علو الهمة [12]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

اللهم صل على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي، وعلى آل محمد، وأزواجه وذريته، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد النبي الأمي، وعلى آل محمد، وأزواجه وذريته، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.

أما بعد:

فقد انتهينا في الدرس الماضي في الكلام على بعض مظاهر علو همة السلف الصالح رحمهم الله تعالى في طلب العلم والرحلة والتصنيف وقراءة كتب الحديث في أيام قليلة، وذكرنا نماذج من حرصهم على طلب العلم الشريف وسهرهم وتحملهم الفقر والعناء في سبيل ذلك.

ونتحدث الآن عن حرص السلف رحمهم الله على التواجد في مجالس العلم، والمثابرة على ذلك، فإن من رحمة الله سبحانه وتعالى بهذه الأمة أن ألقى في قلوب سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى الشغف بالعلم، والحرص على مجالسه؛ ليحفظوا به دينهم، وليكونوا أسوة لمن بعدهم، فمن ثمّ تبوءوا مناصب الإمامة في الدين.

وقد كان السلف الصالح رحمهم الله تعالى يزدحمون على مجالس العلم حتى قال جعفر بن درستويه : كنا نأخذ المجلس في مجلس علي بن المديني وقت العصر اليوم لمجلس غد. يعني: أن من أراد أن يحجز مكاناً أو موضعاً في مكان الدرس -مثلاً- ليوم الجمعة، فإنه يبقى في المسجد من عصر الخميس، ويظل مرابطاً في مكانه إلى اليوم التالي؛ لأن الدرس سيكون في اليوم الثاني بعد العصر؛ لأنه قبل ذلك لا يجد مكاناً، وهذا من شدة حرصهم وتزاحمهم على التواجد في مجالس العلم.

يقول: كنا ندخل المجلس في مجلس علي بن المديني وقت العصر اليوم لمجلس غد، فنقعد طول الليل؛ مخافة ألا نلحق من الغد موضعاً نسمع فيه، يقول جعفر بن درستويه : ورأيت شيخاً في المجلس يبول في طيلسانه، ويدرج الطيلاسان، حتى فرغ؛ مخافة أن يؤخذ مكانه إن قام للبول.

وقال يحيى بن حسان : كنا عند سفيان بن عيينة وهو يحدث، فازدحمت فرقة من الناس على محل شيخ ضعيف -رجل عجوز وضعيف- فانتهبوه. أي: من شدة حرصهم على طلب العلم، وهم شباب أقوياء وهو رجل ضعيف، ظلوا يزيحونه؛ حتى انتهبوا منه مكانه الذي يجلس فيه، ودقوا يد الشيخ- داسوا على يده- فجعل الشيخ يصيح. وطبعاً الإمام سفيان بن عيينة كان يحدث، والمكان فسيح جداً، والزحام شديد للغاية، فجعل هذا الشيخ يصيح، ويقول لـسفيان : لا جعلتك مما علموا بي في حل.

يعني: أنا لا أسامحك يا سفيان ! مما علموا بي؛ لأنه حصل بسبب حرصهم على هذا الدرس، فأنت المسئول عن أن تنصفني من الظلم الذي وقع عليَّ، فجعل هذا الشيخ حتى يلفت نظر سفيان بن عيينه إليه، يقول لـسفيان : لا جعلتك مما علموا بي في حل. يعني: أنا لا أسامحك يا سفيان ! من هذا الظلم الذي وقع عليَّ، وحتى يلفت هذا الشيخ نظر سفيان بن عيينه إليه، وتبلغه ظلامته، جعل يقول لـسفيان : لا جعلتك مما علموا بي في حل، وسفيان لا يسمع؛ حتى نظر سفيان بن عيينة إلى رجل من أولئك الذين صنعوا بالشيخ ما صنعوا، فقال له: ما يقول الشيخ؟ فقال: يقول: زدنا في السماع. وأنا أتوقع أنه حصل في الرواية نوع من التأليف؛ لأنه ليس من اللائق بطالب العلم أنه يكذب، ولا يمكن لطالب علم -وبالذات طالب علم الحديث- أن يكذب، فالله تعالى أعلم، وكأنه عرَّض على الإمام سفيان ، يعني: لما قال له: ما يقول الشيخ؟ قال له: زدنا في السماع، ففهم ابن عيينه أن هذه مقولة الشيخ الضعيف؛ بحيث إن هذا الذي رد عليه ما كذب، وإنما قال له: زدنا في السماع، ففهم ابن عيينة أنه يبلغه مقولة الشيخ، وهو في الحقيقة لا يبلغه مقولة الشيخ، وإنما يعرَّض بجوابه بأن قال له: زدنا في السماع. والله تعالى أعلم.

والإمام هشيم رحمه الله تعالى كان سبب موته رحمه الله تعالى ازدحام طلبة العلم عليه، كما قال الخطابي : ازدحم أصحاب الحديث على هشيم فطرحوه عن حماره، فكان هذا سبب موته.

وكان أبو بكر بن الخياط النحوي رحمه الله تعالى يدرس جميع أوقاته، حتى في الطريق، وكان ربما سقط في جرف أو خبطته دابة؛ لأنه حتى وهو يمشي في الطريق كان يستذكر الكتب.

