مطارق السنن الإلهية


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

هذا الدرس التاسع والأربعون من سلسلة الدروس العلمية العامة، ينعقد في هذه الليلة، ليلة الإثنين الثالث من شهر جمادى الثانية لعام ألف وأربعمائة وثلاث عشرة للهجرة، وعنوانه -كما أعلنت في المجلس السابق- (مطارق السنن الإلهية).

ومن الواضح جداً أن هذا العنوان يتحدث عن سنن التدمير لمن عصوا الله سبحانه وتعالى وخالفوا أمره، خلق الله تعالى الحياة للابتلاء فقال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2] فالإنسان -جنس الإنسان- مبتلى، قال تعالى: إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الإنسان:2] المؤمن مبتلى بإيمانه، قال الله عز وجل أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2] والكافر أيضاً: هو الآخر مبتلى، قال الله تعالى: كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:163] وهذه الحياة قُلبٌ لا تدوم على حال، ولا تبقى لأحد، كما قال فيها القائل:

حكم المنية في البرية جاري          ما هذه الدنيا بدار قرار

بينا يرى الإنسان فيها مخبرا      حتى يرى خبراً من الأخبار

طبعت على كدر وأنت تريدها      صفواً من الأقذاء والأكدار

ومكلف الأيام ضد طباعها      متطلب في الماء جذوة نار

فإذا أردت المستحيل فإنما       تبني الرجاء على شفير هار

فالعيش نوم والمنية يقظة      والمرء بينهما خيال سار

والنفس إن رضيت بذلك أو أبت منقادة بأزمة المقدار

فاقضوا مآربكم عجالى إنما      عماركم سفر من الأسفار

وتراكضوا خيل الشباب وبادروا     أن تسترد فإنهن عواري

إن الحياة كاسمها حركة لا تتوقف، وتغير لا ينتهي، وأحوال شتى يخلف بعضها بعضاً، ويخطئ كثير من الناس حين يعتقدون أن التاريخ يتوقف عند شخص معين، أو بلد، أو حاكم، أو دوله، أو أمة أبداً، ما زالت الدنيا تزول وتتغير، ولو بقيت لبقيت لرسل الله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام، ولو بقيت لبقيت للذين حكموا بشريعة الله تعالى، وقاتلوا دون كلمة التوحيد، وقدموا أرواحهم رخيصة في سبيل الله تعالى:

تروح لنا الدنيا بغير الذي غدت     وتحدث من بعد الأمور أمورُ

وتجري الليالي باجتماع وفرقة     وتطلع فيها أنجم وتغورُ

وتطمع أن يبقى السرور لأهله     وهذا محال أن يدوم سرورُ

ويقول آخر:

يا راقد الليل مسروراً بأوله       إن الحوادث قد يطرقن أسحارا

هذه الحركة في الحياة، ليست عبثاً ولا ارتجالاً، بل هي مربوطة بسنة وناموس تحكمها بإذن ربها، وهذه السنن والنواميس كثيرة جداً ومتنوعة، وما سوف يتناوله هذا الدرس -بإذن الله تعالى- هو جزء من هذه النواميس فحسب، يتعلق بسنن التدمير، تدمير الله تعالى للكافرين والفاسقين والظالمين، ويتعلق بالعقوبات الإلهية التي تحكم حركة الأمم حينما تضل عن الصراط المستقيم وتخالف أمر الله عز وجل، يتعلق بالسنة التي تحكم حركة الأمم في صعودها وهبوطها وشدتها ورخائها ونصرها وهزيمتها.

وهاهنا سؤال يطرح نفسه: لماذا نتحدث عن هذا الموضوع؟

تعظيماً لله تعالى

أولاً: نتحدث عن هذا الموضوع من باب تعظيم الله عز وجل، ومزيد الإيمان به، وذلك بالاطلاع على شيء من بديع حكمته وعظيم صنعته؛ إذ يعرف الإنسان الذي اطلع على سنن الله تعالى في الكون والحياة، أنه لا مكان في الحياة للصدفة العمياء -كما يقال- لا مكان في الحياة للفوضى والارتجال، قال تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49] وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: {كتب الله تعالى مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء} فكتب الله تعالى كل ما هو كائن في هذه الدنيا، سواء على مستوى الفرد، أم الجماعة، أم الأمة، أم الدولة، أم على مستوى البشرية كلها، وهكذا جاء عند أحمد والترمذي من حديث أبي هريرة بنحوه بسند صحيح.

إن الطبيب حين يطلع على شيء من خلق الله الخفي في الإنسان؛ يندهش ويصيح (لا إله إلا الله)، والعالم حين يرصد في منظاره نظام الأفلاك البديع الدقيق العظيم، ويرى عظيم ما أودع الله تبارك وتعالى فيها من جميل الصنعة وجليلها؛ يرتعش مسبحاً للخالق المبدع الكبير سبحانه وتعالى، بل الفلاَّح الذي يضع الحبة في التربة، ثم يسقيها بالماء فيراها تنشق عن شجيرة، ثم تصبح شجرة مثمرة مونعة مورقة، يشاهد فيها نفس الحياة ونماءها وجمالها فيسجد لله تعالى شكراً، فتجد أن الذين يرون صنعة الله تعالى، هم أقرب الناس إلى الله تعالى، وأولى الناس بالإيمان، ولعل مقارنة سريعة -مثلاً- بين الفلاح وبين الصانع تبرز ذلك، فالفلاح يتعامل مع صنعة الله تعالى، ومع خلق الله، ومع الأرض، ومع النبتة، مع الزهرة، ومع المطر؛ فيرى صنع الله تعالى فيكون أقرب إلى الإيمان، ولهذا جاءت نصوص كثيرة في الحث على الزراعة والفلاحة وبيان فضيلتها، لكن الصانع في أحيان كثيرة يتعامل مع ما عملته أيدي الناس، ويتعامل مع الآلة، لهذا يقسو قلبه، وتجمد نفسه، وتجف عينه؛ إلا من رحم الله تعالى لأن بينه وبين التعامل مع خلق الله تعالى، حاجزاً من صناعة الإنسان نفسه.

