أرشيف المقالات

خلق العباد في الدنيا من أجل الآخرة

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
خلق العباد في الدنيا من أجل الآخرة
 
الْحَمْدُ للهِ، نَحْمَدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا، ومن سيئاتِ أعمالِنا، مَن يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُه ورسولُه.
 
أمَّا بعدُ: فهل سألت نفسك: ما مدى تَغَلْغُل هذه الدنيا في قلبك؟ هل إلى الحد الذي أنساك أنها دار بلاء واختبار، وأن كل ما عليها فانٍ؟
 
ما أكثر ما ذكرت في شريعتنا بمعنى يدل على أنها ضئيلة، وأنها ليست إلا دار ممَرٍّ، وليست مقرًّا، ورغم هذا نتعامل بعضنا مع البعض، ومع ما سخره الله لنا في هذه الأرض على أننا مُخلَّدين فيها، قال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: ‏ما رأيت يقينًا أشبه بالشَّكِّ من يقين الناس بالموت، ثم لا يستعدُّون له.
 
ما أقساها قلوبنا! تبقى في غفلةٍ إلى أن يأتي يوم تتمنَّى فيه النفس أن ترجع لعلَّها تعمل صالحًا؛ ولكن الموت سرقها، لا موت البعيد عنها يذكرها ولا القريب منها يلينها، إننا سندخل آخر منازل الدنيا في حفرة ضيِّقة شديدة الظُّلْمة، إمَّا أن تكون لنا روضة من رياض الجَنَّة أو حفرة من حُفَر النار.
 
المُرْعِب أكثر أنه يأتي أجلُنا فجأةً، لا نستطيع أن نُصلِّي الفرض الذي ضاع منا، ولا أن نقرأ كلام الله، ولا أن نبرَّ والدينا، ولا أن نستسمح مَنْ أسأنا إليه بأيِّ كلمةٍ أو فعلٍ، ولا نترك ذاك الذنب الذي نُخفيه عن الأعيُن والنفس عليه بصيرة، ولا أن نُصلِح فساد تقصيرنا وفرط عصياننا، ولا أن نقول أذكارنا أو نُصلِّي نافلةً لعلَّها تُقرِّبنا إلى الله، ولا أن نتوقَّف عن الكذب أو الغيبة أو إفساد علاقات الأهل بالنميمة، الأعجب من هذا كله أن ينتهي أجَلُك، وأن تحمل مشاعر على الناس لا تُسمن ولا تُغني من جوع: حقدًا، حَسَدًا، عدواةً...
إلخ.
 
أمضينا حياتنا في أمراض قلوب، هل يا ترى سوف نأخذها معنا إلى قبورنا؟! بالله عليكم، ماذا نفعل بها أو الأصح: ما الذي تفعله بنا هناك؟!
 
ألم تخش على نفسك لحظة الموت والقبر، ما الذي يحدث بك هناك؟ ألم تجعل الجنة والنار نصب عينيك أم جعلت الدنيا وشقاءها؟! قال سبحانه: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ [الملك: 2].
 
أن يستقيم قلبُك ويمتلئ بمحبَّة اللّٰه ومعرفته بأسمائه وصفاته، وأن تطيعه بما أمر، ولا تلتفت لما تهواه نفسك، وأن يستقيم لسانُك؛ لأنه يجرُّك إمَّا إلى النَّار أو إلى الجنَّة، فانظر في أمرك إلى أين تُريد به أن يذهب بك!
 
وفي نهاية الاختبار هناك نتيجة؛ إمَّا أن تقر عينك، وتثلج صدرك، ويطيب قلبك، أو تستقبلك جهنم بشهيقها وزفيرها وشدة فورانها، حتى تكاد تتقطَّع من شدة غيظها، فهي انتظرت حتى طال انتظارُها، وخلقت من أجل الأشقياء الذين عصوا الله تعالى- اللهُمَّ عافنا - فلا بُدَّ من أن ينتشل كُلُّ أحَدٍ منا نفسَه من وَحْل القيل والقال والشهوات والشُّبُهات التي تملأ الأرجاء لتخرج دناءة الدُّنْيا من المضغة التي لو صلحت صلُحَ الجَسَدُ كُلُّه، وإذا فسدت فسد الجسدُ كُلُّه؛ لتشعر بعدها بأن نفسك ذهبت من دُنْيا فانية إلى آخرة باقية، وجنَّة عالية.
 