إننا حين نحكي بعض النماذج منهمم السلف لا نقصد بذلك الاقتداء بهم حذو القذة بالقذة، ولكن لإيقاظ الهمم الراقدة في هذا الزمان، فالمقصود تحريك هذه الهمم، فلا نقول: اسهروا الليل كله، وامشوا في الطريق وإن صدمتكم السيارات. وإنما نقول: احضروا مجالس العلم، وفي المساجد، حتى في البيوت، فلابد من أن يكون للإنسان حظ من الاجتهاد في تحصيل هذه المقاصد، وإن لم يصل إلى هذه المرتبة. وحكي عن ثعلب أنه كان لا يفارقه كتاب يدرسه، فإذا دعاه رجل إلى دعوة - أي: دعوة طعام- شرط عليه أن يوسع له مقدار مسورة، والمسورة هي المتكأ من الجلد، يعني: مثل الوسادة من جلد تتسع لشخص. فكان يشترط على بعضهم إذا دعاه إلى طعام أو وليمة أن يوسع له في الوليمة مقدار مسورة يضع فيه كتاباً ويقرأ. أي: في أثناء حضورة في الوليمة يضع في هذا المكان الذي يحجزه له كتاباً ويقرأ فيه، وقد يحتمل أن تكون هذه القراءة أثناء الأكل، ويحتمل أنها قبل الأكل أو بعده. وإننا لنرى اليوم أن الولائم تضيع فيها ساعات طوال، وأهل بعض البلاد نجد أن كرم الضيافة عندهم يقتضي إهدار الوقت بصورة تدمي القلب، فأول شيء أنهم يجلسون ويتجمعون، وقد يستغرق ذلك -مثلاًً- نصف ساعة، والمواعيد ليس فيها دقة، ثم بعد ذلك يبدأ تبخير الحاضرين بالبخور، ثم بعد ذلك يؤتى بنوع معين من القهوة فاتح للشهية، ثم بعد ذلك يقدمون التمر مع هذه القهوة، ثم بعد ذلك يقدم الطعام، ثم بعد ذلك تقدم الفواكه، وهكذا الشاي، وإنه لشيء مؤلم جداً أن يضيع هذا الوقت، ويكون -أيضاً- طلبة علم يجودون بأوقاتهم بهذه الصورة، فهذا شيء لا يكاد يصدق! فالشاهد أن الإمام ثعلب رحمه الله تعالى كان إذا حضر دعوة اشترط خوفاً من ضياع الوقت بهذه الصورة أن يُحجز بجانبه مكان بقدر متكأ من الجلد، حتى يضع عليه كتاباً ويظل يقرأ في أثناء هذه الوليمة، فهل سمعنا حرصاً على العلم أشد من هذا الحرص؟! وكان سبب وفاة ثعلب أنه خرج من الجامع يوم الجمعة بعد العصر، وكان قد لحقه صمم، فلا يسمع إلا بعد تعب، وكان في يده كتاب ينظر فيه في الطريق، فصدمته فرس فألقته في هوة، فأخرج منها وهو كالمختلط، فحمل إلى منزله على تلك الحال، وهو يتأوه من رأسه، فمات ثاني يوم رحمه الله تعالى.

وفي الحقيقة بدل ما نحشو أدمغة أبنائنا وشبابنا بقصص مفكري الشرق والغرب والملاحدة والكفرة من اليهود والنصارى، ينبغي أن نلقنهم مثل هذا القصص الرائع؛ لأننا عندنا ما يغنينا عن زبالة أذهان هؤلاء الناس.

فهذا الإمام بقي بن مخلد الأندلسي رحمه الله تعالى رحل إلى بغداد ماشياً على قدميه. فهل تتصورون أن رجلاً يرحل من الأندلس إلى بغداد ماشياً على قدميه في طلب العلم؟! لقد رحل هذا الإمام من الأندلس إلى بغداد ماشياً على قدميه، وكان جل بغيته أن يلقى إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى؛ ليأخذ عنه العلم، حكي عنه أنه قال: لما قربت من بغداد اتصل بي خبر المحنة التي دارت على أحمد بن حنبل . أي: علم أن الإمام أحمد في أثناء امتحانه المحنة المعروفة عنه، وكان الإمام أحمد في المرحلة التي هي تحديد الإقامة، والتي كان فيها من الخروج لمقابلة الناس، ولا يقابله أحد.

قال: اتصل بي خبر المحنة التي دارت على الإمام أحمد ، وأنه ممنوع من الاستماع إليه والسماع منه، فاغتممت بذلك غماً شديداً، فاحتللت الموضع، فلم أعرج على شيء بعد إنزالي متاعي في بيت اكتريته في بعض الفنادق، أن أتيت المسجد الجامع الكبير، وأنا أريد أن أجلس إلى الخلق، وأسمع ما يتذاكرونه. فدفعت إلى حلقة نبيلة، فإذا برجل يكشف عن الرجال، فيضعف ويقوي، فقلت: لمن كان قربي من هذا؟ قال: هذا يحيى بن معين رحمه الله، فرأيت فرجة قد انفرجت قربه، فقمت إليه، فقلت له: أبا زكريا ! رحمك الله رجل غريب نائي الدار- يعني: بعيد الدار- أردت السؤال، فلا تستخفني، فقال لي: قل. فسألته عن بعض من لقيت من أهل الحديث، فبعضاً زكى، وبعضاً جرح، فسألته في آخر السؤال عن هشام بن عمار ، وكنت قد أكثرت من الأخذ منه، فقال - الإمام يحيى بن معين رحمه الله تعالى-: أبو الوليد هشام بن عمار صاحب صلاة، دمشقي ثقة، وفوق الثقة، لو كان تحت ردائه كبر وتقلد كبراً ما ضره شيئاً؛ لخيره وفضلة. فصاح أهل الحلقة: يكفيك رحمة الله عليك، غيرك له سؤال، فقلت وأنا واقف على قدمي: أكشفك عن رجل واحد. يعني: أعطني فرصة أسألك فقط عن رجل واحد أريد أن أسألك عنه.

أكشفك عن رجل واحد أحمد بن حنبل ؟ فنظر إلي يحيى بن معين كالمتعجب، وقال لي: ومثلنا نحن يكشف عن أحمد بن حنبل ؟! إن ذاك إمام المسلمين، وخيرهم وفاضلهم. ثم خرجت استدل على منزل أحمد بن حنبل ، فدللت عليه، فقرعت بابه، فخرج إلي وفتح الباب، فنظر إلى رجل لم يعرفه، فقلت: يا أبا عبد الله ! رجل غريب الدار، هذا أول دخولي هذا البلد، وأنا طالب حديث، ومقيد سنة -يعني: جامع سنة- ولم تكن رحلتي إلا إليك، فقال لي: ادخل الأسطوان، ولا تقع عليك عين. يعني: راقب الطريق جيداً، المهم ألا يراك أحداً وأنت تدخل.

فقال لي: وأين موضعك؟ يعني: أين بلدك؟ فقلت: المغرب الأقصى، فقال لي: إفريقية؟ فقلت: أبعد من ذلك، أجوز من بلدي البحر إلى أفريقية. أي: من الأندلس، فقال لي: إن موضعك لبعيد، وما كان شيء أحب إلي من أن أحسن عون مثلك على طلبه، غير أني في حيني هذا ممتحن بما لعله قد بلغك، فقلت له: بلى، قد بلغني، وأنا قريب من بلدك مقبل نحوك، فقلت له: أبا عبد الله ! هذا أول دخولي، وأنا مجهول العين عندكم -يعني: أنا لست من أهل البلد- فإذا جئت أزورك لن يلفت هذا النظر أحد؛ لأني لست معروفاً هنا في هؤلاء الناس.

