إعجاز علمي أم مصدقات القرآن العلمية؟!
مدة
قراءة المادة :
12 دقائق
.
إعجاز علمي أم مصدقات القرآن العلمية؟!مراجعة في المصطلح
التحدِّي المعجز:
تصدَّى مشركو مكة والعرب لدعوة الإسلام، نافرين منها بكل عزْمِهم وطُغيانهم، وبما انطوَت عليه نفوسُهم مِن شرٍّ، وبما أُشْرِبتْ به مِن عناد وصَلَف ومكابرة وجبروت، ولم يكونوا بدعًا مِن الأمم في ذلك.
ولكنهم إذا سمعوا القرآن الكريمَ تُتْلَى آياته، بهَرَهم مَنطِقُه، وأكبروا بُنيانه اللُّغوي العجيب، فلم يَعهدوه في قولٍ مما يَعرفون مِن قبل، وقد أَدركوا مُباينة هذا القرآن لكلام البشَر، وأيقَنوا أنه مِن عند الله.
ومع كل ذلك لم يؤمنوا، ولم يَنصاعوا لهذا الحق المبين، وكذَّبوا رسول الله فيما جاء به مِن عند ربِّه، واتَّهموه بافتراء آيات القرآن، وهو الصادق الأمين!
وقالوا: هي أساطير الأولين، ولَجُّوا في طغيانهم، حتى جاءهم التحدِّي المُعجز؛ لقد تحدَّاهم هذا القرآن - بآيات تُتلى على الناس - أن يأتوا بمثْل هذا القرآن، وهُم مَن هم في الفصاحة والبلاغة وعُلُوِّ البيان، ومَن مَلكوا ناصية القول، وقالوا في لُغتهم الشِّعر النفيسَ حتى جعلوه على جدار الكعبة، لقد تحدَّاهم، ونفَى قُدرتَهم على هذا التحدِّي؛ استِباقًا قاطعًا.
وثبتَ فيما بعد - ومع تطاول الأيام والسنين والقرون - أنهم يَعجزون عن نقض هذا التحدِّي، وهم يخوضون معركةً شرسةً مع الإسلام ورسوله، وكتابه وأتباعه.
قال سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء: 88].
وتتابعَت الدَّعوة، وصار المسلمون يزدادون يومًا بعد يوم، واشتدَّ إيذاءُ المشركين، واتخَذوا أساليبَ شتَّى، حتى هاجر بعضُ المسلمين إلى الحبشة؛ فرارًا بدينهم.
وأَدرَك المشركون ما للقرآن مِن تأثير على سامعه، فسَدُّوا على الناس مَنافذ السمع والإصغاء، وقعَدوا لهم كل طريق؛ حتى لا يصِل إليهم هذا القرآن، ويَروي النفوسَ الظَّمْأى للإيمان.
كان آخر ما نزل مِن التحدِّي لأهل الشرْك والكفر: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 23، 24].
• كان ذلك التحدِّي بسورة واحدة، وليستعينوا بمَن يُريدون.
• ويقطع عليهم التفكيرَ والمحاولة: ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾! إنه التحدِّي المُعجز.
• ثم ذلك التهديد والوعيد الذي تقشعر منه الأبدان: ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾.
فِيمَ كان التحدِّي المُعجز؟
مَن يُطَالع أدبيَّات الإعجاز يجِدْ أقوالًا كثيرةً عند القدماء والمحْدَثين والمعاصرين.
ولكن أفضل الآراء وأكثرها دقَّةً ما جاء به الأستاذ/ محمود محمد شاكر في تقديمه لكتاب مالك بن نبي "الظاهرة القرآنية".
يقول شاكر: (إنَّ التحدِّي الذي تضمَّنتْه الآياتُ السابقة إنما هو تحَدٍّ بلفظ القرآن ونَظْمه وبيانه، لا شيء خارج ذلك، فما هو تحدِّيًا بالغيب المكنون، ولا بالغيب الذي يأتي تصديقُه بَعد دهر مِن تنْزيله، ولا بعِلم ما لا يُدركه عِلم المخاطبين مِن العرب، ولا بشيء مِن المعاني ممَّا لا يتَّصل بالنظْم والبيان).
(وقد بيَّن الله تعالى في غير آية مِن كتابه أنَّ سماع القرآن يقتضيهم إدراك مُبايَنَته لكلامهم، وأنه ليس مِن كلام البشَر، بل هو مِن كلام ربِّ العالمين، وبهذا جاء الأمر في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [التوبة: 6]).
ويُعيد تأكيد هذه الحقائق في استنتاجاتٍ عدَّة، نأخذ منها اثنَين فقط:
1- (أنَّ الإعجاز كائن في رصف القرآن وبيانه ونَظْمه، ومباينة خصائصه لِلمعهود مِن خصائص كلِّ نظْم وبيان في لغة العرب).