إذاً معرفة هذه السنن الكونية التي تحكم حياة الإنسان، وحياة الناس، وحياة الأمم والجماعات والأفراد؛ تدلك على شيء من عظيم صنع الله تعالى وبديع حكمته، فإذا اطلع المؤرخ -مثلاً- أو عالم الاجتماع، أو حتى الإنسان العادي، على آثار صنعة الله تعالى في حياة الأمم، وكيف حقت عليها كلمة الله، وكيف مضت عليها سنته، على غير ما يترقب الناس وعلى غير ما يتوقعون، فإنه يمتلئ إجلالاً وتوقيراً للواحد الأحد الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت، فيهتف قائلا كما قال الله عز وجل وأمر: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:27] سبحانه! يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29] من شأنه أن يعز أفراداً ويذل آخرين، ويرفع أقواماً ويضع آخرين، يغني هذا ويفقر ذاك، ويحيي هذا ويميت ذلك:

لك في البرية حكمة ومشيئة          أعيت مذاهبها أولي الألباب

إن شئت أجريت الصحاري أنهراً          أو شئت فالأمواج فيض سراب

ماذا دهى الإسلام في أبنائه          حتى انطووا في محنة وعذاب

فغناهُمُ فقر ودولة مجدهم               في الأرض نهب ثعالب وذئاب<

الاطمئنان إلى وعد الله بالنصر

أما ثانياً: فإن النظر إلى هذه السنن يهب المؤمن الاطمئنان إلى وعد الله تعالى بنصر المؤمنين والمسلمين والصادقين، وبالتدمير على الكافرين والفاسقين والمعاندين، فلا ييأس المؤمن؛ لأن عنده رسوخاً في إيمانه بأن المستقبل لهذا الدين.

إذاً معرفة هذه السنن تجعل المؤمن يرى حركة هذه السنن في الأمم الكافرة الممكنة وهي تتهاوى دولة بعد أخرى، ويوماً بعد آخر، وتحق عليها السنن في فساد اقتصادها، وفي فساد صناعتها، وفي فساد صحتها، في فساد اجتماعها، وفي المشاكل التي تواجهها، وفي التناقضات التي تعيشها، فيؤمن بأن الله تعالى الذي يحرك حياة الناس، ينتقل بهذه الأمم الكافرة من حضيض إلى آخر، وربما انتقل بالأمم الممكنة إلى درجات بعدها دركات، فيطمئن المؤمن إلى مصير هؤلاء الكافرين، وكذلك يرى المؤمن صنيع الله تعالى لعباده المؤمنين، وهو يجمعهم بعد تفرق، ويقويهم بعد ضعف، ويوحدهم بعد شتات، ويعلمهم بعد جهل، ويقيمهم بعد انحراف واعوجاج؛ فيطمئن، أما بالنسبة للكافرين فكما قيل:

إذا تم شيء بدا نقصه     ترقب زوالاً إذا قيل تم

وأما بالنسبة للمؤمنين:

وإذا رأيت من الهلال بدوه      أيقنت أن سيصير بدراً كاملا<

مجاراة المؤمن لهذه السنن والانتفاع بها

وثالثاً: معرفة هذه السنن الإلهية، تجعل المؤمن يجاري هذه السنن، وينتفع بها ويستفيد منها، فإن موافقة السنن الإلهية سبب للنجاح والفلاح، وإهمال هذه السنن أو الجهل بها سبب للدمار والبوار.

وقد قص الله علينا في كتابه أخبار أمم كثيرة، ممن استفادوا من هذه السنن، آمنوا بها وعرفوها وراقبوها ورصدوها، واغتنموا الانتفاع بها، فوهبهم الله تعالى النصر، والتمكين، والقوة، والسعادة في الدنيا وفي الآخرة، كما قص علينا قصص أمم أخرى جهلت هذه السنن، أو عرفتها ولكنها لم تعمل بموجبها، فحقت عليها كلمة العذاب، فلم ينقذهم بعد ذلك ما كانوا فيه من قوة ونصر حينما بدأت عوامل الانحراف وعوامل الضعف تعمل فيهم عملها.

القدرة على تفسير الأحداث

رابعاً: إن معرفة الإنسان بالسنن الكونية تمنحه بإذن الله تعالى قدرة على تفسير الأحداث -خاصة الكبرى- تفسيراً شرعياً سليماً.

كثير من الناس ينطلقون من منطلقات صغيرة، ومنطلقات آنية ووقتية، ولا يملكون القدرة على ربط النتائج بالأسباب، وقد يبهرهم الواقع الماثل المشهود، فيغفلون بمشاهدته والنظر إليه عن رؤية الماضي العريق أو عن رؤية المستقبل المنشود.

أحد الدكاترة يقول: كنت مع صديق لي في قاعدة في بلاد الغرب، وهي التي أطلقوا منها ما يسمى بالمكوك الفضائي (تشالنجر) فيقول: كان زميلي إلى جواري ونحن نترقب إطلاق هذا القمر، فكان يتحدث بإفاضة واسترسال عن التقدم الغربي والتكنولوجيا الغربية، وما وصلوا إليه من تقنية، وهذا التقدم المذهل الذي حصل، ويتكلم عن ذلك حديث المعجب المبهور، يقول: فما هي إلا ثوانٍ حتى أطلقوا هذا الصاروخ، فانفجر بعد ثوانٍ من إطلاقه، فانقلب زميلي في لحظة واحدة، واعتبر أن هذا الذي حصل من انفجار الصاروخ في ثوانٍ، قال: هذه ضربة إلهية قاصمة، موجهة لغطرسة أمريكا التي ما فتئت تعتدي على الشعوب الضعيفة المضطهدة والتي والتي والتي، فانقلب رأساً على عقب خلال ثوانٍ بدلاً من أنه كان يطري الحضارة الغربية، وتقدمها المذهل، انقلب ليتكلم عن هذه الضربة الإلهية الموجهة إلى غطرسة أمريكا وكبريائها، وهذا يدل بكل تأكيد أنه لم يكن يملك معرفة صحيحة بالسنن الكونية، لا أولاً ولا ثانياً، أما أولاً فإن هذه الغطرسة، وهذه القوة، وهذه التقنية التي يملكها الغرب تمت لهم وفق سنة إلهية مدروسة معروفة، ويمكن أن تواجهها وتقضي عليها سنة إلهية أخرى أيضاً، كما أن هذا الانفجار نفسه، لا يعني أن الإنسان يتجاهل كل ما سبق وكل ما مضى، لأنه ما مر زمان طويل إلا واستطاعوا أن يتلافوا بعض الأخطاء، وبعض الأمور التي جعلتهم يحاولون هذا الأمر مرة أخرى، وثانية، وثالثة، ورابعة.

إذاً: هم يحاولون أن يستفيدوا من السنن، ولا ييأسون ويعملون بالأسباب، أما المسلم فإنه في كثير من الأحيان يجهل هذه السنن، فضلاً عن أن يعرفها أو أن يفيد منها.

إذاً من يملك المعرفة بالسنن الإلهية؛ فإنه يعرف التاريخ، ويعرف الواقع، ويعرف -بإذن الله تعالى- بشائر المستقبل، وفي كثير من الأمثال يقولون: التاريخ يعيد نفسه.

صحيح أن السنن الإلهية التي حكمت في القرون الغابرة، هي التي حكمت الناس اليوم، وهي التي تحكمهم غداً -بإذن الله تعالى-

إن للحياة البشرية سنناً كحياة الإنسان فكما أن لحياة الإنسان سنناً، وكما أن للوجود وللكون أيضاً سنناً، فكذلك الحياة البشرية. وأضرب لك مثلاً: الإنسان يمر بحالة الطفولة، أول ما يولد من ضعف كما قال الله تعالى: والله خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ [الروم:54] ثم ينتقل إلى مرحلة الشباب، وفيها الفتوة والقوة، ثم يصل إلى درجة الكمال البشري المقدر له، وهو بكل حال ضعف، ليس كمالا مطلقا، لكنه أقوى، وآخر ما يصل إليه الإنسان حينما يبلغ الأشد، كما قال تعالى: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً [الأحقاف:15] بعد ما يبلغ الإنسان القمة، يبدأ في النقص، فالهرم ثم الموت، إذاً هي حركة بإذن الله تعالى تبدأ من الضعف وتنتهي إلى الضعف، ثم الموت، هذا بالنسبة للإنسان.

اننتقل إلى الكون، انظر إلى الشمس -مثلاً- تجد أن الشمس تطلع كل يوم في كل صباح، وأول ما تطلع الشمس تكون أشعتها باهته باردة، بل تطلع وبعضها صفراء ليس فيها ذاك التوقد، ولا تلك الحرارة، ولا ذلك الإشراق القوي، فهي بداية كأية بداية، وما تزال الشمس ترتقي في كبد السماء وتشتد أشعتها وتتوهج أكثر وأكثر، حتى إذا توسطت كبد السماء في وقت الزوال كانت في قمة حرارتها، وقمة توهجها، بعد ذلك مباشرةً يبدأ نقصها، فتنتقل إلى جهة الغروب، وتبدأ تفقد حرارتها وقوتها وإشراقها وبياضها وصفاءها، وهكذا حتى تغرب في آخر النهار.

وإذا كان هذا الكلام بالنسبة للإنسان، وهذا الكلام بالنسبة للشمس، فالكلام بالنسبة للأمم، أو للدول، أو للحضارات، هو كذلك فمثلاً الحضارة تبدأ ببذرة بسيطة، همة عالية في نفس إنسان، أو طموح وتوقد، ويرتقي في مدارج الكمال شيئاً فشيئاً، ثم يصل إلى القمة في النبوغ والعلو، وبعد ما يصل الإنسان إلى غايته وقمته تصل الأمم إلى غاية كمالها، ثم تبدأ عوامل النقص وعوامل الاسترخاء والدمار تنخر فيها شيئاً فشيئاً، ويبدأ -كما يقولون- العد التنازلي الذي لا يحول دون تحققه أن يتيقظ له بعض العقلاء، فينتبهون إلى أن الأمة بدأت تسقط، بدأت تنهار، وبدأت تضعف، لكن كما يقول المثل: (العين بصيرة واليد قصيرة) لا يملكون دفع هذه السنن الإلهية، لأنها سنة جارية عليهم بلا ريب، وهذه السنة هي الناموس الدائم الذي وضعه الله تعالى للكون والإنسان، أو كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله قال: " هي عادة الله تعالى المعلومة في أوليائه وأعدائه".

أولاً: نتحدث عن هذا الموضوع من باب تعظيم الله عز وجل، ومزيد الإيمان به، وذلك بالاطلاع على شيء من بديع حكمته وعظيم صنعته؛ إذ يعرف الإنسان الذي اطلع على سنن الله تعالى في الكون والحياة، أنه لا مكان في الحياة للصدفة العمياء -كما يقال- لا مكان في الحياة للفوضى والارتجال، قال تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49] وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: {كتب الله تعالى مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء} فكتب الله تعالى كل ما هو كائن في هذه الدنيا، سواء على مستوى الفرد، أم الجماعة، أم الأمة، أم الدولة، أم على مستوى البشرية كلها، وهكذا جاء عند أحمد والترمذي من حديث أبي هريرة بنحوه بسند صحيح.