قال: أبا عبد الله هذا أول دخولي، وأنا مجهول العين عندكم، فإن أذنت لي أن آتي في كل يوم في زي السؤال، فأكون عند باب الدار، وأقول ما يقولون، فتخرج إلى هذا الموضع. والسؤال هم المتسولون، يعني: أنه يلبس ملابس الشحاذين المتسولين، ويأتي الإمام أحمد ، فيقول عند باب الدار ما يقولون، يعني: من طلب الصدقة، قال: فتخرج إليَّ إلى هذا الموضع، فلو لم تحدثني في كل يوم إلا بحديث واحد لكان فيه كفاية، فقال لي: نعم، على شرط ألا تظهر في الخلق، ولا عند أصحاب الحديث. أي: لأنه لو يتردد على مجالس العلم فسيشتهر، فيعرف أنه طالب علم وطالب حديث، فبالتالي لا يصلح أن يزوره، لكن إذا كان في صورة السؤال لن يعرفه أحد إذا أتقن أداء هذا الدور، فقلت: شرطك، فكنت آخذ عوداً بيدي، وألف رأسي بخرقة، وأجعل كاغدي- يعني: الورق- ودواتي في كمي، ثم آتي بابه فأصيح: الأجر رحمكم الله، والسؤال هنالك كذلك. أي: أن هذا هو اصطلاح المتسولين؛ فإنهم إذا سألوا يقولون: الأجر رحمكم الله. قال: فيخرج إلي، ويغلق باب الدار، ويحدثني بالحديثين والثلاثة والأكثر، فالتزمت ذلك، حتى مات الممتحن له، وولي بعده من كان على مذهب السنة، فظهر أحمد بن حنبل ، وسما ذكره، وعظم في عيون الناس، وعلت إمامته.

والإمام أحمد يلقب بإمام أهل السنة، مع أنه آخر الأئمة الأربعة ولم يقولوا ذلك في حق الإمام الشافعي أو الإمام مالك أو أبي حنيفة ؛ لأنهم لم يدركوا المحنة، فالأئمة الثلاثة ما أدركوا هذه المحنة، وإنما أدركها الإمام أحمد بن حنبل ، وثبت فيها، فمن ثمَّ أطبقت الأمة على اعتباره إماماً لأهل السنة؛ لصبره الشديد في هذه المحنة، ومنافحته عن الدين وعن الحق في هذه المحنة الطويلة المعروفة. قال: فظهر أحمد بن حنبل ، وسما ذكره -يعني: رفع الله سبحانه وتعالى شأنه في الناس- وعظم في عيون الناس، وعلت إمامته، وكان تضرب إليه آباط الإبل، فكان يعرف لي حق صبري -يعني: صبره على طلب العلم- فكنت إذا أتيت حلقته فسح لي، وأدناني من نفسه، ويقول لأصحاب الحديث: هذا يقع عليه اسم طالب علم -أي: هذا يستحق أن يوصف بأنه طالب علم- ثم يقص عليهم قصتي معه، فكان يناولني الحديث مناولة، ويقرأه علي، وأقرأه عليه، علة أشفيت منها -يعني: كدت أن أهلك منها- ففقدني من مجلسه، فسأل عني، فأُعلم بعلتي، فقام من فوره مقبلاً إلي عائداً لي بمن معه، وأنا مضطجع في البيت الذي كنت اكتريت، ولدي تحتي، وكسائي عليَّ، وكتبي عند رأسي، فسمعت الفندق قد ارتج بأهله، وأنا أسمعهم يقولون: هو ذاك، أبصروه؛ هذا إمام المسلمين مقبلاً. أي: أن الإمام أحمد أخذ تلامذته وأقبل نحو الفندق؛ حتى يزوره لما علم بعلته، فالإمام بقي بن مخلد لما كان في الحجرة على هذه الهيئة التي وصف من المرض، سمع ضجة شديدة في الخارج، ويظهر أن الذين كانوا أمام الفندق كانوا يصيحون ويقولون: هو ذاك، يشيرون إلى الإمام أحمد أنه قادم من بعيد، قال: فبدر إلي صاحب الفندق مسرعاً، فقال لي: أبا عبد الرحمن ! هذا أبو عبد الله أحمد بن حنبل إمام المسلمين مقبلاً إليك عائداً لك، فدخل فجلس عند رأسي، وقد احتشى البيت من أصحابه، فلم يسعهم، حتى صارت فرقة منهم في الدار وقوفاً، وأقلامهم بأيديهم، فما زادني على هذه الكلمات، فقال لي: يا أبا عبد الرحمن ! أبشر بثواب الله، أيام الصحة لا سقم فيها، وأيام السقم لا صحة فيها، أعلاك الله إلى العافية، ومسح عنك بيمينه الشافية. فرأيت الأقلام تكتب لفظه، ثم خرج عني، فأتاني أهل الفندق يلطفون بي. أي: أن الناس الذي في الفندق معه عرفوا مقام هذا الرجل الذي أتى إمام المسلمين وإمام أهل السنة يزوره، فصار الناس يعظمونه جداً؛ لأجل زيارة الإمام أحمد له.

يقول: فأتاني أهل الفندق يلطفون بي، ويخدمونني ديانة وحسبة، فواحد يأتي بفراش، وآخر بلحاف، وبأطايب من الأغذية، وكانوا في تمريضي أكثر من تمريض أهلي لو كنت بين أظهرهم؛ لعيادة الرجل الصالح. يعني: الإمام أحمد رحمه الله.

توفي بقي بن مخلد سنة (276هـ) بالأندلس، فرحمه الله تعالى.

فالشاهد من هذه القصة: هذه الرحلة العجيبة، أن يرحل بقي بن مخلد من الأندلس، فيعبر البحر، ثم يمشي على قدميه إلى بغداد، ويصبر هذا الصبر على طلب العلم، لاشك أن هذه من النماذج الفذة، من علو همة التي لا نظير لها.

