها.

فانظر! فقد كانت تعرف الأنساب، ولا غرو في ذلك؛ فهي ابنة نسابة قريش أبي بكر رضي الله عنه.

وكونها تعلم علم القرآن والسنة والفقه لا غرو في ذلك؛ فقد كانت زوجة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

يقول عروة: قلت لها: يا خالة! الطب من أين علمتيه؟ أي: عرفنا أنك علمت الفقه والأحكام من الرسول عليه الصلاة والسلام، والنسب من أبي بكر ، والشعر من حسان ، لكن من أين لك هذا الطب؟ فقالت: كنت أمرض فينعت لي رسول الله صلى الله عليه وسلم الشيء لأتعالج به، ويمرض المريض فينعت له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسمع الناس ينعت بعضهم لبعض فأحفظه)، فكانت رضي الله عنها طبيبة قلوب وطبيبة أبدان، فهذا يدل على الفطنة، ويدل على أن عائشة لم تكن اهتماماتها اهتمامات سطحية كحال بعض نسائنا اليوم.

فإن بعض النساء اليوم عندها فطنة، وعندها ذكاء، وعندها سرعة حافظة، لكنها موجهة توجيهاً غير سليم، فتراها تمزج الموديلات للملابس بين هذا وهذا، وتحفظ ذاك، والأول والثاني، وتعرف أن هذا طراز قديم وهذا طراز حديث، بينما عائشة رضي الله عنها كانت لها أذن واعية وقلب مستقبل لكل ما فيه منفعة في هذه الدنيا وفي الدين على وجه الخصوص، ولذلك قال عروة : فلقد ذهب عامة علمها لم أسأل عنه.

وعروة هو ابن أختها، والذي كان ملازماً لها، والذي روى كثيراً من علمها، فلكثرة علمها وتشعبه يقول: إنها ماتت وتوفيت وذهب عامة علمها ولم يستطع أن يسألها عنه لكثرته، فمضى الزمان وانتهى عمرها قبل أن يأخذ علمها الغزير.

وكانت تحفظ الشعر وترويه كأحسن ما يروي الناس الشعر، ولا تنس أن هذا كله والنبي عليه الصلاة والسلام توفي عنها وهي ابنة ثماني عشرة سنة، واليوم ربما ابنة الثامنة عشرة لا هم لها إلا أن تحسن وجهها، وتنعم صوتها، وتتكسر في مشيتها، لا تعرف اهتماماً من أمور الدنيا ولا من أمور الدين، ولا تفكر في آخرة، ولا تحوز علماً، ولا تتأهل إلى تربية، ولا تتصدى لفتيا، ولا شيئاً من ذلك مطلقاً، وهذا يدلنا على البون الشاسع بين ما كانت عليه أزواج النبي عليه الصلاة والسلام ونساء المؤمنين وبين ما آل إليه الحال في نساء هذا الزمان إلا من رحم الله في عصرنا هذا، ولذلك ينبغي للمرأة أن تفطن لما يتعلق بتحصيل العلم، فقد كانت عائشة رضي الله عنها على هذا النحو الواسع من العلم.

وعن الشعبي أن عائشة رضي الله عنها قالت: (رويت للبيد نحواً من ألف بيت) وكان الشعبي يذكرها -أي: عائشة- فيتعجب من فقهها وعلمها، فإذا كان هذا العلم الذي تحفظه فما ظنك بالتربية العلمية والعملية التي تلقتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن هنا لجأ إليها الصحابة رضوان الله عليهم ونهلوا من علمها وأخذوا من فقهها كثيراً.

قال ابن سعد في الطبقات: كانت عائشة رضي الله عنها أعلم الناس، يسألها الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال أيضاً: ما كان أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام يشكون في شيء إلا سألوا عنه عائشة ، فيجدون عندها من ذلك علماً.

بل قد صنف الزركشي كتاباً كاملاً سماه: "الإجابة فيما استدركته عائشة على الصحابة" أي: فيما استدركت عليهم من الأخطاء التي وقعوا فيها، أو الأقوال التي خالفتهم فيها بحجة ودليل من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن ذلك ما ورد في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما روى عمر رضي الله عنه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام: (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه) فقالت عائشة رضي الله عنها: (رحم الله ابن الخطاب، ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وإنما قال: إن الكافر ليعذب ببكاء أهله عليه) وكانت تستدرك وتقول: (حسبكم كتاب الله (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]).

فكان عندها فقه عجيب، وبصر نافذ، وإحاطة شاملة بكثير مما أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكما قال أبو سلمة بن عبد الرحمن : ما رأيت أحداً أعلم بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أفقه في رأي إذا احتيج إلى رأيه، ولا أعلم بآية نزلت ولا فريضة من عائشة رضي الله عنها.

ومسائلها في هذا الباب كثيرة، فلذلك ينبغي للمرأة المسلمة أن تعرف أنها على قدم سواء مع الرجل في التكليف، وفي الفضائل المتعلقة بتحصيل الثواب من كثرة العبادات، ومن تحصيل العلم وطلبه، فإن ذلك خير عظيم لها ولمن وراءها من النساء.

