شرح حديث أبي ذر: إني حرمت الظلم على نفسي
مدة
قراءة المادة :
41 دقائق
.
شرح حديث أبي ذر: إني حرمت الظلم على نفسيعَنْ سعيدِ بن عبد العزيز، عَنْ ربيعةَ بن يزيد، عن أبي إدريسَ الخولاني، عن أبي ذرٍّ جُندب بن جُنادة - رضي اللهُ عنه - عن النَّبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما يروي عن الله تبارك وتعالى أنَّه قال: « يا عبادي إنِّي حرمت الظلم على نفسي وجعلتُه بينكم محرمًا فلا تظالموا، يا عبادي، كلكم ضالٌ إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمتُه فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي، كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا: فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وأخركم، وأنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد في ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وأخركم، وأنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم؛ ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وأنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحدٍ فسَألوني فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المِخْيطُ إذا أدخل البحر، يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إيَّاها فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسَه» قال سعيد: كان أبو إدريس إذا حدَّث بهذا الحديث جثا على ركبتيه.
رواه مسلم وروينا عن الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - قال: ليس لأهلِ الشام حديثٌ أشرفَ من هذا الحديث.
قال العلَّامةُ ابنُ عثيمين - رحمه الله -:
قال المؤلف - رحمه الله تعالى - فيما نقله عن أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - في باب المجاهدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما يرويه عن ربه - تبارك وتعالى - يعني أن الرسول عليه الصلاة والسلام حدث عن الله أنه قال...
إلى آخره.
وهذا يسمى عند أهل العلم بـ«الحديث القدسي»، أو «الحديث الإلهي»، أما ما كان من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يسمى بـ «الحديث النبوي».
وهذا الحديث القدسي يقول الله تعالى فيه: «يا عبادي، إني حرَّمت الظلم على نفسِي»، أي: ألَّا أظلم أحدًا، لا بزيادة سيئات لم يعملها، ولا بنقص حسنات عملها، بل هو - سبحانه وتعالى - حكَمٌ عدل محسن، فحكمه وثوابه لعباده دائر بين أمرين: بين فضل وعدل، فضل لمن عمل الحسنات، وعدل لمن عمل السيئات، وليس هناك شيء ثالث وهو الظلم.
أما الحسنات فإنه - سبحانه وتعالى - يجازي الحسنة بعشر أمثالها، من يعمل حسنة يثاب بعشر حسنات، أما السيئة فبسيئة واحدة فقط، قال الله تعالى في سورة الأنعام، وهي مكية: ﴿ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ﴾ [الأنعام: 160]، ولا يظلمون بنقص ثواب الحسنات، ولا يظلمون بزيادة جزاء السيئات، بل ربنا - عزَّ وجلَّ - يقول: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا ﴾ [طه: 112]، ظلمًا بزيادة في سيئاته، ولا هضمًا بنقص من حسناته.
وفي قوله تعالى: «إنِّي حرَّمت الظلم على نفسِي» دليل على أنه - جلَّ وعلا - يحرم على نفسه، ويوجب على نفسه، فمما أوجب على نفسه: الرحمة، قال تعالى: ﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة ﴾ [الأنعام: 54]، ومما حرم على نفسه: الظلم، وذلك لأنه فعال لما يريد، يحكم بما يشاء، فكما أنه يوجب على عباده ويحرم عليهم؛ يوجب على نفسه ويحرم عليها - جلَّ وعلا - لأن له الحكم التام المطلق.
وقوله تعالى: «وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا»، أي: لا يظلم بعضكم بعضًا، و(الجعل) هنا هو الجعل الشرعي، وذلك لأن الجعل الذي أضافه الله إلى نفسه: إما أن يكون كونيًّا مثل قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ﴾ [النبأ: 10، 11]، وإما أن يكون شرعيًّا مثل قوله تعالى: ﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ ﴾ [المائدة: 103]، ما جعل: أي ما شرع، وإلا فقد جعل ذلك كونًا، لأن العرب كانوا يفعلون هذا، ومثل هذا الحديث: «جعلتُه بينكم محرمًا»، أي: جعلته جعلًا شرعيًّا لا كونيًّا، لأن الظلم يقع.
وقوله: «جعلتُه بينكم محرمًا»، الظلم بالنسبة للعباد فيما بينهم يكون في ثلاثة أشياء بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله وهو يخطب الناس في حجة الوداع: «إنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟» قالوا: نعم، قال: «اللهم فأشهد».
فهذه ثلاثة أشياء: الدماء، والأموال، والأعراض.
فالظلم فيما بين البشر حرام في الدماء، فلا يجوز لأحد أن يتعدى على دم أحد، ولا على دم تفوت به النفس وهو القتل، ولا على دم يحصل به النقص، كدم الجروح، وكسر العظام، وما أشبهها، كل هذا حرام لا يجوز.
وأعلم أن كسر عظم الميت ككسره حيًّا، كما جاء ذلك عن النبي - عليه الصلاة والسلام -، فالميت محترم لا يجوز أن يؤخذ من أعضائه شيء، ولا أن يكسر من أعضائه شيء، لأنه أمانة وسوف يبعث بكامله يوم القيامة، وإذا كان كذلك فلا يجوز أن تأخذ منه شيئًا.
