علو الهمة
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
علو الهمة "لو كان الإيمان في الثريَّا لناله رجالٌ أمثال سلمان الفارسي".
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنَّا جُلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأُنزلَت عليه سورةُ الجمعة: ﴿ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ﴾ [الجمعة: 3].
قال: قلتُ: مَن هم يا رسول الله؟ فلم يُراجِعه حتى سأل ثلاثًا، وفينا سلمانُ الفارسيُّ، وضع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يدَه على سلمان ثمَّ قال: ((لو كان الإيمانُ عند الثُّريَّا لناله رجالٌ - أو رجلٌ - من هؤلاء)).
عن نَصر بن عاصمٍ اللَّيثي، عن أبيه، قال: سمعتُ النَّابغة، يقول:
أتيتُ رسولَ الله إذ جاء بالهدى
ويتلو كتابًا واضح الحقِّ نيِّرا
بلَغنا السَّماءَ مجدُنا وجُدودُنا
وإنَّا لنرجُو فوق ذلك مظهَرا
فقال لي: ((أين يا أبا ليلى؟))، فقلتُ: إلى الجنَّة، فقال: ((إن شاء الله))، فأنشدتُه:
ولا خير في جهلٍ إذا لم يكُن لهُ
حليمٌ إذا ما أورد الأمر أصدرا
ولا خير في حلمٍ إذا لم يكُن لهُ
بوادرُ تحمي صفوَه أن يُكدَّرا
فقال لي: ((صدقتَ، لا يفضُض الله فاك))، قال: فبقي عُمرُه أحسن ثغرًا، كلَّما سقطت سنٌّ عادت أُخرى مكانها وكان مُعمِّرًا.
قال رجاء بن حيوة (وزير عمر بن عبدالعزيز): كنتُ مع عمر بن عبدالعزيز لمَّا كان واليًا على المدينة، فأَرسلني لأشتري له ثوبًا، فاشتريتُه له بخمسمائة درهم، فلمَّا نظر فيه قال: هو جيِّد لولا أنه رخيص الثَّمَن!
فلمَّا صار خليفة للمسلمين، بعثني لأشتري له ثوبًا، فاشتريتُه له بخمسة دراهم! فلمَّا نظر فيه قال: هو جيِّد، لولا أنَّه غالي الثمن!
قال رجاء: فلمَّا سمعتُ كلامَه بكيتُ.
فقال لي عمر: ما يُبكيك يا رجاء؟
قلتُ: تذكرتُ ثوبَك قبل سنوات وما قلتَ عنه، فكشف عمر لرجاء بن حيوة سرَّ هذا الموقف وقال:
يا رجاء، إنَّ لي نفسًا توَّاقة، وما حققتُ شيئًا إلا تاقَت لما هو أعلى منه، تاقَت نفسي إلى الزواج من ابنةِ عمِّي فاطمة بنت عبدالملك فتزوجتُها، ثم تاقَت نفسي إلى الإمارة فوُلِّيتها، وتاقَت نفسي إلى الخلافة فنِلتها، والآن يا رجاء تاقَت نفسي إلى الجنَّة فأرجو أن أكون من أهلها.
اللهمَّ أدخلنا الجنةَ بغير حساب ولا سابقة عذاب.
وعلو الهمة قد يكون في أمر الدِّين أو في أمر الدنيا، وقد يكون في العِلم وقد يكون في العمل، وقد يكون في الاختراعات، إلى غير ذلك من الأمور، وقد قال الله سبحانه وتعالى في سورة آل عمران: ﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 145].
وقال تعالى في سورة الشورى: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ﴾ [الشورى: 20].
قوله تعالى: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ﴾ [الشورى: 20]،الحَرث: العمَل والكسب، ومنه قول عبدالله بن عمر: "واحرث لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنَّك تموت غدًا"، ومنه سمِّي الرجل حارثًا، والمعنى أي: مَن طلب بما رَزقناه حرثًا لآخرته، فأدَّى حقوقَ الله وأنفَق في إعزاز الدِّين فإنَّما نُعطيه ثوابَ ذلك للواحد عشرًا إلى سبعمائة فأكثر، ومَن كان يريد حرثَ الدُّنيا؛ أي: طلَب بالمال الذي آتاه الله رياسةَ الدنيا والتوصُّل إلى المحظورات، فإنَّا لا نَحرمه الرِّزقَ أصلًا، ولكن لا حظَّ له في الآخرة من ماله؛ قال الله تعالى: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ﴾ [الإسراء: 18، 19].