وقد اجتهد كثير من الحفاظ في لقيا المشايخ والتلقي عنهم، حتى بلغ عدد شيوخ الإمام أبي سعد عبد الكريم السمعاني المروزي رحمه الله تعالى سبعة آلاف شيخ وأستاذ، ولكثرة البلدان التي رحل إليها في طلب العلم ألف معجم البلدان، ويقصد بها: البلدان التي سمع فيها العلم، وصنف معجم شيوخه في عشرة مجلدات، أي: أن قاموس أسماء شيوخه استغرق عشرة مجلدات.

وقال القاسم بن داود البغدادي : كتبت عن ستة آلاف شيخ. وبلغ عدة شيوخ الإمام الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى ألفاً وثلاثمائة شيخ، ومن النساء بضعاً وثمانين امرأة.

ولما مات زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال ابن عباس رضي الله عنهما: (يا هؤلاء! من سره أن يعلم كيف ذهاب العلم، فهكذا ذهاب العلم )، يعني: أن ذهاب العلم لا يكون بأن يقبض الله سبحانه وتعالى العلم من صدور الرجال، وإنما بموت العلماء، كما جاء في الحديث الصحيح: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من قلوب الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فلما مات زيد بن ثابت رضي الله عنه قال ابن عباس للناس: (يا هؤلاء! من سره أن يعلم كيف ذهاب العلم، فهكذا ذهاب العلم، وأيم الله! لقد ذهب اليوم علم كثير، يموت الرجل الذي يعلم الشيء لا يعلمه غيره، فيذهب ما كان معه، ويشير إلى قبر زيد ، ويقول: لقد دفن اليوم علم كثير).

وقال يحيى بن القاسم : كان ابن سكينة عالماً عاملاً لا يضيع شيئاً من وقته، وكنا إذا دخلنا عليه يقول: لا تزيدوا على: سلام عليكم.. مسألة. أي: لكثرة حرصه على المباحثة وتقرير الأحكام كان يقول لتلامذته ولإخوانه ومن أراد أن يأتي يستفيته: لا تزيدوا على هذه الكلمات: سلام عليكم.. مسألة. أي: ويدخل في الموضوع.

أما الآن فنعجب الحقيقة مما يحصل من بعض الإخوة، حيث نسمع أحياناً في أشرطة مسجلة ويكون فيها حوارات مع العلماء ومع الشيوخ: كيف الحال؟ وكيف الأولاد؟ وكيف الصحة؟ وسمعنا كذا، ويظل يقدم مقدمات طويلة، وفي الآخر يجود بأن يسأل سؤاله، فأمثال هؤلاء العلماء وقتهم ليس ملكاً لنا، ولا ملكاً لأنفسهم، إنما هو ملك الدعوة، وملك العلم، وهذه الوظائف الشريفة، فأحب إلى مثل هؤلاء بلا شك أنك تختصر مثل هذا الاختصار، وممكن أن تزيد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وإن كان هذا الإمام يقول: السلام عليكم فقط؛ لأجل حرصه على الاختصار في الكلام بقدر المستطاع.

والمجتمع الذي يصل إلى هذا المستوى في استيعاب قيمة الوقت، وعدم إهدار الوقت هو الأقرب للكتاب والسنة، ولهدي السلف الصالح رحمهم الله تعالى، أما هذه الزيارات العشوائية التي يعملها الناس فلا، والمشكلة أننا نتصور أن الذي ينبغي هو إطالة الزيارة، وهذا غير صحيح، فكما يحدد موعد في بدء الزيارة لابد أن يحدد موعد لا لانتهائها.

أما إن واحداً يزور واحداً -مثلاً- الساعة التاسعة مساء، ويفارقه الساعة الثانية عشرة، أو الواحدة فهذا لا ينبغي. فإن كان الكلام يقضى في أربع جمل فلا تقل خمساً، ولا تزد، فالمفروض أن يحصل نوع من التعاون؛ لأن هذا يكشف قيمة الوقت عندنا، فالوقت هو رأس مالك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)، فالفراغ: هو الزمن والوقت، وأكثر الناس يضيعون أوقاتهم، فلابد من التعاون، وأن الإخوة يتعاونون؛ حتى يرتقوا إلى ذلك المستوى الراقي الذي بلغه السلف الصالح رحمهم الله تعالى.