ولهذا نص فقهاء الحنابلة - رحمهم الله - على أنه لا يجوز أن يؤخذ من الميت شيء من أعضائه، ولو أوصى به، وذلك لأن الميت محترم، كما أن الحي محترم.
كسر عظم الميت ككسره حيًّا، فإن أخذنا من الميت عضوًا، أو كسرنا منه عظمًا، كان ذلك جناية عليه، وكلُّ اعتداءٍ عليه، وكنا آثمين بذلك.
والميت نفسه لا يستطيع أن يتبرع بشيء من أعضائه، لأن أعضاءه أمانة عنده، أمانة لا يحل له أن يفرط فيها، ولهذا قال الله تعالى: ﴿ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾، فسرها عمرو بن العاص - رضي الله عنه - بالإنسان إذا كان عليه جنابة، وكان في البرد، وخاف إن اغتسل أن يتضرر، جعل عمرو بن العاص هذا داخلًا في الآية، وذلك حين كان عمرو بن العاص - رضي الله عنه - في سرية، وأجنب، وكانت الليلة باردة فتيمم، وصلى بأصحابه، فلما رجعوا إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام - وبلغه الخبر، قال: «يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت جنب»، يعني لم تغتسل؟ قال: يا رسول الله، إني ذكرت قول الله تعالى: ﴿ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [النساء: 29]، وخِفْتُ البردَ فتيممت، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، وأقره على فعله وعلى استدلاله بالآية، ولم يقل: إن الآية لا تدل على هذا.
فإذن كل شيء يضر أبداننا، أو يفوِّت منها شيئًا، فإنه لا يحل لنا أن نفعله، لقوله تعالى: ﴿ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾.
فما حرم علينا أن نتناول الدخان وغيره من الأشياء الضارة إلا من أجل حماية البدن، فالبدن محترم.
فقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «دماءكم»، يشمل الدم الذي يهلك به الإنسان وهو القتل، والدم الذي بدون ذلك، وهو الجرح، أو كسر العظم، أو ما أشبه ذلك.
أما قوله صلى الله عليه وسلم: «وأموالكم» فإن الأموال قد حرم الله - سبحانه وتعالى - على بعضنا أن يأخذ من مال أخيه بغير حق، بأي نوع من الأنواع؛ سواء أخذه غصبًا بأن يأخذ بالقوة، أو أخذه سرقة، أو اختطافًا، أو خيانة، أو غشًّا، أو كذبًا، بأي نوع من هذه الأنواع يأخذه، فإنه حرام عليه.
وعلى هذا فالذين يبيعون على الناس بالغش - ولا سيما أهل الخضار - فإنَّ كل مالٍ، بل كل قرش يدخل عليهم من زيادة في الثمن بسبب الغش؛ فإنه حرام، فالذين يغشون في البيع أو في الشراء يرتكبون محظورين: المحظور الأول: العدوان على إخوانهم المسلمين بأخذ أموالهم بغير حق.
المحظور الثاني: أنهم ينالون تبرؤ النبي صلى الله عليه وسلم منهم، وبئس البضاعة بضاعة يلتحق فيها صاحبها بالبراءة من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: «من غشَّنا فليس منَّا».
ومن ذلك ما يفعله بعض الجيران، حيث تجده يدخل المراسيم على جاره من أجل أن تزيد أرضه، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن «مَنِ اقتطع من الأرضِ شبرًا بغير حقٍّ، فإنه يطوقه يوم القيامة من سَبَعِ أرَضين»، يكون يوم القيامة من سبع أرضين، في عنقه طرق من سبع أرضين - والعياذ بالله - يحمله في يوم المحشر.
وهذا من الظلم.
ومن الظلم أيضًا: أن يكون لشخص على شخص دراهم، ثم ينكر الذي عليه الحق، ويقول: ليس لك عندي شيء، فهذا من أكل المال بالباطل، حتى لو فرض أنه تحاكم إلى القاضي مع خصمه، وغلبه عند القاضي، فإنه لا يغلبه عند الله، قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: «إنَّكم تختصمون إلىَّ، لعل بعضكم أن يكون ألحن بحجَّته من بعض، فأقضي له، وإنما أقضي بنحو ما أسمع، فمن قضيتُ له بشيء من حق أخيه؛ فإنما أقتطع له جمرة من نار، فليستقل أو ليستكثر»، فلا تظن أنك إن غلبت خصمك عند القاضي، وكنت مبطلًا، تسلم بهذا في الآخرة أبدًا؛ لأن القاضي إنما يقضي بنحو ما يسمع ولا يعلم الغيب، ولكن علام الغيوب - جلَّ وعلا - هو الذي يحاسبك يوم القيامة.
وكذلك أيضًا من أكل الأموال: أن يدعي شخص على آخر ما ليس له، ويقيم على ذلك البينة بالشهادة الزور، ويحكم له بذلك، فإن هذا من أكل المال بالباطل، والأمثلة على ذلك كثيرة، ولكنها كلها محرمة إذا لم تكن بحق ولهذا قال - عزَّ وجلَّ -: «فلا تظَّالموا».