وكُلَّمَا أردت أن تَعيش مُطمَئنَّ النَّفس هادئَ البَال، ذكِّر نفسَك بسَارقِ العُمر واللَّذَّات حين أخذ أحد الأقرباء منك، ألم تَشعُرْ بمَدى دَنَاءة هذه الدُّنيا، ومَدى ضعفنا فيها؛ فلا حيلة لنا ولا قوَّة؟! وألم تتفكَّر بماذا رَحَل؛ بمالهِ أو بأهلهِ أو بثيابهِ؟!
 
حتَّى جَسَده سيَبْلى، ورُوحُهُ التي بين جَنبيه ستصعد إلى السَّماء، ولا يبقى معهُ إلَّا أعماله وأقواله وأفعاله، وحقوق اللّٰه التي فرضَها عليه وحقوق العباد ولو كانت مثقال ذرَّة يَرُدُّها اللّٰه لأهلها من حسناته، وإن لم يكن فيحمل سيئات صاحب الحقِّ؛ لذلك اعْفُ دائمًا عن الخَلْقِ ليعفو اللّٰه عنكم، فالدُّنيا لا تَسْتحِقُّ بأن يتجرَّأ أحدُنا على عصيان اللّٰه بكلمة أو بنظرة أو بلباس أو بأدْنَى فئة من المال ومن أجل ماذا؟
 
لماذا تهون علينا أنفسنا؟! لدرجة أننا لا نأبه بأن يكون أي فعل لنا حلالًا كان أم حرامًا إلا أن يُرضي هوانا! وهناك مَنْ يخالف هواه ويرضيه ساعة على حدِّ قولة تقول: (ساعة لك، وساعة لربِّك)، وأمَّا عن قولِ ربِّنا جلَّ قدرُه: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162]، كل حياتي وما فيها له سبحانه، فكيف لا نسأل أنفسنا ونحاسبها على ما نطقت به ألسنتُنا أو ما رأته أعيُنُنا أو ما سَمِعناه بأُذُنينا، أو فعلناه بأيدينا، وقدمنا عليه بأرْجُلِنا؟! فإن لم يكن الشَّرع دستورَك في الحياة، فكن مُتأكِّدًا أنك ستضل الطريق وتتيه به حتى تُروِّض نفسَك أن تُقبل على طاعته بكل يُسْرٍ وحُبٍّ ويقينٍ، وتتأخَّر عن المعصية بكل رضًى وصبرٍ.
 
وكُلَّما كان همُّنا أن يمضي يومنا دون ذنوب زادت سعادتنا في الدنيا والآخرة، فهناك حقيقة يجب إدراكها: أننا لسنا في نزهةٍ؛ بل في مأمورية غاية في الأهمية: العمل الصالح لو نؤدِّيه ونحن مستشعرون ثوابَه لعظم في قلوبنا.
 
ونحن نتوضَّأ نستشعر أن ذنوبنا تسقط مع آخر قطرة ماء، وأنَّ أبواب الجنة الثمانية تفتح عندما ننتهي منه إذا قلنا الدعاء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُبْلِغُ أَوْ فَيُسْبِغُ الْوَضُوءَ ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أَيها شَاءَ)).
 
وإذا سَمِعْنا النداء فلنُردِّد مع المؤذِّن، ونسأل الله الوسيلة للنبي صلى الله عليه وسلم حتى ننال شفاعته، ثم نذهب إلى الصلاة مستشعرين أننا نقوم بأحَبِّ الأعمال إلى الله، وأنَّ الله ينصب لنا وجهه الكريم مُجرَّد أن نقف بين يديه ونتذكَّر قوله صلى الله عليه وسلم: (اذكر الموت في صلاتك، فإن الرجل إذا ذكر الموت في صلاتِهِ لَحَرِيٌّ أن يحسن صلاته، وصَلِّ صلاةَ رجلٍ لا يظُنُّ أن يُصلِّي صلاةً غيرها).
 
وإذا تصدَّقْت فتذكَّر أن الصدقة تدفع عنك البلاء، وتزيد في مالك، فلو رزقك الله ريالًا وتصدَّقْتَ بنصفه، فأنت تصدَّقْت بنصف مالِك ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [آل عمران: 92]، وكُنْ مستسلمًا دائمًا لأقدار الله، راضيًا عنها، واعلم أنك لو صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجور، ولو جزعت جرى عليك القدر وأنت مأزور.
 
فاصبر على قدر الله، وتوكَّل عليه فهو حسبك، وإن ظلمت أو أُسِيء إليك بأي فعل، فهذه فرصة لك لتكظم الغيظ وتعفو؛ لتُبشَّر بباب في الجنة للكاظمين الغيظ.
 