إن الطبيب حين يطلع على شيء من خلق الله الخفي في الإنسان؛ يندهش ويصيح (لا إله إلا الله)، والعالم حين يرصد في منظاره نظام الأفلاك البديع الدقيق العظيم، ويرى عظيم ما أودع الله تبارك وتعالى فيها من جميل الصنعة وجليلها؛ يرتعش مسبحاً للخالق المبدع الكبير سبحانه وتعالى، بل الفلاَّح الذي يضع الحبة في التربة، ثم يسقيها بالماء فيراها تنشق عن شجيرة، ثم تصبح شجرة مثمرة مونعة مورقة، يشاهد فيها نفس الحياة ونماءها وجمالها فيسجد لله تعالى شكراً، فتجد أن الذين يرون صنعة الله تعالى، هم أقرب الناس إلى الله تعالى، وأولى الناس بالإيمان، ولعل مقارنة سريعة -مثلاً- بين الفلاح وبين الصانع تبرز ذلك، فالفلاح يتعامل مع صنعة الله تعالى، ومع خلق الله، ومع الأرض، ومع النبتة، مع الزهرة، ومع المطر؛ فيرى صنع الله تعالى فيكون أقرب إلى الإيمان، ولهذا جاءت نصوص كثيرة في الحث على الزراعة والفلاحة وبيان فضيلتها، لكن الصانع في أحيان كثيرة يتعامل مع ما عملته أيدي الناس، ويتعامل مع الآلة، لهذا يقسو قلبه، وتجمد نفسه، وتجف عينه؛ إلا من رحم الله تعالى لأن بينه وبين التعامل مع خلق الله تعالى، حاجزاً من صناعة الإنسان نفسه.

إذاً معرفة هذه السنن الكونية التي تحكم حياة الإنسان، وحياة الناس، وحياة الأمم والجماعات والأفراد؛ تدلك على شيء من عظيم صنع الله تعالى وبديع حكمته، فإذا اطلع المؤرخ -مثلاً- أو عالم الاجتماع، أو حتى الإنسان العادي، على آثار صنعة الله تعالى في حياة الأمم، وكيف حقت عليها كلمة الله، وكيف مضت عليها سنته، على غير ما يترقب الناس وعلى غير ما يتوقعون، فإنه يمتلئ إجلالاً وتوقيراً للواحد الأحد الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت، فيهتف قائلا كما قال الله عز وجل وأمر: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:27] سبحانه! يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29] من شأنه أن يعز أفراداً ويذل آخرين، ويرفع أقواماً ويضع آخرين، يغني هذا ويفقر ذاك، ويحيي هذا ويميت ذلك:

لك في البرية حكمة ومشيئة          أعيت مذاهبها أولي الألباب

إن شئت أجريت الصحاري أنهراً          أو شئت فالأمواج فيض سراب

ماذا دهى الإسلام في أبنائه          حتى انطووا في محنة وعذاب

فغناهُمُ فقر ودولة مجدهم               في الأرض نهب ثعالب وذئاب<

أما ثانياً: فإن النظر إلى هذه السنن يهب المؤمن الاطمئنان إلى وعد الله تعالى بنصر المؤمنين والمسلمين والصادقين، وبالتدمير على الكافرين والفاسقين والمعاندين، فلا ييأس المؤمن؛ لأن عنده رسوخاً في إيمانه بأن المستقبل لهذا الدين.

إذاً معرفة هذه السنن تجعل المؤمن يرى حركة هذه السنن في الأمم الكافرة الممكنة وهي تتهاوى دولة بعد أخرى، ويوماً بعد آخر، وتحق عليها السنن في فساد اقتصادها، وفي فساد صناعتها، وفي فساد صحتها، في فساد اجتماعها، وفي المشاكل التي تواجهها، وفي التناقضات التي تعيشها، فيؤمن بأن الله تعالى الذي يحرك حياة الناس، ينتقل بهذه الأمم الكافرة من حضيض إلى آخر، وربما انتقل بالأمم الممكنة إلى درجات بعدها دركات، فيطمئن المؤمن إلى مصير هؤلاء الكافرين، وكذلك يرى المؤمن صنيع الله تعالى لعباده المؤمنين، وهو يجمعهم بعد تفرق، ويقويهم بعد ضعف، ويوحدهم بعد شتات، ويعلمهم بعد جهل، ويقيمهم بعد انحراف واعوجاج؛ فيطمئن، أما بالنسبة للكافرين فكما قيل:

إذا تم شيء بدا نقصه     ترقب زوالاً إذا قيل تم

وأما بالنسبة للمؤمنين:

وإذا رأيت من الهلال بدوه      أيقنت أن سيصير بدراً كاملا<

وثالثاً: معرفة هذه السنن الإلهية، تجعل المؤمن يجاري هذه السنن، وينتفع بها ويستفيد منها، فإن موافقة السنن الإلهية سبب للنجاح والفلاح، وإهمال هذه السنن أو الجهل بها سبب للدمار والبوار.

وقد قص الله علينا في كتابه أخبار أمم كثيرة، ممن استفادوا من هذه السنن، آمنوا بها وعرفوها وراقبوها ورصدوها، واغتنموا الانتفاع بها، فوهبهم الله تعالى النصر، والتمكين، والقوة، والسعادة في الدنيا وفي الآخرة، كما قص علينا قصص أمم أخرى جهلت هذه السنن، أو عرفتها ولكنها لم تعمل بموجبها، فحقت عليها كلمة العذاب، فلم ينقذهم بعد ذلك ما كانوا فيه من قوة ونصر حينما بدأت عوامل الانحراف وعوامل الضعف تعمل فيهم عملها.

رابعاً: إن معرفة الإنسان بالسنن الكونية تمنحه بإذن الله تعالى قدرة على تفسير الأحداث -خاصة الكبرى- تفسيراً شرعياً سليماً.

كثير من الناس ينطلقون من منطلقات صغيرة، ومنطلقات آنية ووقتية، ولا يملكون القدرة على ربط النتائج بالأسباب، وقد يبهرهم الواقع الماثل المشهود، فيغفلون بمشاهدته والنظر إليه عن رؤية الماضي العريق أو عن رؤية المستقبل المنشود.

أحد الدكاترة يقول: كنت مع صديق لي في قاعدة في بلاد الغرب، وهي التي أطلقوا منها ما يسمى بالمكوك الفضائي (تشالنجر) فيقول: كان زميلي إلى جواري ونحن نترقب إطلاق هذا القمر، فكان يتحدث بإفاضة واسترسال عن التقدم الغربي والتكنولوجيا الغربية، وما وصلوا إليه من تقنية، وهذا التقدم المذهل الذي حصل، ويتكلم عن ذلك حديث المعجب المبهور، يقول: فما هي إلا ثوانٍ حتى أطلقوا هذا الصاروخ، فانفجر بعد ثوانٍ من إطلاقه، فانقلب زميلي في لحظة واحدة، واعتبر أن هذا الذي حصل من انفجار الصاروخ في ثوانٍ، قال: هذه ضربة إلهية قاصمة، موجهة لغطرسة أمريكا التي ما فتئت تعتدي على الشعوب الضعيفة المضطهدة والتي والتي والتي، فانقلب رأساً على عقب خلال ثوانٍ بدلاً من أنه كان يطري الحضارة الغربية، وتقدمها المذهل، انقلب ليتكلم عن هذه الضربة الإلهية الموجهة إلى غطرسة أمريكا وكبريائها، وهذا يدل بكل تأكيد أنه لم يكن يملك معرفة صحيحة بالسنن الكونية، لا أولاً ولا ثانياً، أما أولاً فإن هذه الغطرسة، وهذه القوة، وهذه التقنية التي يملكها الغرب تمت لهم وفق سنة إلهية مدروسة معروفة، ويمكن أن تواجهها وتقضي عليها سنة إلهية أخرى أيضاً، كما أن هذا الانفجار نفسه، لا يعني أن الإنسان يتجاهل كل ما سبق وكل ما مضى، لأنه ما مر زمان طويل إلا واستطاعوا أن يتلافوا بعض الأخطاء، وبعض الأمور التي جعلتهم يحاولون هذا الأمر مرة أخرى، وثانية، وثالثة، ورابعة.

إذاً: هم يحاولون أن يستفيدوا من السنن، ولا ييأسون ويعملون بالأسباب، أما المسلم فإنه في كثير من الأحيان يجهل هذه السنن، فضلاً عن أن يعرفها أو أن يفيد منها.

إذاً من يملك المعرفة بالسنن الإلهية؛ فإنه يعرف التاريخ، ويعرف الواقع، ويعرف -بإذن الله تعالى- بشائر المستقبل، وفي كثير من الأمثال يقولون: التاريخ يعيد نفسه.

صحيح أن السنن الإلهية التي حكمت في القرون الغابرة، هي التي حكمت الناس اليوم، وهي التي تحكمهم غداً -بإذن الله تعالى-

إن للحياة البشرية سنناً كحياة الإنسان فكما أن لحياة الإنسان سنناً، وكما أن للوجود وللكون أيضاً سنناً، فكذلك الحياة البشرية. وأضرب لك مثلاً: الإنسان يمر بحالة الطفولة، أول ما يولد من ضعف كما قال الله تعالى: والله خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ [الروم:54] ثم ينتقل إلى مرحلة الشباب، وفيها الفتوة والقوة، ثم يصل إلى درجة الكمال البشري المقدر له، وهو بكل حال ضعف، ليس كمالا مطلقا، لكنه أقوى، وآخر ما يصل إليه الإنسان حينما يبلغ الأشد، كما قال تعالى: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً [الأحقاف:15] بعد ما يبلغ الإنسان القمة، يبدأ في النقص، فالهرم ثم الموت، إذاً هي حركة بإذن الله تعالى تبدأ من الضعف وتنتهي إلى الضعف، ثم الموت، هذا بالنسبة للإنسان.

اننتقل إلى الكون، انظر إلى الشمس -مثلاً- تجد أن الشمس تطلع كل يوم في كل صباح، وأول ما تطلع الشمس تكون أشعتها باهته باردة، بل تطلع وبعضها صفراء ليس فيها ذاك التوقد، ولا تلك الحرارة، ولا ذلك الإشراق القوي، فهي بداية كأية بداية، وما تزال الشمس ترتقي في كبد السماء وتشتد أشعتها وتتوهج أكثر وأكثر، حتى إذا توسطت كبد السماء في وقت الزوال كانت في قمة حرارتها، وقمة توهجها، بعد ذلك مباشرةً يبدأ نقصها، فتنتقل إلى جهة الغروب، وتبدأ تفقد حرارتها وقوتها وإشراقها وبياضها وصفاءها، وهكذا حتى تغرب في آخر النهار.

وإذا كان هذا الكلام بالنسبة للإنسان، وهذا الكلام بالنسبة للشمس، فالكلام بالنسبة للأمم، أو للدول، أو للحضارات، هو كذلك فمثلاً الحضارة تبدأ ببذرة بسيطة، همة عالية في نفس إنسان، أو طموح وتوقد، ويرتقي في مدارج الكمال شيئاً فشيئاً، ثم يصل إلى القمة في النبوغ والعلو، وبعد ما يصل الإنسان إلى غايته وقمته تصل الأمم إلى غاية كمالها، ثم تبدأ عوامل النقص وعوامل الاسترخاء والدمار تنخر فيها شيئاً فشيئاً، ويبدأ -كما يقولون- العد التنازلي الذي لا يحول دون تحققه أن يتيقظ له بعض العقلاء، فينتبهون إلى أن الأمة بدأت تسقط، بدأت تنهار، وبدأت تضعف، لكن كما يقول المثل: (العين بصيرة واليد قصيرة) لا يملكون دفع هذه السنن الإلهية، لأنها سنة جارية عليهم بلا ريب، وهذه السنة هي الناموس الدائم الذي وضعه الله تعالى للكون والإنسان، أو كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله قال: " هي عادة الله تعالى المعلومة في أوليائه وأعدائه".