أما الأعراض فهي أيضًا حرام، فلا يحل للإنسان أن يقع في عرض أخيه، فيغتابه في المجلس أو يسبه، فإن ذلك من كبائر الذنوب.
قال الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ﴾ [الحجرات: 12] انظر للترتيب: اجتنبوا كثيرًا من الظن، فإذا ظن الإنسان بأخيه شيئًا تجسس عليه، ولهذا قال: ﴿ وَلا تَجَسَّسُوا ﴾، فإذا تجسس صار يغتابه، ولهذا قال في الثالثة: ﴿ وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ﴾.
ثم قال تعالى: ﴿ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا ﴾؟ الجواب: لا.
لا يحب، بل يكره، ولهذا قال: ﴿ فَكَرِهْتُمُوهُ ﴾، قال بعض المفسرين: إذا كان يوم القيامة، فإنه يؤتي بالرجل الذي اغتابه الشخص، يمثل له بصورة إنسان ميت، ثم يقال له: كُلْ من لحمِهِ، ويكره على ذلك، وهو يكرهه، لكن يكره على هذا عقوبة له، والعياذ بالله.
فالغيبة - وهي انتهاك عرض أخيك - محرمة، وقد روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ ليلة عرج به بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، يعني يكرُّون الوجوه والصدور بهذه الأظفار التي من النحاس، فقال: «يا جبريل، من هؤلاء؟» قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم.
نعوذ بالله.
ثم إن الإنسان إذا انتهك عرض أخيه، فإن أخاه يأخذ في الآخرة من حسناته، ولهذا يذكر أن بعض السلف قيل له: إن فلان يغتابك، فقال: مؤكدًا؟ قال: نعم، اغتابك، فصنع هديةً له، ثم بعث بها إليه، فاستغرب الرجل! كيف يغتابه، ويرسل له هدية؟ قال: نعم إنك أهديت إليَّ حسناتٍ، والحسنات تبقى، وأنا أهديت إليك هدية تذهب في الدنيا، فهذه مكافأة على هديتك لي، انظر فقه السلف، رضي الله عنهم.
فالحاصل أن الغيبة حرام، ومن كبائر الذنوب، ولا سيما إذا كانت الغيبة في ولاة الأمور من الأمراء أو العلماء، فإن غيبة هؤلاء أشد من غيبة سائر الناس، لأن غيبة العلماء تقلل من شأن العلم الذي في صدورهم، والذي يعلمونه الناس، فلا يقبل الناس ما يأتون به من العلم، وهذا ضرر على الدين، وغيبة الأمراء تقلل من هيبة الناس لهم؛ فيتمردون عليهم وإذا تمرد الناس على الأمراء فلا تسأل عن الفوضى:
لَا يَصْلُحُ النَّاسُ فَوْضَى لا سَرَاةَ لهُمْ *** ولَا سَرَاةَ إِذا جُهَّالُهم سَادُوا
فنسألُ الله أن يحمينا وإيَّاكم مما يُغْضِبه، إنَّه جوادٌ كريم.
ثم قال الله تعالى: «يا عبادي، كلُّكم ضالٌ إلا من هديتُه، فاستهدُني أهْدِكم»، ضال يعني: تائهًا، أي لا يعرف الحق، وضال يعني: غاويًا لا يقبل الحق، فالناس في الضلال قسمان:
قسم تائه: لا يعرف الحق.
من النصارى، فإن النصارى ضالون، تائهون، لا يعرفون الحق إلا بعد أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم عرفوا الحق لكنهم استكبروا عنه، فلم يكن بينهم وبين اليهود فرق في أنهم علموا الحق ولم يتبعوه.
وقسم غاو: أي اختار الغي على الرشد بعد أن علم بالرشد، وهؤلاء مثل اليهود، فإن اليهود عرفوا الحق ولكنهم لم يقبلوه، بل ردوه.
ومن ذلك قوله تبارك وتعالى: ﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ﴾ [فصلت: 17]، هداهم الله، وبين لهم، ودلهم، لكنهم استحبوا العمى على الهدى، واستحبوا الغي على الرشد، فالناس كلهم ضالون إلا من هدى الله.
لكن؛ ما هي هداية القسم الأول، وهو الضال الذي لم يعرف الحق؟ هداية القسم الأول: أن يبين الله لهم الحق ويدلهم عليه، وهذه الهداية حق على الله، حق على الله أوجبه الله على نفسه، فكل الخلق قد هداهم الله بهذا المعنى، يعني بمعنى البيان، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ﴾ [الليل: 12]، وقال تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ ﴾ [البقرة: 185]، هدى للناس عمومًا.
ولكن الهداية الثانية، هي هداية التوفيق لقبول الحق، هذه هي التي يختص الله بها من يشاء من عباده، فالهداية هديتان هداية بيان الحق، وهذه عامة لكل أحد، وقد أوجبها الله على نفسه، وبين لعباده الحق من الباطل، وهداية توفيق لقبول الحق والعمل به، تصديقًا للخبر وقيامًا بالطلب، وهذه خاصة يختص الله بها من يشاء من عباده.