وأؤكد على هذه المسألة كثيراً للرجال والنساء؛ لأننا في الحقيقة مقصرون في تمكين المرأة من أن تحوز العلم، ومن أن تحصل ما تحتاج إليه وتنتفع به، وكما أشرت فإن الأب قد يحرص على ابنه فيدفعه إلى من يحفظه القرآن ويعلمه، بينما لا يلتفت في ذلك إلى ابنته، مع أن الأمر لو قيل بالمفاضلة لكانت البنت أولى؛ لأنها أكثر تعرضاً للفتنة، وبحكم عاطفتها أكثر تعرضاً للإغواء والإغراء، بينما ليس كذلك الفتى، وإن كان المسلم مطالباً بأن يعنى بتربية أبنائه ذكوراً وإناثاً، وتعليمهم على نفس المستوى قدر المستطاع.

أنتقل إلى جانب مهم يهم الرجال والنساء معاً، ذلك هو جانب المعاملة الزوجية التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق أجمعين وبين عائشة رضي الله عنها، وهي من علمنا فضلها وخصائصها.

جملة من الروايات والقصص في معاملة رسول الله عليه الصلاة والسلام لـعائشة تكشف لنا عما ينبغي أن يكون عليه الرجل مع زوجته، وما ينبغي أن تكون عليه الزوجة مع زوجها.

فمن ذلك تلطفه عليه الصلاة والسلام ورقته وحنانه ومحبته وتودده لـعائشة رضي الله عنها، كما ورد في الصحيح عن عائشة تقول: (لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم على باب حجرتي والحبشة يلعبون بالحراب في المسجد، وإنه ليسترني بردائه لكي أنظر إلى لعبهم، ثم يقف من أجلي حتى أكون أنا التي أنصرف، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن، الحريصة على اللهو) فهذا الرسول عليه الصلاة والسلام -وهو من هو عظمة- يتودد إلى عائشة ، ويمكنها من أن ترى بعض ما يدخل السرور على نفسها، ويقف لأجلها حتى يكون رداءاً وساتراً لها، ولا يتحرك حتى تنتهي من مطالعتها ومن متعتها وسرورها تلطفاً منه عليه الصلاة والسلام ومراعاة لها ولسنها، فما بال الرجال يأنفون من أقل من هذا بكثير، بل يستكثرون به على أزواجهم، ويظنون أن في ذلك إذهاباً لهيبتهم، وأنه لا بد أن يكون الواحد منهم متجهم الوجه، مقطب الجبين، ينظر بعينه شزراً، وتتقد عينه جمراً، وإن لم يكن كذلك فلا يكون رجلاً، هذا لا شك أنه من فرط الجهل لأصول المعاشرة.

فإن الإنسان قد يتوقى ويتحرز من الناس البعيدين أو الأغراب، أما من تكثر الخلطة معهم فلا بد من أن تكون معهم على لين وتودد وتلطف، وعلى ترسل في المعاملة من غير تكلف، وعلى إبداء ما عندك دون حرج؛ لأنك ستلقاهم كل يوم، فلو تحفظت وتحرجت وتهيبت فإنك لا تستطيع أن تستمر على ذلك.

قد ترى الإنسان عندما تتعرف إليه أول أمره لا يتكلم معك في خاص أموره، ولا فيما يتعلق ببعض ما يحترز منه من الدعابة أو المزاح أو كذا، لكن إذا أكثرت خلطته وعشرته بدا لك منه كل شيء، فكيف يكون الرجل مع زوجته وهي أقرب الناس إليه وأكثرهم عشرة له ثم لا يتلطف ولا يتودد ولا يكون في سيرته معها على ما هو طبعه وسجيته دون أن يكون متكلفاً ولا متجهماً؟!

وكذلك من لطائف هذه المعاملة الزوجية ما ورد في الصحيحين من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت عليّ غضبى).

ليس هناك من غضاضة ولا جرم ولا كبيرة من الكبائر أن تغضب المرأة على زوجها، لما قد يقع من أسباب الاختلاف المعتادة في حياة الناس، ولكن انظر إلى أدب عائشة وإلى فطنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت له: (كيف ذاك يا رسول الله -أي: كيف تعرف رضاي من غضبي-؟! فقال: إذا كنت راضية عني قلت: لا ورب محمد. وإذا كنت غضبى قلت: لا ورب إبراهيم، فقالت عائشة رضي الله عنها: أجل والله ما أهجر -يا رسول الله- إلا اسمك) فهذا يدل على أنه قد يقع ما يوجب الخلاف والنزاع، ولكن لا بد أن يكون له حده، فلا تتجرأ المرأة على زوجها ولا تشتمه ولا تنتقصه ولا تذكره بما يسوءه، ولا تنعته بما لا يحب ولا تصفه بما يكره، ولا تنبزه بما هو عيب وإن كان فيه، لئلا توغر صدره وتجعل -كما نقول- من الحبة قبة، ولئلا تنفخ في نار هذه الشحناء اليسيرة والمخالفة اليسيرة، فإذا بها تغدو مشكلة كبيرة وصراعاً عنيفاً لا يحل بسهولة، ثم انظر إلى أدب عائشة رضي الله عنها وحسن تقديرها وتعظيمها لرسول الله عليه الصلاة والسلام مع إشعارها بأنها غضبى حتى يتلطف معها، فإنها تشعره بأقل القليل الذي يغني عن غيره، فكانت تقول: (لا ورب إبراهيم) وإذا كانت راضية تقول: (لا ورب محمد) وما أخطأت في القولين كليهما، وإنما أحسنت في الأدب، وانظر إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام! ما قال لها: إني أعرف أنك غاضبة ليقابل غضبها بغضب، وإنما ليستل ويدخل هذا المدخل اللطيف الودود المحبب ويقول لها مداعباً وملاطفاً: إني أعرف هذه الحالة وهذه الحالة. وبين لها أنه قد بلغته رسالتها وعرف مقصدها، وأراد أن يمحو ما كان من سبب هذا الغضب.

ومن ذلك أيضاً ما ورد في حديث النعمان بن بشير قال: (استأذن أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم فإذا عائشة ترفع صوتها عليه فقال: يا بنت فلانة!) وهذه أساليب العرب العجيبة في تعاملهم، هي ابنته لكن في هذا الفعل لم يكن راضياً عنها، فلم يرد أن ينسبها إليه وهي تفعل فعلاً لا يحبه فقال: (يا ابنة فلانة!) نسبها إلى أمها، ثم قال: (ترفعين صوتك على رسول الله صلى الله عليه وسلم! فحال النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبينها، أراد أبو بكر أن يتوجه إلى عائشة ليضربها ويعنفها، وقد استنبط بعض أهل العلم أنه يجوز لأب البنت أن يربيها وأن يزجرها بحضرة زوجها، لكن انظر): (فحال النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبينها) مع أن النبي عليه الصلاة والسلام هو -إذا صح التعبير- المعتدى عليه، وعائشة هي التي رفعت صوتها عليه، ومع ذلك حال بينها وبينه: (ثم خرج أبو بكر رضي الله عنه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يترضاها) يترضى عائشة ويتلطف معها وقال: (ألم تريني حلت بينك وبين الرجل؟!) يستشفع بالموقف الدفاعي الذي وقفه عليه الصلاة والسلام، ثم استأذن أبو بكر مرة أخرى فسمع تضاحكهما، أي: النبي عليه الصلاة والسلام وعائشة. قد أزال عليه الصلاة والسلام بحسن معاملته هذا الأمر الذي كان سبب هذا الغضب، فقال أبو بكر : (أشركاني في سلمكما كما أشركتماني في حربكما) ما أجمل هذا الموقف! وما أرق رسول الله صلى الله عليه وسلم! وما أحسن تأتي. عائشة ولينها وانكسارها لرسول الله عليه الصلاة والسلام!

ومعلوم أن الحياة الزوجية لا تخلو من المكدرات، ولكن هذه المعاملة هي التي تزيل أسباب الكدر، وإذا كانت هناك مكدرات فإن هناك مهدئات ومسكنات من هذه المعاملة اللطيفة، فلذلك رفعت المرأة صوتها على زوجها ولم يكن زوجها أي أحد، بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبل منها مراعاة لطبيعتها وغضاً للطرف عما سبب لها ذلك الغضب، ثم بعد ذلك حال بينها وبين أبيها، ثم جعل يترضاها ويستشفع بما كان منه من موقف تجاهها، ثم تضاحك الزوجان مرة أخرى وعاد الوئام في لحظات، وإن لم يكن الأمر كذلك فإن الكلمة تجر أختها، وأحياناً الحركة تجر غيرها، وتزداد الشقة والخلاف والنزاع.

والحديث هنا لعله يكون أكثر توجيهاً للأزواج والرجال أكثر منه للنساء، كل هذه المواقف تربية في سيرة عائشة وهدي رسول الله عليه الصلاة والسلام لكلا الجنسين، ففي حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: (سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته ما شاء -أي: أكثر من مرة- حتى إذا رهقني اللحم سابقني فسبقني، فقال: يا عائشة! هذه بتلك).

موقف جميل جداً لعل الواحد منا يتنزه عما هو أقل منه، ويرى أن ذلك خارم لمروءته وجارح في عدالته وإنزال من منزلته، فإذا ظن ذلك فليستغفر؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك، ولنا فيه قدوة وأسوة حسنة، فإنه كان يتلطف بهذا، وهذا يدلنا أيضاً على عظمة رسول الله عليه الصلاة والسلام من وجه آخر، فإنه كان يجيش الجيوش، ويدرس الدروس، ويربي الرجال، ولم يشغله كل ذلك عن أن يكون مؤدياً لحق أهله ومراعياً لزوجته حتى في تفرغه لمسابقتها ومداعبتها وملاعبتها، وغير ذلك من الأمور التي ينشغل عنها الناس اليوم، ولا يفطنون لها ولا يتوددون بها إلى أزواجهم، فتبقى الحياة كاحتكاك الحديد بالحديد ليس هناك بينهما حسن التلطف والتودد الذي يزيل هذا الاحتكاك ويجعل المسائل على أحسن وجه مما يجعل الحياة الزوجية هانئة سعيدة.

ومن لطفه عليه الصلاة والسلام وعظيم محبته لـعائشة رضي الله عنها -وهذا حب فريد منه عليه الصلاة والسلام يعلمنا به أن الحب في ظل الشرع أمر لا حرج فيه- ما روته عائشة رضي الله عنها فقالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العظم فأتعرقه - أي: تأكل عروق العظم ما بقي من اللحم - ثم يأخذه فيديره حتى يضع فاه على موضع فمي) كان يفعل ذلك صلى الله عليه وسلم تحبباً وتلطفاً معها وإشعاراً لمنزلتها عنده صلى الله عليه وسلم.

وهنا أيضاً حادثة لطيفة فيما يتعلق بين الزوجات مع أزواجهن، والرواية عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج أقرع بين نسائه، فطارت القرعة لـعائشة وحفصة معها، وكان إذا كان بالليل يمشي مع عائشة يتحدث وقت الليل، ثم بعد ذلك يرجع فينام، فقالت حفصة : ألا تركبين الليلة بعيري وأركب بعيرك تنظرين وأنظر -تعني: تجربين هذا البعير وأنا أجرب بعيرك-؟ فقالت: بلى. فركبت فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى جمل عائشة وعليه حفصة فسلم عليها ثم سار حتى نزلوا، وافتقدته عائشة ، فلما نزلوا جعلت رجليها بين الإذخر وجعلت تقول: يا رب! سلط علي عقرباً أو حية تلدغني، رسولك ولا أستطيع أن أقول له شيئاً) تبدي ما كان من ندمها في هذا الشأن.

فهذه مواقف يسيرة من معاملة الرسول عليه الصلاة والسلام لـعائشة رضي الله عنها، وحسن أدب عائشة مع المصطفى عليه الصلاة والسلام.

وهذا كله يدلنا على ما ينبغي أن يكون بين الرجل وزوجته.

هناك بعض ما يتعلق بالأحكام الفقهية في قصة عائشة رضي الله عنها، وهذا نوع من المزواجة حتى ننتقل من مرحلة إلى أخرى؛ لأن هناك مواقف أخرى سيأتي ذكرها لاحقاً.

ففي مسند الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بتربان -بلد بينه وبين المدينة بريد وأميال وهو بلد لا ماء به- وذلك من السحر انسلت قلادة من عنقي فوقعت، فحبس علي رسول الله صلى الله عليه وسلم لألتمسها حتى طلع الفجر، وليس مع القوم ماء، فلقيت من أبي ما الله به عليم من التعنيف والتأفيف، قال: وفي كل سفر للمسلمين منك عناء وبلاء! فأنزل الله الرخصة في التيمم، فتيمم القوم وصلوا، قالت: يقول أبي حين جاءت الرخصة من الله للمسلمين: والله -ما علمت- يا بنية إنك لمباركة، ماذا جعل الله للمسلمين في حبسك إياهم من البركة واليسر) فهذا مما كان من أسباب الأحكام الفقهية في شأن عائشة رضي الله عنها.

ومن ذلك أيضاً فيما يتعلق بالأحكام الفقهية المنقولة والملتصقة بسيرة عائشة، ما روي عن أبي قيس مولى عمرو قال: (بعثني عبد الله بن عمرو إلى أم سلمة وقال: سلها: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم؟ فإن قالت: لا فقل: إن عائشة تخبر الناس أنه كان يقبل وهو صائم، فقال لها ذلك، فقالت له: لعله لم يكن يتمالك عنها حباً أما إياي فلا)؛ لأنها كانت رضي الله عنها كبيرة في السن، وهذا حكم فقهي فيما يتعلق بها رضي الله عنها.

ومن ذلك أيضاً ما روته بكرة بنت عقبة أنها دخلت على عائشة وهي جالسة في معصفرة -أي: لباس مزين أو فيه صفرة- فسألتها عن الحناء، فقالت: شجرة طيبة وماء طهور. وسألتها عن الحفاف فقالت: إن كان لك زوج فاستطعت أن تنزعي مقلتيك فتصنعينها أحسن مما هما فافعلي. وهذا من أعظم فقه عائشة بالنسبة للنساء، تقول: إن كان لك زوج فاستطعت أن تنزعي مقلتيك -أي: عينيك- فتصنعيهما أحسن مما هما عليه فافعلي. وذلك لتكون أقرب وأحب إلى زوجها.

بعد ذلك هناك الموقف العظيم في سيرة عائشة رضي الله عنها، وهو موقف في الحقيقة جدير بأن يكون درساً مستقلاً، ولكني أدرجه ضمن هذا الدرس؛ لأن الحديث عن عائشة يستلزم ذكره، وهو ما يتعلق بحادثة الإفك، وهي حادثة طويلة ذكرها الله عز وجل في كتابه، وبرأ فيه عائشة رضي الله عنها.

هذه الحادثة موجزها أن عائشة كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في بعض غزواتهم، فلما أرادوا أن ينصرفوا كانت ذهبت لقضاء حاجتها، فجاء القوم ليحملوا هودجها على البعير وحملوه ولم يشعروا بأنها ليست فيه؛ لأنها كانت خفيفة الوزن في ذلك الوقت، ومضوا، فلما رجعت إلى مكانها وإذا القوم قد غادروا فظلت في مكانها لم تتحرك، بل قالت: سيشعرون بي ويرجعون ليأخذوني. وإذا بـصفوان بن المعطل رضي الله عنه كان في آخر الجيش، وبعد مضي الجيش بقليل مر، فإذا به يرى سواداً، فاقترب فإذا هو يرى عائشة رضي الله عنها، قالت: وكان قد رآني قبل أن ينزل الحجاب، فاسترجع -أي: قال: إنا لله وإنا إليه راجعون-. قالت: فاستيقظت على استرجاعه، فأناخ جمله، قالت: والله ما كلمني حتى بلغنا القوم. فلما بلغت عائشة رضي الله عنها القوم تكلم المنافقون وعلى رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول ، وخاضوا في وصم عائشة بالفاحشة مع صفوان بن المعطل ، وكانت عائشة رضي الله عنها سليمة القلب سليمة النية لم تسمع بذلك ولم تشعر به.

ثم لما قدم القوم المدينة خاض الناس في ذلك واتسع الكلام، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم أثر فيه هذا القول وقال: (من يعذرني في رجل يتكلم في أهلي)، وكان هناك خلاف بين الأوس والخزرج في هذا الشأن؛ لأن عبد الله بن أبي كان من أحد الفريقين، وكانت مسألة ومحنة عظيمة.

ثم إن عائشة لم تكن قد شعرت بشيء، حتى كانت في يوم من الأيام خرجت لتقضي حاجتها مع أم مسطح بن أثاثة

، وكان أحد المهاجرين الذين خاضوا في هذا القول وقالوا بهذه الفرية، فلما رجعت عائشة عثرت أم مسطح في حجرة، فلما عثرت قالت: تعس مسطح. فقالت عائشة رضي الله عنها بسلامة فطرتها وحسن إسلامها: بئسما قلت في رجل من المهاجرين ممن شهد بدرا. تدافع عن مسطح ، فقالت لها: إنك لا تعلمين ما قال فيك. وعلمت بالخبر بعد ذلك، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم يقول لها: (إن كنت ألممت بشيء فاستغفري الله وتوبي). فسكتت عائشة رضي الله عنها ولم ترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم استعظاماً لما قاله لها عليه الصلاة والسلام، وظلت عائشة شهراً كاملاً لا يرقأ لها دمع تبكي وهي حزينة على هذا الأمر، حتى أنزل الله سبحانه وتعالى براءتها من فوق سبع سماوات، واستأمر النبي عليه الصلاة والسلام قبل ذلك واستشار بعض أصحابه، فأما بريرة فأثنت وقالت خيراً، وأما أسامة فقال كذلك، وأما علي رضي الله عنه فقال: سل الجارية فإن تسألها تصدقك الخبر، وكانت أزمة شديدة تتعلق بعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن حكمة الله عز وجل أنه لم ينزل الوحي في ذلك سريعاً، بل أبطأ شهراً كاملاً حتى أظهر الله المنافقين، وبين مواقف المؤمنين، وكان درساً عظيماً ذكره الله عز وجل في سورة النور فيما يتعلق بوجوب التثبت في الأخبار، وفي حسن الظن بالمسلمين، وفي مقارنة المسلم نفسه بأخيه هل يتوقع ذلك من نفسه؟ هل يرضى ذلك لنفسه؟ فإن كان الجواب بالنفي فإنه ينفي ذلك عن أخيه المسلم أيضاً، وفي ذلك أيضاً تعظيم لحرمة المسلم وعدم الاجتراء عليه في عرضه، أو في ماله، أو في نفسه.

وكان هذا الدرس العظيم مدرسة كاملة متعددة الجوانب، حتى إن الإمام ابن حجر رحمة الله عليه لما ذكر هذا الحديث ذكر فيه أكثر من ثلاثين فائدة، كل فائدة من هذه الفوائد تحتاج إلى درس طويل.

وشاهد هذا الأمر هو أن عائشة رضي الله عنها قد كانت قوية الشكيمة، فإن بعض النساء من رقتهن وعاطفتهن الغالبة إذا ووجهت بأمر لم تفعله ثم كثر الكلام ربما غلب على ظنها أن تعترف بهذا الذي لم تفعله وتستغفر منه أو تتبرأ منه بعد ذلك؛ لأنها لم تستطع أن تواجه الضغوط من أقوال الناس والشائعات وغير ذلك، لكن عائشة لعلمها بطهارتها وبراءتها وقفت هذه الوقفة القوية، بل إنها كانت لها وقفة شديدة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه لما نزلت براءتها قال لها أبو بكر رضي الله عنه: قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: تستسمحي منه وتنهي الأمر-. فقالت: والله لا أقوم إليه أبداً، ولا أحمد إلا الله. ثبات في الموقف وبيان لما كانت عليه من معرفة نفسها وطهارتها، وفي نفس الوقت كان درساً للمسلمين عظيماً جداً يقع الناس فيه كثيراً، كما قال الله عز وجل: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ [النور:15] .

والتلقي في الأصل يكون بالأذن، ولكن قال بعض المفسرين: إن هؤلاء الذين لا يتثبتون في الأخبار ربط الله تلقيهم بالألسنة؛ لأنهم من الآذان مباشرة يجرونه على الألسنة، ولا يمرونه على عقولهم، ولا يمرونه على الواقع، ولا يتأنون فيه، ولا يستثبتون منه، بل ينشرونه مباشرة، ولذلك بين الله عز وجل أن هذا من أعظم الفرية ومن أعظم البهتان الذي ينبغي أن يتوقاه المسلم، سيما إذا كان يتعلق بعرض أخيه المسلم الذي أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن شدة وعظمة حرمته؛ لأنه أعظم من حرمة الكعبة نفسها، وأن حرمة المسلم عند الله عز وجل لها أبلغ وأعلى المراتب، ولذلك كان في وصف هذه الحادثة على لسان عائشة ما يصور الحالة النفسية التي مرت بها، وقوة شخصيتها حتى تجاوزتها، وطهارتها عما وصفت به رضي الله عنها وأرضاها.

وكما قلت ففي الحديث عن حادثة الإفك طول لا يتسع له هذا المقام، ولكن أذكر بعض ما كان من وصف عائشة رضي الله عنها في هذا الحادث، فقد روت أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لها: (أما بعد: يا عائشة ! فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه؛ فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه، قالت: فلما قضى مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب رسول الله فيما قال. قال: والله ما أدري ما أقول لرسول صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: ما أدري ما أقول لرسول الله عليه الصلاة والسلام. فقلت -وأنا يومئذ حديثة السن لا أقرأ كثيراً من القرآن-: إني والله قد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم من كثرة ما قيل، وصدقتم به، فلئن قلت لكم: إني بريئة -والله يعلم أني بريئة- لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني بريئة لتصدقني).

كان هذا هو الحال، لو اعترفت لكان ذلك أقرب إلى تصديق جميع الناس، ولو أعلنت براءتها لكان أبعد عن التصديق؛ لأنه قد كثر القول وانتشر وشاع، وهذه سمة الشائعات، سمة الشائعات أنها تشيع وتنتشر وتكثر حتى يسمعها الإنسان من أكثر من مصدر، فإذا سئل عنها جزم بها، وإذا قيل له: هل أنت متحقق قال: نعم متحقق. فإذا سألته عن النسبة والنسب وعن الخبرة والبحث وجدته صفر اليدين، لو قلت له: ممن سمعت؟ قال: سمعت كذا وكذا، هل الذي سمع رأى بنفسه؟ كلا. هل سمع ممن وقعت له الحادثة؟ كلا. فبقي الأمر في آخر الأمر كما قال الله تعالى: أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ [الصافات:151-152] إن تناقل الأخبار من غير تثبت من أفتك الأسباب بالمجتمعات وأدعى لإشاعة الشحناء والبغضاء والاختلافات والنزاعات بين الناس، ولذلك قالت عائشة بعد أن عجز أبو بكر وعجزت أمها عن أن يردا على رسول الله عليه الصلاة والسلام قالت هذه المقالة: (والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا قول أبي يوسف -نسيت اسم يعقوب من شدة حزنها وما وقع لها من البلاء: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف:18] قالت: (ثم تحولت فاضطجعت على فراشي)، وهذا يدل على قوة شخصيتها رضي الله عنها وأرضاها.

وكان ممن حد في ذلك حسان وحمنة بنت جحش ومسطح بن أثاثة، أما غير أولئك فكانوا من المنافقين، وقد كفر أولئك عن ذنبهم بالحد الذي أخذوه ثم بالتوبة الصادقة، وقال حسان في مدح عائشة رضي الله عنها:

رأيتك وليغفر لك الله حرة من المحصنات غير ذات غوائل

حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل

وإن الذي قد قيل ليس بلائق بك الدهر بل قيل امرئ متماحل

فإن كنت أهجوكم كما بلغوكم فلا رفعت صوتي إليَّ أناملي

وكيف وودي ما حييت ونصرتي لآل رسول الله زين المحافل

وإن لهم عزاً يرى الناس دونه قصاراً وطال العز كل التطاول

عقيلة حي من لؤي بن غالب كرام المساعي مجدهم غير زائل

مهذبة قد طيب الله خيمها وطهرها من كل سوء وباطل

فهذه الحادثة كانت من أعظم الحوادث في سيرة عائشة رضي الله عنها وأرضاها.

زهد عائشة رضي الله عنها وإنفاقها في سبيل الله

كانت عائشة رضي الله عنها زاهدة منفقة في سبيل الله عز وجل، وهذا أمر مهم بالنسبة للنساء اللاتي إذا جاءهن المال أحببن أن يتجملن، وأن يأكلن، وأن يشربن، ونسين أن يتصدقن، بينما عائشة رضي الله عنها تضرب المثل في ذلك بأبلغ صوره، حتى إنه كانت تهدى إليها الأموال الكثيرة الوفيرة ثم تنفق منها، كما ورد في الحديث الصحيح أنه جاءها مال فأنفقت منه، ثم لما جاء المغرب قالت لمولاتها: ائتي لنا بطعام الفطور. قالت: لو أبقيت لنا شيئاً حتى نشتري طعاماً. قالت: لولا ذكرتني.

قد نسيت حاجتها لما كان منها من أمر الإنفاق وحب الإنفاق في سبيل الله عز وجل، ولذلك كانت رضي الله عنها على هذا النحو من الإنفاق في سبيل الله سبحانه وتعالى، وذكر في ذلك كثير من الأحاديث التي تبين أيضاً مشاركة المرأة لزوجها فيما يتعلق بشظف العيش وما يكون من الشدة التي تمر به أحياناً، وقد عايشت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان يوقد في بيته نار، يمر الهلال والهلالان والثلاثة وطعامه الأسودان: التمر والماء، كما قالت رضي الله عنها، فما غضبت لذلك، بل كانت هي أول من خيرها النبي صلى الله عليه وسلم في حادثة التخيير المشهورة أن يعطيهن من النعيم والمتاع، أو يكون لهن اتباع رسول الله عليه الصلاة والسلام، فآثرت رسول الله.

وقد كان الصحابة يؤثرونها بالعطايا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن معاوية رضي الله عنه بعث لها ثياباً رقاقاً فبكت رضي الله عنها وقالت: (ما كان هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) ثم تصدقت به، وهذا يدلنا على طبيعتها التي نريد للمرأة المسلمة اليوم أن لا تغرها الأموال وأن لا يغرها لين الثياب، بل تكون أسمى من ذلك وأرقى، خاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن أكثر أهل النار من النساء، ولذلك ندبهن دوماً إلى التصدق، فكانت عائشة رضي الله عنها مثالاً راقياً وعالياً في هذا الأمر الذي يتعلق بشأن الإنفاق في سبيل الله عز وجل.

وأيضاً وصفت بأنها كانت للدنيا قالية، وعن سرورها لاهية، وعلى فقد أليفها باكية، وقد أوصاها النبي صلى الله عليه وسلم -كما في سنن الترمذي- بأن يكون زادها في هذه الحياة الدنيا كزاد الراكب، ولذلك كانت على هذا النحو من التخفف من الدنيا والإنفاق في سبيل الله عز وجل، وقد كان عمر رضي الله عنه يتعهدها بالعطايا، وقد ورد في حديث مرسل أنه جاء له في بعض المعارك درج فيه بعض الجواهر واللآلئ، واختلف الصحابة في تقسيمه فقال: ما قولكم أن يكون لـعائشة ؛ فإنها كانت حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: الأمر كذلك. فعهد به إلى عائشة وبكت وقالت: لعله أن لا يصلني عطاؤه من قابل. أي: أرادت ألا يكون الأمر كذلك. ولكنها عاشت بعده رضي الله عنها وأرضاها، فهذا بعض ما كان مروياً من زهدها رضي الله عنها وإنفاقها في سبيل الله عز وجل.

وعن عروة رضي الله عنه في وصفها أنه قال: رأيتها تقسم سبعين ألفاً وهي ترقع درعها. فكانت رضي الله عنها على هذا النحو.

عبادة عائشة رضي الله عنها

لها وصف آخر مهم بالنسبة للنساء على وجه الخصوص، وهي أنها كانت عابدة؛ لأنها عاشت في بيت النبوة ورأت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم الليل، فقالت لـعبد الله بن قيس وهذا من وصاياها: (لا تدع قيام الليل فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يدعه، وكان إذا مرض أو كسل صلى قاعداً)، وعند الإمام أحمد من حديث عبد الله بن أبي موسى قال: (أرسلني مدرك لـعائشة رضي الله عنها لأسألها فجئت وهي تصلى فقلت: أقعد حتى تفرغ، ثم قلت: هيهات، أي: متى ستفرغ من صلاتها)، أي: من شدة طولها، وكانت رضي الله عنها ربما تقرأ الآية فتكررها، كما أثر عنها أنها كانت تقرأ قول الله عز وجل في الصلاة: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:27] فتكررها وتبكي وتقول: (اللهم من علي وقني عذاب السموم).

جهاد عائشة رضي الله عنها

ولها وصف أو سمة مهمة وهي مشاركتها في الجهاد، وهذا يدلنا على أن المرأة المسلمة لها دور بارز في جوانب شتى من الحياة، فقد ورد أنها كانت مع نساء المسلمين في يوم أحد في إغاثة المسلمين ومعاونة جرحاهم وسقيا الماء، كما ورد من حديث أنس أنه قال: (رأيت عائشة وأم سليم وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما، ينقلان القرب على متونهما ثم يفرغانها في أفواههم -يعني: في أفواه الرجال من الجرحى- ثم يرجعان فيملآن القرب ثم يجيئان يفرغانها في أفواه القوم).

وقد ورد لها موقف فريد أيضاً في وقعة الخندق، فقد كانت من النساء اللائي كن في المدينة وقد تحصن بالبيوت، وكانت فيها جرأة رضي الله عنها، فخرجت في أثناء غزوة الخندق تتبع بعض الآثار لتؤمن بعض الأماكن، وجاء في أثرها بعض الصحابة ومروا بها فابتعدت عنهم قليلاً، ثم دخلت حديقة ومعها عصاً أو وتد، فلقيت عمر رضي الله عنه أمامها، فقال لها: ما جاء بك؟ لعمري -والله- إنك لجريئة، وما يؤمنك أن يكون بلاء أو يكون تحيز إلى فئة يفر الناس. قالت: فما زال يلومني حتى تمنيت أن الأرض انشقت بي ساعتئذ. ثم كان في القوم طلحة فرد على عمر وخفف عنها، وهذا ما يتعلق أيضاً بمشاركتها في هذا الجانب.

كانت عائشة رضي الله عنها زاهدة منفقة في سبيل الله عز وجل، وهذا أمر مهم بالنسبة للنساء اللاتي إذا جاءهن المال أحببن أن يتجملن، وأن يأكلن، وأن يشربن، ونسين أن يتصدقن، بينما عائشة رضي الله عنها تضرب المثل في ذلك بأبلغ صوره، حتى إنه كانت تهدى إليها الأموال الكثيرة الوفيرة ثم تنفق منها، كما ورد في الحديث الصحيح أنه جاءها مال فأنفقت منه، ثم لما جاء المغرب قالت لمولاتها: ائتي لنا بطعام الفطور. قالت: لو أبقيت لنا شيئاً حتى نشتري طعاماً. قالت: لولا ذكرتني.

قد نسيت حاجتها لما كان منها من أمر الإنفاق وحب الإنفاق في سبيل الله عز وجل، ولذلك كانت رضي الله عنها على هذا النحو من الإنفاق في سبيل الله سبحانه وتعالى، وذكر في ذلك كثير من الأحاديث التي تبين أيضاً مشاركة المرأة لزوجها فيما يتعلق بشظف العيش وما يكون من الشدة التي تمر به أحياناً، وقد عايشت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان يوقد في بيته نار، يمر الهلال والهلالان والثلاثة وطعامه الأسودان: التمر والماء، كما قالت رضي الله عنها، فما غضبت لذلك، بل كانت هي أول من خيرها النبي صلى الله عليه وسلم في حادثة التخيير المشهورة أن يعطيهن من النعيم والمتاع، أو يكون لهن اتباع رسول الله عليه الصلاة والسلام، فآثرت رسول الله.

وقد كان الصحابة يؤثرونها بالعطايا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن معاوية رضي الله عنه بعث لها ثياباً رقاقاً فبكت رضي الله عنها وقالت: (ما كان هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) ثم تصدقت به، وهذا يدلنا على طبيعتها التي نريد للمرأة المسلمة اليوم أن لا تغرها الأموال وأن لا يغرها لين الثياب، بل تكون أسمى من ذلك وأرقى، خاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن أكثر أهل النار من النساء، ولذلك ندبهن دوماً إلى التصدق، فكانت عائشة رضي الله عنها مثالاً راقياً وعالياً في هذا الأمر الذي يتعلق بشأن الإنفاق في سبيل الله عز وجل.

وأيضاً وصفت بأنها كانت للدنيا قالية، وعن سرورها لاهية، وعلى فقد أليفها باكية، وقد أوصاها النبي صلى الله عليه وسلم -كما في سنن الترمذي- بأن يكون زادها في هذه الحياة الدنيا كزاد الراكب، ولذلك كانت على هذا النحو من التخفف من الدنيا والإنفاق في سبيل الله عز وجل، وقد كان عمر رضي الله عنه يتعهدها بالعطايا، وقد ورد في حديث مرسل أنه جاء له في بعض المعارك درج فيه بعض الجواهر واللآلئ، واختلف الصحابة في تقسيمه فقال: ما قولكم أن يكون لـعائشة ؛ فإنها كانت حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: الأمر كذلك. فعهد به إلى عائشة وبكت وقالت: لعله أن لا يصلني عطاؤه من قابل. أي: أرادت ألا يكون الأمر كذلك. ولكنها عاشت بعده رضي الله عنها وأرضاها، فهذا بعض ما كان مروياً من زهدها رضي الله عنها وإنفاقها في سبيل الله عز وجل.

وعن عروة رضي الله عنه في وصفها أنه قال: رأيتها تقسم سبعين ألفاً وهي ترقع درعها. فكانت رضي الله عنها على هذا النحو.

لها وصف آخر مهم بالنسبة للنساء على وجه الخصوص، وهي أنها كانت عابدة؛ لأنها عاشت في بيت النبوة ورأت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم الليل، فقالت لـعبد الله بن قيس وهذا من وصاياها: (لا تدع قيام الليل فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يدعه، وكان إذا مرض أو كسل صلى قاعداً)، وعند الإمام أحمد من حديث عبد الله بن أبي موسى قال: (أرسلني مدرك لـعائشة رضي الله عنها لأسألها فجئت وهي تصلى فقلت: أقعد حتى تفرغ، ثم قلت: هيهات، أي: متى ستفرغ من صلاتها)، أي: من شدة طولها، وكانت رضي الله عنها ربما تقرأ الآية فتكررها، كما أثر عنها أنها كانت تقرأ قول الله عز وجل في الصلاة: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:27] فتكررها وتبكي وتقول: (اللهم من علي وقني عذاب السموم).

ولها وصف أو سمة مهمة وهي مشاركتها في الجهاد، وهذا يدلنا على أن المرأة المسلمة لها دور بارز في جوانب شتى من الحياة، فقد ورد أنها كانت مع نساء المسلمين في يوم أحد في إغاثة المسلمين ومعاونة جرحاهم وسقيا الماء، كما ورد من حديث أنس أنه قال: (رأيت عائشة وأم سليم وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما، ينقلان القرب على متونهما ثم يفرغانها في أفواههم -يعني: في أفواه الرجال من الجرحى- ثم يرجعان فيملآن القرب ثم يجيئان يفرغانها في أفواه القوم).

وقد ورد لها موقف فريد أيضاً في وقعة الخندق، فقد كانت من النساء اللائي كن في المدينة وقد تحصن بالبيوت، وكانت فيها جرأة رضي الله عنها، فخرجت في أثناء غزوة الخندق تتبع بعض الآثار لتؤمن بعض الأماكن، وجاء في أثرها بعض الصحابة ومروا بها فابتعدت عنهم قليلاً، ثم دخلت حديقة ومعها عصاً أو وتد، فلقيت عمر رضي الله عنه أمامها، فقال لها: ما جاء بك؟ لعمري -والله- إنك لجريئة، وما يؤمنك أن يكون بلاء أو يكون تحيز إلى فئة يفر الناس. قالت: فما زال يلومني حتى تمنيت أن الأرض انشقت بي ساعتئذ. ثم كان في القوم طلحة فرد على عمر وخفف عنها، وهذا ما يتعلق أيضاً بمشاركتها في هذا الجانب.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة اسٌتمع
رمضان ضيفنا المنتظر 2910 استماع
المرأة بين الحرية والعبودية 2732 استماع
فاطمة الزهراء 2699 استماع
الكلمة مسئوليتها وفاعليتها 2630 استماع
المرأة والدعوة [1] 2544 استماع
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم 2537 استماع
غزوة أحد مواقف وصور 2536 استماع
قراءة في دفاتر المذعورين 2488 استماع
خطبة عيد الفطر 2470 استماع
التوبة آثار وآفاق 2454 استماع