وهاهنا سؤال أيضاً، سؤال آخر يطرح نفسه، لماذا يجهل الناس هذه السنن والنواميس الإلهية؟

العمى والغفلة

أولاً: يجهلونها بسبب العمى الذي يجعل الإنسان يغفل عن هذه السنة، بل إن من الناس من يعتبر الحديث عن السنن نوعاً من التهويل والمبالغة، ويقول: أنتم أحياناً تستخدمون هذه السنن لمجرد التسلية، فأنتم تنظرون إلى الأمم الغربية الكافرة وهي ممكنة، وتنظرون إلى الأمم المسلمة وهي ضعيفة مغلوبة على أمرها، فتحاولون أن تتسلوا، أو تغرُّوا أنفسكم بالحديث عن المستقبل أو الحديث عن السنن، هكذا لأنهم أصيبوا بالعمى، فأصبح الواحد منهم غير قادر على النظر إلى الماضي، ولا إلى المستقبل، بل وليس قادراً على النظر إلى الواقع نظرة عميقة تتجاوز السطح إلى الأعماق.

الفارق الطويل بين السبب والنتيجة

والسبب الثاني الذي يجعل كثيراً من الناس يجهلون هذه السنن، هو أن السنة أثرها بعيد، والفارق والفاصل بين السبب والنتيجة طويل قد لا يدركه الإنسان في عمره المحدود، إنما يدركه الذين ينظرون إلى مساحة واسعة، وربما امتدت المسافة بين السبب وبين النتيجة -مثلاً- بين الظلم الذي يقع وبين عقوبته، وربما امتدت المسافة إلى عمر جيل بأكمله، فربما حصد جيل ثمرة لم يكن هو الذي غرسها، وربما غرس جيل آخر شجرة، يقطف ثمرتها غيره.

مثال: الظلم يقع اليوم وتظل الجهة التي قامت بالظلم، ومارست الظلم، وتسلطت على البلاد والعباد، وظلمت الناس في أنفسهم، وفي أرزاقهم، وفي حقوقهم وفي أعراضهم، تظل هذه الجهة الظالمة لفترة ما، ممكنة في الأرض، منهمكة في قهرها، وتسلطها وطغيانها، فحينئذ يشك بعض الناس- أصحاب النظر القصير- يشكون في هذه السنن ويقولون: أين السنة الإلهية من هذا الظلم الفادح الواقع الذي لم تأت عقوبته؟ ثم تقع نتيجة هذا الظلم بعد زمان يطول أو يقصر، الله تعالى أعلم به، فهو مقدر الأقدار سبحانه، تقع نتيجة هذا الظلم -مثلاً- بعد عشرات السنين، فبعض الناس يعون ويدركون، ويقولون: هذه العقوبة نتيجة ظلم قديم يتذكرونه، أما آخرون، فإنهم يصرون على تجاهل السنة، محتجين بواقع آخر ظالمٍ لم تجر عليه السنة، فإذا قلت لهم اليوم مثلاً: إن ما حصل بهذه الجهة أو تلك سبب للظلم الذي حصل قبل عشر أو عشرين أو ثلاثين أو مائة سنة، قالوا: لا يا أخي، لو كان هذا كذلك، فلماذا تجد المكان الآخر فيه ظلم ومع ذلك لم تحق عليه السنة الإلهية، ولم يؤاخذه الله تعالى بظلمه؟

مثال لجهل الناس بالفارق

فمثلاً: تسلط شاه إيران زمانا على بلاده، وسام الناس سوء العذاب، واستخدم كل ما وهبه الله تعالى وكل ما مكنه منه من القوة والبطش والإرهاب والمال والتخطيط والخبراء والأجهزة الأمنية الضخمة التي كان على رأسها جهاز السافاك المشهور، استخدمها في التسلط والقوة، والبطش والقضاء على إنسانية الناس، على أنفسهم، وعلى أرواحهم، وتدمير المعنى الحقيقي لوجود الإنسان، واستخدم من وراء ذلك الدعم الغربي الذي كان يملكه، لأنه كان يقوم بالدور المشبوه، كشرطي في المنطقة يعمل لخدمة المصالح الغربية.

وظل على هذا زماناً طويلاً، وبالمقابل أيضاً كان هذا الرجل فاسداً بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، فاسداً في أخلاقه، لا يعرف إلا في الليالي الحمراء الداعرة التي كان يقيمها في كل مكان، وما زالت الوثائق تحتفظ بتاريخه الأسود في مثل تلك الليالي الحمراء السوداء، ظل على هذا زماناً طويلاً، ثم حقت عليه سنة الله تعالى فسقط.

فالذين يدركون حقيقة السنن الإلهية، نظروا واعتبروا، وقالوا: لقد حقت السنة على هذا الظالم الآثم الفاجر اليوم، وتحق السنة غداً على إخوانه ونظرائه ممن فعلوا مثل فعله، وسلكوا مثل طريقه، لكن آخرين ممن يجهلون السنن الإلهية، ولا يعرفون ربط الأسباب بالنتائج، يقولون: لا، لا يمكن أن يكون هذا نتيجة انطباق سنة على هذا الظالم الآثم الباغي، بدليل أن هناك ظالمين آثمين باغين طغاة آخرين، لم تجر عليهم هذه السنة، ولا زالوا يتمتعون بمثل ما كان يتمتع به في الأمس، فيجهلون لذلك السنة، وينسون أن هؤلاء لم يأت عليهم الدور بعد، وسنة الله تعالى ماضية في الأولين، كما هي ماضية في الآخرين.