والناس في هذا الباب ينقسمون إلى أقسام:
القسم الأول: مَنْ هُدي الهدايتين، أي علمه الله ووفقه للحق وقبوله.
والقسم الثاني: من حُرم الهدايتين، فليس عنده علم، وليس له عبادة.
والقسم الثالث: من هدي بالدلالة والإرشاد، ولكنه لم يهد هداية التوفيق، وهذا شر الأقسام، والعياذ بالله.
والمهم أن الله - عزَّ وجلَّ - يقول: «كلكم ضال»، أي كلكم لا يعرف الحق.
أو كلكم لا يقبل الحق، إلا من هديته «فاستهدوني أهدكم» يعني: اطلبوا الهداية مني، فإذا طلبتموها؛ فإنني أجيبكم وأهديكم إلى الحق، ولهذا جاء الجواب في: «استهدوني أهدكم»، وكأنه جواب شرط، ليتحقق المشروط عند وجود الشرط، ودليل هذا أن الفعل جزم «استهدوني أهدكم»، فمتى طلبت الهداية من الله بصدق وافتقار إليه، وإلحاح، فإن الله يهديك.
ولكن أكثرنا معرض عن هذا، فأكثرنا قائم بالعبادة، لكن على العادة، وعلى ما يفعل الناس، كأننا لسنا مفتقرين إلى الله - سبحانه وتعالى - في طلب الهداية، فالذي يليق بنا: أن نسأل الله دائمًا الهداية، والإنسان في كل صلاة يقول: رب اغفر لي، ارحمني واهدني بل إنه في كل صلاة: يقول على سبيل الركنية: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ [الفاتحة: 7]، ولكن أين القلوب الواعية؟! إن أكثر المصلين يقرأ هذه الآية، وتمر عليه مر الطيف، أي مر الغيم الذي يجري بدون ماء، وبدون شيء، ولا ينتبه لها.
والذي يليق بنا أن نتنبه، وأن نعلم أننا مفتقرون إلى الله - عز وجل - في الهداية، سواء الهداية العلمية، أو الهداية العملية، أي هداية الإرشاد والدلالة - أو هداية التوفيق، فلابد أن نسأل الله دائمًا الهداية.
«فاسْتهدُوني أهْدِكم» وربما تشمل هذه الجملة الطريق الحسي، كما تشمل الطريق المعنوي، فالهداية للطريق المعنوي: هي الهداية إلى دين الله، والهداية للطريق الحسي: كأن تكون في أرضه قد ضللت الطريق وضعت، فمن تسأل؟ فإنك تسأل الله الهداية، ولهذا قال الله عن موسى صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾ [القصص: 22]، أي السبيل المستوي الموصل للمقصود بدون تعب، وقد جرب هذا، فإن الإنسان إذا ضاع في البر فإنه يلجأ إلى الله تعالى ويقول: رب أهدني سواء السبيل، أو عسى ربي أن يهديني سواء السبيل،، وذلك لأننا محتاجون إلى الله في الهدايتين؛ هداية الطريق الحسي، كما أننا محتاجون إلى الله في الهداية إلى الطريق المعنوي.
نسأل الله أن يهدينا جميعًا الهدايةَ فيمَنْ هَدَى.
ثم قال -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه: « يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم»، هاتان الجملتان الخاصتان بالجوع والعرى ذكرهما الله - عزَّ وجلَّ - بعد أن ذكر الهداية، لأن في الهداية غذاء القلب بالعلم والإيمان، والجوارح بالعمل الصالح.
أما الطعام والشراب والكسوة فهي غذاء البدن، لأن البدن لا يستقيم إلا بالطعام، ولا يستتر إلا بالكسوة، ولهذا قال: «يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم» وصدق ربنا - عزَّ وجلَّ - كلنا جائع إلا من أطعمه الله، ولولا أن الله تعالى يسَّر لنا ما يكون به طعامنا لهلكنا، يقول الله تعالى مبينًا ذلك في سورة الواقعة: ﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ﴾ [الواقعة: 63، 64].
والجواب: بل أنت - يا ربنا - الذي زرعته، لأن الله يقول: ﴿ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ﴾ [الواقعة: 65 - 67]، وتأمل كيف قال تعالى: ﴿ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا ﴾، ولم يقل: لو نشاء ما أنبتناه، لأنه إذا نبت وشاهده الناس؛ تعلقت به قلوبهم، فإذا جعل حطامًا بعد أن تعلقت به القلوب؛ صار ذلك أشد نكاية، ولهذا قال تعالى: ﴿ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا ﴾، ولم يقل لو نشاء ما أنبتناه.
وقال تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ ﴾ [الواقعة: 68، 69]، يعني: من السحاب، ﴿ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ ﴾؛ لأن الماء الذي نشرب من السحاب، ينزله الله - عزَّ وجلَّ - على الأرض فيسلكه ينابيع، يدخله في الأرض، ويجري فيما تحت الأرض كالأنهار، ثم يستخرج بالأدوات التي سخرها الله - عزَّ وجلَّ - في كل وقت بحسبه، وهذا من حكمة الله - عزَّ وجلَّ - أن استودع الماء في بطون الأرض، ولو بقى على ظهر الأرض لفسد، وأفسد الهواء وأهلك المواشي، بل وأهلك الآدميين من رائحته ونتنه، ولكن الله - عزَّ وجلَّ - بحكمته ورحمته جعل هذه الأرض تشربه وتسلكه ينابيع فيها، حتى تأتي حاجة الناس إليه؛ فيحفرونه، فيصلون إليه.
والذي أنزله هو الله - عزَّ وجلَّ -، ولو اجتمع الناس كلهم على أن ينزلوا قطرة من السماء ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، ولكن الله - عزَّ وجلَّ - هو الذي ينزله بقدرته ورحمته، إذن، نحن لا نطعم شيئًا من طعام، أو مأكول، ولا من مشروب؛ إلا بالله - عزَّ وجلَّ - ولهذا قال: «كلُّكم جائعٌ إلا من أطعمتُه، فاستطعِموني أطْعمْكُم».
واستطعام الله - عزَّ وجلَّ - يكون بالقول وبالفعل؛ بالقول: بأن تسأل الله - عزَّ وجلَّ - أن يطعمنا وأن يرزقنا، وأما بالفعل، فله جهتان:
الجهة الأولى: العمل الصالح، فإن العمل الصالح سبب لكثرة الأرزاق وسعتها، قال الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96]، وقال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ﴾ [المائدة: 65، 66]، ﴿ مِنْ فَوْقِهِمْ ﴾: أي من ثمار الأشجار، ﴿ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ﴾: أي من ثمار الزروع، فالمهم أن هذا من أسباب إطعام الله.
الجهة الثانية من جهة الاستطعام الفعلي: أن نحرث الأرض، ونحفر الآبار، ونستخرج المياه، ونزرع الحبوب، ونغرس الأشجار، وما أشبه ذلك.
فالاستطعام يكون بالقول، ويكون بالفعل، والفعل له جهتان: الجهة الأولى: العمل الصالح، والجهة الثانية: الأسباب الحسية المادية كالحرث، وحفر الآبار، وما أشبه ذلك.
وقوله - جلَّ ذكرُه -: «فاسْتطعِموني أُطْعِمكُم» هذا جوابُ شرطٍ مقدَّر، أو جواب الأمر الذي كان في الشرط، يعني أنك إذا استطعمت الله فإن الله يطعمك، ولكن استطعام الله - عزَّ وجلَّ - يحتاج إلى أمرٍ مُهِمٍّ، وهو حسن الظن بالله - جلَّ وعلا -، أي أن تحسن الظن بربك أنك إذا استطعمته أطعمك، أما أن تدعو الله وأنت غافل لاهٍ، أو تفعل الأسباب وأنت معتمد على قوتك لا على ربك؛ فإنك قد تكون مخذولًا، والعياذ بالله، لكن استطعم الله وحده وأخلص له وحده في ذلك.
«يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم»، كلكم عار إلا من كسوته، ذلك لأن الإنسان يخرج من بطن أمه ليس عليه ثياب، بل يخرج مجردًا؛ لا ثياب، ولا شعر يكسوه، كما يكون في الحيوان، وهذا من حكمة الله عزَّ وجل.
فمن حكمته تعالى: أن جعلنا نخرج باديةً أبشارنا، باديةً جلودنا، حتى نعرف أننا محتاجون إلى كسوة تستر عورتنا حسًّا، كما أننا محتاجون إلى عمل صالح يستر عورتنا معنى، لأن التقوى لباس، كما قال تعالى: ﴿ وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ﴾ [الأعراف: 26]، فأنت انظر في نفسك تجد أنك محتاج إلى الكسوة الحسية لأنك عار، كذلك أيضًا محتاج إلى الكسوة المعنوية - وهي العمل الصالح - حتى لا تكون عاريًا، ولهذا ذكر بعض العابرين للرؤيا أن الإنسان إذا رأى نفسه في المنام عاريًا فإنه يحتاج إلى كثرة الاستغفار، لأن هذا دليل على نقصان تقواه، فإن التقوى لباس.
وعلى كل حال؛ فنحن عراة إلا بكسوة الله - عزَّ وجلَّ - وقد سخر الله لنا من الكسوة ما نكسو به أبداننا - ولله الحمد - من أصناف اللباس المتنوعة، لا سيما في البلاد الغنية التي ابتلاها الله - عزَّ وجلَّ - بالمال، فإن المال - في الحقيقة - فتنة يخشى على الأمة منه، كما قال محمد صلى الله عليه وسلم: «والله ما الفقر أخشى عليكم، وإنما أخشى عليكم أن تفتح عليكم الدنيا، فتنافسوها كما تنافسها من قبلكم؛ فتهلككم كما أهلكتهم»، فالمال ابتلاء وبلوى، تحتاج إلى صبر على أداء ما يجب فيه، وإلى شكر على ما يجب له.
وعلى كل حال، أقول: إن الله - سبحانه وتعالى - من علينا باللباس، ولولا أنَّ الله يسَّره لنا ما تيسر، ولو أنك نظرت في الخلق في وقتك الآن، وتأملت لوجدت - كما سمعنا - من يبتون عراة، ليس على أبدانهم ما يسترهم، ربما يسترون السَّوءةَ بالأشجار ونحوها، وليس عليهم ما يسترهم دون ذلك، فمن الذي سترك ومنَّ عليك؟ هو الله، ولهذا قال - عزَّ وجلَّ -: «يا عبادي كلكم عارٍ إلَّا من كسوته، فاستكسوني أكسُكم».
ونقول في قوله: «اسْتكْسُوني أَكسُكم»، كما قلنا في قوله: «استطعموني أطعمكم»، يعني أن الاستكساء يكون بالقول، ويكون بالفعل؛ أما الذي بالقول: فبأن تسال الله - عزَّ وجلَّ - أن يكسوك، وإذا سألت الله أن يكسو بدنك حِسِّيًّا، فسأل الله أن يكسو عورتك المعنوية بالتوفيق إلى طاعته.
وأما الاستكساء بالفعل فعلى وجهين:
الوجه الأول: بالأعمال الصالحة، والوجه الثاني: بفعل الأسباب الحسية التي تكون بها الكسوة؛ من إحداث المعامل، والمصانع، وغير ذلك.
وفي الربط بين الطعام والكسوة والهداية مناسبة؛ لأنَّ الطعام في الحقيقة كسوة البدن باطنًا، لأن الجوع والعطش معناه خلو المعدة من الطعام والشراب، وهذا تعرٍّ لها، والكسوة ستر البدن ظاهرًا، والهداية الستر المهم المقصود وهو ستر القلوب والنفوس من عيوب الذنوب.
ثم قال تعالى: «يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم»، هذا أيضًا من تمام نعمة الله على العبد، إنه - جلَّ وعلا - يعرض عليه أن يستغفر إلى الله ويتوب إليه، مع أنه يقول: «إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا»، أي: جميع الذنوب، من الشرك بالله، والكفر، والكبائر، والصغائر، كلها يغفرها الله، ولكن بعد أن يستغفر الإنسان ربه، ولهذا قال: «فاستغفروني أغفر لكم»، أي اطلبوا منى المغفرة حتى أغفر لكم.
ولكنَّ طلب المغفرة ليس مجرد أن يقول الإنسان: اللهم اغفر لي، بل لابدَّ من توبةٍ صادقة يتوب بها الإنسان إلى الله - عزَّ وجلَّ.
والتوبة الصادقة هي التي تجمع خمسة شروط:
الشرط الأول: أن يكون الإنسان مخلصًا فيها لله - عزَّ وجلَّ - لا يحمله على التوبة مراءاة الناس، ولا تسميعهم، ولا أن يتقرب إليهم بشيء، وإنما يقصد بالتوبة الرجوع إلى الله حقيقة، والإخلاص شرط في كل عمل، ومن جملة الأعمال الصالحة: التوبة إلى الله - عزَّ وجلَّ -، كما قال تعالى: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31].
الشرط الثاني: أن يندم الإنسان على ما وقع منه من الذنب، يعني أن يحزن، ويتأسف، ويعرف أنه ارتكب خطأ حتى يندم عليه، أما أن يكون ارتكاب الخطأ وعدمه عنده على حدٍّ سواء؛ فهذه ليست بتوبة، بل لابد من أن يندم بقلبه ندمًا يتمنى أنه لم يقع منه هذا الذنب.
الشرط الثالث: أن يقلع عن الذنب فلا توبة مع الإصرار على الذنوب، كما قال تعالى: ﴿ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 135]، أمَّا أن يقول إنه تائب من الذنب وهو مصر عليه، فإنه كاذب مستهزئ بالله - عزَّ وجلَّ -، فمثلًا لو قال: أتوب إلى الله من الغيبة، ولكنه كلما جلس مجلسًا اغتاب عباد الله؛ فإنه كاذب في توبته، ولو قال: أتوب إلى الله من الربا ولكنه مصر عليه؛ يبيع بالربا ويشتري بالربا، فهو كاذب في توبته، ولو قال: أتوب إلى الله من استماع الأغاني، ولكنه مصر على ذلك، فهو كاذب في توبته، ولو قال: أتوب إلى الله من معصية الرسول صلى الله عليه وسلم في إعفاء اللحية، وكان يحلقها، وهو يقول أتوب إلى الله من حلقها: فإنه كاذب، وهكذا جميع المعاصي إذا كان الإنسان مصرًّا عليها فإن دعواه التوبة كذب، ولا تقبل توبته.
ومن التخلي عن الذنب والإقلاع عنه: أن يرد المظالم إلى أهلها إذا كانت المعصية في حقوق العباد، فإن كانت في أخذ مال فليرد المال إلى من أخذه منه، فإن كان قد مات فليرده إلى ورثته، فإن تعذر عليه أن يعرف الورثة، أو نسي الرجل، أو ذهب الرجل إلى مكان لا يمكن العثور عليه، مثل أن يكون أجنبيًّا، فيرجع إلى بلده، ولا يدري أين هو، ففي هذه الحال يخرج ما عليه صدقة ينويها لصاحب المال الذي يطلبه.
وإذا كان الذنب في غيبة، وكان المغتاب قد علم أن هذا الرجل قد اغتابه، فلابد أن يذهب إلى المغتاب ويتحلل منه، وينبغي للمغتاب إذا جاءه أخوه يعتذر إليه أن يقبل، وأن يسامح عنه، فإذا جاء إليك أخوك معتذرًا مقرًّا بالذنب، فاعف عنه واصفح ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [المائدة: 13]، ولكن إذا لم يقبل أن يتسامح عن غيبته إلا بشيء من المال؛ فأعطه من المال حتى يقتنع ويُحلِّلَك.
كذلك إذا كانت المعصية مُسَابَّةً بينك وبين أحد حتى ضربته مثلًا، فإن التوبة من ذلك أن تذهب إليه وتستسمح منه، وتقول: ها أنا أمامك اضربني كما ضربتك، حتى يصفح عنك، المهم أن من الإقلاع عن المعصية إذا كانت لآدميٍّ أن تتحلَّل منه، سواء كانت مظلمةَ مالٍ، أو بدن، أو عِرض.
الشرط الرابع: أن يعزم على ألا يعود في المستقبل، فإن تاب وأقلع عن الذنب لكن في قلبه أنه حانت الفرصة عاد إلى ذنبه، فإن ذلك لا يقبل منه، فهذه توبةُ لاعب، فلابد أن يعزم، فإذا عزم ثم قُدِّر أن نفسه سولت له بعد ذلك، وفعل المعصية، فإن ذلك لا ينقض التوبة السابقة، لكن يحتاج إلى توبة جديدة من الذنب مرة ثانية.
الشرط الخامس: أن تكون التوبة في الوقت الذي تقبل فيه، فإن فات الأوان لم تنفع التوبة، ويفوت الأوان إذا حضر الإنسان الموت.
فإذا حضره الموت فلا توبة ولو تاب لم ينفعه، لقوله تعالى: ﴿ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ﴾ [النساء: 18]، الآن لا فائدة فيها، ولهذا لما أُغرِق فرعون: ﴿ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [يونس: 90] فقيل له ﴿ آلْآنَ ﴾، يعني أتقول هذا الآن ﴿ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [يونس: 91]، فات الأوان، ولهذا يجب على الإنسان أن يبادر بالتوبة، لأنه لا يدري متى يفجؤه الموت، كم من إنسان مات بغتة وفجأة، فليتب إلى الله قبل أن يفوت الأوان.
أما الثاني الذي يفوت به أوان التوبة: إذا طلعت الشمس من مغربها، فإن النبي - عليه الصلاة والسلام - أخبر أن الشمس إذا غابت سجدت تحت عرش الرحمن - عزَّ وجلَّ -، واستأذنت الله، فإن أُذِن لها استمرَّت في سيرها، وإلا قيل: ارجعي من حيث جِئْتِ، فترجع بإذن الله وأمره، فتطلع على الناس من المغرب، فحينئذ يؤمن جميع الناس، يتوبون ويرجعون إلى الله، ولكن ذلك لا ينفعهم، قال الله تعالى: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ ﴾ يعني عند الموت، ﴿ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ ﴾ يعني يوم القيامة للحساب، ﴿ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ﴾ يعني طلوع الشمس من مغربها، ﴿ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ﴾ [الأنعام: 158].
هذه خمسة شروط للتوبة، لا تقبل إلا بها، فعليك يا أخي أن تبادر بالتوبة إلى الله، والرجوع إليه، ما دمتَ في زمن الإمهال، قبل ألا يحصل لك ذلك، واعلم أنك إذا تبت إلى الله توبة نصوحًا؛ فإن الله يتوب عليك، وربما يرفعك إلى منزلة أعلى من منزلتك، انظر إلى أبيك آدم، حيث نهاه الله عن الأكل من الشجرة، فعصى ربه بوسوسة الشيطان له، قال الله تعالى: ﴿ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ﴾ [طه: 121، 122]، لما تاب نال الاجتباء.
واجتباه الله، وصار في منزلةٍ أعلى من قبل أن يعصي ربه، لأن المعصية أحدثت له خجلًا وحياء من الله، وإنابة إليه، ورجوعًا إليه، فصارت حاله أعلى حالًا من قبل.
واعلم أنَّ الله أشدُّ فرحًا بتوبة عبده المؤمن من رجل كان على راحلته وعليها طعامه وشرابه في أرض فلاة، لا أحد فيها، فأضاع الناقة، وطلبها فلم يجدها، فنام تحت شجرة ينتظر الموت، فإذا بخطام ناقته متعلقًا بالشجرة، قد جاء الله بها، فأخذ بخطامها، وقال من شدة الفرح: «اللهمَّ أنت عبدي، وأنا ربُّك، أخطأ من شدَّةِ الفرح»، أراد أن يقول: اللهم أنت ربي، وأنا عبدك، ولكن أخطأ من شدة الفرح، لأن الإنسان إذا أشتد فرحه لا يدري ما يقول، كما أنه إذا اشتد غضبه لا يدري ما يقول، فالله بتوبة عبده المؤمن أشد فرحًا من فرح هذا بناقته.
نسأل الله أن يتوب علينا وعليكم، ويرزقنا الإنابة إليه.
وقوله جل ذكره: «يا عبادي إنَّكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني»، يعني أنه - تبارك وتعالى - غني عن العباد، ولا ينتفع بطاعتهم ولا تضره معصيتهم، فإنه - عزَّ وجلَّ - قال في كتابه: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذريات: 56، 58]، فالله - عزَّ وجلَّ - لا ينتفع بأحد، ولا يتضرر بأحد لأنه غني عن الخلق - جلَّ وعلا -، وإنما خلق الخلق لحكمة أرادها - تبارك وتعالى - خلقهم لعبادته، ثم إنه وعد الطائعين بالثواب، وتوعد العاصين بالعقاب، وحكمةً منه؛ لأنه خلق الجنة والنار، وقال: لكلٍّ منكما على ملؤها، فالنار لابد أن تُملأ، والجنة لابد أن تملأ كما قال - عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ [هود: 119]، إذن فالله تعالى لن ينفعه طاعة الطائعين، ولن تضره معصية العاصين، ولن يبلغَ أحدٌ ضرره مهما كان.
ولهذا قال فيما بعد هذه الجملة: «لو أنَّ أوَّلكم وآخركُم وأنسَكم وجِنَّكم كانوا على أتقَى قلب رجلٍ واحدٍ منكم، ما زاد في ملكي شيئًا».
لو أن أول الخلق وأخرهم وأنسكم وجنهم كانوا مُتَّقين، على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ، ما زاد ذلك في ملك الله شيئًا، لأن الملك مُلكه، لا للطائعين ولا للعاصين.
كذلك أيضًا يقول - جلَّ وعلا -: « يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وأنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئًا»، لو كان العباد كلُّهم، من جنٍّ وإنسٍ، وأولهم وآخرهم، لو كانوا كلهم فجَّارًا وعلى أفجر قلب رجل، فإن ذلك لا ينقص من ملك الله شيئًا، قال الله تعالى: ﴿ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ﴾ [الزمر: 7]، فالله - جلَّ وعلا - لا ينقص ملكه بمعصية العصاة، ولا يزيد بطاعة الطائعين، هو ملك الله على كل حال.
ففي هذه الجمل الثلاث دليل على غنى الله - سبحانه وتعالى -، وكمالِ سلطانه، وأنه لا يتضرَّر بأحدٍ ولا ينتفعُ بأحدٍ؛ لأنه غني عن كلِّ أحد.
ثم قال تعالى: «يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنَّكم قاموا في صعيدٍ واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المِخْيط إذا أُدْخلَ البَحر»، هذه الجملة تدلُّ على سعة ملك الله - عزَّ وجلَّ - وعلى كمال غناه - تبارك وتعالى - لو أن الأولين والآخرين، والإنس والجن، قاموا كلهم في صعيد واحد، فسألوا الله ما تبلغه نفوسهم، من أس مسألة وإن عظمت، فأعطي الله كل إنسان ما سأل، بل أعطي الله كل سائل ما سأل، فإن ذلك لا ينقص من ملك الله شيئًا؛ لأن الله جواد، واجد، عظيم الغني، واسع العطاء - عزَّ وجلَّ.
«إلَّا كما يَنْقصُ المِخْيطُ إذا أُدْخلَ البحرَ».
اغْمِس المِخْيطَ في البحر، وانظر؛ ماذا ينقص البحر؟ إنه لا ينقص البحر شيئًا، ولا يأخذ المخيط من البحر شيئًا يمكن أن ينسب إليه، وذلك لأنه - عزَّ وجلَّ - واسع الغنى، جواد، ماجد، كريم - سبحانه وتعالى.
«يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها، لكم، ثم أوفيكم إياها»، ومعنى «إنَّما هي أعمالُكم» أي: الشأن كله أن الإنسان بعمله، يحصى الله أعماله، ثم إذا كان يوم القيامة وفاه إياها.
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7، 8]، «فمَنْ وجَدَ خيرًا فليحمَدِ الله، ومَنْ وجَدَ غير ذلك فلا يَلُومنَّ إلَّا نفْسَه»؛ لأنه هو الذي أخطأ، وهو الذي منع نفسه الخير، أما إذا وجد خيرًا فليحمد الله؛ لأنَّ الله تعالى هو الذي منَّ عليه أولًا وآخرًا، مَنَّ عليه أولًا بالعمل، ثم منَّ عليه ثانيًا بالجزاء الوافر ﴿ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا ﴾ [الأنعام: 160].
فهذا الحديث حديث عظيم، تناوله العلماء بالشرح واستنباط الفوائد والأحكام منه، وممن أفرد له مؤلفًا: شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، فإنه شرح هذا الحديث في كتاب مستقل، فعلى الإنسان أن يتدبر هذا الحديث ويتأمله، ولا سيما الجملة الأخيرة منه، وهي أن الإنسان يجزى بعمله، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ، وهذا هو وجه وضع المؤلف لهذا الحديث في باب المجاهدة، أن الإنسان ينبغي له أن يجاهد نفسه، وأن يعمل الخير حتى يجد ما عند الله خيرًا وأعظم أجرًا.
والله الموفق.
«شرح رياض الصالحين» (2/ 114 - 137)