2- (أنَّ ما في القرآن مِن مكنون الغيب، ومِن دقائق التشريع ومِن عجائب آيات الله في خلْقه، كل ذلك بِمَعزل عن هذا التحدِّي المفْضِي إلى الإعجاز، وأنَّ كل ما فيه مِن ذلك كله يعَدُّ دليلًا على أنه من عند الله تعالى، ولكن لا يدلُّ على أنَّ نظْمه وبيانَه مُبايِنانِ لكلام البشَر وبيانهم، وأنه بهذه المبايَنة كلامُ ربِّ العالمين، لا كلام البشَر).
ونحسب أنَّ ما يُعيده مِن فكْرته إنما ليؤكِّد هذا المعنى الذي ذهب إليه، وينفي ما يقوله الباحثون المعاصرون مِن أنَّ رصف القرآن وحقائقه الأخرى في منظومة واحدة مِن التحدِّي المعجز.
وإذا نظرنا فيما قاله شاكر فإننا نجد مِصداق رأيه فيما كان عليه العرب؛ فهم يُحسنون نظْم الشِّعر وتجويده، ومعرفة عالِيه وهابطِه، وقد تمرَّسوا في أساليب الفصاحة والبيان والإبانة عما يَعْتلج في نفوسهم بأعذب الكلام، فجعلوا للشِّعر مناسباتٍ تُلقى فيها قصائده، وتُعقد مجالس لنَقْده، لتفضيل الشعراء؛ لذا جاء التحدِّي فيما يُحْسنونه ويَعْلمونه، لا في ما لا يعلمونه.
مراجعة المصطلح: "الإعجاز العلمي في القرآن":
نشأ في الدراسات القرآنية التي تَعتَني بمقابلة بعض نتائج العِلم الحديث في شتَّى فروع المعرفة - بحقائق جاء بعضُها في القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية الشريفة، بما صار يُعرف بـ "الإعجاز العلمي".
وتشعَّب هذا "الإعجاز" إلى أنْ صار فروعًا كثيرةً، بعضُها قريب الدلالة على موضوعه، وبعضُها يَعتسِف العلاقة اعتسافًا بين الاسم والمسمَّى!
"الإعجاز العلمي للقرآن الكريم" في تعريف د.
زغلول النجار: (يُقصد به سبقُ هذا الكتاب العزيز "القرآن" بالإشارة إلى عددٍ مِن حقائق الكون وظواهره التي لم يَتمكَّن العِلم الكسْبِي من الوصول إلى فَهْم شيء منها إلا بَعد قرون متطاولة من تنَزيل القرآن الكريم) اهـ.
والاعتراض ليس على موضوع العِلم وعنايتِه بحقائق القرآن، ومقابلتها بحقائق العِلم الحديث التي تجوب الكون كله بعناصره من الأحياء والجماد.
وإنما الاعتراض على التسمية التي لا تُعبِّر عن مكانة هذه الآيات، ولا فقْه دلالتها على الإيمان بالله؛ فحقائق القرآن الكريم يجب ألَّا تُوصف "بالعِلْمية"؛ لأنها ليست مِن نتائج العِلم، ولا مِن رأي علمائه ولا مِن إنتاج تجاربهم في مختبَرات العِلم الحديث، وإنما هي حقائق قرآنية، صادقة في منطوقها وفي دلالتها.
والحقائق العلمية هي ما جاء مِن نتائج البحوث العلميَّة في المختبرات والجامعات ومراكز البحث، مما نطالعه كل يوم، ومما يشكِّل لَبِناتٍ في حضارة الإنسان الحديثة والمعاصرة، إنَّها مِن إنتاج العقل البشري.
وأما القول بـ "الإعجاز" عندما تَنكشف بعضُ الحقائق العلميَّة فنجدها متطابقةً مع الحقيقة القرآنية، أو بعض حقائق السُّنَّة النبوية؛ فليس ذلك "إعجازا"!
"فالتحدِّي المعْجِز" الذي عرَفناه في الآيات السابقة لا مكان له هنا؛ فذاك إنما تعلَّق ببناء القرآن اللغوي: "رصفه ونظْمه وبيانه" على ألفاظ شاكر، وليس بمضمون القرآن مما شُرح في الفقرات السابقة مِن أقوال شاكر أيضًا.
وهذا الكشف هو للناس كافَّةً مؤمِنِهم وكافرهم، وإنْ كان يخصُّ الكافرين الذين لم يؤمنوا بالإسلام، بعد كل ما ساقه القرآن الكريم مِن أدلة وبراهين؛ مصداقًا لآيات الله التي خاطبتهم بهذا منذ 1400 عام.
قال سبحانه وتعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصلت: 53].
ومن بلاغة القول وبيانه وفصْله ودلالته: أنَّ حقائق العِلم الحديث والتي تجيء مطابقة لحقائق القرآن إنما تأتي مِن جهود العلماء غير المسلمين، وهي نتائج بحوثهم في مختبراتهم، وهي تطابق حقائق القرآن أو السُّنَّة النبوية.