مثل آخر: سقوط الشيوعية -مثلا- لمخالفتها للسنة، ومخالفتها للشرع، ومخالفتها للفطرة، هذا السقوط يمكن أن يفسره إنسان على أنه سنة إلهية حقت على هذه الأمة الكافرة الظالمة الملحدة، لكن تجد آخر يقول لك: لا، يا أخي، لو كان ذلك كذلك، فلماذا نجد أن الغرب الآن ممكَّن، يملك القوة، ويملك البطش، ويملك الإرهاب، ويملك كل وسائل التمكين في الأرض، فلو كانت السنة حقت على الشرق الكافر الملحد، لماذا لم تحق السنة على الغرب العلماني أيضاً؟

وأقول: إن السنة التي حقت على الشرق، ستحق على الغرب، والسنة التي حقت على شاه إيران، ومن قبله من الطغاة، كـالنمرود، وفرعون، وهامان، وقارون، وأبي جهل، وأبي بن خلف، وغيرهم، سوف تحق على إخوانهم شاءوا أم أبوا، عرفوا أم جهلوا، أدركوا أم لم يدركوا، فسنة الله تعالى لا تحابي أحداً، ولا تجامل أحداً، وهي ماضية على هؤلاء كما مضت على أولئك، لكن لا يلزم أبداً أن تكون الصورة واحدة، فمثلاً سقوط الغرب، لا يلزم أن يكون بنفس الصورة التي سقط بها الشرق.

الشيوعية -مثلاً- كانت تسلك أسلوب القوة، وأسلوب الاستبداد والقهر والدكتاتورية، الحكم بالبطش والحديد والنار، وهذا يستفز مشاعر الناس، يهيجهم، ويحركهم، ويبعث فيهم التحدي والمواجهة والمقاومة، ولذلك فإن الشيوعية تهاوت بسرعة، لأن الناس كانوا مليئين بالأحقاد والضغائن والكراهية، عليها فما أن أتيحت لهم أول فرصة مما يسميه جورباتشوف بالبروسترويكا، أي الإصلاح والتغيير، أو إعادة البناء، إلا وبدأ الناس يتذمرون ويعربون عن مشاعرهم، حتى وصلت الشيوعية لا أقول وصلت، لأنها لم تصل بعد إلى الحضيض، لكنها بدأت تتهاوى، وبدأ الغرب يتخوف من النتائج الأليمة، التي سوف تتبع ذلك، فقبل أيام كنت أقرأ تقاريراً، تتوقع احتمال حصول حروب أهلية نووية مدمرة بين الجمهوريات السوفيتية، ويتكلمون عن أن أكبر خطأ في تقديرهم هم، في تقدير مخابراتهم الغربية أكبر خطأ، وقعوا فيه، هو أنهم لم يسارعوا إلى إسعاف الاقتصاد الروسي، في فترة مضت، تأخروا وتباطئوا في ذلك مما ترتب عليه وصول الجمهوريات السوفيتية إلى درجة لا يمكن تداركها أو تلافيها.

أما الغرب فلا شك أن النظام الذي يحكمه ليس نظاما استبدادياً، ولكن نظام ديمقراطي، ولذلك سوف تكون الطريقة التي ينهار بها الغرب، مختلفة -والله تعالى أعلم- عن الطريقة التي انهار بها الشرق، فإذا كان انهيار الشرق انهياراً سريعا عارماً في لحظة، فانهيار الغرب لا يمنع أن يكون بطيئا تدريجياً، قد لا يحس به الكثيرون، إلا الذين يرقبون الأحداث بدقة وبصيرة.

أولاً: يجهلونها بسبب العمى الذي يجعل الإنسان يغفل عن هذه السنة، بل إن من الناس من يعتبر الحديث عن السنن نوعاً من التهويل والمبالغة، ويقول: أنتم أحياناً تستخدمون هذه السنن لمجرد التسلية، فأنتم تنظرون إلى الأمم الغربية الكافرة وهي ممكنة، وتنظرون إلى الأمم المسلمة وهي ضعيفة مغلوبة على أمرها، فتحاولون أن تتسلوا، أو تغرُّوا أنفسكم بالحديث عن المستقبل أو الحديث عن السنن، هكذا لأنهم أصيبوا بالعمى، فأصبح الواحد منهم غير قادر على النظر إلى الماضي، ولا إلى المستقبل، بل وليس قادراً على النظر إلى الواقع نظرة عميقة تتجاوز السطح إلى الأعماق.

والسبب الثاني الذي يجعل كثيراً من الناس يجهلون هذه السنن، هو أن السنة أثرها بعيد، والفارق والفاصل بين السبب والنتيجة طويل قد لا يدركه الإنسان في عمره المحدود، إنما يدركه الذين ينظرون إلى مساحة واسعة، وربما امتدت المسافة بين السبب وبين النتيجة -مثلاً- بين الظلم الذي يقع وبين عقوبته، وربما امتدت المسافة إلى عمر جيل بأكمله، فربما حصد جيل ثمرة لم يكن هو الذي غرسها، وربما غرس جيل آخر شجرة، يقطف ثمرتها غيره.

مثال: الظلم يقع اليوم وتظل الجهة التي قامت بالظلم، ومارست الظلم، وتسلطت على البلاد والعباد، وظلمت الناس في أنفسهم، وفي أرزاقهم، وفي حقوقهم وفي أعراضهم، تظل هذه الجهة الظالمة لفترة ما، ممكنة في الأرض، منهمكة في قهرها، وتسلطها وطغيانها، فحينئذ يشك بعض الناس- أصحاب النظر القصير- يشكون في هذه السنن ويقولون: أين السنة الإلهية من هذا الظلم الفادح الواقع الذي لم تأت عقوبته؟ ثم تقع نتيجة هذا الظلم بعد زمان يطول أو يقصر، الله تعالى أعلم به، فهو مقدر الأقدار سبحانه، تقع نتيجة هذا الظلم -مثلاً- بعد عشرات السنين، فبعض الناس يعون ويدركون، ويقولون: هذه العقوبة نتيجة ظلم قديم يتذكرونه، أما آخرون، فإنهم يصرون على تجاهل السنة، محتجين بواقع آخر ظالمٍ لم تجر عليه السنة، فإذا قلت لهم اليوم مثلاً: إن ما حصل بهذه الجهة أو تلك سبب للظلم الذي حصل قبل عشر أو عشرين أو ثلاثين أو مائة سنة، قالوا: لا يا أخي، لو كان هذا كذلك، فلماذا تجد المكان الآخر فيه ظلم ومع ذلك لم تحق عليه السنة الإلهية، ولم يؤاخذه الله تعالى بظلمه؟