وقد خلَّد التاريخ ذكرَ أصحاب الهِمم العالية؛ ففي الحديث: أنَّ النبيَّ صل الله عليه وسلم قال فيما رواه الترمذي بإسناد صحيح: ((اللهمَّ أعزَّ الإسلام بأحبِّ هذين الرجلين إليك؛ بأبي جهل، أو بعمر بن الخطاب))، قال: وكان أحبهما إليه عمر.
وفي ابن ماجه بإسناد حسن أو صحيح: ((اللهمَّ أعزَّ الإسلام بعمر بن الخطاب)).
وأيضًا ذُكر عن عديِّ بن حاتمٍ قال: قلتُ: يا رسول الله، إنَّ أبي كان يصِلُ الرَّحِم ويفعلُ كذا وكذا، قال: ((إنَّ أباك أراد أَمرًا فأدرَكه))؛ يعني: الذِّكر.
عن ابن عمر قال: ذُكر حاتم عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: ((ذاك رجل أراد أمرًا فأدركه)).
وذُكر عن هند بنت عُتبة - وقد رآها بعضُ الناس مع ابنها معاوية بن أبي سفيان - فقالوا لها: إن عاش سادَ قومَه، فقالت: "ثكلتُه إن لم يَسُد إلَّا قومَه فقط".
ومن علوِّ الهمَّة في أمور الدنيا قصَّة مصباح أديسون:
كان لاختراع المصباح الكهربائي قصَّة مؤثِّرة في حياة أَديسون؛ ففي أحد الأيام مرضَت والدتُه مرضًا شديدًا، وقد استلزم الأمر إجراءَ عمليَّةٍ جراحيَّة لها، إلَّا أنَّ الطبيب لم يتمكَّن من إجراء العملية؛ نظرًا لعدم وجود الضَّوء الكافي، واضطرَّ للانتظار للصباح لكي يُجري العمليةَ لها؛ ومن هنا تولَّد الإصرار عند أديسون لكي يُضيء الليلَ بضوءٍ مبهِر، فانكبَّ على تجاربه ومحاولاته العديدة من أجل تَنفيذ فِكرته، حتى إنَّه خاض أكثر من 900 تجربة في إطار سَعيه من أجل نَجاح اختراعه.
ملاحظة: قيل: إنَّ أديسون قَبل اختراعه للمصباح الكهربائي قد حاول أكثر من 10000 محاولة لهذا الاختراع العظيم، ولم يسمِّها محاولات فاشِلَة، بل أسماها تَجارب لم تَنجح، ولنا هنا أن نتعلَّم من هذا المخترِع الصَّبرَ والثِّقة بالنَّفس والتفاؤل، ويقول أيضًا: تعلَّمتُ 10000 طريقة خطأ لصُنع المصباح.
إلى غير ذلك؛ من اكتشاف الطيران، واختراع الساعة، والكثير من الاختراعات والاكتشافات التي كانت على يد أصحاب الهِمَم العالية.
وقد انتشرَت كثير من قصصِ أَصحاب الهِمَم العالية الذين حقَّقوا نجاحات في كثير من الأمور، وهناك الكثير من أصحاب الهِمَم العالية الذين لم يَذكرهم التاريخ ولم تُنشر قصص نجاحهم، ولا يضرُّهم ذلك ما داموا قد حقَّقوا أهدافَهم ووصلوا إلى مُبتغاهم.
فعلى كلِّ إنسان أن يَسعى في رَفع همَّتِه وتحقيق أهدافه والاستفادةِ من تجارب أصحاب الهمَم العالية؛ كي يَختصر لنفسة الطريق، وعلى رأس القدوات في هذا الطَّريق النبيُّ صلى الله عليه وسلم، والصحابة، والصالحون.