ونضرب لذلك مثَلَين:
تَساوي عُمرَيِ الأرض والقمر:
منذ أيام 26 /5/ 2010، صرَّح عالم ألماني لوسائل الإعلام: "أن عمر الأرض والقمر متساويان".
وقد جاءت هذه الحقيقة في مراجعة صوَّبت ذلك العمر نتيجةً لدراسات حديثة، ولم تقل جديدًا في المساواة.
وهذه المساواة عُرفت قبل ذلك، ولكن الجديد فيها تقدير يقِلُّ عن السابق بعدد يتراوح من 20 إلى 90 مليون عام.
وقد جاء في القرآن الكريم: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ [الأنبياء: 30] لقد كانت الأرض والقمر شيئًا واحدًا، بل كل ما نراه وما لا نراه من أجرام السماء.
لقد وُلِدت كلُّها من رَحِم واحد، وفي لحظه واحدة، فكُتب لهما تاريخ ميلاد واحد وصل إليه إنسان العصر بوسائله.
وإذا نظرنا في الخطاب وجدناه لغير المؤمنين.
والقرآن يقول: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾.
وهم "يرون" ويُعلنون ذلك في الناس كافة!
وهكذا صدَّقَت هذه الحقيقةُ العلمية الحقيقةَ القرآنية؛ وذاك بيان وإخبار وإعلام، ودليلُ صِدْق بأن هذا القرآن هو مِن عند الله.
شروق الشمس من المغرب:
ممَّا ألِفَه الناسُ أنَّ الشمس تطلع مِن الشرق، وتغيب في الغرب؛ جاء في الحديث النبوي قال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مَن تاب قبل أن تطلع الشمسُ مِن مَغربها تاب الله عليه))؛ رواه أبو هريرة، وهذا إخبار نبوي: ((تطلع الشمسُ مِن مغربها)).
فماذا يقول العِلم في ذلك؟
في البحث وراء هذه الحقيقة القرآنية يصِل الباحثُ إلى أمر عجيب؛ يخبرنا العِلم أن المريخ - ذلك الكوكب الهائل - قد انقلبتْ حركته في شهر أيلول 2007 فأَشْرقتْ شمسُه مِن المغرب!
ويقول العلماء: إنَّ ذلك يمكن أن يحدث لكواكب كثيرة، ومنها الأرض.
وفي شأن الأرض يقول العِلم: "إنَّ في الأرض مِغناطيسًا عظيمًا، هو السبب في أنَّ المغناطيس الصغير إذا عُلِّق تعليقًا حُرًّا على سطحها اتَّجه إلى الشمال والجنوب؛ معاكِسًا لوضْع المغناطيس في جوفها".
ويقول العلماء: "إنَّ نُقطتَي تأثير القُطْبين المغناطيسيَّيْن تتحرَّكان على صفحتي طرفيِ الأرض، وسيَأتي يومٌ تنقلب فيه المغناطيسية الأرضية، وعندها تنقلب حركة الأرض؛ لتصبح معاكِسةً لما هي عليه الآن، فتُشرق الشمسٌ مِن المغرب".
وقالوا أيضًا: "إنَّ ذلك حدَثَ للأرض عدَّة مرات في الماضي السحيق".
وهكذا نجد أن العِلم يُصَدِّق إخبارَ السَّنَّة النبوية.
وذلك البيان الذي عرضناه "لم يكن تحدِّيًا معجِزًا" على طريقة الطَّلب السابق فيما أثبتناه من آيات، وإنما كان إخبارًا يُصَدِّق حقائقَ السُّنَّة النبوية والقرآن الكريم؛ ليعلم غير المؤمنين "أنه الحقُّ مِن عند الله" وفاءً بالوعد: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا﴾، وذلك مما يُسعِد المؤمنين.
ولم تكُن المعجزة في يوم مِن الأيام - سواءٌ ما جاء به الرسل أمْ ما كان مع غيرهم - مناطَ معاجَزة لسبب بسيط؛ فالمعجزة تَحْمل في نفسها عجْزَ البشَر وغيرِهم عن مُجاراتها.
ونَخلص مما سَبق إلى أنَّ مصطلح: "الإعجاز العلمي للقرآن الكريم" هو مصطلح لا يدُلُّ على حقيقة المفهوم.
والمفهوم هو: مطابقة بعضِ حقائق العِلم الحديث لبعض حقائق القرآن الكريم؛ أيْ: إنَّ حقائق العِلم تُصَدِّق حقائق القرآن، ممَّا يدل على أن القرآن مِن عند الله.
وأن ذلك إنما يأتي في سياق إنجاز الوعد الإلهي: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصلت: 53].
لذلك؛ فإني أهِيبُ بالمهتمِّين العدولَ عن هذا المصطلح إلى آخَر هو: "مصدِّقات القرآن الكريم العلميَّة"؛ لأنه أكثر صِدْقًا في التعبير عن الوقائع، وانسجامًا مع النص القرآني الواعد، ونخرج حقائق القرآن مِن تبعِيَّتها لحقائق العِلم، إلى أن تكون حقائق العِلم تبعًا لحقائق القرآن.