فمثلاً: تسلط شاه إيران زمانا على بلاده، وسام الناس سوء العذاب، واستخدم كل ما وهبه الله تعالى وكل ما مكنه منه من القوة والبطش والإرهاب والمال والتخطيط والخبراء والأجهزة الأمنية الضخمة التي كان على رأسها جهاز السافاك المشهور، استخدمها في التسلط والقوة، والبطش والقضاء على إنسانية الناس، على أنفسهم، وعلى أرواحهم، وتدمير المعنى الحقيقي لوجود الإنسان، واستخدم من وراء ذلك الدعم الغربي الذي كان يملكه، لأنه كان يقوم بالدور المشبوه، كشرطي في المنطقة يعمل لخدمة المصالح الغربية.

وظل على هذا زماناً طويلاً، وبالمقابل أيضاً كان هذا الرجل فاسداً بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، فاسداً في أخلاقه، لا يعرف إلا في الليالي الحمراء الداعرة التي كان يقيمها في كل مكان، وما زالت الوثائق تحتفظ بتاريخه الأسود في مثل تلك الليالي الحمراء السوداء، ظل على هذا زماناً طويلاً، ثم حقت عليه سنة الله تعالى فسقط.

فالذين يدركون حقيقة السنن الإلهية، نظروا واعتبروا، وقالوا: لقد حقت السنة على هذا الظالم الآثم الفاجر اليوم، وتحق السنة غداً على إخوانه ونظرائه ممن فعلوا مثل فعله، وسلكوا مثل طريقه، لكن آخرين ممن يجهلون السنن الإلهية، ولا يعرفون ربط الأسباب بالنتائج، يقولون: لا، لا يمكن أن يكون هذا نتيجة انطباق سنة على هذا الظالم الآثم الباغي، بدليل أن هناك ظالمين آثمين باغين طغاة آخرين، لم تجر عليهم هذه السنة، ولا زالوا يتمتعون بمثل ما كان يتمتع به في الأمس، فيجهلون لذلك السنة، وينسون أن هؤلاء لم يأت عليهم الدور بعد، وسنة الله تعالى ماضية في الأولين، كما هي ماضية في الآخرين.

مثل آخر: سقوط الشيوعية -مثلا- لمخالفتها للسنة، ومخالفتها للشرع، ومخالفتها للفطرة، هذا السقوط يمكن أن يفسره إنسان على أنه سنة إلهية حقت على هذه الأمة الكافرة الظالمة الملحدة، لكن تجد آخر يقول لك: لا، يا أخي، لو كان ذلك كذلك، فلماذا نجد أن الغرب الآن ممكَّن، يملك القوة، ويملك البطش، ويملك الإرهاب، ويملك كل وسائل التمكين في الأرض، فلو كانت السنة حقت على الشرق الكافر الملحد، لماذا لم تحق السنة على الغرب العلماني أيضاً؟

وأقول: إن السنة التي حقت على الشرق، ستحق على الغرب، والسنة التي حقت على شاه إيران، ومن قبله من الطغاة، كـالنمرود، وفرعون، وهامان، وقارون، وأبي جهل، وأبي بن خلف، وغيرهم، سوف تحق على إخوانهم شاءوا أم أبوا، عرفوا أم جهلوا، أدركوا أم لم يدركوا، فسنة الله تعالى لا تحابي أحداً، ولا تجامل أحداً، وهي ماضية على هؤلاء كما مضت على أولئك، لكن لا يلزم أبداً أن تكون الصورة واحدة، فمثلاً سقوط الغرب، لا يلزم أن يكون بنفس الصورة التي سقط بها الشرق.

الشيوعية -مثلاً- كانت تسلك أسلوب القوة، وأسلوب الاستبداد والقهر والدكتاتورية، الحكم بالبطش والحديد والنار، وهذا يستفز مشاعر الناس، يهيجهم، ويحركهم، ويبعث فيهم التحدي والمواجهة والمقاومة، ولذلك فإن الشيوعية تهاوت بسرعة، لأن الناس كانوا مليئين بالأحقاد والضغائن والكراهية، عليها فما أن أتيحت لهم أول فرصة مما يسميه جورباتشوف بالبروسترويكا، أي الإصلاح والتغيير، أو إعادة البناء، إلا وبدأ الناس يتذمرون ويعربون عن مشاعرهم، حتى وصلت الشيوعية لا أقول وصلت، لأنها لم تصل بعد إلى الحضيض، لكنها بدأت تتهاوى، وبدأ الغرب يتخوف من النتائج الأليمة، التي سوف تتبع ذلك، فقبل أيام كنت أقرأ تقاريراً، تتوقع احتمال حصول حروب أهلية نووية مدمرة بين الجمهوريات السوفيتية، ويتكلمون عن أن أكبر خطأ في تقديرهم هم، في تقدير مخابراتهم الغربية أكبر خطأ، وقعوا فيه، هو أنهم لم يسارعوا إلى إسعاف الاقتصاد الروسي، في فترة مضت، تأخروا وتباطئوا في ذلك مما ترتب عليه وصول الجمهوريات السوفيتية إلى درجة لا يمكن تداركها أو تلافيها.

أما الغرب فلا شك أن النظام الذي يحكمه ليس نظاما استبدادياً، ولكن نظام ديمقراطي، ولذلك سوف تكون الطريقة التي ينهار بها الغرب، مختلفة -والله تعالى أعلم- عن الطريقة التي انهار بها الشرق، فإذا كان انهيار الشرق انهياراً سريعا عارماً في لحظة، فانهيار الغرب لا يمنع أن يكون بطيئا تدريجياً، قد لا يحس به الكثيرون، إلا الذين يرقبون الأحداث بدقة وبصيرة.