بلغني منذ مدة عن أحد الإخوة أنه كان يحدث أخاً له فيقول له: إن السنة أنك إذا أتيت فاستأذن ثلاث مرات، فإن لم يؤذن لك فارجع. فقال: والله لو عملتها معي فلن أدخل بيتك أبداً! فأين الالتزام؟! وأين التحاكم إلى ما أنزل الله؟! وأين الذي ندعو الناس إليه؟! وأين الحكم بما أنزل الله سبحانه وتعالى والرضا بحكم الله القائل: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]؟! فإذا كان الوقت ليس له عندك قيمة فراع أحوال الناس، فإذا كنت متأكداً من أنك ما ذهبت إلى فلان إلا لأن الوقت مناسب لك فهل أنت متأكد من أنه مناسب له هو؟! خاصة في هذا الزمان، فأنت ترى كيف أن الناس الآن مشغولون، خاصة الذي يريد أن يلتزم بدينه ويؤدي واجباته في توازن ووسطية، فالإنسان يعيش في صراع في محاولة كسب الحلال، وفي طلب العلم، وفي تربية أولاده، وفي العبادة، وفي تلاوة القرآن، وفي الحفظ، وفي قضاء حاجات الناس، وفي كل هذه الأشياء، فهذا الوقت هو رأس المال الذي يتعامل به، وليس الأموال، بل عنده ما هو أكمل، وهو الوقت، فلابد للإنسان من أن يستوثق من أن وقت الشخص الذي يزوره مناسب لهذه الزيارة، ثم يحدد موعد لابتداء الزيارة وموعد لانتهائها؛ بحيث لا يأتي قبل الموعد ولا بعده، وإذا أتى يلتزم بهذا الموعد، أما هذه الأوضاع التي توجد بيننا فهي من أشد مظاهر عدم الفقه بقيمة الوقت، ونحن نسمع عن الكفار في بلاد الكفار الحرص على الوقت، وللأسف الشديد أنهم مشغولون بالدنيا وبتوافه الأمور، ومع ذلك عندهم تقديس الوقت وتعظيم الوقت شيء مهم، وهذا أقرب -بلا شك- إلى روح الإسلام مما عليه كثير من المسلمين المفرطين في هذا الأمر. فهذا الأمر لولا أن الله سبحانه وتعالى يعلم أهميته لما أنزل سورة صدرها بقوله تبارك وتعالى: (( سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا ))، وكل القرآن أنزل، لكن خص هذه السورة ليلفت أنظارنا إلى خطورة الأحكام التي نزلت في هذه السورة الكريمة، سورة النور، قال عز وجل: سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:1]، فنزلت في هذه السورة آيات الاستئذان وآداب الاستئذان لخطورة هذه الطريق، أليس في القرآن الكريم قوله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [النور:27] إلى آخر الآيات المذكورة في ذلك؟! ففيها تفاصيل في منتهى الدقة والانضباط في المحافظة على الوقت، ومنها قوله عز وجل: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ [النور:28]، والذي يقول هذا ليس هو فلان ولا علان، وإنما هو الله سبحانه وتعالى. وإنه لمؤلم جداً، وفي غاية الأسف مخالفة هذه الآداب، والحقيقة أن الإنسان يتحسر لهذا الأمر، فأين السلفية؟! وأين احترام الكتاب والسنة؟! وأين الحكم بما أنزل الله في خاصة أنفسنا؟! إن بعض الناس ما زال حتى الآن يجهل أن الاستئذان إنما جعل عبارة عن كون الوقت مناسباً أم غير مناسب. ولكن كثيراً من الإخوة -مع الأسف- يفهمون أن معنى الاستئذان هو كون الشخص الذي يريد أن يزوره موجوداً أو غير موجود، وهذا ليس من الإسلام في شيء، فالإسلام حكم الله سبحانه وتعالى، والاستئذان معناه كون الوقت مناسباً أم لا، وليس معناه أن المرء موجود أو غير موجود. وكنت في مرة من المرات مشغولاً ببعض الأشياء، فأتى إلى أحد الإخوة في وقت غير مناسب على الإطلاق؛ لأنه كان قبل الدرس بساعة أو ساعتين، وكنت مشغولاً بإعداد الدرس، فما فتحت الباب؛ لأن هذا حق شرعاً، فوجدت أن الأخ وجد في نفسه موجدة شديدة، وكتب ورقة كلها حسرة وألم، يقول: لقد سمعت صوتك في الداخل وأنت تقرأ القرآن، ومع ذلك لم تفتح لي! وهذا عدم فقه بهذا الحكم الذي لا يوجد أحد مستغنٍ عن أن يبقى هذا الحكم وينفذه ويحترمه، فكل واحد منا له بيت، والله سبحانه وتعالى امتن علينا فقال: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا [النحل:80]، فالإنسان بعد انتهاء عمله سيذهب إلى بيته، فربنا سبحانه وتعالى جعل حرمة للبيوت، خاصة في حق طالب العلم الذي وقته عنده غالٍ كنفسه وكروحه، فليس المقصود بالاستئذان أن الإنسان يسأل عن كونك موجوداً أم لا، لأنه ممكن أن أكون موجوداً وبصوتي أقول لك: ارجعوا هو أزكى لكم. كما أمرنا الله سبحانه وتعالى؛ لأن البيوت أسرار، فما يدريك كيف أحوال أهل البيت؟! فقد تكون في البيت عورات، وقد يكون عند صاحب البيت مشكلة شخصية لا يحب أن يحضر أحد ويسمعها، ويمكن أن يكون الإنسان مشغولاً بمصلحة في دينه أو في تربية أولاده؛ لأنه إذا انشغل فقط بمشاكل الناس أو مشاغل الناس وترك حصنه من الداخل مخرباً فسوف يسأله الله عن ذلك، فمن الذي يعي المسئولية حتى يوجد هذا التوازن في الواجبات الكثيرة؟! الجواب: هو صاحب البيت، فهو أدرى بحاله، وبأي شيء يضحى وبأي شيء لا يضحى، فهو الوحيد الذي يسأل أمام الله عن الموازنة بين واجباته، وأنا لا أقصد شخصاً معيناً، فإن هذا الغيرة موجودة عندنا، وأغلب الناس الآن ليس عندهم الفقه بهذه الحقيقة، فالاستئذان هو عن كون الوقت مناسباً أم لا، فإن قال لك صاحب البيت: ارجع -ولو بصوته- فلا تقل له شيئاً. والحقيقة مريرة جداً في هذا الأمر، ولا أريد أن أخرج عن الموضوع، ولكن لكون المشكلة موجودة، وكثرت شكاوي الإخوة والأخوات في هذا الباب تعرضنا لها. وقد حدث بعض إخواننا في الدعوة أنه هجم بعض الإخوة على بيته بالطرق الشديد على الباب في منتصف الليل أو بعد منتصف الليل، وكان طرقاً شديداً، مع أن الناس العاديين غير الملتزمين قد لا يقعون في مثل هذا، فالطرق الشديد على الباب يفزع أهل البيت، ويظنون الظنوناً، وهذا -بلا شك- أذى، وهذا تفزيع وترويع للمؤمن وللمسلم، فأين هذا من السلف الذين كانوا يطرقون أبواب الشيوخ بالأظافر؟! أين هذا من ذاك؟! وقد تجد إنساناً امتحان في الصباح، فيقول لضيوفه الذين أتوا إلى البيت في الساعة الحادية عشرة أو الثانية عشرة: عندي امتحان في الصباح. ومع ذلك لا يبالون بالساعة، ويوقعون الضرر بالأخ حتى يعيد سنة كاملة بسبب هذه الزيارة التي آذته وأثقلته وأرهقته وعطلته عن مصالحه! فهذه أمثلة من الإضرار، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (لا ضرر ولا ضرار). وبعض الإخوة يكونون فتنة لآبائهم، فبعضهم يقول: أبي يقول لي: لا تصل في مساجد الإخوة. أو: لا تخرج إلى المساجد. فما هو السبب؟! إنك تشتكي من أبيك أنه يمنعك عن الصلاة في الجماعة وأنت الذي فتنته، فلو أنك عودته أنك إذا أذن المؤذن خرجت إلى الصلاة، ثم رجعت فوراً بعد الصلاة لأداء واجبك أو استذكار واجبك، أو لعمل أي شيء من واجباتك لما حصل هذا الوضع؛ لأنه يحصل للإخوة مؤتمرات بعد الصلاة، وهذا يوصل هذا، وهذا يذهب مع هذا بطريقة عشوائية، وكأن الوقت لا قيمة له، فلو أن أباك أو صاحب العمل الذي يتخذ معك هذا الموقف رأى منك أنك تخرج إلى الصلاة وتعود فوراً لما ضغط عليك هذا الضغط، ولما حاول أن يفتنك عن صلاة الجماعة، فنحن الذين نتسبب في فتنة الناس، فالذي يعمل عند رجل لو أنه صلى الفرض وعاد إلى المكان ثم صلى هناك النافلة -مثلاً- لما حصل عليه ضغط بترك صلاة الجماعة، ولولا الصلاة لما ترك المرء بيته وذهب إلى المسجد، فلو أنه كلما خرج إلى الصلاة يمكث -مثلاً- نصف ساعة بعد الصلاة بسبب تعطيل أحد الأخوة له، حيث يكون عنده عمل معين، كذهاب إلى طبيب أو لشغل، أو كان عنده موعد من المواعيد المهمة التي يشق تأجيلها، فكل من صرفه عطله، فأي إضرار يكون أشد من هذا الإضرار؟! فلابد من أن تكون متأكداً في البداية من أن الوقت مناسب أم لا، أما أن الإنسان يخرج للصلاة، ثم يُعطل في كل صلاة، أو يعطل الإخوة المصلون بعضهم بعضاً فهذا نوع من الإضرار الذي ينبغي أن نتركه. وصحيح أن كثيراً من النصائح تكون مؤلمة، ولكن لابد من المصارحة بكثير من هذه الأخطاء التي تظهر منا. والذي دفعنا إلى هذا الاستطراد هو قول هذا الإمام الجليل ابن سكينة الذي كان لا يضيع شيئاً من وقته، يقول يحيى بن القاسم : كنا إذا دخلنا عليه يقول: لا تزيدوا على: (سلام عليكم، مسألة) لحرصه على الوقت. أما أن تخاطب الشيخ الذي تسأله في التلفون قائلاً: كيف الحال؟! وكيف الأولاد؟! وتأتي بمقدمات طويلة ثم بعد ذلك تأتي بالسؤال فلا. وبعض الإخوة يتصلون بي من وراء البحار، والأخ المتصل حينها الظاهر أنه يدفع مبالغ كبيرة في المكالمة، ومع هذا يضيع الوقت فيما لا فائدة فيه. فكأن هذا الشيخ يقول: وقتي أغلى عندي من هذه الدولارات التي يدفعونها في المكالمات. فلا تضيع الوقت في الأسئلة التي لا طائل من ورائها، وركز في سؤالك مكتفياً بقولك: ما حكم كذا. أما كثرة الثرثرة بلا طائل فهي من إنفاق الوقت بما لا يعود على العبد بفائدة.

وأيضاً من مظاهر علو همة السلف الصالح رحمهم الله تعالى في طلب العلم مبادرتهم الأزمان؛ حرصاً على العلم، والحقيقة أن الإنسان قد يستحيي في مثل هذه المواضع من الناس، وهذا لا يسمى حياءً، بل هذا عجز مذموم؛ لأن هناك فرقاً بين العجز وبين الحياء، فالحياء الذي يحبه الله هو الحياء الذي يأتي بخير، أما إذا أتى بشر فليس هو الذي يحبه الله، بل هو عجز ومهانة، فعلى الإنسان أن يكون جريئاً في المحافظة على وقته؛ لأنه لن ينجز علماً، ولا يمكن أن ينجز علماً أبداً، فلو أن العلماء ينصحون طلبة العلم بنصائح في هذا لكان هذا أمراً جيداً، ومن ذلك النصيحة بقطع العلائق إلى أن يفرغ -مثلاً- من حفظ القرآن، يقطع العلائق بينه وبين الناس، فالإنسان يزرع في قلبه كيفية علو الهمة، وأسباب الارتفاع والارتقاء بالهمة، ومن ذلك: الاحتياط والحساسية والغيرة الشديدة على الوقت أن يهدر، فما المانع أن الإخوة إذا تزاوروا يأتون بخلاصة الموضوع الذي يريدون أن يتحدثوا فيه، ثم بعد ذلك يسمعون لبعض القرآن، أو يأتون بشيء من الذكر والعلم، كما قال بعض السلف: إذا طال المجلس كان للشيطان فيه نصيب.

وطوله: زيادته عما أنت محتاج إليه، فادخل في الموضوع، واتق الله في وقتك ووقت أخيك، فإذا فرغت من الموضوع وما زال بينكما وقت، فاجلس اقرأ قرآناً، أو ابحث مسألة علمية.

أما أن الإخوة يتكلموا على مباريات كرة القدم، ويخوضون في أخبار السياسة، وكذا وكذا من أحوال الناس وهذه الأشياء، فما الفرق بيننا وبين الآخرين؟ وما الذي يتميز به الملتزم الآن؟

فهذا شعبة بن الحجاج جاء إلى خالد الحذاء فقال: يا أبا منازل ! عندك حديث حدثني به، وكان خالد عليلاً، فقال له: أنا وجع -أي: مريض- فقال: إنما هو واحد -أي: أنا أريد حديثاً واحداً- فحدثه به، فلما فرغ قال: مت إذا شئت.

وكان يحيى بن معين شديد الحرص على لقاء الشيوخ والسماع منهم؛ خشية أن يفوتوه. أي: أنه ممكن أن يسافر الشيخ، أو يموت، أو يحصل له أي شيء، فيحول بينه وبينه.

قال عبد بن حميد : سألني يحيى بن معين عن هذا الحديث أول ما جلس إلي فقلت: حدثنا حماد بن سلمة ، فقال: لو كان من كتابك. يعني: حتى تكون أدق وأضبط أحضر الورق التي كتبت فيها الحديث أو الكتاب واقرأ منه الحديث، يقول الإمام عبد بن حميد : فقمت لأخرج كتابي، فقبض على ثوبي، ثم قال لي: أمله علي؛ فإني أخاف ألا ألقاك. خشي أنه إذا خرج لإحضار الكتاب ويعود قد يموت في الطريق، فيفوته الحديث، فقال: الأول أمله علي من حفظك، ثم بعد ذلك أخرج هذا الكتاب وأقرأه علي مرة ثانية من الكتاب، قال: فأمليته عليه، ثم أخرجت كتابي فقرأته عليه.

وعن ابن إسحاق قال: سمحت مكحولاً يقول: طفت الأرض في طلب العلم.

وروى أبو وهب عن مكحول قال: أُعتقت بمصر -يعني: أن مكحولاً كان عبداً- فلم أدع بها علماً إلا حويته فيما أرى، ثم أتيت العراق، ثم أتيت المدينة، فلم أدع بهما علماً إلا حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت الشام فغربلتها. أي: بعدما جمع كل هذه العلوم وهذه الأحاديث أتى الشام وغربل هذه الأحاديث، وبدأ يميز الصحيح من الضعيف، وهذا هو عين الفطنة، وهذا هو الذي حدا بكثير من علمائنا إلى التفريق بين مرحلة التقميش ومرحلة التفتيش، فمرحلة التقميش: أن يدون كل ما يستطيعه، فما دام بإسناد يدون؛ لأن الشيخ ممكن أنه يسافر، أو يمرض، أو تختل ذاكراته، أو يختل حفظه، فتؤثر في الرواية هذه ؛ فلذلك يبادر الفرصة بأن يدون ما يستطيع تدوينه عن المشايخ، ثم بعد ذلك ما دام معه الإسناد، ومادام كل حديث معه، فالأداة والوسيلة التي يمكن من خلال دراستها التحقق من صحة الحديث موجودة معه أيضاً، وحينئذٍ يتفرغ بعد ذلك إلى التفتيش، وهذا هو سر وجود الأحاديث الضعيفة في المراجع، فلا نظن -نحن طلبة العلم المساكين- أن هؤلاء العلماء كانوا مقصرين، وأنهم لم يكونوا يعرفون الحديث الضعيف من الصحيح، وأنه توجد في كتب كثيرة من كتب الحديث المسندة، حتى في الترمذي وحتى في النسائي ، فضلاً عن ابن ماجة أو غيره من الكتب والمسانيد توجد أحاديث تحتاج إلى تحقيق، فهل العلماء ما كانوا يعرفون تحقيق هذه الأحاديث في تلك الأعصار الذهبية لعلم الحديث؟! الجواب: لا، بل كانوا يعرفون، ولكن كانوا يدونون؛ لأن هذا السند حتى لو كان ضعيفاً فإنه يمكن أن توجد له طرقاً أخرى مع كثرة التفتيش تقوي هذا السند، وهذا هو عين الفقه؛ لأن الواحد منهم يقيد العلم أولاً، ثم بعد ذلك يفتش وراء الأسانيد، ويجمع الطرق، فيرتقي الضعيف إلى الحسن لغيره، أو الصحيح لغيره، وهكذا، ثم إنه بهذا يكون قد اغتنم الفرصة، ولم يفوتها، فالشيخ قد يسافر، وقد يرحل، وقد يموت، وقد يختل حفظه، أو هو نفسه يحصل له شيء؛ فلذلك كانوا أولاً يجمعون، ثم وظيفة التحقيق بعد ذلك تكون أسهل، لوجود الوسيلة إليها، وقد برئت عهدتهم من الأحاديث الضعيفة؛ لأنهم لم يكونوا في وقت في ليل ولا نهار إلا وهم في وظيفة من الاشتغال بالعلم، حتى إن الإمام النووي كان يقرأ في ذهابه في الطريق، وقال: إنه بقي على التحصيل على هذا الوجه ست سنين متصلة، وكان النووي أيضاً أول طلبه يقرأ كل يوم اثني عشر درساً على المشايخ شرحاً وتصحيحاً، درسين في الوسيط، وثالثاً في المهذب، ودرساً في الجمع بين الصحيحين، وخامساً في صحيح مسلم ، ودرساً في اللمع لـابن جني في النحو، ودرساً في اصلاح المنطق لـابن السكيت في اللغة، ودرساً في التصريف، ودرساً في أصول الفقه، تارة في اللمع لـأبي إسحاق وتارة في المنتخب للفخر الرازي ، ودرساً في أسماء الرجال، ودرساً في أصول الدين. أي: التوحيد.

قال النووي : وكنت أعلق -أي: أكتب- جميع ما يتعلق بها من شرح مشكل وإيضاح عبارة، وضبط لغة، وبارك الله لي في وقتي واشتغالي وأعانني عليه.

وطالع الشيخ عبد الله بن محمد بن أبي بكر الحنبلي (المغني) للموفق ابن قدامة رحمه الله ثلاثاً وعشرين مرة، حتى كاد يستحضره.

ومن ذلك أيضاً: علو همتهم في حفظ العلم الشريف، فقد قال أبو زرعة : كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث، يعني: مليون حديث، والمراد بذلك: الأسانيد والمتون. فقيل له: ما يدريك؟ قال: ذاكرته، وأخذت عليه الأبواب.

وقال سليمان بن شعبة : كتبوا عن أبي داود أربعين ألف حديث وليس معه كتاب. يعني: أملى على تلامذته أربعين ألف حديث بالإسناد والمتن، وليس معه كتاب ينظر فيه.

وقال أبو زرعة الرازي : أحفظ مائتي ألف حديث كما يحفظ الإنسان: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، وفي المذاكرة ثلاثمائة ألف حديث.

وقال هشام الكلبي : حفظت ما لم يحفظه أحد، ونسيت مالم ينسه أحد، كان لي عم يعاتبني على حفظ القرآن، فدخلت بيتاً، وحلفت ألا أخرج حتى أحفظ القرآن فحفظته في ثلاثة أيام، ونظرت في المرآة فقبضت على لحيتي لآخذ ما دون القبضة فأخذت ما فوقها.

ولما قدم البخاري بغداد سمع به أصحاب الحديث، فاجتمعوا، وعمدوا إلى مائة حديث، فقلبوا أسانيدها ومتونها، فجعلوا متن هذا الإسناد لهذا، وإسناد هذا المتن لهذا، ودفعوا إلى كل واحد عشرة أحاديث؛ ليلقيها على البخاري في المجلس، فاجتمع الناس، وانتدب أحدهم فسأله عن حديث، فقال: لا أعرفه، وسأله عن حديث آخر، فقال: لا أعرفه، وكذلك حتى فرغ من عشرته، وكل حديث يتلوه على البخاري يقول له البخاري : لا أعرفه، والذين كانوا واقفين يقولون: ما هذا البخاري الذي انخدع به الناس، كل الأحاديث لا يعرف ولا واحداً منها؟! فكلما يقول: لا أعرفه، كلما يقل في نظر العوام، وكلما يرتفع في نفس الوقت في عيون العلماء، فكان الفقهاء يلتفت بعضهم إلى بعض، ويقولون: الرجل فهم، ومن كان لا يدري قضى على البخاري بالعجز، ثم انتدب آخر ففعل كما فعل الأول، والبخاري يقول: لا أعرفه، ثم الثالث، إلى تمام عشرة أنفس، وهو لا يزيدهم على: لا أعرفه، فلما علم أنهم قد فرغوا- انظر إلى قوة الذاكرة لشيء لا يكاد يتصوره إنسان- بعدما سمع العشرة أحاديث التفت إلى الأول منهم فقال: أما حديثك الأول فكذا، والثاني كذا، والثالث كذا، إلى عشرة أحاديث، بنفس الترتيب وبنفس الأخطاء، يعني: تلا العشرة الأحاديث كما رواها، وقد خلطت الأسانيد وقلبت المتون، وبعدما فرغ من سردها أعادها مصححة، وأعاد الإسناد إلى متنه، والمتن إلى إسناده، وهكذا، فرد كل متن إلى إسناده، وفعل بالتسعة الآخرين مثل ذلك، فأقر له الناس بالحفظ، فكان ابن صاعد إذا ذكره يقول: ذلك الكبش النطاح. أي: يمدح الإمام البخاري بالكبش النطاح، يعني: الذي يغلب في المصاولة والمحاورة.

وقال ابن النجار : سمعت شيخنا عبد الوهاب بن الأمين يقول: كنت يوماً مع الحافظ أبي القاسم بن عساكر وأبي سعد بن السمعاني نمشي في طلب الحديث ولقاء الشيوخ، فلقينا شيخاً، فاستوقفه ابن السمعاني ؛ ليقرأ عليه شيئاً، وطاف على الجزء الذي هو سماعه في خريطته. أي: أنه لما وجد الشيخ قال: اسمع أتلو عليك هذه الأحاديث التي عندي عنك، فقرأها عليه من حفظه كأنه يقرأها من كتاب..

ويروي الخطيب البغدادي أن أبا جعفر الطبري قال لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره؟ فقال: ثلاثون ألف ورقة، فقالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه. يعني: أن عنده من العلم في التفسير ما يملأ ثلاثين ألف ورقة، فلما وجد هؤلاء الطلبة أو هؤلاء الأصحاب غير نشطين اختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة. فكم الفرق بين ثلاثة آلاف وبين ثلاثين ألف ورقة؟ عشرة أضعاف، فإذا كان هو الآن بين أيدينا في ثلاثين مجلداً، فربما لو كان هؤلاء الطلاب أو الأصحاب أكثر همة، لكانت الثلاثين مجلداً ستكون ثلاثمائة مجلد!

ثم حاول معهم مرة ثانية، فقال: هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا هذا؟ أي: هل عندكم همة أملي عليكم تاريخ العالم منذ إهباط آدم الأرض، إلى يومنا هذا. قالوا: كم قدره؟ فذكر نحو ما ذكره في التفسير وقال: ثلاثون ألف ورقة، فردوا مثل ذلك، فقال: إنا لله! ماتت الهمم، ثم أنه جعله على نحو قدر التفسير، وهو تاريخ الطبري المعروف.

وألف الإمام البيهقي ألف جزء كلها تآليفه محررة نادرة المثال، كثيرة الفوائد، وأقام يصوم ثلاثين سنة.

والإمام أبو الوفاء علي بن عقيل الحنبلي البغدادي المتوفى سنة (513هـ) والذي يقول فيه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: إنه من أذكياء العالم، بلغ في محافظته على الزمن مبلغاً أثمر أكبر كتاب عرف في الدنيا لعالم، وهو كتاب (الفنون) في ثمانمائة مجلد، وفيه اختلاف في عدد المجلدات، فبعضهم يجزم بأنه ثمانمائة مجلد، فتخيل عالماً يؤلف كتاباً في ثمانمائة مجلد!

وهذا الكتاب جمع فيه التفسير والحديث والفقه وأصول الفقه وأصول التوحيد والنحو واللغة والشعر والتاريخ والحكايات، وفيه مناظرته ومجالسه التي وقعت له، وخواطره ونتائج فكره قيدها فيه.

يقول ابن الجوزي : وكان له الخاطر العاطر، والبحث عن الغوامض والدقائق، وجعل كتابه المسمى بالفنون مناطاً لخواطره، وواقعاً فيه، ومن تأمل فيه عرف غور الرجل.

وقال سبط ابن الجوزي : واختصر منه جدي -أي: ابن الجوزي - عشرة مجلدات، فرقها في تصانيفه، وقد طالعت منه في بغداد في وقت المأمونية نحواً من سبعين، وفيه حكايات ومناظرات وغرائب وعجائب وأشعار.

وقال الشيخ أبو حكيم النهرواني : وقفت على السفر الرابع بعد الثلاثمائة من كتاب الفنون.

وقال الحافظ الذهبي : وعلق كتاب الفنون، وهو أزيد من أربعمائة مجلد، حشد فيه كل ما كان يجري له مع الفضلاء والتلامذة، وما يسنح له من الدقائق والغوامض، وما يسمعه من العجائب والحوادث.

وقال الذهبي أيضاً : لم يصنف في الدنيا أكبر من هذا الكتاب، حدثني من رأى منهم المجلد الفلاني بعد الأربعمائة.

وقال الحافظ ابن رجب : إن بعض مشايخه قال: هو ثمانمائة مجلد.

وصنف الحافظ ابن عساكر تاريخ دمشق في ثمانين مجلدة كبيرة.

وصنف الإمام أبو حاتم الرازي كتابه المسند في ألف جزء.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
علو الهمة [13] 2479 استماع
علو الهمة [8] 2441 استماع
علو الهمة [6] 2260 استماع
علو الهمة [7] 2162 استماع
علو الهمة [9] 2043 استماع
علو الهمة [5] 1907 استماع
علو الهمة [16] 1823 استماع
علو الهمة [15] 1791 استماع
علو الهمة [3] 1653 استماع
علو الهمة [17] 1634 استماع