ولتكون من الذاكرين الله كثيرًا؛ اقتَدِ بالرسول صلى الله عليه وسلم، كان يذكر الله في كل أوقاته: عند النوم والاستيقاظ، عند الصباح والمساء، عند الدخول والخروج من البيت والمسجد، عند المرض والسفر، عند لبس الثوب لدخول الخلاء والخروج منه، والكثير من الأوقات لها أذكار نبويَّة يحصن بها العبد، وترفع بها درجته، وتغفر بها ذنبه.
 
وإذا دعيت فاستشعر أنَّه حَلٌّ لجميع المشاكل، وشفاء لجميع الأمراض، فلو شعرت بحجم خسارة من تعلق قلبُه بالدنيا، فإنه فوق خسارته الآخرة فإنه يخسر الدنيا نفسها، فقد قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم حديثًا عظيمًا: ((مَنْ كانت الدنيا همَّه فرَّق الله عليه أمره، وجعل فقرَه بين عينيه، ولم يأتِهِ من الدنيا إلا ما كُتِب له، ومَنْ كانَتِ الآخرةُ نيته، جمع الله له أمره، وجعل غِنَاه في قلبه، وأتَتْه الدنيا وهي راغمة))، سبحان الله! هناك من يجلب الشقاء لنفسه بنفسه، فهذه الخطورة تحتاج إلى قلبٍ خاشعٍ، ودعاء المضطر لله فإنه لا يردُّه سبحانه، وكان من أكثر ما يدعي به النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهُمَّ ولَا تَجْعَلْ الدنيا أكبرَ هَمِّنَا، ولَا مَبْلَغَ عِلْمِنا))، ((اللهُمَّ إنِّي أعوذ بك من نَفْسٍ لا تَشْبَع))، وقد فرَّق الرسول صلى الله عليه بين الدنيا والآخرة بقوله: ((واللهِ، ما الدنيا في الآخرةِ إلا مِثْلُ ما يجعلُ أحدُكم إصبعَه في اليمِّ، فلينظر بِمَ يرجِعُ))، وقال أيضًا: ((مَوضِعُ سَوطٍ في الجنَّةِ خَيرٌ من الدُّنيا وما فِيها)).
 
وقال في زهد الدنيا: ((مالي وللدنيا؟ إنما مثلي ومثلُ الدُّنيا كراكبٍ استظلَّ تحت شجرةٍ ثم راحَ وتركها)).
 
وقال في حال المُنْعِم والمُعذَّب: ((يُؤتَى يومَ القيامةِ بأنعَمِ أَهْلِ الدُّنيا منَ الكُفَّارِ، فيُقالُ: اغمِسوهُ في النَّارِ غَمسةً، فيُغمَسُ فيها، ثمَّ يقالُ لَهُ: أي فلانُ، هل أصابَكَ نعيمٌ قطُّ؟ فيقولُ: لا، ما أصابَني نعيمٌ قطُّ، ويؤتَى بأشدِّ المؤمنينَ ضرًّا وبلاءً، فيقالُ: اغمِسوهُ غمسةً في الجنَّةِ، فيُغمَسُ فيها غمسةً، فيقالُ لَهُ: أي فلانُ، هل أصابَكَ ضرٌّ قطُّ، أو بلاءٌ، فيقولُ: ما أصابَني قطُّ ضرٌّ، ولا بلاءٌ)).
 
وقوله جل وعلا: ﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [الحديد: 20].
 
فكل ما يُلْهينا عن الآخرة هو متاع الغرور، وكل هذه الآيات القرآنية والأحاديث النبويَّة للاعتبار، لعلَّنا نعي خطورة تغييب الآخرة عن عقولنا، وفي قوله تعالى توضيح المختصر المفيد لبقية الأيام ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ﴾ [القصص: 77]، قال جمهور المفسرين: وهو أن يعمل في دنياه لآخرته، ونصيبُ الإنسان: عمرهُ وعملُه الصالح، قال الزجَّاج: معناه: لا تَنْسَ أن تعمل لآخرتك؛ لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا الذي يعمل به لآخرته؛ ولهذا أثنى الله تعالى على مَنْ يدعو قائلًا: ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201].
 
قال ابن كثير: "فجمعت هذه الدعوةُ كلَّ خير في الدنيا، وصرَفت كلَّ شر؛ فإن الحسنة في الدنيا تشملُ كلَّ مطلوب دنيوي؛ من عافية، ودار رحبة، وزوجة حسنة، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هنيء، وثناء جميل، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عباراتُ المُفسِّرين، ولا منافاة بينها، فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا، وأمَّا الحسنة في الآخرة فأعلى ذلك دخول الجنة وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العَرَصات، وتيسير الحساب وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة".
 
اللهُمَّ اجْعَل عملي كُلَّه صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا.

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن